روائع شعريه |
روائع الكسرات |
|
||||||||||
الـــمـــلـــتـــقـــى الــــــــــعــــــــام [للنقاش الهادف والبناء والمواضيع الاسلامية والعامه] |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
10-01-17, 12:02 AM | #11 |
تفسير قوله تعالى: (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم ...)
ثم ذكر الله جل وعلا خبر أصحاب الكهف، وهي ما سميت السورة بسببه، والمؤمنون الذين أنزلت هذه السورة فيهم كانوا قلة يواجهون طغمة كافرة، فكان من تربيته لأوليائه والمؤمنين من عباده أن يبين لهم حال أقوام سابقين، كما ذكر للنبي أحوال الرسل، وقد ذكر للمؤمنين أحوال أناس قبلهم كيف صبروا على دين الله حتى يثبِّت قلوبهم، ويبين لهم أنهم ليسوا أول من سار على هذا الدرب، أو سلك هذا الطريق. قال الله لنبيه: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ [الكهف:9] (أم) بمعنى: بل، وأتي بها هنا لأمرين: للإضراب الانتقالي، ومعنى الإضراب الانتقالي: الانتقال من حديث إلى حديث، كما أُتي بها للاستفهام. أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا [الكهف:9]، فكأن القرشيين سألوا النبي عن أصحاب الكهف باستعظام، وهذا الاستعظام جعل النبي عليه الصلاة والسلام، يعتقد أو يمر على خاطره، أو يجول بخلجه: أن أصحاب الكهف أعظم آيات الله. فالله يقول لنبيه: أن خبر أصحاب الكهف، وإن كان خارقاً للعادات إلا أنه ليس أعظم الآيات، أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا [الكهف:9]، أي: ليسوا بأعجب آيات الله، فقد جعل الله جل وعلا آيات أعظم وأعجب وأشد في الذهن والخلد من نبأ أصحاب الكهف، وإن كان نبؤهم عجيباً. وأصحاب الكهف طائفة، وقد أضافهم الله جل وعلا إلى شيئين: أضافهم إلى الكهف، وأضافهم إلى الرقيم. والفجوة التي في وسط الجبل إذا ضاقت فهي غار، وإذا اتسعت فهي كهف: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا [الكهف:9]، وقد نسبهم الله جل وعلا إلى الكهف، والرقيم معطوف على الكهف، لكنه متعلق بأصحاب الكهف، ليس -كما فهم البعض- أن أصحاب الكهف طائفة وأصحاب الرقيم طائفة، وإنما هم طائفة واحدة، أضيفوا إلى الكهف باعتبار المكان الذي ناموا فيه، وأضيفوا إلى الرقيم عطفاً، باعتبار أن قومهم لما ظهروا عليهم دونوا أسماءهم، والأفضل أن يحمل اسم الرقيم على اللوح المكتوب فيه أسماؤهم، لا على القرية أو الوادي -كما قال بعض الفضلاء- والدليل على ذلك من القرآن، فإن أول ما نفسر به القرآن هو القرآن نفسه، وقد جاء ذكر الرقيم بمعنى المكتوب، كما قال الله جل وعلا: وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ [المطففين:19-20]، فرقيم على وزن: فعيل بمعنى: مفعول، كما تقول: قتيل، بمعنى: مقتول، على وزن مفعول، فرقيم بمعنى مرقوم، أي: مكتوب. |
|
10-01-17, 12:03 AM | #12 |
تفسير قوله تعالى: (إذ أوى الفتية إلى الكهف ...)
