روائع شعريه |
روائع الكسرات |
|
||||||||||
الـــمـــلـــتـــقـــى الــــــــــعــــــــام [للنقاش الهادف والبناء والمواضيع الاسلامية والعامه] |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
25-02-17, 10:00 AM | #11 |
تفسير قوله تعالى: (وهو الله في السموات والأرض... ويعلم ما تكسبون)
ثم نأتي إلى آية من متشابه القرآن حيث يقول الله: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [الأنعام:3]، الأصل: أننا نؤمن أن الله جل وعلا له علو ذاتي، وأنه تبارك وتعالى مستو على عرشه، بائن من خلقه، قال العلامة ابن عثيمين رحمة الله تعالى عليه: أجمع السلف على إثبات علو الذات لله، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل. وللعلماء في الآية ثلاثة أقوال: القول الأول: أن معنى الآية: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ [الأنعام:3]، أي: وهو المألوه المعبود في السماء والأرض، أي: يعبده أهل السماء وأهل الأرض، وهذا القول عليه جماهير أهل التفسير، ورجحه العلامة الشنقيطي في أضواء البيان، واختاره من قبله الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن. ومن الآيات التي تؤيد هذا المعنى: قول الله جل وعلا: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف:84]، أي: هو إله من في السماء وإله من في الآرض. القول الثاني -واختاره النحاس النحوي المعروف- يقول: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ [الأنعام:3] أي: في السموات وفي الأرض، فجعلها متعلقة بـ(يعلم)، فيصبح معنى الآية: وهو الله يعلم سركم في السموات وفي الأرض. قال النحاس : وهذا أفضل ما يقال في الآية، لكننا قلنا: إن الجمهور على خلاف ذلك. ومما يؤيد هذا المعنى من القرآن: قول الله جل وعلا: قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الفرقان:6]. القول الثالث -وهذا اختيار إمام المفسرين: ابن جرير رحمة الله تعالى عليه- يقول: إن هناك وقفاً تاماً عند قول الله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ [الأنعام:3]، ثم نستأنف: وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ [الأنعام:3]، يعني: يعلم سركم وجهركم في الأرض، رغم أنه مستو على عرشه في السماء، ومن أدلة هذا القول: قول الله تبارك وتعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ [الملك:16]. نعود فنقول: ذهب الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه إلى القول الأول، لكنه استشهد على صحة الأقوال بما ذكرناه من الآيات، ونحن نقول، إن هذه الطريقة غير صحيحة؛ بصحة ما ذهب إليه هؤلاء الكبار، لكن لا يلزم من صحة المعنى صحة الطريقة، كمن تعطيه مسألة في الرياضيات فيأتيك بالحل، لكنه لم يتخذ الطريقة الصحيحة، فأنت تقر له بأن الحل صحيح، لكنك لا تقر له بصحة الطريقة، فنقول: إن المسلك الذي سلكوه فيه نوع من التكلف، والأصل: بقاء الآية على معناها الظاهر الذي يتبادر أول الأمر، والعجب أن ابن جرير رحمة الله تعالى عليه ممن يأخذ بظواهر الآيات أولاً، ومع ذلك لجأ في هذه المسألة إلى القول بالوقف التام في قوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ [الأنعام:3]. نعود فنقول: إن المعنى الحقيقي للآية في ظننا: أن الله جل وعلا إله من في السماء، وإله من في الأرض، لكن هذا المنحى يدخل على مستوعب التفسير إشكالاً يجب الرد عليه: وهو أننا قلنا في مثل قول الله تعالى في سور كثيرة: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:5-6]: إن ذكر اليسر نكرة مرتين يدل على أن هذا اليسر خلاف اليسر الأول، وأنتم تقولون: إن النكرة إذا تكررت تغايرت، ثم من القواعد المشتهرة -كما قال السيوطي في منظومته- أن النكرة إذا تكررت تغايرت، فعلى هذا المعنى يكون قوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف:84]، دالاً على وجود إلهين وليس إلهاً واحداً؟ فنقول: لا يلزمنا هذا أبداً؛ لوجود الأصل العام أولاً وهو أن الله إله واحد. والأمر الثاني: أن القاعدة تقول: إن هذا تغير في الصفات لا في الذوات،قال ربنا يثني على نفسه: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]. ثم قال: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى [الأعلى:2]. وقال: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:3]، فليست الصفات صفات لغير الله، وإنما هي صفة لله، لكنها صفة أخرى لغير الله، فيحتاط المرء عندما يفهم أن التغاير يكون في الصفات لا في الذوات. قال تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [الأنعام:3]، سركم أي: ما تخفون، وجهركم أي: ما تظهر الجوارح، وما تكسبون، الكسب: هو ما يقع حقيقة من فعل أو قول، وحتى تتضح الصورة يقول الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ [لقمان:34]، ثم قال: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا [لقمان:34]، ولم يقل: وما تدري نفس ماذا تعمل غداً؛ لأن الإنسان يبيت سلفاً ما سيعمله، لكنه يجهل إمكانية وقوع هذا العمل الذي بيته، هذا الذي يجهله الإنسان ولا يعلمه إلا الله، فنحن قبل أن نصل إلى هنا مدركون منذ البارحة أو قبلها بأيام أننا إن شاء الله سنلتقي هاهنا لنؤدي هذه الحلقة المباركة، هذا عمل، لكن حصوله يعد كسباً لا عملاً، فما تضمره السرائر، وتكنه الضمائر يعلمه الله، ويعلم كذلك إن كان هذا الذي أكننته سيقع أم لا؛ ولهذا قال الله جل وعلا: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [الأنعام:3]. وقد مر معنا: أن الله يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون، ويعلم جل وعلا ما لم يكن لو كان كيف يكون. والمقصود من هذا كله: إظهار قدرة الله، أما الآية الأولى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [الأنعام:2] ففيها: إقامة الحجة على أهل الإشراك في قضية البعث والنشور، وقد حررنا أن الله ذكر الطين حتى يذكرهم بأصل خلقتهم. مما يمكن اقتباسه من الآيات: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [الأنعام:2-3]: أن الإنسان كلما ازداد علماً ومعرفة بعظمة ربه جل وعلا كان أقدر على طاعته، وأبعد عن معصيته، وقد حررنا هذا الكلام مراراً في دروس سلفت، وأيام خلت، لكن التأكيد عليه من أعظم اللوازم؛ فليس المقصود من تفسير القرآن: إظهار القدرات، وبيان ما يملكه الإنسان من ملكات، لكن القرآن في المقام الأول واعظ وهاد إلى أعظم سبيل، فأحياناً ينبغي على الإنسان أن يفرق ما بين الشيء نفسه والغاية من الشيء، مثاله: النبي صلى الله عليه وسلم مدحه ربه، ومدحه الخلق، لكن مدح الخلق للنبي صلى الله عليه وسلم ليس بزائد في مدحه صلى الله عليه وسلم شيئاً؛ إذ يكفيه مدح ربه له صلى الله عليه وسلم، لكن ينجم عن هذا: أن هؤلاء الناس الذين مدحوه صلى الله عليه وسلم هم أنفسهم ينتفعون. فالإنسان إذا قدر له أن يعطى علما جماً في علم الآلة ينبغي أن يوظف ذلك العلم في إظهاره للناس، ثم لا ينسى الحقيقة الهامة، والغاية الجليلة من الأمر، وهي: أنه يجب أن تكون تلك الملكات سائقة له -قبل أن يعلم الناس- إلى أن ينتفع بالقرآن. لو كان في العلم غير التقى شرفاً لكان أشرف خلق الله إبليس والله نعى على أهل الكفر: أنهم يعلمون -كاليهود مثلاً- لكنهم لا ينتفعون بعلمهم، نفعنا الله وإياكم بما نقول. هذا ما تحرر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، وصل الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين. |
|
26-02-17, 06:22 PM | #12 |
يذكر الله تعالى نبأ الكفار الذين عميت قلوبهم عن إبصار الحق فأعرضوا عن آياته وكذبوا بالحق لما جاءهم، واقترحوا على رسول الله ما ظنوا أنه معجز له عن الإتيان به، وكل هذا سببه تأصل العناد في قلوبهم، وحيادهم عن طلب الحقيقة بالتجرد إلى الإصرار على الباطل، وقد توعدهم الله تعالى مجازاتهم على صنيعهم مذكراً لهم بحال من سبق من المكذبين وعاقبتهم، وما هؤلاء بأكرم على الله منهم.
