روائع شعريه |
روائع الكسرات |
|
||||||||||
الـــمـــلـــتـــقـــى الــــــــــعــــــــام [للنقاش الهادف والبناء والمواضيع الاسلامية والعامه] |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
26-04-17, 01:18 AM | #141 |
بيان معنى قوله تعالى (ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين...)
ثم قال الله جل وعلا: وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ [الأنعام:144]، والإبل جمع لا مفرد له من جنسه، والذكر منها يسمى جملاً والأنثى منها تسمى ناقة. قال الله جل وعلا: وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ [الأنعام:144]، والبقر ذكره الثور وأنثاه البقرة، وهناك سورة في القرآن عظيمة جليلة تسمى سورة البقرة، وغالب الظن أن الحيوان إذا ذكر في سورة فإن السورة تسمى به في غالب الأمر، كالبقرة، مع أن البقرة لم ترد إلا في آيات معدودات في سورة البقرة على طول السورة، والعنكبوت، فلم ترد ذكره إلا في آية مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41]، والفيل سميت به سورة، والنحل لم يرد ذكره إلا في وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا [النحل:68]. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الثور في أشراط الساعة، حيث يرتفع ثمنه ويقل ثمن الخيل؛ لأن الأرض يعمها الإيمان، فلا حاجة إلى الجهاد، وإذا كان الأمر كذلك كان الناس في نعيم، فيأكلون ويطعمون أكثر مما يركبون، فلا حاجة إلى شراء الخيل، فيقل تهافت الناس عليها، ويقل ثمنها، ويتسابق الناس على شراء ما يطعمون، فيرتفع ثمن الثور. |
|
26-04-17, 01:19 AM | #142 |
ذكر بعض ما يتصل بالثمانية من العدد
قال الله تعالى: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الأنعام:143]، كلمة (ثمانية) غالباً ما تقال في الأشياء المحمودة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن أبواب الجنة ثمانية، في حين أن أبواب النار سبعة كما هو معلوم. وقد ارتبط هذا الرقم بالخليفة العباسي المعتصم كثيراً، فأي صاحب صنعة تاريخية إذا ذكر له رقم (ثمانية) يتذكر الخليفة العباسي المعتصم . فـالمعتصم ثامن أولاد الرشيد ، وثامن خلفاء بني العباس، وحكم ثمان سنين وثمانية أيام وثمانية أشهر، وولد في برج العقرب، والعقرب ثامن البروج، وخلف ثمانية ذكور وثمان إناث، وكان عمره عندما مات ثمانية وأربعين عاماً، فرقم (ثمانية) تعلق بحياته تعلقاً غريباً بقدر الله، وفي اليوم الذي مات فيه كان قد بقي من نهاية شهر ربيع ثمانية أيام، أي: مات لثمانية أيام بقين من شهر ربيع الأول، وهذا كله يدل على أن هذا الرجل سمي بالمثمن لارتباطه برقم (ثمانية) وقد كان دعبل الخزاعي على خلاف طويل مع المعتصم ، فقال يهجو المعتصم : ملوك بني العباس في الكتب سبعة ولم تأتنا عن ثامن لهم كتب كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة خيار إذا عدو وثامنهم كلب وإني لأعلي كلبهم عنك رتبة لأنك ذو ذنب وليس له ذنب هذا ما قاله دعبل الخزاعي في هجاء المعتصم ، وهذا يدخل على قضية الشعر السياسي. والمهم أن دعبلاً هذا كان خزاعياً، فأصابه الغبن؛ لأن بني العباس وهم يريدون أن ينزعوا الخلافة من الأمويين كانوا يدعون إلى الرضا من آل البيت دون تحديد، فلما آلت الخلافة إليهم نحوا أبناء علي وجعلوها في أبناء العباس ، بحجة أن أبناء عمومة النبي صلى الله عليه وسلم أولى من أبناء البنت؛ لأن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، فأصاب ذلك العلويين عموماً بالحنق، ومن أشهر من والاهم دعبل هذا الذي هجا المعتصم ، فأهدر دمه، وأخذ يدور في الفيافي. ومتأخروا الشيعة الذين عاشوا في عصر بني العباس يعظمون دعبلاً تعظيماً شديداً لما قاله من أبيات في مدح أهل البيت، وهو القائل: ديار علي والحسين وجعفر وحمزة والسجاد ذي الثفنات أرى فيئهم في غيرهم متقسماً وأيديهم من فيئهم صفرات بنات زياد في القصور مصونة وآل رسول الله في الفلوات ألم تر أني مذ ثلاثين حجة أروح وأغدو دائم الحسرات وقد كوفئ على هذه القصيدة، وهذا الشعر يفتح باب الشعر السياسي، وأول من فتحه قبله الكميت الأسدي في مدحه لآل البيت واحتجاجه على بني أميه بأن الحكم يمكن أن يورث. هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله. وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين. |
|
27-04-17, 03:30 AM | #143 |
لقد وسع الله تعالى على عباده في المآكل فأباح لهم أكثر مما حرم عليهم، ومن جملة ما حرم عليهم أكله الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير، كما أن منه أيضاً كل ذي مخلب من الطير وناب من السباع، وأحل لهم في حال الاختيار أكل بعض الحيوانات بغير ذكاة وأكل بعضها بذكاة، ورخص لهم في الأكل من المحرم حال الاضطرار إليه رحمة بعباده ورفعاً للحرج عنهم.