ثم أجمل جل شأنه فقال: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ [الكهف:10] الفتية: جمع فتى، وقال بعض الفضلاء: إننا إذا جمعنا فتى بفتية فإننا نقصد قوماً صالحين أشرافاً ذوي هيئات، وإذا جمعنا فتى بفتيان فإننا نقصد الخدم والحشم، واحتجوا بأن الله أخبر أن يوسف قال لفتيانه، ولم يقل لفتيته، وهذا القول مقبول إلى حد ما، لكن يشكل أنه في قراءة: (إذا أوى الفتيان إلى الكهف)، والمقصود: هذا تخريج بعض الفضلاء وهو مقبول إلى حد ما كما قلت. قال الله جل وعلا: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [الكهف:10]، فمن استهدى بالله هداه، ومن سأله أغناه، ومن لجأ إليه آواه، وليس للمؤمن أحد يلجأ إليه إلا ربه، قال الله جل وعلا: قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الجن:22]، وهذه دعوة كل يدعيها لكن العطايا الإلهية والمنح الربانية إنما تكون بحسب ما في القلب، فالله جل وعلا يحاسب عباده بما علم في قلوبهم لا بما ظهر للناس منهم، وهذا أمر يعين الطالب في طلب العلم، وفي طلب أي مرغوب من الرب تبارك وتعالى. فعلموا الذي عليهم وأخذوا بالأسباب، وفروا من قومهم، وسألوا الله جل وعلا الإيواء والرحمة. |
|
10-01-17, 12:04 AM | #13 |
تفسير قوله تعالى: (فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً)
قال ربنا: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا [الكهف:11]، لم يذكر الله جل وعلا هنا عدد السنين، ولكنه فسرها في آخر القصة، قال الله تعالى: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [الكهف:25]، فهذا من تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالقرآن له ثلاثة أنواع: تفسير في نفس الآية، وتفسير في نفس السورة لكنه يأتي بعد مرحلة، وتفسير في غير السورة يعني: في سورة أخرى. وهذا من التفسير الذي جاء في نفس السورة، أما مثال النوع الأول قوله تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ [الهمزة:5-6]، وقد مر معنا هذا. يقول الله جل وعلا يقول: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ [الكهف:11]، الضرب هنا: بمعنى الإلصاق، واللزوم والمباشرة، وقد جاء: ضربت له القبة بنمرة صلى الله عليه وسلم. وهذه القبة ضربت بوتد في الأرض، وهذا أمر تستخدمه العرب فنسمع أنهم يقولون: ضربت عليهم الجزية، يعني: ألصقت بهم، وهذا أسلوب العرب في كلامهم، قال الفرزدق يخاطب جريراً : ضربت عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المنزلُ ويقصد بذلك: الإلصاق، وقد قلنا: إن الاستشهاد يكون بالعصور التي يصح فيها الاستشهاد والفرزدق ممن يُستشهد بكلامه، بل قيل: لولا الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب، والمرء كطالب علم ينبغي أن يفقه ويقرأ كثيراً في شعره؛ لأن في شعره غرائب ألفاظ وقوة وفخامة، لا توجد عند غيره. ومما يعين على تفسير كلام الله فقه وإدراك وحفظ كلام العرب. وقال آخر وهو يتكلم عن شخص ميت: إن السماحة والمروءة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج والذي يهم من هذه الشواهد الشعرية معرفة معنى قول الله جل وعلا: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا [الكهف:11]، وخص الله جل وعلا الأذن بالذكر هنا دون البصر ليخبر بذلك أن نومهم يصبح ممتنعاً على غيرهم ولا يستطيع أن يوقظهم أحد، ومر كثيراً الحديث النبوي عندما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر ذلك الرجل الذي نومه ثقيل، ولا يقوم في الليل ليصلي، قال: (ذلك رجل بال الشيطان في أذنيه)، حتى يبين أن القضية تتعلق بالأذن، فلما أراد الله أن يرحم هذه الفئة قال: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا [الكهف:11]. |
|
10-01-17, 12:05 AM | #14 |
تفسير قوله تعالى: (ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين ...)
