الطيار , ت
3_ الإخلاص يضمن ويكفل الاستمرارية
لكي يستمر إخلاص المرء ولا ينقطع،عليه أن يتخلص من الرياء،والمحمدة عند الناس،من ثم يبارك الله له في أعماله.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله )لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح،والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء على والنار،والضب والحوت،فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس،وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة،فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص)([85]). والإخلاص عامل من عوامل الارتقاء الحضاري واستمراره،حيث أن القائمين على الأمور والولاة في كل مكان إذا أخلصوا في أعمالهم،وابتغوا بها وجه الله تعالى وكانوا في عمل دءوب من أجل خدمة الرعية،يبارك الله لهم في كل ما ملكهم من أسباب القوة،والحياة، والرزق،وأصبحت لهم كلمة تسمع لدى الأمم الأخرى،كلمة لها وزن وتقدر لدى الجميع، كما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة في صدر الإسلام.
والعمل المقبول رسم شروطه منهج الله تعالى وبين طريقته، وساحته، وميادين هذا العمل مهما قلت،أو ضاق نطاقها،فإن كل عمل نابع من الإيمان متصل بمنهج الله تعالى هو عبادة.
والعمل لا يعد صالحاً ولا مقبولاً،حتى ولو كان عبادة إلا عندما يكون خالصاً لوجه الله. فإذا توفَّر الإخلاص في أفعال المسلم كلها،ظهرت لديه روح الجهاد وأصبح يحب الجهاد في سبيل الله حباً عظيماً([86]).
ذلك الجهاد جهاد طويل لا يتوقف،جهاد في كل ميدان بل في أحلك الظروف والأحوال،
كل عامل في ميدانه وفي نطاق عمله فعندما تتضافر الجهود ، ويزداد البذل والعطاء والتضحية من الزارع في مزرعته، والتاجر في متجره،والصانع في مصنعه،والمدارس في معهده أو كليته،والخطيب في مسجده،والضابط في حراسته،والأمير في إمارته،والقاضي في محكمته،بإخلاص ، وإتقان،ووعي، وحرص شديد،لا يتوقف العمل، بل يزداد وينمو،ويبارك الله لهم في كل ما يفعلون، وتستمر الجهود،ولا تعرف للانقطاع طريقاً،
بسبب هذا الدافع القوي العجيب وهو الإخلاص.
وهؤلاء الجنود يعملون ليل نهار من أجل خدمة دينهم، ورفعة أمتهم،ورفع لواء التوحيد عالياً خفاقاً،فترى ثمرات ذلك نتائج طيبة،تلك النتائج تحققت في وجود عمل مدروس،
مخطط، وفق منهج علمي،شرعي،صحيح. فالإخلاص يجعل طاقات المؤمنين تبذل،
وتتحرك،وفاعليتهم تزداد، وتحركاتهم وآثارهم واضحة،في كل مكان،ومجال.يفرغون تلك الطاقات في عمل دءوب دون أن ينتظروا مكافأة من أجد من البشر،بل كل ما يسعون إليه،والفوز به هو رضوان الله تعالى عليهم.
لأن همهم الوحيد التقوى،والصلاح،والإخلاص،فهم أغنياء عن مسألة الناس،يتعففون
السؤال،ويرضون بالقليل بما قدر لهم الرزاق ذو القوة المتين.
وهؤلاء المخلصون لا يتحركون كما ذكرنا آنفا،إلا بالعزيمة والنية،فبدون الإخلاص والنية تنهار العزيمة،لأنها نية العبادة،والإخلاص لله رب العالمين.
ونيات المخلصين نيات متجردة عن المصالح،والأمزجة الهوائية،والرغبات المعطلة،نية إخلاص وتجرد لربهم سبحانه وتعالى. فالنية هي أساس النهج والتخطيط السليم،وهي منطلق العزيمة،والطريق،والحافز إلى الهدف والغاية.
