![]() |
سلسلة محاسن التأويل سورة النور
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته منقول من سلسلة محاسن التأويل سورة النور ل الشيخ صالح المغامسي جزاه الله خير. |
تضمنت سورة النور بيان جملة من الأحكام الشرعية العظيمة، وبيان جملة أخرى من آيات الله تعالى ودلائل قدرته والتعريف به سبحانه، وقد صدر الله تعالى أحكامها بذكر حد جريمة الزنا الصادرة من الزاني غير المحصن، وما يجب على المؤمنين فعله في حقه، كما صدرها تعالى ببيان أن الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، وكذلك الزانية، وذلك حرام على المؤمنين.
|
بين يدي تفسير سورة النور
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وحده حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا الدرس قد يكون فيه نقلة نوعية؛ إذ قد اعتدنا على الحديث عن السور المكية، وكنا قد ذكرنا في أول هذه الدروس أننا سنعنى به بترتيب السور حسب نزولها على ما حرره أهل العلم في ذلك، لكننا عد لنا عن ذلك إلى أن نعرض السور المدنية، رغبة في أن يشمل الحديث الأحكام كما شمل العقائد. وبناءً على هذا فإن السورة التي سنعنى بها في هذا الدرس هي سورة النور، وهذا الاسم توقيفي لا يعرف للسورة اسم غيره، وقد نقل عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه أنه قال: علموا نساءكم سورة النور. ونقل عين هذا القول أو قريب منه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها. والسورة مدنية بإجماع علماء المسلمين ممن يعنون بعلم التأويل. |
تفسير قوله تعالى: (سورة أنزلناها وفرضناها ...)
وهذه السورة صدرها الحق جل وعلا بقوله: سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1]، وهو افتتاح غير مألوف في القرآن، فلا يعلم أن سورة من القرآن افتتحت بمثل هذا الافتتاح. والسورة في اللغة: المنزلة الشريفة العالية، وحق لسور القرآن أن يقال لها ذلك؛ فقد شرفت وعظمت تنزيلاً ولفظاً ومعنى، والعرب تطلق ذلك على ما عظم وشرف، قال قائلهم: ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب فإنك شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب والقرآن كله منزل من عند الله، ولكن الله قال هنا: سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا [النور:1]، وقد أجاب العلماء عن هذا بقولهم: إن هذا للفت الانتباه وإرشاد العناية إلى ما تتضمنه هذه السورة المباركة من عظيم الأحكام الشرعية. ثم قال الله جل وعلا: وَفَرَضْنَاهَا [النور:1] وقد قرئ هذا اللفظ بالتخفيف (فرضناها)، وقرئ بتشديد الراء (فرَّضاها). والقراءة الأخرى المقصود منها أن أحكامها نزلت منجمة، أي أن السورة لم تنزل كاملة، وأياً كان المعنى فإن الأفضل أن يقال جواباً عن هذا كله: إن هذه السورة عنيت بالأحكام وعنيت بتعريف العباد بربهم، فما يتعلق بالأحكام عبر الله جل وعلا عنه بقوله: وَفَرَضْنَاهَا [النور:1]، وما يتعلق بالعقائد والتعريف بالرب عبر الله جل وعلا عنه بقوله: وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1]. والقرينة التي تدل على صحة هذا المنحى في التفسير قول الله جل وعلا: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1]؛ فإن الدعوة إلى تذكر الشيء يلزم منها أن يكون الشيء مستقراً من قبل، ومعلوم أن الأحكام لم يكن للمسلمين علم بها من قبل، فلا ينطبق عليها قول الله: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1] وإنما ينطبق على الآيات التي عنيت بالتعريف بالرب والإرشاد إليه، ومنها في هذه السورة قول الله جل وعلا: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ [النور:43]، وقول الله جل وعلا: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ [النور:45]، والآية التي من أجلها سميت السورة بسورة النور، وهي قول الله جل وعلا: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور:35]. فهذه الثلاث الآيات لا تحمل أحكاماً، فلا ينطبق عليها قول الله: َفَرَضْنَاهَا [النور:1]، وإنما ينطبق عليها قول الله: وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1] وقلنا: إن قرينة لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1] تؤيد هذا المنحى، فقد جاءت عقب الآيات البينات ولم تأت عقب قوله تعالى: (فرضناها). وهذه الآية التي صدر الله جل وعلا بها هذه السورة هي توطئة وتمهيد، فبدأ الله بالأحكام فقال: وَفَرَضْنَاهَا [النور:1]، وأجل الحديث عن الآيات، ولهذا جاء ما بعدها مناسباً للتمهيد، فبدأ الله بالأحكام قبل أن يبدأ بأمور العقائد في هذه السورة، لا أن العقائد ليست أهم من الأحكام، بل الحديث هنا عن سورة مدنية نزلت بعد أن استقرت العقائد في أنفس المسلمين، ولا غنى للخلق عنها. |
تفسير قوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة)
قال سبحانه: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2]. إن من الأمور المطلوبة تصور الأشياء تصوراً كلياً يعين على فهمها، فهذه الآية تتحدث عن حد الزنا. وقبل أن أشرع في الحديث عن تفسير الآية أؤصل للمسألة فأقول: إن الإسلام جاء بحفظ الضرورات الخمس: الدين والعقل والمال والنفس والعرض. ثم شرع حدوداً تحفظ هذه الضرورات الخمس، فبحد السرقة يحفظ المال، وبالقصاص تحفظ الأنفس، وبحد الزنا والقذف تحفظ الأعراض، وبحد السكر يحفظ العقل، وبإقامة هذه الأربع جميعاً يحفظ الدين، هذا التحرير الأول. والحد: عقوبة مقررة شرعاً في معصية استيفاءً لحق الله جل وعلا، ويجري معه في ذلك القصاص، ولكن ثمة فارق بين القصاص وبين الحد، فالقصاص ترك الله جل وعلا أمره لأولياء الدم أو الجناية، فلا يصبح وضع ولي الأمر إلا التنفيذ، فلو أن رجلاً قتل رجلاً فإنه يتعلق بقتل ذلك الرجل ثلاثة حقوق: حق لله العلي الكبير، وهذا الحق يسقط بالتوبة. وحق للمقتول عينه، وهذا الحق لا يسقط أبداً، ويستوفى يوم القيامة. وحق لأولياء الدم، وهذا هو الذي يدور كلام الفقهاء في فلكه. فأولياء الدم مخيرون بين القصاص والقبول بالدية زادت أو نقصت بحسب التراضي، أو العفو، فيصبح دور ولي الأمر هو تنفيذ القصاص، أو إجراء آلية قبول الدية. وأما الحدود فتختلف عن القصاص في هذا المعنى، ونحن أن الحدود حق لله لا تسقط بعوض ولا بدون عوض، ولا تجوز الشفاعة فيها، بينما تجوز الشفاعة في القصاص، ونحن نسمع أنه قد يأتي ثري أو وجيه إلى أولياء الدم فيرضيهم بأموال تزيد على الدية رغبة في حفظ دم آخر، فهذا يجوز شرعاً؛ إذ يقول ربنا جل جلاله: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ [البقرة:178]. وأما الحدود فهي في منأى عن هذا، فلا حد الزنا ولا حد القذف ولا حد السكر ولا حد السرقة يدخل في شيء من ذلك، بل يجب استيفاء تلك الحدود إذا رفع الأمر إلى السلطان، ولا تجوز الشفاعة فيها. فهذا التمهيد موطأ ممهد مهم قبل أن نشرع في فهم الحدود. والحد المذكور في هذه السورة هو حد الزنا، والزنا أمر معروف، وإن من أكبر المعضلات توضيح الواضحات. والله تعالى لم يعرف الزنا؛ لأن الزنا معروف، ولم يعرف القتل؛ لأن القتل معروف من قبل أن ينزل القرآن. |