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ [الكهف:12] والمقصود: أيقظناهم، وإلا فهم ليسوا بموتى، وأي لفظ (نعلم) في القرآن جاء بهذه الصيغة: (لنعلم) معناه: ليظهر علم الله. لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [الكهف:12]، اختلف العلماء بالمقصود بالحزبين، والأظهر أنهم الناس الذين اختلفوا في عددهم كما سيأتي بيانه في آخر القصة، لكن يأتي اعتراض هنا: ما الفائدة من معرفة عددهم بالنسبة للأولين، لا بالنسبة لنا؟ ما في معرفة عدد السنين التي لبثوها بالنسبة للأولين؟ فهنا يذكر مسألة مهمة، قالوا: إن هذا لم يذكر إلا لشيء مهم، وهو قوله سبحانه: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [الكهف:12] ومع ذلك -وهذا بقدر الله- لم يتعرض المفسرون لحل هذا الإشكال. قال الإمام الشنقيطي رحمه الله في (أضواء البيان): ولم أقف على أحد تعرض لهذا الأمر. ثم حاول -رحمه الله- أن يجيب فقال في جملة كلامه: لعل المقصود في أن يكون أنهم إذا علموا طول الزمن، كان بالنسبة لهم دليلاً على قدرة الله، أن أخرجهم طرية أجسادهم أحياء رغم طول المكث، فلو فرضنا أن الناس لم يعلموا عدد السنين لقالوا هؤلاء طيبون وأبدانهم طرية ربما ناموا يوماً واحداً، أو ناموا يومين، لا غرابة في هذا ولا ضرورة وليس هناك آية من آيات الله خارقة للعادة، لكن عندما يعلم الناس أن هؤلاء لبثوا أكثر من ثلاثمائة سنة أو ثلاثمائة وتسع سنين فيقع في خلجهم صحة هذا المكوث، وهذا يزيدهم علماً بخالقهم جل جلاله؛ لأن عظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق، وعظمة المصنوع تدل على جلال الصانع جل شأنه. لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [الكهف:12]، هذا كله إجمال، ثم فصل تبارك اسمه وعلا شأنه. |
|
10-01-17, 12:05 AM | #15 |
تفسير قوله تعالى: (نحن نقص عليك نبأهم بالحق ... قلنا إذاً شططاً)
قال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الكهف:13]، فالقرآن هو الأصدق في أخباره، والأسمى في عباراته، والأفصح في أسلوبه. نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13]، وهذا إجمال عظيم، فليس المقصود أن هناك أشياء عديدة يراد تبيينها أكثر من أن الله جل وعلا قذف في قلوبهم الإيمان، وزادهم هدى جل شأنه، وهذه منقبة عظيمة وخصلة حميدة، لهؤلاء القوم وتزكية من العلي الكبير لهم، تشرئب لها الأعناق. وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ [الكهف:14]، كل سائر إلى الله يحتاج إلى الثبات، ومن الثبات أن يربط الله جل وعلا على القلب، خاصة عند حلول النوازل والمصائب والكوارث، أو عند ورود الشبه أو عند شيوع الفتن، فإن المؤمن يحتاج إلى أن يربط الله جل وعلا على قلبه، ولهذا كثر في دعائه صلى الله عليه وسلم أن يقول: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك)، وقد يمر في أحوال الناس مما يقرأ الإنسان أو يسمع أو يشاهد كثيراً من الناس يبدو متحمساً للدين ثم لا يلبث -عياذاً بالله- أن ينتكس، ولا حاجة لضرب الأمثلة، لكن الحاجة ملحة إلى أن نسأل الله جل وعلا الثبات على دينه، وأن يربط تبارك وتعالى على قلوبنا، أينما حللنا وحيثما نزلنا. قال الله ممتناً على تلك الفئة المباركة: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا [الكهف:14] والمشهور: أنهم قاموا بين يدي ذلك الملك الطاغية، فَقَالُوا [الكهف:14] أي: للملك، رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا [الكهف:14]، أي: ميلاً عظيماً عن الحق، وأي شطط أعظم من أن يميل الإنسان عن توحيد الله تبارك وتعالى. |
|
10-01-17, 12:07 AM | #16 |
تفسير قوله تعالى: (هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة ...)
هَؤُلاءِ قَوْمُنَا [الكهف:15] يقولون له: انظر إليهم اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ [الكهف:15] ومحال أن يوجد أحد سلطان بيّن على أن مع الله آلهة؛ لأنه أصلاً ليس مع الله آلهة، فالشيء غير الموجود يستحيل إثباته، فليس مع الله شريك فلا يمكن أن يأتي أحد بسلطان على أن مع الله شريك؛ لأنه ليس مع الله شريك أصلاً. لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الكهف:15]، وهذا فسرته السنة: أنه لا ذنب أعظم من أن يزعم أحد أن مع الله شريك كما فسره القرآن من قبل وهو قوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. |
|
10-01-17, 12:08 AM | #17 |
تفسير قوله تعالى: (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله ...)