والتخطيط والعزيمة،والطريق الموصل للهدف،وهو طريق الله المستقيم هذه الأمور الثلاثة لها أهمية عظمى،في حياة كل من رفع شعار الإخلاص،وجعله من أساسيات حياته،يشترك فذلك الفرد،والأمة. فالأمة التي تتحرك وتسير بدون نية، ولا تخطيط، ولا نهج علمي،ولا عزيمة، ولا سبيل يوصلها إلى أهدافها، وغايتها، هي أمة سرعان ما تسقط من حساب المجتمع الدولي ومن ثم تُزْوى عن الوجود شيئاً، حتى تتهاوى نهائياً.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ومثلٌ أعلى يحتذى به في التخطيط،والعزيمة، والسبل الموصلة إلى الأهداف، والأخذ بالأسباب الذي يعد من أعظم مظاهر الإيمان بالله تعالى.
فكما قيل: الأخذ بالأسباب من الإيمان بالله تعالى، لكن لا يعتمد عليها فالمؤمن عليه أن يعتمد على مسبب الأسباب وهو الله تعالى. فالنبي صلى الله عليه وسلم ضرب لنا أروع الأمثلة في ذلك الإطار الإيماني والنهج الرباني،في هجرته المباركة من مكة على المدينة المنورة.كما تقول كتب السير المعتمدة([87]). أنه صلى الله عليه وسلم: أحكم التخطيط ونظم السير، وخادع الأعداء،وكان كل أمر يقوم به تراه منظماً تنظيماً دقيقاً، وما ترك أمراً من الأمور إلا وأعد له عدته، ووضع له خطة محكمة بتوفيق الله عز وجل. فاتفق مع أبي بكر الصديق على مكان اللقاء، وأحضر دليلاً للطريق، وجعل بينه وبين قريش مركزاً للمعلومات والإحصاء، واتُّفِقَ على من يحضر لهم الزاد، حتى يرحلون إلى بغيتهم من غار ثور. وكان ذلك كله في إطار منهج الله تعالى.
والإخلاص،والتخطيط السليم يجعلان جهود المسلم محفوظة،ولا تتبعثر بل يصبانها في مجرى واحد دفاق بالخير.
فها نحن نرى تقدماً عظيماً، ورقياً واضحاً،ونجاحاً لا مثيل له في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عصر خلفائه الراشدين.
والتخطيط السليم والعزيمة القوية لا يتحركان بمجرد الوعظ والإرشاد والاهتمام بالنواحي الإيمانية فقط،علماً بأن الوعظ والإرشاد له دوره المهم الواضح،إذا اهتم فيه بالجوانب الروحية لدى المسلم، وذلك بأن توجد محاضرات،ودروس علمية يتحدث فيها عن الفاعلية، وكيف يصل المسلم إلى مرحلة استشعار معية الله عز وجل، فيراقب الله في كل أعماله، ويعطي من خلال هذه المحاضرات شحنة إيمانية كبيرة، تجعله يتحرك في ميادين الحياة الواقعية بكل يسر وسهولة وبكل حماس،وفاعلية،وقوة لا تتوقف بإذن الله تعالى ويا حبذا لو عممت هذه المحاضرات على جميع المستويات، ويختار فيها الموضوعات التي ترقق القلوب، وتحفز النفوس للعمل لدين الله عز وجل، ولارتقاء حضارة هذه الأمة.
نقول ومع أهمية الوعظ والإرشاد بمكان، لكنهما لا يكفيان لتحرك العزيمة القوية،والتخطيط السليم، بل لا بد من الشحنة الفعلية العملية المباشرة المحسوسة.
فإذا كان الوعظ والإرشاد هو الدافع الروحي،فإنَّ التدريب،والرعاية والتنظيم هو الدافع المادي للحركة،والعمل،والبناء،والتكوين،والمراقبة وتلك المراقبة والمتابعة من الرئيس للمرؤوس لا تتعارض والإخلاص بل هي تزيد من فاعلية المسلم،وتجعله في إخلاص دائم
وعمل مستمر لا ينقطع.