|
|
27-04-17, 03:31 AM | #144 |
تفسير قوله تعالى: (ثمانية أزواج من الضأن اثنين... إن الله لا يهدي القوم الظالمين)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك جامع الناس ليوم لا ريب فيه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى من اتبع منهجه واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فمازلنا في سورة الأنعام، وكنا قد تحدثنا في الدرس الذي سبق عن قول الله جل وعلا: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأنعام:143]، وقد بينا حينها أن من المهم أن تفهم أن الزوج هنا بمعنى الفرد الذي لا انفكاك له عن غيره، وأنه لا يتحصل من هذا ستة عشر فرداً. ثم انتقلنا إلى قضية الضأن والمعز وقضية الإبل والبقر، وحررنا مسألة الذكر والأنثى فيها، وعلقنا على فوائد لغوية، وذكرنا إحداث عمرو بن لحي ، وقلنا: إن الثمانية عدد يتفاءل به، والدليل على ذلك أن أبواب الجنة ثمانية، ثم تطرقنا إلى قضية المعتصم الخليفة العباسي المعروف أنه ثامن خلفاء بني العباس، وأنه كان على نزاع مع شيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وأن دعبلاً الخزاعي قال فيه: ملوك بني العباس في الكتب سبعة ولم تأتنا عن ثامن لهم الكتب فذلك أهل الكهف في الكهف سبعة خيار إذا عدوا وثامنهم كلب |
|
27-04-17, 03:33 AM | #145 |
الشعر السياسي وأثره في الواقع
انتهينا بذلك إلى قضية الشعر السياسي، وقبل أن أدخل في قول الله جل وعلا: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ [الأنعام:145] أقول والله المعين: للكميت الأسدي شعر يسمى بالهاشميات، وهي قصائد قالها في بني هاشم جملة قبل أن ينقسم الناس إلى آل علي وآل العباس؛ لأنه متقدم، حيث عاش في دولة بني أمية، يقول الجاحظ الأديب المعروف، يقول: إن الكميت فتح للشيعة باب الاحتجاج بالشعر، يقول: طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب ولكن إلى أهل الفضائل والتقى وخير بني حواء والخير يطلب بني هاشم رهط النبي فإنهم بهم ولهم أرضى مراراً وأغضب ثم أتى إلى قضايا الجدل فقال: يقولون لم يورث ولولا تراثه لقد طمعت فيه بكيل وأرحب إلى أن قال في عجز بيت: فإن ذوي القربى أحق وأقرب وهذا هو شطر البيت الذي تمسك به الشيعة في أحقية علي رضي الله تعالى عنه بالخلافة، وصدره: فإن هي لم تصلح لحي سواهم فإن ذوي القربى أحق وأقرب يقول لبني أمية: أنتم تقولون: إن الإمامة في قريش، وأخذتم الحكم من هذا الباب، فإن كانت الإمامة في قريش لأن النبي صلى الله عليه وسلم من قريش، فيجب أن يكون الحكم والإمامة في بني هاشم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم من قريش عامة ومن بني هاشم خاصة. فسميت هذه القصائد بالهاشميات، وهذه الثغرة فتحها الكميت على مصراعيها شعراً للشيعة ليحتجوا على غيرهم بأحقية بني هاشم بالخلافة. ومن احتج عليك بدليل عقلي فرده أولاً إلى النقل؛ لأنه لا مقام للعقل مع النقل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأئمة من قريش)، وقد استدل الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم بالقرآن والسنة من حيث الإجمال لا من حيث النص على أحقية الصديق رضي الله تعالى عنه بالخلافة، فهذا أشبه بالنقل؛ لأن الله قال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] والذين أنعم الله عليهم هم المذكورون في قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [النساء:69] والنبوة انتهت بموت النبي صلى الله عليه