|
|
26-02-17, 06:24 PM | #13 |
تفسير قوله تعالى: (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين)
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرحمن على العرش استوى. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن على أثارهم اقتفى، وبعد: فهذا هو الدرس الثالث حول سورة الأنعام المباركة التي ذكر المفسرون أنها نزلت جملة واحدة. فنقول مستعينين بالله جل وعلا: قال الله جل وعلا: وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [الأنعام:4-5]. هذا إخبار عن حال أهل الإشراك، والسورة مكية تصور حال أهل مكة، و(ما) في قوله تعالى: َمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ [الأنعام:4] نافية. وذكرت (من) هنا مرتين، حيث قال تعالى: َمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ [الأنعام:4]. وأما (من) الأولى فهي لاستغراق الجنس، أي: للعموم. وأما الثانية فتبعيضية. ومن تلك الآيات انشقاق القمر. وقوله تعالى: إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ [الأنعام:4] أي: إننا أظهرنا لهم الآيات، ومن أعظمها القرآن، ومنها انشقاق القمر، فكانوا عنها معرضين، أي: أعرض أهل مكة عنها، وهذه ظاهرة المعنى. |
|
26-02-17, 06:25 PM | #14 |
تفسير قوله تعالى: (فقد كذبوا بالحق لما جاءهم...)
قال تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ [الأنعام:5] فبصنيعهم هذا ردوا الحق وهو ظاهر بين فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [الأنعام:5]. و(سوف) هنا للتراخي؛ لأنا للمستقبل البعيد، وهذا من وعيد الله لهم بالهلاك في الدنيا والآخرة، أو بالثبور في الدنيا والآخرة، وقد وقع هذا يوم أحد، ووقع يوم الفتح، ويوم بدر، وسيقع أعظم منه وأشد لمن مات كافراً يوم القيامة. والنبأ في اللغة: الخبر المفجع الذي تفزع منه النفس، وجمع الأنباء ليعلموا أن الله جل وعلا أخفى لهم شتى أنواع الهلاك. |
|
26-02-17, 06:26 PM | #15 |
تفسير قوله تعالى: (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن...)
ثم قال الله: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الأنعام:6]. الهمزة هنا للاستفهام اتفاقاً، ولكن اختلفوا في الغرض من الاستفهام هنا. فقال بعضهم: إن الاستفهام هنا إنكاري، وهذا القول ذهب إليه الشوكاني رحمه الله تعالى في فتح القدير، وهو خلاف الصواب. والصواب أن الاستفهام هنا استفهام تقريري من جنس قول الله جل وعلا: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1]؛ لأن الاستفهام إذا دخل على نفي يفيد التقرير، و(لم) نافية بالاتفاق. وقوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا [الأنعام:6] معناه: ألم يعلموا، وليست رأى هنا هي البصرية، ومعلوم أن (رأى) إذا جاءت بمعنى (علم)، فهي من أخوات ظن. وأما إذا جاءت (رأى) بمعنى (أبصر بعيني رأسه) فإنها تتعدى إلى مفعول واحد، وأما الأولى فهي بمعنى (علم)، من أخوات ظن، تدخل على الجملة الاسمية فتنصب المبتدأ والخبر، وكلاهما يسمى مفعولا لها. ولقرينة على أنها علمية وليست بصرية أننا نعلم جميعاً أن الله جل وعلا قال: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ [الأنعام:6]، وأن القرشيين لم يروا بأم أعينهم هلاك الأمم قبلهم، فلما انتفى الثاني وجب صرفها إلى الأول. قال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا [الأنعام:6] (كم) هنا خبرية، وليست استفهامية. و(كم) الاستفهامية تحتاج إلى جواب، وأما (كم) الخبرية فلا تحتاج إلى جواب، وإنما يراد بها الكثرة، قال الفرزدق يهجوا جريراً : كم خالة لك يا جرير وعمة فدعاء قد حلبت علي عشاري قصد بها الكثرة ولم يقصد جواباً من جرير على سؤاله. |
|
26-02-17, 06:34 PM | #16 |
بيان معنى القرن
قال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ [الأنعام:6]. كلمة (قرن)، فيها قولان: الأول: أن المراد بها المدة الزمنية، ومن قالوا بهذا اختلفوا في تحديد هذه المدة، فالأشهر على أنها مائة عام، وقال آخرون: إنها ثمانون، وقال آخرون: إنها ستون. والقول الثاني: أن القرن كل قوم عاشوا في عصر واحد طال أو قصر، فهم كل قوم عاشوا مقترنين مع بعضهم في عصر واحد، طال هذا العصر أو قصر، ومن الأدلة على صحة هذه القول قوله صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرن) يقصد من عاش معه، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعش في عمره كله إلا ثلاثة وستين عاماً، منها ثلاثة وعشرون عاماً كان فيها نبياً ورسولا، فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني). فالله تعالى هنا يقول: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ [الأنعام:6]. والمقصود أهل القرن، وهذا مما يسميه بعض البلاغيين بالمجاز المرسل، ويجعلون له علاقات. |
|
26-02-17, 06:35 PM | #17 |
بيان معنى قوله تعالى (مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم...)