وإذا أردنا مهارة عالية،ومستوى فائقاً، وارتقاءاً واضحاً، وتزداد فعلية أبناءنا في جميع ميادين الحياة،فإننا ننصح بالاهتمام بالتعليم الفني خاصة من جانب أبناءنا الطلاب ليتم تدريبهم على أعلى مستوى تكنولوجي حديث خاصة في مجال الصناعة.
وإننا في هذا البلد المبارك بلد الحرمين الشريفين،الذي يجمع بين الاهتمام بالأمور الشرعية، وبين الارتقاء بمظاهر الحياة العملية،ويتميز على سائر بلاد الدنيا في تحكيم شرع الله،نلحظ
اهتماماً متميزاً في الصناعات والمصانع، وها هي الدولة تبذل بسخاء لمساعدة هذه المصانع على أداء رسالتها لكن الذي ينقصنا هو رغبة أبنائنا وشبابنا،وإقدامهم على المدارس الفنية وكلياتها،وهذا ما نتمنى أن يتحقق خلال الخطط القادمة إن شاء الله تعالى.
وعلى كل فيجب على المسلم أن يصحح الخطأ،ويستفيد منه،ويقوم خبرته وتجربته، ويصحح نيته بالتوبة،والرجوع واللجوء إلى الله تعالى دائماً.
والمسلم عندما يشارك في مجتمعه الذي يعيش فيه مشاركة فعالة ويجد خطأ من غيره،فعليه أن يقوم سريعاً بتصحيح هذا الخطأ،على أن لا يتتبع العورات،وأن ينصح بالحكمة والموعظة الحسنة،ويسدد ويقارب. عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(سددوا وقاربوا..)([88]). والمسلم كلما أخلص في عبادته لله تعالى أقبل بالحفاظ على الفرائض،ثم النوافل،والازدياد منها،ثم هجر البدع،والمنكرات،والمخالفات،ثم تقرب إلى الله تعالى بكل ما يستطيع،وقام ليسد على إبليس الملعون جميع مداخله،إذا حاول ذات مرة أن يبعده عن العمل،بأن يثبط همته،ويضعف عزيمته،فإذا بهذا المسلم المخلص ينتصر عليه بفضل الله تعالى،باللجوء إليه سبحانه،والتحصن بالأذكار الشرعية، والاستعاذة بالله من هذا العدو المضل آخذاً بقول أحد الصالحين وهو يقول: (إذا أردت أن تتغلب وتنتصر على من يراك ولا تراه فاستعذ منه بالذي يراك ويراه).
فيحسن الظن بالله،ويتوكل عليه،ويزداد في العمل،ولا ينقطع عن فعل الخير،بل يستمر دائماً في طاعة الله وعبادته،وفي خدمة مجتمعه الذي يعيش فيه.
ولقد شبه الله سبحانه وتعالى المخلصين تشبيهاً كريماً،حيث شبههم بالجنة التي هي في بستان عالٍ،وأصابها مطرٌ شديد فآتت ثمرها ضعفين،فإن لم يصبها هذا المطر الشديد فهي لينة بمطرها السابق وهذا كافيها،فكذلك المؤمن لا يبور عمله أبداً،ويتقبله الله ويكثره ويضاعفه
كل بحسب عمله،والله لا يخفى عليه من أعمال العباد شيء([89]). قال الله تعالى:[ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]([90]).
على الجانب الآخر شبه الله سبحانه وتعالى المرائين بالصخر الأملس،الذي عليه تراب ثم أصابه مطر شديد،فتركه أملساً يابساً، لم يبق عليه شيء من ذلك التراب. فكذلك أعمال المرائين تذهب سدى،وتضمحل عند الله،وإن ظهر لهم أعمال،فيما يرى الناس
كالتراب([91] ).
فالمراءون ليس لهم من أعمالهم شيء، بل هم يتوقفون في أماكنهم ولا يتقدمون خطوة واحدة نحو عبادة صحيحة مقبولة. قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]([92]). هكذا يضيع عمل المرائي وتمحق منه البركة. على العكس من المسلم الموحد المخلص المحافظ على الأذكار،والأوراد النبوية في كل شيء،ينطق بها في بدء كل عمل، ويجدد النية ويصححها،هذا يبارك الله له في جميع أعماله. لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل كلام أو ذي بال لا يفتح بذكر الله عز وجل فهو أبتر أو قال أقطع)([93] ).
