روائع شعريه |
روائع الكسرات |
|
||||||||||
الـــمـــلـــتـــقـــى الــــــــــعــــــــام [للنقاش الهادف والبناء والمواضيع الاسلامية والعامه] |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
01-02-17, 07:53 PM | #101 |
بيان معنى قوله تعالى (لم يكد يراها)
قال تعالى: إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا [النور:40] أي: في هذه الظلمات كلها يحاول أن يخرج يده، فيخرجها؛ لأنها تتعلق بقدرته الذهنية، وبقدرته الحركية، ولا تتعلق بالرؤية، ولكن هل يراها أن لا؟ قال ربنا: لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا [النور:40] وتحرير المسألة أن (كاد) عند النحويين فعل من أفعال المقاربة، وأكثر المفسرين يقول: إن معنى (لم يكد يراها) أي: لم يقرب أن يراها، فكيف يراها؟! ولهم في هذا استدلال بأبيات لذي الرمة وغيره. ولكن الصواب أن يقال: إن (كاد) فعل إذا أثبت دل على النفي، وإذا نفي دل على الإثبات، كما قيل: أنحوي هذا العصر ما هي لفظة جرت على لساني جرهم وثمود إذا استعملت في صورة النفي أثبتت وإن أثبتت قامت مقام جحود أي: مقام النفي والنكرة، وهذه اللفظة هي الفعل (كاد)، كما قال الله جل وعلا: أَكَادُ أُخْفِيهَا [طه:15]، فالفعل مثبت، وقد أخفاها الله جل وعلا عيناً وقتاً، وقال: فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا [محمد:18]، المهدي والدجال وعيسى، طلوع الشمس من مغربها. فقوله تعالى: لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا [النور:40] معناه -بحسب فهمنا اللغة- أنه يرى شيئاً يسيراً منها، وهذه معضلة، إذ كيف يرى شيئاً يسيراً من النور؟! فهذا هو الذي جعلهم يقولون: إنه لم يقرب أن يراها، فكيف يراها؟! وأظن -والعلم عند الله- أن المقصود بالإظهار البين في النور اليسير من باب إقامة الحجة، أما الذي لا يرى بالكلية -كالمجنون والصغير وأمثالهم- فلا حساب عليه؛ لأنه لم تقم عليه حجة، والعلم عند الله. |
|
01-02-17, 07:54 PM | #102 |
مغبة فقدان الهداية
قال تعالى: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40]. أي: كيف يراها، وكيف يهتدي، وكيف يبلغ مراده والرب جل وعلا لم يجعل له نوراً؟! وإنك لتجد رجلين من أب وأم واحدة يوفق أحدهما لأعظم الطاعات، ويغيب أحدهما عنها بالكلية، وقد اتفقا في منشئهما وتربيتهما وعرقهما، بل وفي الرحم التي خرجا منها، لكن جعل الله لأحدهما نوراً، ولم يجعل الله للآخر نوراً، فمن جعل الله له نوراً اهتدى، ومن لم يجعل له نوراً، ضل وغوى، والعياذ بالله. |
|
02-02-17, 12:39 PM | #103 |
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات ومن في الأرض ...)
ثم قال الله جل وعلا: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ [النور:41]. هذا شيء مشاهد، و(من) للعاقل، وهنا ذكرت للتغليب، فقوله تعالى: مَنْ فِي السَّمَوَاتِ [النور:41] يشمل الملائكة في المقام الأول، وَالأَرْضِ [النور:41] يشمل بني آدم، وكل من يدب على الأرض، وبقي الذي بينهما، ولهذا قال الله: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ [النور:41] لأنها ليست في السماء، وليست في الأرض، فهذا تخريج. وقال آخرون: هذا ليس بتخريج، وإنما الطير داخلة في قوله جل وعلا: (من في السموات ومن في الأرض)، وذكرها تعالى لبيان أنها تسبح حال كونها صافات، ولهذا قال: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ [النور:41]. قالوا: فلو قال: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ) من غير ذكر (صافات) لقلنا بالأول، ولكل من القولين ما يؤيده من حيث النظر. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النور:41]. وهناك خلاف بين العلماء في فاعل (علم) والأكثرون على أن فاعل (علم) عائد على كلمة (كل) أي: كل واحد من هؤلاء علم صلاته وتسبيحه، وأما الرب جل وعلا فقال عن نفسه: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ [النور:41]. |
|
04-02-17, 02:29 AM | #104 |
تفسير قوله تعالى: (ولله ملك السماوات والأرض ...)