تكييف أنواع قضاء الوطر
وقبل أن نشرع في الفهم الفقهي أريد أن أبين مسألة مهمة، وهي أن الرجل له وطر يقضيه من المرأة، والمرأة لها وطر تقضيه من الرجل، وهذا الوطر -وهو الجماع والوطء- إذا تحقق عن طريق إيجاب وقبول ومهر وولي وشاهدين وأعلن سمي نكاحاً شرعياً، وكان من سنن الأنبياء والمرسلين، والغاية منه الوطء وقضاء الوطر. وإذا تحقق عن طريق إرغام الرجل المرأة تحت تهديد السلاح فإن الرجل يسمى مغتصباً زانياً يقام عليه الحد، والمرأة لا يلحقها شيء في الشرع؛ لأنها مجبرة مكرهة لا خيار لها. وإذا تحقق عن طريق التراضي بين رجل وامرأة سراً فإنه يسمى زنا، وفيه الحد عليهما. وإذا تم عن طريق التراضي من غير طريق النكاح واشترطت المرأة مالاً فإنه يسمى بغاء، فتعتبر المرأة التي تصنع هذا الصنيع بغياً، أما الأولى فتعتبر زانية. فالزانية من لا تطلب أجراً؛ لأنها تستفيد من قضاء وطرها، وأما من تشترط الأجر وتتخذه مهنة فإنها تسمى بغياً، والمقصود في الأحوال الأربعة هو المتعة الجنسية في المقام الأول، ومع ذلك فإن أحدها من أعظم السنن، وأحدها لا يلحق المرأة به شيء، وأحدها زنا يجلب الحد، والرابع زنا كذلك يجلب الحد، ولكن المرأة تسمى فيه بغياً. والمقصود من هذا أن الإنسان قبل أن يحكم على الشيء عليه أن يعرف واديه في الشرع، ومجراه في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يصح أن يعمل بنص ويهمل آخر، أو أن ينظر إلى نصوص الشرع نظرة جزئية فيجعل بعض النصوص مهيمناً على النصوص كلها، فهذا خطأ منهجي، بل قبل أن يتفوه الإنسان بالحكم الشرعي يجلب كل النصوص التي في الباب، وينظر إلى الشريعة إجمالاً، فيتبين له بعد ذلك الحق من غيره، والله تعالى يقول: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [التوبة:115]. |
حد الزاني
والحد هنا هو حد الزنا الذي يتعلق بالزاني أو الزانية البكرين غير المحصنين، وإنما أخرجنا المحصن من هذه الآية لأن حد الزاني أو الزانية المحصن إنما هو الرجم بالسنة المتواترة التي لا تقبل الدفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواها أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وخالد وجابر ، وغيرهم من الصحابة. فهي سنة لا تقبل الدفع، خلافاً لمذهب الخوارج الذين لا يرون إقامة الرجم، ويحتجون بأنه لم يذكر في كلام الله، ونحن لا نريد أن ننحو بالتفسير منحىً فقهياً تاماً، فهذا خطأ منهجي في النظر إلى الآيات، ولكننا نعرج على ما نحتاج إليه من كلام الفقهاء، فنقول بداية: إن الحد المقصود به هنا هو حد الزاني أو الزانية البكرين غير المحصنين. وهذا الحد حدده الله نصاً ولم يترك لأحد تحديده، فقال ربنا تبارك وتعالى: فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، وهذا أعلى حدود الجلد في الإسلام، وبعده حد القذف وقدره ثمانون جلدة. |
جلد الزاني وكيفيته الشرعية
قال ربنا تبارك وتعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [النور:2] بدأ الله بالمرأة هنا؛ لأن الزنا لا يتم لو لم توافق المرأة، ولذا يفرق بين الزنا والاغتصاب، فالاغتصاب زناً في حق الرجل وليس زناً في حق المرأة، فلا يقام عليها حد، ولكن الزنا الذي يكون بالتراضي لا يمكن أن يقام ويقع بدون رضاً من المرأة، فهي المطاوعة، ولهذا قدمها الله تعالى في الذكر فقال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]. والجلد يكون بسوط لا جديد ولا خلق؛ لأن المقصود التأديب وليس المقصود الإهلاك، فلا يكون السوط جديداً حتى لا يكون سبباً في هلاك المجلود، ولا يكون خلقاً فلا يتضرر منه، ومن ثم لا يبقى هناك معنى لإقامة الجلد، ثم إن من يقوم بعملية الجلد لا يرفع يده عالياً ولا يرخيها وإنما يفعل الوسط بينهما. وأما الذي يجلد فالأصل أنه الظهر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أو حد في ظهرك)، ولكن قال أهل العلم: يتجنب مواطن المقاتل، ويتجنب الرأس والعورة وما يخشى أن يؤدى إلى إهلاكه، فيضرب في البطن مثلاً، أو يضرب في أعلى الظهر وأسفله وأوسطه وما أشبه ذلك، وفي أسفل رجليه، فهذه كلها مواطن يتم فيها الجلد. |
حكم الرأفة بالحدود في دين الله تعالى
قال الله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2] الرأفة مصدر (رأف)، وهي حالة تنتاب الشخص إذا رأى ما يحزنه في المرءوف به، والمعنى أن إقامة حد الله جل وعلا وما ينجم عن ذلك من مصالح أعظم من المصلحة الناجمة عن الرفق بذلك الذي سيحد. قال الله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النور:2]، وهذا قيد المقصود منه إثارة ما في القلب من نصرة للدين، ولكنه لا يطبق حرفياً، بمعنى أنه يأتي أحد فيقول لمن أصابته رأفة على مجلود: إنه لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فيخرجه من الملة. فلا يمكن أن يقول عاقل بهذا، وهذه مسألة يقع فيها كثير من الفضلاء، حيث يأتون إلى القيد فيقلبونه فيحتجون به على مسائل عديدة، ولو استقام القلب لاستقام كل شيء، ولكنه لا يستقيم، فلا بد من أن ينظر في قرائن أخرى حول النص. فالآية هنا لا يمكن أن يقال بمفهوم مخالفتها، وهو أنه إذا أخذتنا رأفة بذلك المجلود فمعنى ذلك أننا لا نؤمن بالله واليوم الآخر، فهذا محال، ولكن نقول: إن كمال الإيمان هنا منتف؛ لوجود قرائن أخرى تمنع أن نقول بكفر من يصنع ذلك. والمقصود من هذا هو التريث قبل إطلاق الحكم، وهذا هو الذي دل عليه كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. |