لذلك نرى المخلص يستمر في أعماله الصالحة ولا ينقطع عنها،بل هو في سعادة عظيمة عندما يقوم بعمل في مرضاة الله تعالى،لأن جسد المؤمن هيأه الله تعالى للطاعة والعبادة، فلو ظل يعمل أكثر الوقت لكفاه.
لأن الجسد ما دام في طاعة الله، ولا يبتغي بالعمل إلا وجه الله فإنه لا يكل ولا يتعب.
على العكس من ذلك العاصي أو الكافر فإن جوارحه تتمنى اللحظة التي ينام فيها،من أجل أن تستريح من الذنوب وتتوقف شيئاً ما عن المعصية.
إذن فالباعث على الأعمال،والدافع وراء حركة المرء له أهمية عظمى،وبالغة في استمرار الأعمال،وانقطاعها،وفي دناءتها،وعلوها،وفي الثواب والعقاب عليها،فليتحرَّ كل منا الإخلاص، لتستمر أعمال المرء إلى حين انتقاله إلى الدار الآخرة،فتنفعه هذه الأعمال الصالحة التي ابتغى بها وجه الله تعالى، في يوم لا ينفع مال ولا بنون.
4_ زيادة فاعلية المسلم لأن الدافع الأخروي للعمل أقوى
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
( سبع يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته من علَّم علماً أو أجرى نهراً أو حفر بئراً أو غرس نخلاً أو بنى مسجداً أو ورَّث مصحفاً أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته)([94]).
فالمسلم عندما يتوفر لديه الإخلاص تزداد فاعليته،ويقبل على فعل الخير،لما يعلم من أهمية الإخلاص في قبول العمل،وما ينتظره من ثواب عظيم يوم القيامة،وهو المتمثل في الدافع الأخروي لأنه أقوى من الدافع الدنيوي،وهذا الدافع الأخروي هو الذي يحرك المسلم للعمل.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:الإمام العادل،وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد،ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه،ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال:إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)([95]).
ما أكثر أبواب الخير التي فتحها الله للمسلم،لتوصله إلى رحمة الله تعالى ويفوز بالنعيم المقيم،ويحظى بالدرجات العلى في الجنة.
وإذا كانت الدنيا تعج بحمى ملذاتها وشهواتها المتعددة، ومحاولة التزود من متعها الزائلة، فإن الجائزة الكبرى التي تنتظر المخلصين يوم القيامة أن يتفيئوا ظلال رحمة الله يوم القيامة، يوم أن تدنو الشمس من الرؤوس،قاب قوسين أو أقل من ذلك،فيكون حر شديد،وعرق كثير،فمن الناس من يأتيه العرق إلى عقبيه ومنهم من يلجمه العرق تلجيماً،
ومنهم من يسبح فيه سباحة([96]).
فما أحوج الناس في يوم مثل هذا أن يكونوا في ظل عرش الرحمن يوم القيامة،فائزين برحمته التي وسعت كل شيء،ورضوانه الذي يعم به عباده المتقين. فإذا ما علم العبد هذا الدافع الأخروي،وهو النجاة من هذا الموقف العصيب يوم القيامة،الذي يتمنى فيه الكافر أن ينصرف من شمسه ولو إلى نار جهنم ([97]).
لسارع المؤمن للعمل،وبادر إليه،ونظر باهتمام شديد إلى الغاية من عمله،هل هو مخلص فيه؟ فيحمد الله تعالى أم غير ذلك؟ فيتوب إلى الله، ويستغفر عن هذا التقصير ويجدد نيته ويصلحها ويعقد بيعة صحيحة مع الله تعالى ليدخل زمرة المخلصين.