ثم بين جل وعلا عظيم ملكه فقال: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:189] أي: ليس الأمر مقتصراً على أمة في السماء تسبح، وأمة في الأرض تسبح، فليس ذلك هو حدود ملك الله، بل كل ما في الكون له، قال الله: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:189]. ويجب أن يستقر في قلب كل أحد أن الله جل وعلا بيده مقاليد كل شيء، ورزق كل أحد عليه، ومصير كل شيء إليه، هذه القناعات اليقينيات المستنبطة من الكتاب والسنة هي التي تورث قلباً حياً ويقيناً راسخاً، فينجم عن ذلك عمل صالح. |
|
04-02-17, 02:31 AM | #105 |
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يزجي سحاباً ...)
ومازالت الآيات تبين عظيم القدرة الإلهية، حيث يقول تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا [النور:43]، والإزجاء هو الدفع، وقد نسمع أحياناً إنساناً يقدم له فيقول: بضاعتي مزجاه، وهذه كلمة مأخوذة من سورة يوسف، ومعنى مزجاة: مدفوعة، والبضاعة المزجاة هي التي لا يقبلها أحد، فكلما عرضتها على تاجر يعتذر ويمتنع عن القبول، ويقول: اذهب إلى فلان فلعله يقبلها. فهذا معنى قولهم: بضاعة مزجاة، فالإزجاء هو السوق والدفع. فالله تعالى يقول: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا [النور:43] فتسوقه الملائكة بواسطة الرياح، ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ [النور:43] وقد كان قطعاً، والقطعة من السحاب تسمى قزعة، ثم يجعله متراكماً بعضه فوق بعض. قال تعالى: فَتَرَى الْوَدْقَ [النور:43] أي: المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ [النور:43]، ويلحظ هنا تكرار (من) ثلاث مرات، وكلها جارة، ولكلٍ معنى، فـ (من) في قوله: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ [النور:43] لابتداء الغاية. و(من) في قوله: مِنْ جِبَالٍ [النور:43] للتبعيض. و(من) في قوله: مِنْ بَرَدٍ [النور:43] لبيان النوع والجنس. قال تعالى: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ [النور:43] أي: يصيب بالبرد وبالمطر وبالصواعق. |
|
04-02-17, 02:33 AM | #106 |
بيان معنى قوله تعالى (يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار)
قال تعالى: يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ [النور:43]. السنا -بغير همزة- الرفعة والعلو المعنوي والحسي، والسناء -بالهمزة- اللمعان والضوء والنور، والمقصود به هنا اللمعان والبرق والنور، فأحياناً يجتمع الأمران: السنا المعنوي المقصود به الرفعة، والسناء المقصود به اللمعان. فأما اجتماعهما فقد ورد في شعر ابن زيدون ، وابن زيدون شاعر أندلسي عاصر انتقال الحكم من بني أمية إلى ملوك الطوائف، وبنو أمية أسسوا ملكهم في الأندلس على يد عبد الرحمن الداخل الملقب بصقر قريش، والذي لقبه بصقر قريش هو خصمه أبو جعفر المنصور ، وهذا من إنصاف أبي جعفر . فاستمر الحكم في الأندلس، ثم انتقل من بني أمية إلى ملوك الطوائف، وهم مسلمون من غير ذرية بني أمية، وفي تلك الفترة ظهر ابن زيدون ، فأصبح وزيراً وهو في الثلاثين من عمره، ومثل هذا ينجم عنه الحسد، فتعلق بامرأة اسمها ولادة بنت المستكفي ، فقال فيها أطيب شعره، والذي يعنينا من شعره هنا ما أردناه في قوله تعالى: يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ [النور:43]، حيث قال: ودع الصبر محب ودعك ذائع من سره ما استودعك يقرع السن على أن لم يكن زاد في تلك الخطا إذ شيعك يا أخا البدر سناء وسناً رحم الله زماناً أطلعك والبدر هو القمر، وقصد بأخي البدر معشوقته، وقوله: سناءً وسناً، أي: أنت مثل البرق في برقه ونوره ولمعانه، ومثل البدر في علوه وارتفاعه. فالله تعالى هنا يقول: يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ [النور:43]. والعامة تلغز فتقول: ما الشيء الذي يسمع ولا يرى، وما الشيء الذي يرى ولا يسمع؟ ويقصدون بالذي يسمع ولا يرى الرعد، ويقصدون بالذي يرى ولا يسمع البرق، وقد جرت عادة العرب بأنها تشيم، أي: تنظر في البرق، فتقول: أين سينزل، قال الأعشى : فقلت للشرب في درنى وقد ثملوا شيموا وكيف يشيم الشارب الثمل يقول: أنا مع مجموعة سكارى فرأيت بارقاً. وهل يا ترى بارقاً عارضاً قد بت أرقبه كأنما البرق في حافاته الشعل فقال لمجموعته: شيموا، أي: انظروا إلى هذا البرق أين سيسقط. ثم يقول مستنكراً حال نفسه: وكيف يشيم الشارب الثمل، يعني: من كان قد غلبه السكر فأنى له أن يشيم ويعرف مواطن البرق. قال تعالى: يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ [النور:43] واللام في (الأبصار) لام الحقيقة، وضدها لام المجاز، وبيان ذلك أن الله جل وعلا قال في سورة البقرة: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [البقرة:20] وهناك فرق تام بين الآيتين: فالآية الأولى: أراد الله بها ضرب مثل عن هؤلاء المنافقين الذين يسكنون المدينة ويرون تنزل الآيات فلا ينتفعون بها، ولهذا قال: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ [البقرة:20] فأضاف الأبصار إليهم، وليس المقصود إلا إظهار عدم انتفاعهم بالكتاب والسنة. أما آية النور فالله يتكلم فيها بذكر لام الحقيقة، والمراد: البصر الحقيقي الذي هو يخاطب به كل أحد، فكل إنسان إذا تأمل البرق ونظر فيه وأمعن فإنه يكاد سنا البرق أن يذهب ببصره، ولو لم يذهب ببصره؛ لأنها جاءت مثبتة، فتعتبر في حكم المنفية. |
|
04-02-17, 10:31 AM | #107 |
تفسير قوله تعالى: (يقلب الله الليل والنهار ...)
ثم قال الله جل وعلا: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [النور:44]، وهذا من دلائل قدرته، وكمال صنعته جل وعلا، وهو أنه يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، والله تعالى يقول في سورة آل عمران: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:26-27]. قال بعض السلف: هاتان الآيتان من آل عمران هما اللتان صدر الله جل وعلا بهما التوراة التي أنزل على موسى عليه السلام، وقالوا: إن آخر آية في التوراة هي آخر آية في سورة الإسراء: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا [الإسراء:111] إلى آخر الآية. يقول الله جل وعلا هنا: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ [النور:44] فما الليل والنهار إلا مطيتان مسخرتان بأمر الرب تبارك وتعالى، فلما ذكر الله جل وعلا قدرته على تقليبهما، وعلى أنه جل وعلا يجعل هذا حيناً أطول من الآخر، والآخر أطول من الأول حيناً آخر، قال سبحانه جل وعلا بعد ذلك: إِنَّ فِي ذَلِكَ [آل عمران:13] أي: في هذا الأمر الذي يحصل ويرى لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [آل عمران:13]. والمؤمن حري به أن يتأمل ما خلق الله جل وعلا من حوله حتى يقوده ذلك إلى معرفة ربه. |
|
04-02-17, 10:33 AM | #108 |
تفسير قوله تعالى: (والله خلق كل دابة من ماء ...)