بيان المقصود بإقامة حد الزنى
قال الله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2]. المقصود بإقامة الحدود زجر الناس وإيجاد مجتمع مسلم يمتثل أفراده لشرع الله، فإن كانت الحدود تطبق في السر وفي الخفاء فلا معنى لإقامتها؛ لأن المقصود من إقامتها لن يتحقق بذلك، ولهذا نص الله أمراً، حيث قال تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2]. واختلف في مقدار هذه الطائفة، فقيل: يكفي الواحد، وقيل: اثنان، وأعدل الأقوال -والعلم عند الله- أن أقل شيء عشرة، وأحسب -والعلم عند الله- أن هذا يختلف باختلاف البلدة التي يقام فيها الحد، فما يقام في المدن غير الذي يقام في المحافظات، وغير الذي يقام في القرى القليلة السكان، فالكثرة قد تعتبر كثرة في مكان وتعتبر قلة في مكان آخر. |
تغريب الزاني
ولم يذكر الله هنا إلا الجلد، وجمهور أهل العلم والخلفاء الراشدون على أنه يضاف إليه تغريب عام، لنطقه صلى الله عليه وسلم بهذا في قصة الأجير الذي زنى بامرأة مستأجرة، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (على ابنك جلد مائة وتغريب عام) أي: النفي. وهذا قول جمهور أهل العلم. وقال بعض الفقهاء: إن التغريب يرجع إلى الإمام، وهذا قول أبي حنيفة . والسبب في ذلك أصل مذهب أبي حنيفة ، وذلك أن أصله أن الزيادة في النص تعني النسخ، وهذا الأصل حاكم للمذهب. ثم إنهم اختلفوا بعد ذلك في تغريب المرأة، فذهب مالك رحمه الله إلى أن التغريب لا يقع على المرأة، وحجته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مع غير ذي محرم، أو بدون محرم) وغير ذلك من النصوص الحاكمة في هذا الباب. وقد يقول قائل: يجبر المحرم على السفر معها، وهذا لا دليل عليه، والأظهر -والعلم عند الله- أن التغريب يقع على الرجال دون النساء؛ لأنه يخشى من تغريب النساء مفسدة أكبر من الأمر الذي تغرب من أجله، لكن إن ثبت أن أبا بكر أو عمر فعله فلا ريب في أن رأيهما أو رأي أحدهما مقدم على رأي من بعدهما. وهذه المسألة إحدى مسائل الأصول، أعني اتفاق الشيخين أبي بكر وعمر على مسألة، فهل يعد قولهما حجة أم لا؟ والجواب أنه لا يعد قولهما حجة، ولكن نقول: من ذا الذي يقدر على أن يعارض قولاً اتفق عليه الشيخان؟! قال جرير يسخر من الأخطل : ما كان يرضى رسول الله فعلهم والطيبان أبو بكر ولا عمر |
تفسير قوله تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ...)
ذكر قول من حمل النكاح على الوطء وقول من رده ثم قال ربنا جل وعلا بعد ذلك: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3]. هذه الآية هي من جملة آيات معدودات اضطربت فيها أقوال أهل العلم اضطراباً شديداً، بل هي من أعظم آيات القرآن إشكالاً باتفاق المفسرين، وكل من نحا في تفسيرها لا يستقيم كلامه على إطلاقه. والإشكال الوارد عندهم -أي: الأكابر الذين نظروا في كتاب الله من قبلنا- هو أنهم اختلف عليهم فهم كلمة (ينكح) في قول الله جل وعلا: الزَّانِي لا يَنكِحُ [النور:3] فهل المقصود بها عقد النكاح أو المقصود بها الجماع والوطء؟ بمعنى: هل المعنى أن الزاني لا يجوز له أن يتزوج إلا زانية أو مشركة، أو المقصود أن الزاني لا يجامع ولا يطأ إلا زانية أو مشركة من غير زواج، أي: لا يزني إلا بزانية أو مشركة. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما -كما صح عنه في نقل صحيح-: المقصود بالنكاح هنا الوطء. وقال ابن القيم رحمه الله: وينبغي أن ينزه كلام الله عن مثل هذا. فانظر إلى التعارض بين القولين. وقال الزجاج : إن القول بأن النكاح هنا بمعنى الوطء مخالف لكلام الله، بمعنى أنه لا يعرف في القرآن. ولكن الآخرين الذين لم يرتضوا هذا دافعوا عن قول ابن عباس بحجج عدة: أولها أنهم قالوا رداً على الزجاج : ثبت في كلام الله أن النكاح يراد به الوطء في قول الله تعالى: حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]، فقد فسرتها السنة بقوله صلى الله عليه وسلم: (حتى تذوقي عسيلته) فعبر عن الوطء بالنكاح. وأجابوا عن قول ابن القيم رحمه الله: إن هذا القول يجب أن ينزه عنه كلام الله -كما قال الشنقيطي رحمه الله وغيره من قبل- فقالوا: إن القائل بهذا القول هو ترجمان القرآن وحبر الأمة، وهو من أعلم الناس بكلام العرب. والذي دفع ابن القيم رحمه الله إلى أن يقول: إنه يجب أن ينزه كلام الله عن مثل هذا هو أنه يرى -كما رأى غيره- أنه لا تتأتى على هذا التأويل أي فائدة من الآية؛ لأنه يصبح معنى الآية: الزاني لا يزني ولا يطأ إلا زانية أو مشركة، والزانية لا يطأها أصلاً إلا زان مثلها أو مشرك، فقالوا: أين الجديد في المعنى؟! فهذا شيء مألوف معروف. والذي دفع ابن عباس وأمثاله إلى منعهم القول بأنه النكاح هو الاتفاق على أنه لا يجوز للمؤمن أن يتزوج مشركة، ولا يجوز للمرأة الزانية المسلمة أن تتزوج مشركاً، فهذا هو الذي دفعهم إلى القول بعدم كون المراد به عقد النكاح المعروف. |
ذكر قول من حمل الآية على معنى الرغبة الغالبة
وبعض أهل الفضل من العلماء يقول: إن الآية مسوقة فيما يجري مجرى الغالب، والمعنى من الآية: أن الله أراد أن الزاني لا يرغب في نكاحه إلا الزانية مثله أو المشركة، والزانية لا يرغب في نكاحها إلا زان مثلها أو رجل مشرك لا يؤمن بالله واليوم الآخر. فقالوا: هذا يجري مجرى الغالب؛ لأنهم يحاجون بأنه يوجد في الزناة من يرغب في الحرائر العفيفات، ويوجد في النساء الزواني من ترغب في الرجل العفيف. ونقول: إن الذين يكثر فيهم الشك في بيوتهم هم الذين كانوا على طرائق محرمة من قبل، فقول هؤلاء الأفاضل بهذا المعنى ينافي الواقع. |
ذكر قول من حمل المشترك على معنييه