وفي الحديث السابق ذكره خصَّ النبي صلى الله عليه وسلم سبعة من أصحاب الطاعات،يستمتعون بهذا الفضل المذكور في الحديث،وهو التنعم بظل الله يوم القيامة،وهؤلاء ممن زكت نفوسهم، واستقامت أحوالهم،وراقبوا ربَّهم في سرهم،وعلانيتهم،وأخلصوا أعمالهم،مبتغين بها وجه الكريم الجواد طامعين في الدافع الأخروي الذي حركهم للقيام بأعمالهم هذه، وهو أن يكونوا في كنف الله ورعايته. في يوم لا ناصر ولا معين إلا الله، ولا مَنْجى ولا ملتجأ إلاَّ إليه سبحانه.
وعلى المسلم أن يعلم أن كل خير يقوم به سيكتب له في ميزان حسناته يوم القيامة إذا ابتغى بهذا الخير وجه الله تعالى. يبين ذلك الحديث الذي رواه أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به
صدقة)([98]).
وكان الواحد من السلف يشكر أخاه أن أعانه على الحصول على الثواب من خلاله،أو القيام بطاعة، أو عبادة، تقربه من الله تعالى عن طريقه فيقول له:
(جزى الله أخي عني خير الجزاء أن جعل لي من نفسه حظيرة لطاعة الله عز وجل).
5_ يمنع الإنسان من الشعور بالإعجاب ويشعره بالتقصير
قال ابن القيم رحمه الله) أعمال القلوب هي الأصل،وأعمال الجوارح تبعٌ ومكملة،وإن النية بمنزلة الرُّوح،والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء الذي إذا فارق الروح فموات،فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح)([99]).
فإذا ما عرف المسلم الأحكام التي تتعلق بأعمال القلوب،أخذ يفتش في نفسه،ليرى هل هو مقصر أم لا؟
والذي يدفعه لذلك إخلاصه في العمل الذي يشعر الإنسان بتقصيره نحو خالقه،بالرغم من أنه يقوم على أوامر الله ويسارع في الخيرات،لكنه يخشى عدم القبول. قال تعالى:[ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ]([100] ). هذا المسلم الذي يلتزم بما أمر الله به، ويخشى عدم القبول،ويحاسب نفسه دائماً، ليرقى بها إيمانياً،عن المستوى التي هي عليه. فإذا وصلت لمستوى أعلى منه،لم يقنع بذلك،بل هو يريد الأفضل،والأرقى،يريد أن يصل إلى مرحلة المخلصين. وهكذا تزداد فاعلية المسلم، ويستمر في تقدم بسبب هذا الإخلاص، الذي يمنع صاحبه من إعجابه بنفسه أو استكثار عمله،أو استصغار ذنبه،فهو يحاسب نفسه على الفرائض التي أمره الله بها،فإن تذكر أنَّ فيها نقصاً قام بقضائه، فإنه لا كفارة فيها إلا ذلك. ثم ينظر إلى ما نهاه الله عنه، فإن كان قد اقترف منها شيئاً،أسرع بالتوبة والأوبة إلى الغفار ثم ينظر هل هو قائم بالغاية التي من أجلها خلق الله العباد المتمثلة في قوله تعالى:[ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]([101]).
والمتمثلة أيضاً في قوله تعالى:[ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ ]([102]). فإن كان من المحافظين على طاعة الله وعبادته، ومن القائمين على تبليغ دين الله عز وجل،من المتعاونين على البر والتقوى، حَمد الله، وأرجع الفضل في ذلك كله لله وإن وجد تقصيراً اجتهد في إصلاحه.
ثم يتنزه بنفسه عن الفضول من الكلام،والفضول من الطعام والشراب،والفضول من الثياب، وغير ذلك.
ثم يسأل نفسه عند القيام بكل عمل،هل هذا العمل كان خالصاً لوجهه سبحانه وتعالى؟ أم أنه أراد به محمدة الناس،ورياءهم،وثناءهم عليه؟فالله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً
لوجهه. قال تعالى:[ وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى]([103]). ثم يسأل نفسه أيضاً كيف قام بهذا العمل؟ هل هو موافق لشرع الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبعيد عن البدع،والمنكرات وما حرَّم الله أم لا؟
هل روعي في هذا العمل أنه كان موافقاً للعقيدة الصحيحة التي لا يحول دونها أدنى مظاهر الشرك؟
هل اعتبر هذا المخلص الذي يحاسب نفسه من قوله تعالى: [لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً]([104]). ليت المرء يفكر في الآية السابقة ويعلم أن الصادقين سيسألون ويحاسبون عن صدقهم فما باله بالكاذبين! !