ثم ذكر الله خطاب الفتية بعضهم إلى بعض، فهم يحتاجون إلى أن يثبت بعضهم بعضاً. ومن هنا ينبغي أن تكون الحوارات في المنزل المؤمن والأسرة المؤمنة وبين الأصدقاء المؤمنين حوارات تثبيت، وحوارات إيمانية تزيد في الإيمان. قال الله جل وعلا: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ [الكهف:16] يخاطب بعضهم بعضاً، وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا [الكهف:16]، فجزمت (ينشرْ)، وجزمت (يهيئْ)؛ لأنهما واقعان في جواب الطلب وهو قوله تعالى: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا [الكهف:16] فأخذوا بهذا الرأي، ولجئوا إلى الكهف فنشر الله جل وعلا عليهم من رحمته، وأفاء الرب تبارك وتعالى عليهم من عطائه، وآواهم جل وعلا أعظم الإيواء، وهذا الإيواء سيأتي بيانه بعد ذلك في قول الله جل وعلا: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ [الكهف:17]. إن الله جل وعلا رحيم بخلقه شفيق بعباده، قال سبحانه: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ [الشورى:19] لكن كلما عظم إيمان المرء ورسخ في قلبه محبة الله وتبرأ المؤمن من كل أحد غير الله كان أقرب إلى رحمة الله جل وعلا وفضله ولطفه، وينال من عند الله بمقدار ما لله جل وعلا في قلبه. |
|
10-01-17, 12:09 AM | #18 |
ما يستفاد من الآيات
وما مر من آيات فيها فوائد جمة نلخصها فيما يلي: أن القرآن رحمة بالخلائق؛ ولهذا أخبر الله جل وعلا أنه مستحق للحمد؛ لإنزال هذا الكتاب الذي لا عوج فيه، بمعنى: لا خلل في نظمه ولا تعارض في معانيه، بل هو مهيمن على الكتب كلها التي سبقت كما صرح الله جل وعلا بذلك في آيات في غير سورة الكهف من كتابه المبين. وأخبر تبارك وتعالى أن القرآن إنذار لأهل الإشراك وبشارة لأهل الإيمان، وأن من زعم أن لله الولد وهم اليهود والنصارى ومشركو العرب فقد أعظموا على الله الفرية، وأنهم لا يملكون برهاناً ولا دليلاً ولا قرينة على صحة ما يقولون؛ لأن ما يقولون لا وجود له، والشيء الذي لا وجود له لا يمكن أن يكون عليه برهان ولا بينة ولا سلطان، وأن هذا الأمر يعظم ويكبر في السماوات والأرض كما قال الله جل وعلا في سورة مريم: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا [مريم:88-91]. ثم أخبر الله جل وعلا أنه رحمة بعباده ودلالة على وجوده وإظهاراً لعظيم آياته وقدرته، جعل ما على الأرض زينة لها، تتأمله الأعين، وتستلذ به الأنفس ثم لا يلبث ذلك كله أن يضمحل ويذهب، قال الله جل وعلا: وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا [الكهف:8] بعد أن كان أمراً مشاهداً معيوناً، صَعِيدًا جُرُزًا [الكهف:8] لا نبات فيها ولا شجر ولا ثمار دلالة على قدرة العظيم الجبار، وسبحان من لا يحول ملكه ولا يتغير فيه شيء جل جلاله، قال الله جل وعلا: وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا [الكهف:8]. ثم ذكر الله نبأ فتية في غابر الأزمان، ظن نبينا صلى الله عليه وسلم أن ما وقع لهم هو من أعظم الآيات، لكنهم وإن كان خبرهم من خوارق العادات إلا أنهم ليسوا من أعظم آيات الله، قال الله جل وعلا: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57] فخلق السماوات من أكبر الآيات، وكذلك لله جل وعلا آيات أخبرنا ببعضها ولم يخبرنا ببعضها، كلها جملة وتفصيلاً تدل على عظيم قدرته وجليل شأنه. كما بين جل وعلا وقوف الفتية أمام الطاغية، ثم لما خافوا على دينهم فروا بأنفسهم ولا يلامون على ذلك، وليس كل أحد مطالب بأن يواجه وأن يقتل نفسه، فإن حفظ النفس أمر مقرر شرعاً، فاضطروا إلى الهجرة، واللجوء إلى الكهف، فلما لجئوا إلى الكهف أمّنهم الله جل وعلا من الأعداء، وأغناهم عن جميع الأشياء، ووكلهم إلى حفظه ورحمته، فكان حقاً أن يكونوا في حصن أمين، وكهف يحفظهم الله جل وعلا فيه، كما يأتي تفصيله إن شاء الله. هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده حول هذا المقطع من السورة، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
|
11-01-17, 12:21 AM | #19 |
11-01-17, 12:23 AM | #20 |
تفسير قوله تعالى: (وترى الشمس إلا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين ...)