ولا بد من حل هذا الإشكال، ولذا قال ابن تيمية رحمه الله: إن النكاح هنا مشترك لفظي، أي: أن اللفظ إذا كان يحتمل معنيين فإننا نقبلهما جميعاً، فنحمل أحدهما على أمر والآخر على أمر آخر. فالنكاح هنا جاء بمعنى العقد وبمعنى الوطء، فالوطء نحمله على المشركات والمشركين؛ لأن النكاح لا يجوز بين مسلم وكافرة أو مسلمة وكافر، والنكاح نحمله على المؤمنين والمؤمنات. وهذا القول قال الشنقيطي معقباً عليه: ولا أعلم مزجاً واضحاً من الإشكال في هذه الآية إلا مع بعض تعسف. ثم ذكره. وحمل المشترك على معانيه جائز في العربية، حيث يجوز أن تقول: عدا اللصوص البارحة على عين زيد، تقصد أن اللصوص عدوا على إحدى عينيه فعوروها، وعدوا على عين مائة فغوروها، وسلبوه الذهب والفضة، أي: عين ماله. والحق أن هذا القول بعيد جداً؛ لأن الله تعالى يقول: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17]. وحمل المشترك اللفظي بهذه الأمثلة على كلام الله بعيد جداً، خاصة أن القرآن مخاطب به عموم الناس، والله يتكلم عن مسألة اجتماعية يحتاج إليها البر والفاجر وسائر الناس، ولا يتكلم عن مسألة عظيمة التعقيد، وإنما يتكلم عن مسألة اجتماعية يهذب بها المجتمع رجالاً ونساءً، فيبعد أن يكون هذا هو الحل. |
ذكر القول بنسخ حكم الآية الكريمة
وبقي هناك قول يبدو لنا أنه أقرب الأقوال إلى الصواب، ولكن الذين ردوه لم يتأنوا -والله- في الرد، ولو تأنوا لأبصروه جيداً. وهذا القول هو قول سعيد بن المسيب رحمه الله وأخذه عنه الشافعي وأيده، وهو أن الآية منسوخة، فالله يقول: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3] فالذين لم يرضوا بأنها منسوخة قالوا: الآية في الخاص؛ لأن وصف الزنا في المرأة والرجل وصف خاص، وقول الله جل وعلا: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى [النور:32] عام، وقد اتفق الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة على أن العام لا ينقض الخاص ولا ينسخه، فقالوا: قوله تعالى: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32] لا يُنسخ آية الزاني؛ لأن آية الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3] آية خاصة، والعام لا ينسخ الخاص. هذا هو قولهم، إلا أن هناك قرائن أخرى تدل على ما ذكرته تحتاج إلى تريث، وسأحاول بقدر الإمكان أن أبينها لك. فينبغي أن يفهم أن هذه السورة نزلت في العام الخامس، والعام الخامس كانت فيه حادثة الإفك في غزوة المريسيع، فسورة النور تحدثت عن الإفك، وإذا عرفت زمن نزول السورة عرفت أن نكاح المشركات من المؤمنين وقتها كان قائماً، ونكاح المؤمنات من المشركين كذلك كان قائماً، والدليل على ذلك أن الآية التي نسخت نكاح المؤمنات من المشركين في سورة الممتحنة، وسورة الممتحنة نزلت بالاتفاق بعد الحديبية، والآية هي قوله تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة:10]. فالله عندما تكلم في سورة النور لم يكن في ذلك الوقت قد حرم جل وعلا نكاح المؤمنات من المشركات. وأما نكاح المؤمن من المشركة فإننا نقول: حرمه آية البقرة: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة:221]. فأوجه الأقوال أن نقول: إنها نزلت بعد سورة النور، فعلى هذا نقول: إن النكاح هنا بمعنى العقد، وهو الكثير المستعمل في القرآن، فيصبح معنى الآية: أنه لا يليق بالمؤمن ولا يجوز له أن ينكح زانية، ولا يجوز للمؤمنة أن تنكح زانياً، فالزاني لا ينكح إلا زانية مثله أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان مثلها أو مشرك، ثم نسخ هذا الأمر جملة، أي: نسخ نكاح المؤمنات من المشركين بآية الممتحنة، ونسخ نكاح المؤمنين من المشركات بآية البقرة. وأما نكاح الزواني فالدليل على أنه جائز عموم قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24]، وقوله تعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]، وقوله جل وعلا: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32] واضح؟ وهذا القول في ظني -والعلم عند الله- أظهر من غيره؛ لأن غيره يحتاج إلى تعسف قد يكون صعباً قبوله، وقد قلت: إن هذا هو مذهب الشافعي وسعيد بن المسيب ، ويؤيده عقلاً أننا نقول: إنه ينبغي أن ينظر في حال القائل، فإن لحال القائل دوراً في القول لا يصح إلغاؤه بالجملة. و سعيد بن المسيب أحد أجلاء التابعين، وكان يحفظ كثيراً من الآثار المنقولة عن عمر، بل احتج بمراسيله الشافعي وبعض العلماء خاصة إذا حدث عن عمر ، فـسعيد بن المسيب يقبل قوله، ونقول: إن الذي دفع سعيداً إلى القول بأنها منسوخة علمه بالآثار، وقد تكون هذه الآثار ليست موجودة لدينا، ولكن نقول: إن غالب الظن أن لا يتجرأ سعيد رحمه الله على القول بأنها منسوخة دون أن يعضده أثر قد سمعه؛ لما علم من تقوى الرجل. ثم إن الآخرين من الفضلاء الذين ردوا هذا النسخ ردوه بالقاعدة التي سبق أن بيناها وهي أن العام لا ينسخ الخاص، وقد حررنا أن العام ليس آية واحدة، بل هو عدة آيات تعاضدت فأخذنا بها وقلنا: إنها تنسخ الخاص. وبينا أنه ينبغي النظر في زمن نزول السورة بقدر الإمكان، ففهمنا من سورة الممتحنة أن نسخ نكاح المؤمنات من المشركين كان بعد الحديبية، وصحيح أننا في آية البقرة لا نعرف زمناً، ولكن نستطيع أن نقول بذلك من حيث الإجمال العام الذي يتفق مع تفسير هذه الآية. فهذا هو ما يمكن أن يحرر في قول الله جل وعلا: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3]. |
التغليظ في شأن الفواحش
وقال بعضهم: إنما هذا خبر أريد به تشنيع الأمر وبيان فظاعة الزنا عند الله، وهذا كله يسوقنا إلى أن نقول: إن ما تكلمنا عنه سابقاً يعنى بتدوين المسألة فقهياً، والقرآن لا يخاطب العقل فقط، بل يخاطب العقل والقلب؛ فإن الله جل وعلا لم يتعبدنا بالمعرفة فقط، وإنما تعبدنا بالعلم بالمعرفة، فكل الناس يعلمون أن الخمرة تسكر، والإنسان لا يثاب على علمه بأن الخمر تسكر، ولا يعاقب على علمه بأن الخمر تسكر، ولكنه إذا تركها من أجل الله يثاب، وإذا فرط فيها وشرب منها ولم يعظم تحريم الله لها يعاقب، فالله لا يتعبد أحداً بالمعرفة. فما قلناه هو معارف، ولا بد من مخاطبة القلوب، بأن تفهم من سياق الآية أن الله يبدأ بسورة يَنزل بها ملكٌ عظيم مثل جبريل من السماوات السبع ويقول في التمهيد لها: سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا [النور:1] ويمهد للقول بها. ثم يشنع على أصحاب هذه المعاصي فيقول: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا [النور:2] وهو أرأف بنا من أنفسنا، ويقول: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3]، ويقول في خاتمتها: وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3]، كل ذلك يبصر المؤمن -إذا جمعه مع غيره من الآيات- بعظيم هذه الفاحشة، وقد قال الله في الإسراء: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]. وقد