وسلم، فنعدل في الإمامة إلى الصديقين، وقد اتفقت الأمة على أن صديقها الأكبر أبو بكر ، فتقديم أبو بكر هنا بموجب القرآن، ونحن نقرأ الفاتحة ونطلب من الله أن يدخلنا في صراط الذين أنعم عليهم، والله يقول: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، ونحن لا ندري من هم الذين أنعم عليهم، ولكن ربنا قال: مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]، فجعل الصديقين بعد الأنبياء، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه سماه النبي صلى الله عليه وسلم صديقاً، وولاه الصلاة أيام حياته، فصلى أبو بكر بالناس والنبي صلى الله عليه وسلم حي، فلم ينكر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم ينزل من القرآن شيء ينكر، فما أقره الله أقره رسوله، ولما أقره الرسول أقره الصحابة وقبلوا، فكان بدهياً بعد ذلك أن يسند الأمر إليه رضي الله عنه وأرضاه، فبطلت حجة الكميت هنا على الناس، ولكن حجته على بني أمية صحيحة، وهذا من باب الإنصاف. فـالكميت جمع هذه القصائد التي تسمى بالهاشميات، وعلى منوالها في عهد بني العباس ظهرت الكافوريات، وهي قصائد قالها المتنبي في مدح كافور الأخشيدي . والمتنبي ظهر شأوه وعلا كعبه في بلاط سيف الدولة ، ولكن كثرة الحساد أخرجته من ذلك المكان، وهذه سنة الله في خلقه، فلا يظهر أحد إلا ويكثر حساده، فيلزمه الخروج، كما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، فخرج المتنبي من بلاط سيف الدولة بعد أن قال: وا حر قلباه ممن قلبه شبم ومن بجسمي وحالي عنده سقم ما لي أكتم حباً قد برى جسدي وتدعي حب سيف الدولة الأمم إن كان يجمعنا حب لغرته فليت أنا بقدر الحب نقتسم ما أبعد العيب والنقصان من شرفي أنا الثريا وذان الشيب والهرم الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم يقولون: إن المتنبي حكيم، وأنا أقول: والله ما عنده من الحكمة مثقال ذرة، فهو حكيم في أقواله وليس حكيماً في أفعاله، وهو حيكم في نفعه للناس، ولكن لم ينفع نفسه، فأي ملك وأي والي وأي أمير يقبل أن يأتي شاعر فيجلس على الكرسي ويقول أمامه: الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم ما أبعد العيب والنقصان من شرفي أنا الثريا وذان الشيب والهرم صحبت في الفلوات الوحش منفرداً حتى تعجب مني القور والأكم ثم يريد منه أن يبقيه ويعطيه ولاية؟! لقد قال هذا جالساً واستكبر أن يقف وهو شاعر، فكيف لو أصبح أميراً؟! فلا يعقل أن ذا سلطان يقبل أن ينازعه أحد، فلم يكن سيف الدولة يتحسر على فراق المتنبي له؛ لأن المتنبي أضر بنفسه عندما أعلى نفسه أمام سيف الدولة ، فوجد الحساد مدخلاً على شخصيته. فخرج إلى مصر فمدح كافور الأخشيدي ، ولم يكن كافور إلا مثل سيف الدولة في الذكاء، فمدحه ينتظر منه ولاية فقال: أبا المسك وهذه كنية كافور ، يقول: أبا المسك هل في الكأس فضل أناله فإني أغني منذ حين وتشرب يعني: ما استفدت شيئاً، فأنا أمدحك ولم تعطني ولاية، فبقي على هذا حتى ترك كافوراً . والذي يعنينا هنا تشبيه الكافوريات بالهاشميات، وهنالك الروميات لـأبي فراس الحمداني ، قالها حين أسرته الروم، ومنها قوله: أراك عصي الدمع شيمتك الصبر أما للهوى نهي عليك ولا أمر وقال أصيحاب الفرار أو الردى فقلت هما أمران أحلاهما مر إلى أن قال: سيذكرني قومي إذا جد جدهم وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر |
|
27-04-17, 03:34 AM | #146 |
تفسير قوله تعالى: (قل لا أ جد فيما أوحي إلي محرما...)