والذي يجعله يفكر في ذلك كله هو الإخلاص. إذن فالعبد كلما أخلص في عبادته وكان صادقاً مع نفسه،وجلس يحاسبها بصدق،شعر بالتقصير،وشعر أنه ليس على الحالة التي ترضي الله عنه، فقام ليصلح من أوضاعه،ويحسن من علاقته بربه. لأنه يخاف من الله سبحانه وتعالى يوم القيامة،وهذا الخوف الناتج من محاسبة النفس،يفيد المرء بفوائد عظيمة منها:([105])
1_ الاطلاع على عيوب النفس،فإنه من لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته فإذا
اطلع على عيبها مقتها في ذات الله تعالى.
روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء أنه قال)لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله،ثم يرجع إلى نفسه فيكون أشد لها مقتاً )([106]).
وقال أبو حفص ( من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها في جميع الأحوال،ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أوقاته كان مغروراً. ومن ينظر إليها بإستحسان فقد أهلكها)([107]).
لأن النفس داعية إلى المهالك،معينة للأعداء ناظرة إلى كل قبيح سائرة وراء كل سوء،عابثة بطبعها في المخالفات.
2_ معرفة حق الله عليه. فإن لم يعرف حق الله عليه،لا تكاد عبادته تنفعه،وهذه المعرفة تورثه الإزراء على نفسه،وتخلصه من العجب،فتفتح له أبواب كثيرة واسعة للعمل، والاجتهاد في العبادة ودافعه في ذلك كله أيضاً هو الإخلاص،لأنه دائماً في محاسبة نفسه
وفي حق الله تعالى عليه،ويجتهد في تأديته على النحو الذي يرضي الله عنه،ومع ذلك هو يخشى عدم القبول،وإن كان يرجوا ثواب الله ورحمته.
أما المرائي فَلِمَ يحاسب نفسه؟ وَلِمَ يجلس مع نفسه في خلوة ليعرض أعماله على الكتاب والسنة؟وها هو قد رضي بثناء الناس ومحمدتهم له. وهذا النوع من الناس جاهل بربه،
وبنفسه،ينظر في حقه على الله،ولا ينظر في حق الله عليه. فانقطع عن ربه،وحجب قلبه عن معرفة ما عليه لله،ومحبته والشوق إلى لقائه،والتنعم بذكره.
والإخلاص تجارة رابحة ليس فيها كساد،ولا خسارة،وما أعظم أن يكون البيع،والصفقات التجارية مع الكريم سبحانه وتعالى،الذي لا تنفد خزائنه أبداً،حتى أن من كرم الله على عباده أنه سبحانه يرزقهم ويملكهم أسباب القوة،ثم يحثهم على بذلها،ويحسن لهم في الجزاء،ويجزل لهم في عطائه. مع أن الله الرازق هو الذي رزق عباده ما بذلوه.
ونصوص هذه الصفقة وبنودها وشروطها نزل بها أمين الوحي جبريل عليه السلام من الله
تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بدستور المسلمين قال تعالى:[ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ ]([108]).
6_ يعين المسلم على تجاوز العقبات التي قد تقف في وجهه
الإخلاص هو سبب نجاة العبد من مهالك كثيرة،بل أنه لا يستطيع أن يتغلب على الشيطان
ويحصن نفسه منه إلا إذا كان مخلصاً في جميع أحواله،وفي جميع أعماله،ملتزماً بكل ما أمر الله،فيختاره الله،ويجتبيه من عباده بالحفظ من عدوه.