قال تعالى: مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الأنعام:6] أي: تلك القرون مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ [الأنعام:6]، أي: يا أهل مكة، وزيادة على ذلك وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ [الأنعام:6]، أي: على تلك القرون التي أهلكناها مِدْرَارًا [الأنعام:6]. وهذا إيضاح بأن حال تلك القرون كان من حيث المعيشة الظاهرة أفضل من حال أهل مكة؛ لأن مكة بلد شحيح المطر وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ [الأنعام:6] ومكة بلد جبلي. |
|
26-02-17, 06:35 PM | #18 |
بيان إهلاك الله تعالى المكذبين بعد بسط نعمته عليهم
قال تعالى: فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ [الأنعام:6]. أي: بسطنا لهم في الأموال والجاه والأجساد والبنين، فلم يحل ذلك بيننا وبين إهلاكهم فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [الأنعام:6]. أي: أوجدنا وخلقنا قوماً آخرين يعمرون الأرض بعدهم، ولا ريب في أن المسوغ لإهلاك أهل مكة أعظم من المسوغ لإهلاك من سبق، والمسوغ هنا هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل ممن قبله من المرسلين، فإذا كان أولئك القوم كذبوا برسل؛ فقد كذبتم أنتم بأعظم رسول، فالهلاك في حقكم أكبر، ولكن الله جل وعلا أبقاهم؛ لقوله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال:33]. والآيات -وإن دلت على الزجر والوعد والوعيد لأهل الإشراك- قد تضمنت ثناء الله جل وعلا على نفسه، وأعلم أن القرآن دل على أن سبب هلاك الأمم أمران: الأمر الأول: التكذيب بالرسل ومعاندتهم. والأمر الثاني: البطر في المعيشة وغمط الحق، فغمط الحق وبطر المعيشة من أعظم أسباب هلاك الأمم، قال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ [القصص:58]. |
|
26-02-17, 06:37 PM | #19 |
تفسير قوله تعالى: (ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس...)
