مما لاشك فيه أن العلوم الإنسانية بصفة عامة نتاج إبداعات بشرية مرتبطه بالعقيدة الدينية والجغرافيا المكانية والتاريخ الحضاري ويعتبر الأدب بمفهومه الشامل واحدا من هذه العلوم التي تشكل المرآة العاكسة للنشاط الإنساني في مجالاته المتعددة لأي مجتمع في كل زمان ومكان." إن الأدب يمثل واحدا من أهم وأوثق السجلات المعرفية التي يمكن الاستناد إليها في استقاء المعلومات عن التكوينات الباطنة في مجتمع من المجتمعات والتي يصعب في أحيان كثيرة رصدها عبر سائر المصادر المعرفية المباشرة من كتابات سياسية واجتماعية وفلسفية وماشاكلها إن أي ادب يرصد العمليات الاجتماعية التي تصاحب التغير الاجتماعي ويلقي الأضواء عليها وعلى مساراتها المتعددة بصورة أكثر بروزا ووضوحا وحيوية من كثير من البحوث العلمية وما أن يهتم الباحثون العلميون بتحليل مضمون هذه الأعمال الأدبية حتى يضعوا أيديهم على مفاتيح التغير الاجتماعي في المجتمع وآثاره.أهمية دراسة الأدب الشعبي :مصطلح الأدب الشعبي : يشير إلى التراث غير المدون الذي يتمثل في القصص الشعبي والأغاني ( الأشعار ) والحكم والأمثال الشعبية وقد يستخدم أيضا للإشارة إلى العلم الذي يدرس التراث الشعبي .والأدب الشعبي بمختل
ف لهجاته يحوي القصة والقصيدة والرواية والأحدية والعادات والتقاليد والحرفة والتراث وكلها أمور لها دلالات دينية واجتماعية وسياسية واقتصادية وبيئية وجغرافية وتاريخية - إذا ما علمنا أن هناك علماً يسمى " علم دلالات المعاني " والذي يدرس معاني الألفاظ *ودلالاتها الثقافية وبناء اللفظ واستخدامه وعلاقة الألفاظ بالسلوك الإنساني.كل هذه الأمور تدعو إلى دراسة هذا الأدب دراسة أكاديمية متخصصة تساعد في تشكيل مرجعية هذا الأدب لزمن كان هو الموثق لأحداثه إضافة إلى مايتعلق به من صياغة لبعض المفاهيم والدراسات المقارنة المختلفة .ذكر الشيخ ابن خميس في حديثه عن الأدب الشعبي " لذلك أدركت الأمم العريقة في المدنية والحضارة مالهذا اللون من الأدب من أثر في حياة الشعوب وفعالية في توجيهها وقيادتها فأنشأت له المعاهد وألفت فيه الكتب وأنشأت له صحافة خاصة وأصبحت له مدارس واتجاهات معروفة ..فلم تكن القوميات في دول أوربا الناهضة ، لتبلغ مابلغت بدون أن تلعب تيارات الأدب الشعبي أو ( الفلكلور ) - كما يسمونه - دورا خطيرا في توجيهه ولم يكن ( شلنج ) و ( هيجل ) و ( فرانسز جروت ) وغيرهم من أعلام الأدب الغربي ليبلغوا ما بلغوا لولا كلفهم بالأدب الشعبي ومواج
هه الطبقات الشعبية وجها لوجه يقول ( هويتمان ) : " الأدب الشعبي ينبعث من عمل أجيال عديدة من البشرية من ضرورات حياتها و علاقاتها من أفراحها وأحزانها وأما أساسه العريق فقريب من الأرض التي تشقها الفؤوس وأما شكله النهائي فمن صنع الجماهير المغمورة المجهوله أولئك الذين يعيشون لصق الواقع " ثم يقول : ولم تكن جهود هذه الأمم لتقتصر على دراسات الفنون الشعبية في بلدانها بل لقد دفعها حب الكشف والاستطلاع من جهة والمطامع السياسية والاستعمارية من جهة أخرى لأن تولي هذه الناحية في سائر الأمم عنايتها والإحاطة بها فكان نصيب الأدب العربي من دراسات المستشرقين نصيبا وافيا لإدراكهم ماوراء فهم هذه الجوانب في الأمم من كسب في شتى المجالات وذكر من المهتمين في ذلك ، سلفستر دوساس ، وأنطوان جالان ، وكوسان دوبر سيفال ، وادوارد جوليتيه ، وأرتين ، وبركهاردت ، وجاستور ماسبيرو ، وهرين ، ومايسنر .الاستشراق ودوافع المستشرقين :تعريف الاستشراق : هو ذلك التيار الفكري الذي تمثل في الدراسات المختلفة عن الشرق الإسلامي والتي شملت حضارته وأديانه وآدابه ولغاته وثقافته ولقد أسهم هذا التيار في صياغة التصورات الغربية عن العالم الإسلامي معبرا عن الخلفية الفكري