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً كما يحب ربنا ويرضى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شعار ودثار ولواء أهل التقوى. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فنستكمل في هذا اللقاء المبارك ما كنا قد بيناه من الحديث عن أصحاب الكهف، والسورة التي نحن معنيون بها في هذه اللقاءات المتتابعة هي سورة الكهف، وقد مر معنا أنها سورة مكية وأنها تعرضت لجملة من القضايا، وأن قراءة أولها يعصم الله جل وعلا به من فتنة الدجال، وأن من السنة أن يقرءها المؤمن كاملة يوم الجمعة. وقد وصلنا إلى إن أصحاب الكهف تنادوا مع بعضهم البعض وقالوا: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا [الكهف:16] فهم أخذوا بالأسباب وتوكلوا على الملك الغلاب، وهذا ما انتهى إليه حديثنا في اللقاء الماضي. قال الله جل وعلا: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17] الآيات بينها وبين السابق ما يسمى عند البلاغيين: إيجاز حذف، وإيجاز الحذف في هذه السورة: أن الله لم يذكر أنهم اتفقوا على الكهف، ولم يذكر مسيرهم إلى الكهف، وإنما أتى بالخطاب مباشرة: أن الشمس تطلع عليهم فيحفظهم بذلك. ومعنى هذا أنها اتفقت كلمتهم على أن يذهبوا للكهف، ومفهوم الآيات أنه كان معهم كلب في طريقهم إلى الكهف؛ لأن الله ذكر هذا الكلب بعد ذلك، لكن هل كان الكلب لأحدهم مسبقاً أو أن أحداً انضم إليهم ومعه كلب؟ هذا أمر لم يبينه الله ولا حاجة إلى أن نتكلف، لكن الذي يعنينا أن هؤلاء الفتية ضرب الله على آذانهم في الكهف. ثم طوى الله لهم الأيام والسنين ليبين لنا ماذا حصل في الكهف وهؤلاء الفتية آمنون فيه. العجيب في القضية كلها أو الذي ينبغي أن يفهم أنه إذا أراد الله جل وعلا أن يحفظك فنم مطمئناً. فخصومهم الآن يبحثون عنهم، وينفقون الأموال في الوصول إليهم، ويتهددونهم ويتوعدونهم، ولا يوجد أحد مغيب مثل النائم يُتمَكن منه أكثر من غيره، ومع ذلك كانت تحيطهم عناية الله، وهذا لا يقدر عليه إلا الله، بل إن الشمس وهي تسير بقدر الله ويحصل منها إيذاء لمن تعرض لها تعرضاً غير حميد وتصدى لها، ومع ذلك حتى الشمس لم تستطع أن تنالهم بأذى؛ لأنهم في حفظ وكنف الرحمن جل جلاله. صور الله ذلك الموقف بقوله: (وَتَرَى الشَّمْسَ) أيها المخاطب بكلامنا! (إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ). تقول في اللغة: جاءني زائر، والزائر في الأصل أنه متوجه إلى بيته، لكن عندما مال إليك وأعطاك وجاءك سمي زائراً، فالزور في اللغة أصله: الميل، قال عنترة : فازورَّ من وقع القنا بلبانه وشكا إلي بعبرة وتحمحمِ وعنترة أحد الشعراء الجاهليين من أصحاب المعلقات، ومعلقته مطلعها: هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم وهو عبسي ينسب إلى أمه من حيث الرق والعبودية، فالمولود ينسب إلى أبيه ديانة فلو أن رجلاً مسلماً تزوج نصرانية أو يهودية فحملت منه فولدت فمات الصغير فإنه يدفن في مقابر المسلمين، وإن كان لا دين له، يعني: ليس له دين ظاهر ولم ينطق بالشهادتين، لكن يعد في أطفال المسلمين؛ لأنه ينسب لأبيه ديانة، وينسب إلى أمه رقاً أو حرية، وفي غير بني آدم فإن الحيوان ينسب إلى أخبث أبويه