قال الله تعالى مبيناً ذلك على لسان إبليس لعنه الله:[ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ]([109]) لأن هذا العدو الملعون هو الذي يحاول دائماً وأبداً أن يتسبب للعبد في إبطال أعمله،وهو الذي يدعوه إلى الرياء،والإخلاص هو المنجي له من ذلك.
والناظر إلى البلاء الذي وقع يه يوسف عليه السلام،وهو التعرض للفتنة،في وجود مغريات كثيرة،منها شبابه الذي يفيض بالحيوية والجنس،وحُسْنُ وجهه حيث أنه أعطي
شطر الحسن وهذا يجعل داعي الإغراء والإلحاح أشد،من ناحية امرأة العزيز،ومكان الحادث كان بعيداً عن أن يراه أحداً من أهله،أو أقاربه،فيفضح أمره. لكنه ثبت ثباتاً عظيماً
في هذا الموقف العصيب فيرى الناظر لهذا البلاء أن يوسف عليه السلام قد نجاه الله سبحانه وتعالى،وكان سبب نجاته الإخلاص.
يقول الله حاكياً عن نجاة يوسف عليه السلام:[ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ]([110] )، فهل يتعظ، ويعتبر، ويستفيد الشباب والفتيات من هذا الدرس العظيم وهذه العبرة الطيبة التي حدثت من يوسف عليه السلام؟
أن من عباد الله عباداً لا يستطيعون غض البصر فقط،المأمور به شرعاً،ولا سبب لذلك إلا
قلة التقوى،والإخلاص،والله الهادي إلى سواء الصراط.
والمسلم يستطيع أن يتوسل إلى الله عز وجل بما أخلص من أعماله،فيكون إخلاصه منجاة له من الكروب،والعقبات التي قد تقف في وجهه.
عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:( انطلق ثلاثة رهط فيمن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه،فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار،فقالوا:إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم،قال رجل منهم:اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران،وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً فنأى بي في طلب شيء يوماً فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجتهما نائمين،
وكرهت أن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً،فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنَّا ما نحن فيهمن هذه الصخرة فانفرجت شيء لا يستطيعون الخروج،قال النبي صلى الله عليه وسلم وقال الآخر:
اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلىَّ فأردتها عن نفسها فامتنعت منِّي حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلِّي بيني وبين نفسها
ففعلت،حتى إذا قدرت عليها قالت لا أحل لك أن تفضي الخاتم إلا بحقه فتحرجت من الوقوع عليها،فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليَّ وتركت الذهب الذي أعطيتها،اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه،فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. وقال الثالث:اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أدِّ إلى أجري، فقلت له كل ما ترى من أجرك من الإبل،والبقر والغنم والرقيق،فقال يا عبد الله:لا تستهزىء بي!! فقلت:إني لا أستهزىء بك فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئاً،اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون)([111]).
يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين في شرح هذا الحديث:(الإخلاص من أسباب تفريج الكربات لأن كل واحد منهم يقول:(اللهم إن كنت فعلت ذلك من أجلك فافرج عنا ما نحن فيه،أما الرياء والعياذ بالله والذي يعمل الأعمال رياءً وسمعة حتى يمدح عند الناس فإن هذا كالزبد يذهب جفاءً لا ينتفع منه صاحبه. . . )([112]).
فهؤلاء الثلاثة أخلصوا في أعمالهم،وابتغوا بها وجه الله سبحانه وتعالى وحده،وقضية التوحيد عندهم واضحة،توحيدهم لله توحيد خالص،متضمن محبة الله،وإجلاله، وتعظيمه،والخوف منه ورجاءه وحده سبحانه ما يوجب غسل الذنوب ولو كانت قراب الأرض وما يبين إنقاذ العبد من أي مكروه قد يقع فيه،لأن هذا التوحيد لا تشوبه شائبة
شرك. لأن الشرك كلما كان في العبد أغلب من الإخلاص كانت ذنوبه أكثر،ووقوعه في المضايق والكربات أكثر.
لكن كلما كان الإخلاص أعظم كان العبد من الذنوب أبعد،وللمناجاة أقرب وأيسر.