يقول الله جل وعلا: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:145]. من هذه الآية يمكن تقسيم الحيوانات من حيث أكلها حلاً وحرمة إلى ثلاثة أقسام: الأول: قسم حلال طيب حياً وميتاً، وهو طعام البحر والجراد. والثاني: قسم حرام، سواء ذكي أو لم يذك، وهو كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير على قول الأكثرين من أهل العلم احتياطاً؛ لأنه ليس على ذلك إجماع. الثالث: قسم حلال إذا ذكي تذكية شرعية، وهو بهيمة الأنعام وما سواها من الحيوانات من غير الخبائث والمتفق على فسقها وتحريمها. يقول تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [الأنعام:145]. ذكر الله جل وعلا هنا الدم وقيده بأنه مسفوح، أي: دم مهراق، ونقول: وردت كلمة الدم في اصطلاح الفقهاء، ويعبرون بها عن الذبح، فيقولون فيمن ترك واجباً في الحج: عليه دم. ويمكن تقسيم ما يؤكل من الدماء في الحج وما لا يؤكل منها إلى قسمين: أولاً: دماء يجوز -بل يستحب- الأكل منها، ومثال ذلك هدي القرآن وهدي التمتع. وإذا كان ما أوجبه الله من هدي كالقران والتمتع يجوز الأكل منه، فمن باب أولى أن يجوز الأكل من هدي التطوع. ثانياً: الدماء التي لا يجوز الأكل منها، وهي دم ترك الواجب، ودم فعل المحظور، والعلة في ذلك أنها تجري مجرى الكفارات. والفرق بين دم ترك الواجب ودم فعل المحظور: أن دم ترك الواجب لا يجوز الانتقال منه إلى غيره إلا إذا لم تجد، أما دم فعل المحظور فأنت مكلف به على التخيير لا على الوجوب. ومثال ذلك: أن أحرم من غير ذي الحليفة وأنا مدني، فتجاوزت الميقات عمداً أو نسياناً ولم أستطع أن أعود إليه، فأنا تركت واجباً، أي: أنني لم أحرم من ميقاتي، فترك الواجب هنا يترتب عليه دم، وهذا الدم لا خيار لي عنه، فإن عجزت لقلة مال انتقلت إلى صيام عشرة أيام. ومثال فعل المحظور أن أحرم من ذي الحليفة، فأنا لم أترك واجباً، ولكنني في الطريق اشتكيت من صداع في رأسي، فوضعت على رأسي الغطاء، فغطاء الرأس محظور من محظورات الإحرام، فهنا لا يقال: إنه يجب عليك لزاماً دم، وإنما يقال: إن الدم واحد من خيارات ثلاثة: الخيار الأول: الدم. والخيار الثاني: صيام ثلاثة أيام. والخيار الثالث: إطعام ستة مساكين. فهناك فرق جلي بين الدم الذي ينجم عن ترك واجب والدم الذي ينجم عن فعل محظور. يقول تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ [الأنعام:145] أي: آكل يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [الأنعام:145]. والميتة ما مات حتف أنفه، ويدخل فيها: المنخنقة والموقوذة والنطيحة، وقد حرمها الله تعالى. قال الله: أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [الأنعام:145] وهذه تسمية للخنزير ببعض أجزائه، والمقصود الخنزير كله لحماً وشحماً وعظماً وغير ذلك، والخنزير حيوان معروف حرمه الله جل وعلا، وإن كان شائعاً أكله في بعض البلدان عياذاً بالله. والخنزير الصغير يسمى خِنَّوصاً، وقد كان بين جرير والأخطل ما يسمى بشعر النقائض، فـالأخطل كان شاعراً نصرانياً تغلبي القبيلة، وكانت بينه وبين جرير نقائض، أي: شعر يهدم كل منهما به ما قاله الآخر، فكانت الثغرة في شخصية الأخطل هي أنه نصراني، فكان جرير يتعمد قدحه بدينه، أي: بالنصرانية، وله عجز بيت يقول: لحم الخنانيص يغلي فوقه السُكَرُ يعني: أنتم تعيشون على لحم صغار الخنازير، وهذا تعيير يقول: ما كان يرضى رسول الله فعلهم والطيبان أبو بكر ولا عمر يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرضيه هو وأبو بكر وعمر صنيع تغلب، وإقحام أبي بكر وعمر من أجل القافية، فمن يعرف الصناعة الشعرية يجد أن جريراً دفعه إلى ذكرهما القافية. والذي يعنينا أن الخِنَّوص ولد الخنزير، وكان النصارى يعيرون به، وقد جاء في الحديث أن عيسى ابن مريم عندما ينزل يكسر الصليب ويقتل الخنزير. قال الله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام:145] أي: أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي: لم يذبح لله، أو لم يذكر عليه اسم الله. ثم قال ربنا: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:145]. هذا من رحمة الله بعباده، حيث إن مواقف الاضطرار لا تجري عليها أحكام مواقف الاختيار، فحالات الضرورة لها أحكامها، والضرورات تبيح المحظورات، كما أن الواجب يسقط مع العجز، وهذا كله من رحمة الله جل وعلا بعباده. جعلنا الله وإياكم من أوليائه. هذا ما تحرر إيراده وتهيأ إعداده حول قول الله تعالى في سورة الأنعام: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [الأنعام:145]. وصلى الله على محمد، وعلى آله، والحمد لله رب العالمين. |
|
28-04-17, 11:01 PM | #147 |
لقد ذكر الله تعالى في آيات ثلاث من سورة الأنعام أمهات الفضائل وأصول الرذائل، فمن أمهات الفضائل بر الوالدين، وتوفية الكيل والميزان، والعدل والإنصاف، والوفاء بعهد الله، واتباع صراطه المستقيم، ومن أصول الرذائل الشرك بالله، وقتل الأولاد مخافة الفقر، وقتل النفس التي حرم الله قتلها، ومقاربة الفواحش، والمراد من ذكر الله لهذا كله هو إتيان الفضائل واجتناب الرذائل.