قال أهل العلم: إن هناك ثلاث معاصٍ حرمها الله جل وعلا في جميع الشرائع والأديان: الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق، والزنا، وجمعها الله في سورة الفرقان فقال: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان:68]. وعلى النقيض من قضية تعظيم الزنا تأتي نصوص شرعية ترغب في العفاف وتبين عظيم أجره ومآل أهله عند الله ترغيباً لهم في ترك هذه الفاحشة، حيث يقول صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة -: (سبعة يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.. -وذكر منهم:- ورجلاً دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله). ويقول الله جل وعلا عن نبيه يوسف بن يعقوب عليه السلام: وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف:23-24]. قال الله تعالى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24] . وقد اشتهر عند العلماء أن الزنا أشبه بالدين، وأن الإنسان إذا صنعه في أهل بيت رد ذلك في أهل بيته، وينسب إلى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قوله: إن الزنا دين فإن أقرضته كان الوفا من أهل بيتك فاعلم والحق أنا لا نؤمن بقول الشافعي هذا على عظيم إجلالنا له وحبنا إياه؛ لأن الله يقول: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]. ثم إن هذا القول يدفع الناس إلى باب شر عظيم، فقد يكون لأحد الناس سابقة في الزنا وفي الفواحش عياذاً بالله، ثم يمن الله جل وعلا عليه بالتوبة بعد أن ستره، فإذا قررنا ما قاله الشافعي رحمه الله -إن صحت نسبة الأبيات إليه- أضحى ذلك الرجل شاكاً مرتاباً في زوجته أو بناته، وهذا غير حق وغير عدل، ولكن نقول من حيث الجملة: إن الزنا -والعياذ بالله- من أعظم الفواحش وأجل الكبائر، وقد حرمه الله وحرمه رسوله صلى الله عليه وسلم. ومما جاء في التغليظ فيه أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى الزواني والزناة عراة في تنور ضيق من أسفله واسع من أعلاه توقد من تحته نار. قال بعض العلماء -كالحافظ ابن كثير وغيره-: هذا من جنس صنيعهم، فكما هتكوا ستر الله عليهم في الدنيا هتك الله عنهم الستر في حياة البرزخ. |
أهمية سد الذرائع
والزنا له طرائق، وأسباب تؤدي له، ومن أعظمها: كثرة رؤية الرجل للمرأة، وكثرة مخالطة المرأة للرجال. وسد الذرائع أمر مقرر شرعاً، ولكن بقدر، فلا يفتح باب سد الذرائع على إطلاقه، ولا يغلق أبداً، ولكن الأمور تختلف من بيئة إلى بيئة، ومن مكان إلى مكان، وتقيد بقيود الشرع، ولكن قد قالوا: إن السلامة من سلمى وجارتها ألا تمر على سلمى وواديها فما تبثه الفضائيات والقنوات والشاشات من صور خليعة وأفلام ماجنة وغيرها لا ريب في أنه من أعظم أسباب انتشار الفاحشة بين الناس عياذاً بالله. فالذي يكثر من النظر إليها يكون أقرب إلى الوقوع في الحرام، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن من رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه، وهذا حق ولا ريب؛ لأنه قول النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن الواقع يشهد له شهادة عظيمة. |
درء الحدود بالشبهات
فهذه الثلاث الآيات ذكرت حد الزنا في فواتح سورة النور كما بيناها، وذكرنا في أولها الفرق بين الحد والقصاص. ومن الفوارق بينهما كذلك أن الله جل وعلا جعل الحد لا يسقط ولا تجوز فيه الشفاعة، ولكن يسر الله على لسان رسوله دفع الحد بالشبهات، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات). ومن جملة ذلك ما يروى عن جماعة من الناس أتوا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه يستعدونه شاعراً يقال له: النجاشي ، فاسقاً في لسانه، فهجا قوماً يتهمهم بما ليس فيهم، فكان عمر يدرأ الحد عنه بالشبهة، فكان يقصد بالبيت شيئاً فيحمله عمر على معنى آخر مع أنه ضليع في لغة العرب، حيث قال يهجو بني العجلان: قبيلة لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل فقال عمر : ليت آل الخطاب كذلك. فقالوا: يا أمير المؤمنين! إنه يقول: ولا يردون الماء إلا عشية إذا صدر الوراد عن كل منهل فقال عمر : ذلك أخف للزحام وأصفى للماء. مع أنه أراد ضعفهم وعجزهم، وأراد عمر أن يغير المعنى، فقالوا: يا أمير المؤمنين! إنه يقول: تعاف الكلاب الضاريات لحومهم وتأكل من كعب بن عوف ونهشل فقال عمر : أجن القوم موتاهم. يعني: هؤلاء قوم طيبون يدفنون موتاهم فلا تصل الكلاب إليهم. فقالوا: يا أمير المؤمنين! إنه يقول: وما سمي العجلان إلا لقولهم خذ القعب واحلب أيها العبد واعجل فقال عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه: كلنا عبد، وخير القوم خادمهم. وكلما ذكروا بيتاً خرج به عمر مخرجاً آخر، وهو يعلم مقصده، لكن هذا من باب: (ادرءوا الحدود بالشبهات) حتى وصلوا معه إلى أبيات لا يمكن دفعها، فجلده تعزيراً. والذي يعنينا أن الإنسان يدرأ الحدود بالشبهات بقدر الإمكان، ومن أجل هذا أيضاً علق عمر حد السرقة في عام الرمادة؛ لأن شبهة الجوع والفقر وحاجة الناس كانت طاغية عامة من البلاء العام، فلم يقم الحد في ذلك العام، ولا يقال: ألغى عمر الحد، فهذا ليس لعمر ولا لغيره، ولكن علقه رضي الله عنه وأرضاه اجتهاداً لحاجة الناس آنذاك من باب قوله صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات). فهذا -أيها الأخ- ما تيسر قوله حول الثلاث الآيات الأول من سورة النور. وفي الدرس القادم سنعرج على قضيتين أخريين، وهما قضية حد القاذف وقضية الملاعنة، ونكتفي بهما بإذن الله تبارك وتعالى. وهذا ما تيسر إيراده وتهيأ قوله وأعان الله على أن نمليه، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين. |
من جملة أحكام الشريعة الواردة في سورة النور ما يتعلق بحكم قذف المؤمنين والمؤمنات، فقد أوجب الله تعالى في ذلك على القاذف الإتيان بأربعة شهود، وأوجب عليه عند العجز عن ذلك حداً في ظهره، فيجلد ثمانين جلدة تطهيراً للمجتمع وصيانة لأعراض المؤمنين عن المساس، ولما كان القذف -وهو تهمة المقذوف بالزنا- كان على الزوج إقامة البينة على قذفه امرأته أو الحد في ظهره، وفي ذلك مشقة عظيمة وحرج كبير على الأزواج، فشرع الله تبارك وتعالى حكم الملاعنة استثناء لقذف الزوج من الحكم العام في القذف.