ة للصراع الحضاري بينهما .وكان للاستشراق أهداف دينية ( التبشير ) وأهداف سياسية ( الاستعمار ) وأهداف عسكرية ( التجسس ) وأهداف اقتصادية ( التجارة ) وأهداف علمية ( الدراسة والابحاث ) كما أن لبعض المستشرقين أهدافاً شخصية ( الاكتشاف والمغامرة ) : ومن أهم الأنشطة السياسية العناية باللهجات العامية ودراسة العادات السائدة كانوا يوجهون موظفيهم في المستعمرات إلى تعلم لغات هذه البلاد ودراسة آدابها ودينها ليعرفوا كيف يسوسونها ويحكمونها .ومن الأنشطة التي قاموا بها محاربة اللغة العربية ومناهضتها حتى طالب احدهم ( لويس ماسينيون الفرنسي إلى الكتابة بالعامية بالحرف اللاتيني ) وهناك أنشطة علمية محضة :فبعضهم يتجه إلى البحث والتمحيص والدراسة لأهداف علمية وثقافة إنسانية ولاشك بأن الكثير منهم يملكون منهجية علمية تعينهم على البحث ولاريب في أن لدى بعضهم صبرا ودأبا وجلدا في التحقيق والتمحيص وتتبع المسائل .لمحات تاريخية وأدبية :أولى المستشرقون آدابنا الشعبية اهتماماتهم لأنهم علموا مافيها من معلومات قيمة تساعدهم في اكتشاف أسرار هذا المجتمع وسبر أغواره ، وكل منهم له أهدافه وكان ذلك منذ وقت مبكر قبل أن يدرك أبناء الجزيرة العربية أهمية دراسة*
هذه الآداب وتدوينها ويعود اهتمام المستشرقين بأدب الجزيرة العربية الشعبي إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي ، بعد نهاية الدولة السعودية الأولى تقريبا حيث بدأت رحلاتهم لاكتشاف الجزيرة العربية ونعرض هنا ، نبذة مختصرة تبين مدى اهتمام المستشرقين بآدابنا الشعبية تأليفا ودراسة وبحثا وجمعا وتدوينا مستقاة في غالبها من كتاب فهرست الشعر النبطي للدكتور سعد عبدالله الصويان :يعتبر جورج أوجست والين George august wallin الفنلندي ضليعاً في اللغة العربية وكان أستاذا للعربية في كلية هلسنكي أول من قام من المستشرقين بتدوين ودراسة الشعر النبطي وهو الذي جمع عدة قصائد أثناء إقامته في الجوف عام 1845م وكان يمارس مهنة الطب ، ونشرت مترجمة في العددين الخامس والسادس من مجلة الجمعية الألمانية لللاستشراق ( 1851- 1852م ) والغالب أن الذي نشره ليس كل ماجمعه وفهمه للشعر النبطي ينتابه القصور ( أبحاثه لها أبعاد *سياسية حيث حصل على رعاية إنجليزية روسية وهو متعاطف مع العرب موضوعي في كتاباته ) ثم جاء قنصل بروسيا ( ألمانيا الشرقية ) في دمشق يوهان جوتفريد فيتشتاين johann Gottfried wetzstein الذي نشر بعض السوالف والأشعار عام 1868م وكان جمعها*
من بعض المخطوطات في حدود عام *1860وأكد أن والين حصل على الكثير من المخطوطات الشعرية أثناء إقامته في معان وتيما وحائل ودومة الجندل .كما المح إلى أن فون سيتزين von seetzen أودع في مكتبة جوتا مجموعة خطية من القصائد التي جلبها من شرق الأردن لأنه كان يجيد العربية تحدثا ولايجيدها قراءة وكتابه .ومن الذين اهتموا بجلب مخطوطات الشعر النبطي من نجد إلى أوروبا الرحالة تشارلز هوبير charles huber الفرنسي الذي زار حائل مرتين عام 1878م و1883م واحضر هوبير ثلاثة دواوين مخطوطة ( مجموع صفحاتها *158صفحة ) أودعها في مكتبة جامعة ستراسبورج ويقدم سوسين في كتابه " ديوان من الجزيرة العربية الوسطى " فهرسا بمطالع القصائد التي احضرها هوبير وكذلك المخطوطة التي اشتراها سوسين نفسه من محمد الحساوي في بغداد ومجموع قصائد المخطوطات الأربع *207قصائد مع المكرر ثم العالم اللغوي ألبرت سوسين albert socin **الذي تجول في الشام وبلاد الرافدين في العقد الثامن من القرن التاسع أفضل من سابقيه وهو الذي جمع أشعار ا من منطقة الجزيرة الفراتية والشام وبغداد ومن أفواه رواة من بريدة وعنيزة والإحساء واطلع على مخطوط نمر بن عدوان ونشر حصيلته الضخمة عام *1900م في كتاب*
في حوالي ثمانمائة صفحة ويحتوي على مائة واثنتي عشرة قصيدة وهو أول ديوان يطبع من الشعر النبطي مع ترجمات ودراسات لغوية واثنولوجية مفصلة رغم انه يثير الشكوك حول القيمة الفنية والجمالية لهذا الأدب ويتعامل معه باستعلاء شديد .وقد اطلعت قبل سنوات على دراسة ومختارات من كتاب ألبرت سوسن قام بها الأستاذ أحمد فهد العريفي ونشرها في مجلة اليمامة.*