|
|
28-04-17, 11:02 PM | #148 |
تفسير قوله تعالى: (قل تعلوا أتل ما حرم ربكم عليكم...)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب السماوات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإنه إن كانت الصناعة النحوية والتاريخية والفقهية قد ألقت بظلالها فيما سلف من دروس؛ فإن الصناعة الإيمانية -إن صح التعبير- تلقي بظلالها على ما نحن بين يديه في هذا الدرس من آيات. قال ربنا وهو أصدق القائلين: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:151-153]. هذه الآيات الثلاث ذكر الله جل وعلا فيهن أمهات الفضائل وأصول الرذائل، فأصول الرذائل ذكرت لنجتنبها، وأمهات الفضائل ذكرت لنعمل بها. وختمت هذه الآيات بذكر أنها وصايا من رب العالمين جل جلاله لعباده، وتضمنت كل ما فيه تهذيب النفوس وتزكيتها، ولإن كانت سورة الأنعام سورة مكية، فذلك لا يعني أبداً أن القرآن أغفل تزكية النفس وتهذيبها في أيام المجتمع المكي، خاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بين قوم كانت الضلالة قد ضربت بأطنابها في حياتهم، وعلى مسيرة حياتهم الاجتماعية خاصة، فجاء القرآن يأتي بأمهات الفضائل ليتبعها الناس، وأصول وجوامع الرذائل ليتركها الناس ويحذروها. وهنا سنتكلم بإطلالة عامة، ولن نأخذ الآيات آية آية، أو لفظة لفظة، أو حرفاً حرفاً؛ لأن الوصايا هنا ظاهرة بينة، وليست مسائل فقهية استغلق فهمها تحتاج إلى تحرير أقوال لعلماء وأئمة، وإنما هي وصايا ظاهرة بينة من رب العالمين جل جلاله. |
|
28-04-17, 11:03 PM | #149 |
عظيم جرم الشرك بالله تعالى وعظيم حق الوالدين
والشرك بالله أعظم الذنوب وأجلها وأكبرها، ففي الحديث: (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وقد خلقك)، وهو من أعظم سوء الأدب مع رب العالمين جل جلاله، ومن عرف الله حق المعرفة لم يشرك به مثقال ذرة، إذ به يحبط العمل، وينفى العبد، ويحرم دخول الجنة أبد الآبدين، ولذلك صدره الله جل وعلا. والوالدان جعلهما الله جل وعلا سبباً في وجودك، فعظم الله جل وعلا حقهما، ومن تعظيم الله تعظيم من عظمه الله جل وعلا. كما أن سوء الظن بالله والخوف من الفقر لا ينبغي للمرء أن يتحلى به، ولهذا قال الله: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ [الأنعام:151]. |
|
28-04-17, 11:04 PM | #150 |
عموم تحريم ظاهر الفواحش وباطنها
وحرم ربنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والناس في زماننا استغلوا التقنية الحديثة في الفواحش، فساعدتهم في توثيق ما يصنعون، فيلجئون إلى حدث من الفتيان أو إلى فتاة من الفتيات، فينتهزون من الغر أو من مؤمنة خطأً وقعت فيه فيوثقونه، ثم يجعلون من ذاك التوثيق -سواء أكان تسجيلاً صوتياً أم تصويراً يعرض- سبيلاً إلى تكرار تلك الفاحشة يهددون به من وقع في زلل أو خلل من المؤمنين، وهؤلاء الذين يجنحون إلى هذا إيمانهم ضعيف مع شبه انتفاء الإيمان منهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، فهؤلاء صنيعهم يدل على ضعف إيمانهم ويقينهم، ويظنون أنهم أحكموا الصنعة، وتناسوا أن هناك رباً قريباً لا يخفى عليه شيء. |
|
|
|