ثم قال ربنا -وهو أصدق القائلين-: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ [النور:45] فكل ما يميز وما لا يميز مما يمشي على الأرض يسمى دابة. وأهم ما ينبغي أن يعرف في الآية أن الحجة العظيمة الأولى التي أقامها الله جل وعلا على أهل الإشراك هي كونه جل وعلا خالقاً، وما سواه مخلوقاً، فهذه أهم قضية ناقشها القرآن، قال الله: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل:17]، وقال: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الفرقان:3]، وقال: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان:11]. وأراد الله من هذا كله أن يقول لهم: إن العبادة الحقة لا يستحقها إلا من يخلق، فما دام أنه لا أحد يخلق إلا الله فمن المقطوع به ألا يعبد أحد بحق إلا الله. هذا الذي أراده الله من إثبات قدرته على الخلق، حتى يقيم الحجة على عباده، فكيف تلتفون إلى من لا يخلق فتعبدونه وتتركون من يخلق؟! وقد قال الله جل وعلا: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ [الحجر:85] قال العلماء: قوله: (إلا بالحق) لإثبات أن الله وحده هو الخالق، فلا يستحق العبادة غيره. وقال تعالى هنا: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ [النور:45]، وقال في الأنبياء: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30]. فالماء في سورة الأنبياء اسم جنس، أما هنا فليس اسم جنس، ولهذا جاء نكرة، ففي سورة الأنبياء يتكلم عن جنس المخلوقات، أما هنا فلم يتكلم عن جنس المخلوقات، بل يحدد ماهية المخلوقات، بدليل قوله تعالى بعدها: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ [النور:45] و(من) تستخدم للعاقل، وسوغ استخدامها لغير العاقل أن الله جل وعلا تكلم عن الدواب، والدواب يدخل فيها العاقل من بني آدم، فبالتغليب أدخل غير العاقل. قال الله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ [النور:45] مثل الحيات، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ [النور:45] مثل بني آدم وبعض الحيوانات، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ [النور:45]. |
|
04-02-17, 10:35 AM | #109 |
بيان قدرة الله تعالى
ويرد على ذهن الإنسان حال العنكبوت والعقرب ونحوهما، فهي لا تمشي على بطنها، ولا على اثنتين، ولا على أربع، فتجيبه الآية: يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [النور:45] وكأن الله يقول: بل هناك غير العنكبوت والعقرب لم تره عيناك، فلا يحتاج إلى أن تستدل علينا بعنكبوت وعقرب، ولذلك فصل الله الخطاب والأمر بقوله: يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [النور:45]، وهذا التبيين مناسب لقول الله جل وعلا: يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [النور:45]، فقوله: (يخلق الله ما يشاء) درس قائم بذاته؛ إذ الإنسان أحياناً تكون له أمنيات ورغبات، فيمنعه من الدعاء تصور استحالة أن تقع، فمما يحل هذا الإشكال اليقيني قول الله جل وعلا هنا: يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [النور:45] وهذه المسألة حصلت للصديقة مريم، فإن الملائكة بشرتها بعيسى ابن مريم ولم تقل لها: عيسى بن فلان، فعرفت أنه سيأتي من غير زوج؛ لأنها لو قالت عيسى بن فلان لعرفت أن الأمر عادي، قال تعالى: إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [آل عمران:45]. فلما أرادت أن تعترض قالت: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [آل عمران:47] فعرفت أنه سيأتي من غير مساس؛ لأنه لو كان سيأتي بمساس لنسب إلى أبيه، فأجابها بقوله: قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ [آل عمران:47] في حين أن الله جل وعلا أجاب زكريا بغير هذا، حيث