النابلسي , ت
والآن إلى قصة تابعي من التابعين الأجلاء
تابعي اليوم طاووس بن كُيسان ، هذا التابعي قال عنه كتاب السيرة بخمسين نجماً من نجوم الهداية استضاءت ، فغمره الثناء ، وتدفق عليه النور ؛ نور في قلبه ، ونور في لسانه ، ونور يسعى بين يديه ، وعلى خمسين علماً من أعلام مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم تخرج هذا التابعي الجليل ، فإذا هو صورة لصحابة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه في رسوخ الإيمان ، وصدق اللهجة ، والتعالي على عرض الدنيا ، والتفاني في مرضاة الله ، والجهر بكلمة الحق مهما كان ثمن هذه الكلمة ، لقد علمته المدرسة المحمدية أن الدين النصيحة ، النصيحة لله ، وكتابه ، ورسوله ، وأئمة المسلمين وعامتهم .
في غداة يوم بارد من أيام الشتاء دخل على والي اليمن طاووسٌ ومعه وهب بن منبِّه ، فلما أخذا مجلسيهما عنده ، طفق طاووس يعظه ، ويرغبه ، ويرَهِّبه ، والناس جلوس بين يديه ، فقال الوالي لأحد حجابه : يا غلام أحضر طيلساناً ـ الطيلسان كساء أخضر اللون غالي الثمن تلبسه الخاصة ، الطبقة العلية في المجتمع ـ وألقاه على كتفي أبي عبد الرحمن .
فعمد الحاجب إلى طيلسان ثمين ، وألقاه على كتفي طاووس ، وظل طاووس متدفقاً في موعظته ، وجعل يحرك كتفيه في تؤدة حتى ألقى الطيلسان من على عاتقه ، وهب واقفاً وانصرف، وترك الطيلسان في المجلس .
فغضب محمد غضباً ظهر في احمرار عينيه ، واحتقان وجهه ، غير أنه لم يقل شيئا ، فلما صار طاووسٌ وصاحبه خارج المجلس قال وهب لطاووس :
ـ والله لقد كنا في غنىً عن إثارة غضبه علينا ، فماذا كان يضيرك لو أخذت الطيلسان منه ، ثم بعته ، ودفعت ثمنه للفقراء والمساكين ؟ خذه منه وبعه وادفع الثمن للفقراء والمساكين .
ـ فقال طاووس : هو ما تقول ، لولا أنني خشيت أن يقول الناس من بعدي : نأخذ كما يأخذ طاووس ، ثم لا يصنعون فيما أخذوه ما تقول أنت ، هذا موقف من مواقفه الجريئة .
ولما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة بعث إلى طاووس يقول :
ـ أوصني يا أبا عبد الرحمن .
فكتب إليه طاووس رسالة في سطر واحد ، قال فيها :
ـ إذا أردت أن يكون عملك خيراً كله ، فاستعمل أهل الخير والسلام .
فلما قرأ عمر الرسالة قال : كفى بها موعظة كفى بها موعظة .
ولما آلت الخلافة إلى هشام بن عبد الملك ، كان لطاووس معه مواقف مأثورة ؛ من ذلك إلى أن هشاماً قدم البيت الحرام حاجاً فلما صار الحرم قال لخاصَّته من أهل مكة :
ـ التمسوا لنا رجلاً من صحابة رسول الله .
ـ فقالوا له : إن الصحابة يا أمير المؤمنين قد تلاحقوا بربهم لم يبق منهم أحد ، واحداً إثر آخر.
ـ فقال : إذاً فمن التابعين .
فأوتي بطاووس بن كيسان ، فلما دخل عليه خلع نعليه بحاشية بساطه ، وسلم عليه من غير أن يدعوه بأمير المؤمنين ، وخاطبه باسمه دون أن يكنيه ، وجلس قبل أن يأذن له بالجلوس .