طعاماً، فالبغل - مثلاً - نتاج عن تزاوج الخيل والأتان وهي: أنثى الحمار، فالخيل مباح أكل لحمها، والأتان محرم فينسب طعمة إلى أمه، فلا يجوز أكل البغل. قال عنترة وهو يتكلم عن خيله: فازورَّ من وقع القنا أي: الرماح، بلبانه، يعني: بصدره، وهي مقدمة رقبة الخيل، أي أن الفرس عندما تأتيه الرماح يميل ميمنة ويسرة. الذي يعنينا هنا أن الازورار بمعنى: الميل. فنعود للآية: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ) أي: تميل عنهم ذات اليمين. (وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ) المقراض هو: المقص الذي يقطع، والمقصود تنقطع عنهم. (تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ) أي: أصحاب الكهف. (فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) أي: في مكان متسع. قال الله تعالى: (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ) قال العلماء: هذه قرينة على أن الأصل أنه ينبغي - بسبب وضع الكهف - أن يصيبهم حر الشمس، لكن لما صرف الله عنهم الشمس حال طلوعها وحال غروبها ألا تصيبهم بأذى، عُدَّ ذلك آية من آيات الله. وقال آخرون: إن الأصل في وضع الكهف ألا يصيبهم منه وهج الشمس، وفسروا قوله تعالى: (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ) قالوا: إن نبأ أصحاب الكهف من آيات الله، لكن القرينة ألصق وأقرب في ظننا والعلم عند الله إلى أن المقصود أن ازورار الشمس وقرضها عنهم إنما وقع بقدر الله جل وعلا ولطفه لهذه الفئة المباركة. قال الله: (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ) وهنا ننيخ المطايا؛ لأن الله لا يقول: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ [الكهف:17] لنمر عليها سريعاً، ولا بد من العلم أن لله جل وعلا آيات تدل على عظمته، من وُفِّق لإدراكها وفهمها، ونظر إليها بعين البصيرة - ومن ذلك: نقمة الله من خصومه، ورحمته بأوليائه - فهذا تعظم خشيته من الله، ويعظم توكله على الله. ألا ترى إلى هاجر لما أوكلت أمرها إلى الله أخرج الله ماء زمزم فرجاً لها وكرامة لإسماعيل؟! ولما قبلت وقالت لخليل الله إبراهيم: آلله أمرك بهذا؟ فقال: نعم، وغدت سبع غدوات تغدو وتروح بين الصفا والمروة تبحث لابنها عن ماء جعل الله ذلك الممشى لا يضيع هباء منثوراً، فمشى سيد الخلق صلى الله عليه وسلم على نفس الممر والمعبر والطريق الذي مشت عليه هاجر ، فهذا آية من آيات الله وهي: أن الله لا يضيع أهل طاعته. وعلى النقيض: فإن من عاداه جل وعلا وحاربه ونازعه أوكل الله جل وعلا إليه من أصناف العذاب ما يجعله عبرة لغيره. ثم قال الله: (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ) (من) شرطية. مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ [الكهف:17] إذاً من لم يهده الله فلن يكون مهتدياً. وَمَنْ يُضْلِلْ [الكهف:17] شرطية أيضاً. فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17] وأين يكون المرشد وأين يكون الولي والله جل وعلا قد تخلى عنه، وهذا المفهوم الحقيقي لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه الذي علمه الحسن: (ولا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت). |
|
|
|