|
تفسير قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء)
ذكر ما يترتب على القذف من أحكام بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له اعترافاً بفضله وإذعاناً لأمره، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فغني عن القول أن يقال: إن هذا الدرس له ارتباط وثيق بالذي سبق، وقد شرعنا في الدرس الأول في تفسير فواتح سورة النور، وأخذنا الثلاث الآيات الأول منهن، وبينا أن الله جل وعلا قال: وَفَرَضْنَاهَا [النور:1] إشارة إلى الأحكام، وتكلم الله جل وعلا فيها عن حد الزنا. ثم ينتقل بنا القرآن إلى حد آخر، وهو حد القذف، حيث يقول الله جل وعلا: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ... [النور:4]، وذكر تعالى أنه طلب منهم أربعة شهداء، فقال: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4] وهذا الحد يسمى حد القذف. وإذا تلبس المرء بجريمة الزنا فإنها تثبت عليه بواحد من ثلاثة: إما باعترافه بنفسه، وهذا هو الذي ثبت به الزنا في عهد النبوة، كقصة ماعز والمرأة التي من غامد. وإما بشهود أربعة، وهذا لم يقع في عهد النبوة. وإما بأن تحمل المرأة وليس لها زوج معروف، فهذا ما يتعلق بحد الزنا. أما الآية التي بين أيدينا فتتحدث عن حد القذف، والله جل وعلا قد أمر من قذف بأن يأتي بأربعة شهداء، فإن لم تقع تلك الشهادة على الوجه الذي أمر الله جل وعلا به ترتب على هذا الأمر ثلاثة أحكام: الأول: أن يجلد القاذف ثمانين جلدة. الثاني: ألا تقبل له شهادة أبداً. الثالث: أن يعتبر فاسقاً. ثم جاء الاستثناء بقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا [آل عمران:89]. |
أثر الاعتراف في إقامة الحدود
وقبل أن نشرع في الآية أقول: ذكرنا أن الزنا يثبت بواحدة من ثلاث، ومنها اعتراف المرء، وهذا الاعتراف يحكم به على إطلاقه، إلا فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بأنه ارتكب ما يوجب عليه الحد، فأكثر العلماء من أهل التحقيق على أن الشاعر إذا اعترف في شعره بما يوجب الحد عليه لا يقام عليه الحد؛ لأن الله جل وعلا برأهم بقوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ [الشعراء:225-226]. ومما يستأنس به أن عمر رضي الله تعالى عنه ولى رجلاً يقال له: النعمان بن عدي نيسان من أرض البصرة، وذات يوم خلا النعمان بنفسه وكان يحب الشعر ويقوله، فطفح به الكيل وفق تعبيره فقال يتغنى شعراً: ألا هل أتى الحسناء أن حليلها بميسان يسقى من زجاج وحنتم فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ولا تسقني بالأصغر المتثلم لعل أمير المؤمنين يسوؤه تنادمنا بالجوسق المتهدم فبلغ عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه ما قاله النعمان فقال: والله إنه ليسوؤني، ومن لقيه فليخبره أنني عزلته، ثم كتب إليه: بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ. حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [غافر:1-3]. أما بعد: فلقد بلغني قولك: لعل أمير المؤمنين يسوؤه تنادمنا بالجوسق المتهدم والله إنه ليسوؤني، وقد عزلتك. فقدم النعمان من أرض ميسان من أرض البصرة إلى المدينة فواجهه عمر بالشعر الذي بلغه، فقال: يا أمير المؤمنين! يعلم الله أنني ما شربتها قط، ولكنه شيء طفح به شعري. فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه: وأنا أظن ذلك -أي: أعتقد صحة قولك في أنك لم تشرب- ولكنك لن تلي لي عملاً؛ لأنك تحدثت في شعرك عن الخمر. قال أهل العلم: إن عمر رضي الله عنه وأرضاه لم يقم الحد عليه رغم أن هذا الوالي في شعره كان صريحاً في أنه شرب الخمر، فهذا الاستثناء يخرج من قولنا: إن الزاني إذا اعترف بزناه يقام عليه الحد، فإذا اعترف في شعره لا يقام عليه الحد. وثمت رواية أخرى تؤيد هذا المنحى للفرزدق مع سليمان بن عبد الملك ، ولكن الذي قاله الفرزدق ظاهر الفحش عظيم البذاءة. فهذا تحرير قضية استثناء الشعراء من الاعتراف. |
فضيلة ستر معايب الناس
إن الله جل وعلا يتكلم عما يحفظه المجتمع المسلم، فقد جعل لنا أعيناً وألسناً، وبمقدار ستر المرء لمعائب الناس يكون ستر الله جل وعلا لمعايبه، وقد نص أهل العلم -كما قال سعيد بن المسيب وغيره- على أنه لا يخلو أحد من أهل الفضل -مهما بلغت درجته- من معايب فيه، ولكن لا يحسن إشهارها للناس، وعلى هذا يجب أن تفهم أن كثيراً ممن أعلى الله قدرهم إنما أوقعهم الله على معايب لغيرهم، فلما ستروها وقد وقعوا عليها ورأوها قدراً ستر الله جل وعلا عليهم معايبهم. وكثير ممن تسلطوا على أخطاء الناس وعوراتهم سلط الله جل وعلا عليهم غيرهم. وهذا كائن في النهج العلمي، فـابن حزم رحمة الله تعالى عليه كان يقال عنه: إن لسان ابن حزم وسيف الحجاج صنوان، فـابن حزم في (المحلى) أجلب بخيله ورجله على الأئمة الأربعة وعلى مالك على وجه الخصوص، ولذا يقال: إن السبب في إعراض الناس عن مذهب الظاهرية من حيث الجملة، وكتب ابن حزم على وجه الخصوص ما جعل فيها من جلب على غيره من الأئمة، ولو كان منصفاً -رحمه الله- مع أولئك لجعل الله له إنصافاً عند الناس، وهذه سنة لله جل وعلا ماضية، وإلا فإنه لا يختلف اثنان ممن ذاقوا رحيق العلم في أن ابن حزم كان إماماً عظيماً جليلاً، ولكن غلبت عليه هذه الصفة فنجم عنها نفرة الناس عن كتبه، وهذه سنن لله جل وعلا لو تأملتها بتؤدة وتريث لوجدت أموراً عظيمة وخبايا عديدة يمن الله علينا وعليك بفقهها. |
شمول حد القذف للرجال والنساء
يقول تعالى في حد القذف: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4]، ولا يمكن أن يغير هذا الحد الشرعي، فجعل الله حد القذف ثمانين جلدة، وجعل حد الزنا مائة جلدة. والمحصنات: العفيفات، وليس ذكر النساء هنا المقصود منه الحصر، فقذف الرجال كقذف النساء، وقذف المحصنين كقذف المحصنات، ولكن لما كان الغالب أن القذف يقال في حق النساء ذكرهن الله تعالى هنا دون الرجال، فإن حاجك أحد في أن الرجال لم يذكروا فقل له: أجمعت الأمة على أن الرجال داخلون في ذلك، وإذا أجمعت الأمة فلا سبيل إلى نقض ذلك الإجماع. ولهذا فإن من العلم إذا أردت أن تبحث ألا تبحث في مسألة أجمع الناس عليها، ولكن انظر في مسائل الخلاف فلعلك تجد دليلاً ترجح به قولاً تختاره، أما ما اتفق الناس عليه فليس بمجال بحث أبداً؛ إذ لا تجتمع الأمة على ضلالة، خاصة إذا كان الإجماع مشتهراً معروفاً مقرراً. فالإجماع منعقد على أن القذف يقع في حق الرجل كما يقع في حق المرأة، وإن لم يسم الله الرجل. على أن بعض أهل التأويل يقول: (المحصنات) هنا ليس المقصود بها النساء، وإنما المراد المحصنات من الأنفس رجالاً ونساء. وهذا تخريج جيد، ولو فرضنا بعدم قبوله فإننا محكومون بالإجماع الذي حررناه من قبل. |
أحكام القذف وما ترفعه التوبة منها
يقول الله تعالى في حكم القاذف: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4]، وقد حررنا مسألة الجلد من قبل. ثم ذكر الله تعالى الحكم الآخر فقال: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا [النور:4]، و(أبداً) تأتي في نفي المستقبل، ويقابلها في نفي الماضي (قط)، تقول: لن أفعله أبداً، وتقول عن شيء محكي: ما فعلته قط. و(قط) أحياناً تزاد بفاء التزيين فيقال: (فقط). قال تعالى: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4]، ثم قال ربنا: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:89]. وقد وقع الإشكال بين العلماء في هذا الاستثناء، حيث مرت ثلاثة أحكام، فأيها يرفع الاستثناء إذا تاب الإنسان؟ وقد اتفقوا على أنه لا يرفع الجلد؛ ولأن الجلد حق للمقذوف، فإذا رفعناه لا يستفيد المقذوف من توبة القاذف. قذف رجل رجلاً بالزنا فإن كونه يتوب إلى الله لا ينتفع منه المقذوف بشيء، فلا بد من إقامة الحد. واتفقوا كذلك على أن الفسق ينتفي إذا تاب، ووقع الإشكال في قول الله جل وعلا: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا [النور:4]، فإذا تاب هذا الذي قذف بعد أن أقيم الحد عليه فهل إقامة الحد عليه ثم توبته بعد إقامة الحد تجعلنا نقبل شهادته بعد ذلك أم لا؟ للعلماء في ذلك قولان: فمذهب الجمهور أنه تقبل شهادته، ومذهب أبي حنيفة رحمه الله أن شهادته لا تقبل، وجعل الاستثناء مخرجاً له من دائرة الفسق فقط. |
تفسير قوله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم ...)