كم مخالفة ؟ أولاً دخل عليه ، وخلع نعليه بحاشية بساطه ، وسلم عليه من غير أن يدعوه بأمير المؤمنين ، وخاطبه باسمه دون أن يكنِّيه ، وجلس قبل أن يأذن له بالجلوس ، فاستشاط هشام غضباً حتى بدا الغيظ في عينيه ، ذلك أنه رأى في تصرفاته اجتراءً عليه ، ونيلاً من هيبته أمام جلسائه ورجال حاشيته ، بيد أنه ما لبث أن تذكر أنه في حرم الله عز وجل ، فرجع إلى نفسه وقال لطاووس :
ـ ما حملك يا طاووس على ما صنعت ؟
ـ فقال : وما الذي صنعته ؟ ماذا فعلت ؟
ـ فعاد إلى الخليفة غضبه وغيظه وقال له : خلعت نعليك بحاشية بساطي ، وكان ينبغي أن تخلعهما خارج المكان ، ولم تسلم عليّ بإمرة المؤمنين ، وسميتني باسمي ولم تكنني ، ثم جلست من غير إذني !!
ـ فقال طاووس بهدوء : أما خلع نعلي بحاشية بساطك فأنا أخلعهما بين يدي ربِّ العزة كل يوم خمس مرات ، فلا يعاتبني ، ولا يغضب علي ، وأما قولك : إني لم أسلم عليك بإمرة المؤمنين فلأن جميع المؤمنين ليس راضين بإمرتك ، وقد خشيت أن أكون كاذباً إن دعوتك بإمرة المؤمنين ، وأما ما أخذته عليَّ من أني ناديتك باسمك ولم أكنك ، فإن الله عز وجل نادى أنبيائه بأسمائهم ، فقال : يا داود ، ويا يحيى ، ويا عيسى ، وكنى أعداءه فقال : تبت يدا أبي لهب وتب ، وأما قولك : إني جلست قبل أن تأذن لي ، فإني سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقول : (إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار ، فانظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام بين يديه ) ، فكرهت أن تكون ذلك الرجل الذي عُدَّ من أهل النار.
قال : فأطرق إلى الأرض خجلاً .
وقد روى عطاء بن رباح قال : رآني طاووس في موقف لم يرتح له ، فقال : يا عطاء إياك أن ترفع حوائجك إلى من أغلق في وجهك بابه ، وأقام دونك حُجَّابه ، وإنما اطلبها ممن أشرع لك أبوابه ، وطالبك بأن تدعوه ، ووعدك بالإجابة ، أي الله عز وجل ..
لا تســألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تُحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
* * *
كان يقول لابنه : يا بني صاحب العقلاء تنسب إليهم ، وإن لم تكن منهم ، ولا تصاحب الجهال فإنك إن صحبتهم نسبت إليهم ، وإن لم تكن منهم .
لذلك الفقهاء ذكروا حالات كثيرة تجرح العدالة منها : صحبة الأراذل ، إذا إنسان صفيه ، أو له سمعة منحطة ، أو منحرف الأخلاق ، يكفي أن تمشي معه فإن هذا يجرح عدالتك ، يجرحها ، وترفض شهادتك إذا سرت معه ، فالذي يصحب الأراذل ، والذي يتحدث عن النساء ، والذي يتنزه في الطرقات ، والذي يعلو صوته في البيت حتى يسمعه من في الطريق ، والذي يطفف بتمرة ، والذي يأكل لقمةً من حرام ، والذي يطلق لفرسه العنان ـ المسرع في المركبة ـ والذي يقود برذوناً ، والذي يمشي حافياً ، والذي يبول في الطريق ، والذي يأكل في الطريق ، والذي يلعب النرد ، هذه الأعمال كلها تجرح عدالتك ، وترفض شهادتك.
ولا تصاحب الجهال ، فإنك إن صحبتهم نسبت إليهم ، وإن لم تكن منهم .
وقد امتدت الحياة بطاووس حتى بلغ المئة ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : ((خيركم من طال