قال: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [آل عمران:40] ؛ لأن قصة زكريا وجد فيها السبب، ولكن وجد عارض لحق أحد السببين، وهو كبر الوالد وكون المرأة عاقراً، فكان المطلوب إزالة ذلك العارض، فعبر الله عنه بقوله: كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [آل عمران:40]. أما في قصة مريم فليس هناك سبب آخر قائم حتى نقول: هناك عارض يحتاج إلى أن يزال، بل لا يوجد سبب يعين على ولادة؛ لانفصال أحد السببين، فقال الله جل وعلا: قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:47]. |
|
04-02-17, 10:36 AM | #110 |
أهمية استحضار قدرة الله تعالى في سؤاله إجابة الدعوات
وأنت -أيها الأخ- قد تقف في عرفات -وهو موطن إجابة- وتصلي في الليل وتسجد، وذلك موطن إجابة، وتدخل أحد الحرمين، وهما مواطنان فاضلان، وتقف عند باب الكعبة، وهو موطن عظيم، وتمر عليك أوقات تقدم فيها طاعات تشعر فيها بقربك من الله، فعليك أن تزدلف إلى الله جل وعلا قبل أن تسأله بكلامه، وتردد ما أخبر الله جل وعلا به أنه قادر على كل شيء، فقل: اللهم إنك قلت وقولك الحق: كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ [آل عمران:47]، وقلت: وقولك الحق، كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [آل عمران:40]، وقلت وقولك الحق: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:20]، وقلت وقولك الحق: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40]. وأنت الذي أرجعت يوسف إلى أبيه، رددت موسى إلى أمه، جمعت ليعقوب بنيه، وجعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم، أنت الله لا إله إلا أنت لا تسأل عما تفعل وهم يسألون، أنت الله لا إله إلا أنت تنزهت عن الصاحبة والولد، وتقدست فلم تلد ولم تولد. وتذكر هذه المعاني العظيمة التي ذكرها الله في كتابه، وإلا فلا معنى لأن تقرأ القرآن ثم لا تصدقه، تقول عائشة : (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتأول القرآن يقول في دعائه: يا بر يا رحيم! قني عذاب السموم) وأخذ الاستغفار من سورة إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] فكان يستغفر الله جل وعلا، يتأول القرآن. فالمقصود أن هذه المعاني العظيمة المقررة في قلبك أولاً وأخراً عليك أن تستحضرها ثم تقولها؛ لأن الإنسان إذا كرر شيئاً يعتقده، فكرره بلسانه وأسمعه نفسه قل ألا يترك هذا أثراً في قلبه، فإذا وصلت إلى مرحلة الاستكانة والافتقار والتذلل بين يدي الله، فعرض على الله جل وعلا حاجتك، وسل الرب تبارك وتعالى بغيتك، وألح عليه تبارك وتعالى في الطلب، ثم اختم ذلك بعظيم حسن ظنك، وعظيم رغبتك فيما عند الله تبارك وتعالى، فتذكر من أسمائه الحسنى وصفاته العلى ما يغلب على ظنك أنه مناسب لدعائك حتى يكون ذلك أرفع لدعوتك، وأسمع لصوتك، والله جل وعلا بعد ذلك كله أرحم منك بنفسك، وأقرب إجابة، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]. والمقصود من هذا أننا قد نورد أحياناً مسائل علمية، ونعرج على أقوال النحاة، ونذكر ما دونه الشعراء، ولكن هذا إنما يدفع ويطرد به الملل، ويقرب به البعيد، ويوضح به المعنى، ولكن الغاية الأولى من القرآن كله أن تلين قلوب العباد لربهم تبارك وتعالى، بأن يكون فيه موعظة، ويكون فيه معانٍ تحرك القلب المسلم، وتجعل الإنسان قريباً من ربه وتدفعه إلى الطاعة، وتحجم به عن المعصية، وتبين له عظمة الله جل جلاله، ومن لم يهتد بالقرآن لن يهتدي بغيره قال الله: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40]. اللهم إنا نسألك نوراً نهتدي به، ورزقك حلالاً طيباً مباركاً نكتفي به. هذا ما تهيأ إيراده وأعان الله جل وعلا على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين. |
|
|
|