المخرج الشرعي للأزواج من حد القذف العام ثم قال الله جل وعلا بعدها: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [النور:6] ، هذه الآية الثانية جعلها الله مخرجاً للأزواج؛ لأن الإنسان إذا رأى امرأة غير زوجته مع رجل فإنه قد يصيبه شيء من الغيظ، ولكن لا يصل إلى درجة رؤيته مع زوجته، وحينئذٍ فإنه إذا أراد أن يقام الحد لزمه الإتيان بأربعة شهود، وقد يتعذر عليه ذلك، فيقول: أنا لا استطيع أن آتي بشهود، وهذا أمر لا يخصني. فهذه مسألة ظاهرة، والأمر فيها ليس بالكبير على الرائي، ولكن الحرج -عافانا الله وإياكم- أن يرى الرجل رجلاً مع زوجته، فإن قتل قُتِل، وإن تكلم طولب بأربعة شهداء، وإن سكت سكت على أمر عظيم، فجعل الله تعالى له المخرج بقوله: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ [النور:6] وهذا تخصيص بعد العموم السابق، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ [النور:6]، أما إذا كان لهم شهود فالمسألة قد حلت من قبل في آية القذف، وهذه آية الملاعنة وليست آية القذف. فجعل الله جل وعلا آية الملاعنة فك خناق عن الأزواج؛ إذ لما نزلت آية القذف طولبوا بأربعة شهداء، فإذ لم يأتوا بهؤلاء الأربعة طبقت عليهم تلك الأحكام الثلاثة، فضيق ذلك على الناس. ويقال: إن عويمراً العجلاني أرسل رجلاً يقال له: عاصم بن عدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله بعد نزول آية القذف: كيف يصنع الإنسان لو رأى رجلاً مع امرأته؟ فذهب عاصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فأغلظ له النبي عليه السلام في الجواب، فلما رجع عاصم إلى عويمر سأله عويمر : ما الخبر؟ فأخبره عاصم بأنه لم يلق خيراً من سؤاله هذا، ولكن عويمراً لم يصبر، وكأنه كأن يرتاب في زوجته، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره، فقال عليه الصلاة والسلام: (البينة أو حد في ظهرك). فلما رجع وجد الذي كان يخشاه، فعاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله جل وعلا هذه الآية المعروفة بآية الملاعنة، وفيها نصرة لـعويمر ؛ لأنه لما قذف عويمر زوجته ولم تنزل الآية في نفس الليلة باتت الأنصار تقول: ليقامن غداً حد القذف على عويمر . بناء على الآية التي قبلها في حد القذف، فلما نزلت هذه الآية فك خناق، فقال الحق سبحانه: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النور:6-7]. فجيء بـعويمر وجيء بزوجته بعد أن نزلت الآية، فأقسم عويمر قائلاً: أشهد بالله إنني لمن الصادقين فيما رميتها به، وفي الخامسة -وهي الموجبة- قال: أشهد أن لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به. وجيء بالمرأة فقالت: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به، وقالت في الخامسة: أشهد بالله أن غضب الله علي إن كان من الصادقين فيما رماني به. ونقل أنها قبل أن تقول الخامسة خوفت؛ لأنها هي الموجبة، فتلكأت ثم قالت: والله لا أفضح قومي سائر اليوم، ومضت في يمينها، فقال صلى الله عليه وسلم -كما روى أنس -: إن جاءت به كذا وكذا، -ذكر أوصافاً لـعويمر - فقد ظلمها، وإن جاءت به سابق الإليتين، خذلج الساقين، أكحل العينين فهو لما رماها به؛ لأن شريك بن سحماء الذي رماها عويمر به كانت هذه صفاته، ثم إنها وضعت حملها، فجاء الولد شبيهاً بمن رماها به، فقال صلى الله عليه وسلم: (لولا كتاب من الله كان لكان لي معها شأن)، ومعنى هذا أن الحدود إذا أقيمت والقضاء إذا تم فإنه يفرغ من الأمر، والمقصود هو إقامة حد الله، أما إصابة عين الحق فليست بواجبة على البشر. |
صور الفراق بين الزوجين وما يترتب عليها
هذه الآية تسمى آية الملاعنة، وينجم عنها أن الإنسان إذا فارق زوجته فإن الفراق قد يكون بطلاق وقد يكون بلعان، والطلاق يقع في ثلاث صور فإما أن يقع طلاقاً رجعياً، وإما أن يقع طلاقاً بائناً بينونة صغرى، وإما أن يقع طلاقاً بائناً بينونة كبرى. فأما إذا طلقها طلاقاً رجعياً فإن له أن يراجعها ما دامت في العدة، وهو أولى بها، وهذا لا خلاف فيه. فإن طلاقها طلقة أو طلقتين وقضت العدة ولم يراجعها فقد بانت منه، ولكن هذه البينونة تسمى بينونة صغرى، بمعنى أن له أن يعود إليها، ولكن بعقد جديد ومهر جديد. وأما إذا طلقها ثلاثاً فإنها تبين منه بينونة كبرى، وهذه الحالة قال الرب فيها: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]. فلا بد من أن تتزوج غيره لتحل له. وأما الملاعنة فإنها إذا وقعت لا تحل المرأة للزوج بعدها أبداً ولا يحل لها، ولا يمكن أن يجتمعا مرة أخرى، ولو تزوجت عشرات الأزواج بعده؛ لأنه إذا وصل الأمر بهما إلى أن يتهم الرجل زوجته أو ينتفي الرجل من ابنه فإن هذا معناه أنه محال أن تعود المياه بعد ذلك إلى مجراها بينهما. وأما الصغير الذي تم التلاعن من أجله فإنه يلحق بأمه ولا ينسب إلى الزوج. |
توجيه ذكر اللعن في حق الرجل والغضب في حق المرأة