ثم قال جل وعلا: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام:7]. إن الكفر ملة واحدة، ومما توارثه أهل الكفر العناد والاستكبار، وادعا أن ما يقوله الرسل سحر، كما أخبر الله تعالى عن قوم فرعون أنهم قالوا لموسى: مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [الأعراف:132]. فهذا الأمر توارثته الأجيال من عهد نوح، فكل قوم يقولون لرسولهم: سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات:52]. فربنا جل وعلا يقول: إن العناد شيء متأصل، وليست القضية -أيها النبي- أنك لم تحسن عرض الدين عليهم، والدليل -والله يعلم ما سيكون- قوله تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ [الأنعام:7]. والحواس خمس: البصر، والذوق، والسمع، والشم، واللمس، وأقوى الحواس الخمس اللمس؛ لأن الإنسان قد يعتريه ما يضعف قوة شمه، أو يطعم الماء الزلال مراً، أو يُسحر سحر تخييل، أو يلتبس عليه سماع الكلمات لأجل اللغط، فأقوى حواسه ما يلمسه؛ إذ يقل أن يدخل شيء يؤثر على حاسة اللمس، بخلاف الحواس الأخر. فهنا ذكر الله أقوى الحواس، فقال: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ [الأنعام:7]. ولم يقل جل وعلا فرأوه؛ إذ لو رأوه لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر:15]، ولكن قال: فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام:7]. فذكر الله جل وعلا اللمس هنا ليثبت جل وعلا أن هؤلاء القوم تأصل العناد والاستكبار فيهم، فيقول تعالى: لو أنك -يا نبينا- أتيت بكتاب من عندنا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال اللذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين. على أنه ينبغي أن يعلم أن اللمس في القرآن له معنيان: المعنى الأول: اللمس بظاهر البشرة، وهو اللمس المعروف. والثاني: البحث، كما قال الله تعالى عن مؤمني الجن: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا [الجن:8]، والجن لم تمس السماء، وقد قال تعالى: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا [الأنبياء:32]. فالجن لم تلمس السماء، ولكنهم بحثوا في السماء فوجدوا أن السماء مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا [الجن:8]. والقرطاس اسم له نظائر، وهي الطرس والكاغد والورق، فالورق والطرس والكاغد بمعنى واحد، وهو ما يكتب عليه، فإذا كتب عليه سمي قرطاساً، فلا يسمى القرطاس قرطاساً إلا إذا كتب عليه. وتسميته ورقاً وكاغداً وطرساً تسمية فصحى، فجاء الله جل وعلا هنا بأرفع الأربعة فقال: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ [الأنعام:7]. أي: مكتوباً في قرطاس. والقاف في (قرطاس) مثلثة، فيجوز فيها الثلاث الحركات، فتقول: قُرطاس، وقَرطاس، وقِرطاس، وأفصحها بالكسر؛ لأن القرآن جاء بها. فاللغة فيها فصيح وأفصح، وتعرف الفصاحة بأسلوب القرآن، فاختيار القرآن هو الأفصح. |
|
26-02-17, 06:39 PM | #20 |
تفسير قوله تعالى: (وقالوا لولا أنزل عليه ملك...)
ثم ذكر الله اقتراحاً ذكره أهل الكفر فقال تعالى: وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ [الأنعام:8]. فمن الاقتراحات التي اقترحها مشركوا قريش أن ينزل الله جل وعلا ملكاً على نبينا صلى الله عليه وسلم. ولهم اقتراح آخر، وهو أن يكون الرسول نفسه ملكاً. و(لولا) تأتي للحض، فهم يظنون بجهلهم أن هذا أمر معجز، أي: يعجز الله عن أن يبعث ملكاً، ولذلك طلبوا هذه الآية على سبيل التعجيز. والعاقل لا يقبل أن يقع في الفخ الذي نصبه له عدوه، كما أن العاقل لا يسلم نفسه إلى عدوه أيا كان ذلك العدو، فالنبي صلى الله عليه وسلم دخل على حمزة وهو ثمل قبل أن تحرم الخمر يعاتبه على أن نحر ناقتي علي رضي الله عنه، فدخل علي وزيد مع النبي صلى الله عليه وسلم على حمزة وهو في نفر من الأنصار سكارى. فلما عاتب النبي صلى الله عليه وسلم حمزة قال حمزة للنبي صلى الله عليه وسلم وهل أنتم إلا عبيد لأبي؟! ففهم عليه الصلاة السلام من العبارة أن حمزة ثمل، فرجع القهقراء حتى لا يغتر حمزة ، فإذا رأى أظهرهم فقد يصيبه نوع من الإثارة فيؤذيهم، فخرج صلى الله عليه وسلم ووجهه إلى حمزة حتى خرج من الدار. والمقصود أن الإنسان يحتاط لنفسه ولا يسلم نفسه لغيره من أعدائه،مع الفارق بين حمزة رضي الله عنه وغيره. هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده في هذا الدرس المبارك حول سورة الأنعام، وفي الدرس القادم -إن شاء الله- سنعرج على كيفية رد الله جل وعلا في آياته المباركات على اقتراح القرشيين أن ينزل مع النبي صلى الله عليه وسلم ملك. وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين. |
|
|
|