وبعض الفضلاء من أهل العلم يستعجل في فهم قضية اللعن والغضب، وكذلك بعض المعاصرين ممن هم إلى الثقافة أقرب منهم إلى التأصيل، فيقولون: إن الإسلام يشدد على المرأة؛ فالله تعالى قال في حق الرجل: وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النور:7]، وقال في حق المرأة: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا [النور:8-9]، فذكر في حق المرأة الغضب، وهو السخط، وهو أشد من اللعن، وهم يفقهون بادي الرأي أن المسألة فيها ميل إلى الرجل ضد المرأة. وليس الأمر كذلك لو تأملته، فالرجل إذا قذف امرأته فلو قدرنا أنه كان كاذباً فإن غاية ما يمكن أن يوصف به الرجل أنه كاذب قاذف فإن الحد في حقه هو حد القذف، فكذبه موازن لحد القذف، ولكن لو قدرنا أن الرجل كان صادقاً فيما رماها به وكانت المرأة كاذبة في البراءة فإنها تكون زانية، وأيهما أعظم: القذف أم الزنا؟ والجواب: الزنا، فاللعن مناسب للقذف ويلزم الرجل، والغضب مناسب للزنا، فليست القضية قضية تفريق بين رجل وامرأة، وإنما القضية أن الرجل إذا كان كاذباً في دعواه فغاية الأمر أنه قذف زوجته بما ليس فيها، فيصل إلى مرحلة القذف، وهذا حقه اللعن، ولكن المرأة إذا كانت كاذبة في دعواها البراءة فهي لا تصبح قاذفة كزوجها، بل تصبح زانية يقيناً. فإذا أصبحت زانية فإن الزنا أشد من القذف، إذ الزنا حده في المحصن الرجم، والقذف حده الجلد ثمانين، فاللعن يوافق حد القذف، والغضب يوافق حد الزنا. فليست القضية قضية ممالأة رجل ضد امرأة، وإنما القضية هي أن الغضب يوافق الزنا واللعن يوافق القذف، وهذا أمر يحسن تحريره. |
فائدة نحوية
ومن القضايا التي يتكلم عنها في هذه الآية المباركة جملة من القضايا النحوية، حيث يقول الله: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4]، فـ (جلدة) تمييز؛ لأنها تزيل الإبهام المتصل بالعدد، ويسمى عند النحويين: تمييزاً ملفوظاً، والتمييز الآخر يسمى بالتمييز الملحوظ. فالتمييز الملفوظ: يزيل إبهاماً في عدداً، أو مساحة، أو كيل، أو وزن. وأما الثاني فإنه يدخل في باب المعاني غالباً، فتقول: ازدانت المدينة مدخلاً، وطاب محمد نفساً. وهذا التمييز الملحوظ يصح فيه القلب، فتقول: طابت نفس محمد، وازدان مدخل المدينة. فهذه قضايا نحوية نراها مهمة في فهم كلام الله تبارك وتعالى. |
حكم قذف الوالد ولده
قلنا: إن الله جل وعلا تكلم في الآية الأولى عن حد القذف، وتكلم في الآية الثانية عن الملاعنة، وقلنا: إن الملاعنة إنما هي تخصيص عن حد القذف. وهنا مسألة تتعلق بالقضية، وهي ما لو قذف الوالد ولده، فحق الوالد على الولد عظيم، وفي الحديث: (أنت ومالك لأبيك)، ولما ذكر الله تعالى البيوت في آخر السورة ذكر بيوت الآباء وغيرهم من القرابة، ولم يذكر بيوت الأبناء؛ لأن بيت أبيك حق مشاع بالنسبة لك، فلم يذكره الله جل وعلا، فحق الأب شيء عظيم. فإذا قذف الوالد ولده فهل للولد أن يطالب بالحد أم ليس له ذلك؟ اختلف العلماء على قولين: فمنهم من قال: إنه يطالب أخذاً بعموم الآيات، ومنهم قال: إنه لا يطالب، أخذاً بالآيات الدالة على وجوب الإحسان إلى الوالدين، ولا شك في أن إقامة حد على والد بسبب ولده يعارض الإحسان. وإنك لتعجب من بعض الأقوال في هذه المسألة حين تقرؤها، ولكن العجب ينتفي إذا علمت أن الله كتب النقص على عباده. فقد قال بعض المالكية: إن له أن يطالب بحد القذف، ثم إذا أقيم الحد على الوالد يعتبر الولد عاقاً والعقوق كبيرة، فهل يعقل أن يقول قائل: إن حدود الله إذا نفذت تقود إلى الكبائر؟! هذا محال، فالقول هنا لا يستقيم. وعليه فإن على الإنسان إذا أراد أن يملي قولاً أو أن يظهر رأياً أو أن يحرر مسألة عليه قبل أن يعرض المسألة على الناس أن يعرضها على نفسه، فيدخل عليها الخوارم، ويحاكم نفسه بنفسه، وينصب العداء لنفسه في هذه المسألة، ويأتيها من كل شق، ويرميها بكل نبل، فإن ثبتت وتحررت وبقيت أخرجها للناس، وذلك خير له من أن ترمى. والناس يصنعون هذا جبلة من غير أن يشعروا، فقل أن يشتري أحداً دابة، أو يشتري قلماً إلا وقد حرره أو جربه قبل ذلك، وما يقال في الأمور المحسوسة ينبغي أن يقال في الأمور العلمية. |
حكم تنصيف حد العبد القاذف
وهنا قضية أخرى في قضية القذف، وهي أن العلماء ذكروا أن العبد إذا زنا يقام عليه الحد إذا كان بكراً نصف الجلد، أي: خمسون جلدة، فإذا قذف العبد أحداً فهل ينصف حد القذف أم لا؟ فذهب الجمهور إلى الأخذ بالقياس على حد الزنا، ونقل عن عمر بن عبد العزيز -واختاره الإمام الشنقيطي في تفسيره- أن القياس هنا غير صحيح، وأنه لا يقاس حد القذف على حد الزنا، وقالوا: إن الله تعالى قال في الإماء: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25]، فهذا أصل في حد الزنا فقسنا عليه الرجال، وأما حد القذف فهو غير حد الزنا، وهذا هو رأي عمر بن عبد العزيز ، فلا يرى أن حد القذف ينصف، وإنما يرى أن يجلد العبد إذا وقع منه القذف ثمانين جلدة كما يقع على الحر. |
لنظرة الشرعية إلى ولد الزنا
وهنا مسألة أخرى، وهي الوليد الذي ينشأ من الزنا، وهذه مسألة تكثر في كل زمان ومكان، وقد ساد أقوام من هذا الصنف، ومن أشهرهم تاريخياً زياد بن أبيه أحد أمراء العرب في عصر بني أمية، وقد استعمله علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وكان جباراً فتاكاً، فلما آل الأمر إلى معاوية طلبه وألحقه بهم وقال: إن أبا سفيان هو الذي كان سبباً في ولادته من امرأة كان يأتيها في الطائف، فكان يعرف بـزياد بن أبيه؛ لأنه لا يعرف له أب، ثم عرف بـزياد بن أبي سفيان . وقد ولي زياد العراق في أيام بني أمية، وهو صحاب الخطبة المشهورة بالبتراء، والبتراء هي المقطوعة، حيث صعد المنبر وقال دون أن يحمد الله أو أن يثني عليه أو أن يصلي على رسوله: أما بعد: فإن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء ما عليه سفهاؤكم، واشتمل عليه علماؤكم .. وأخذ يهدد ويوعد. وتسمى هذه الخطبة عند اللغويين بالموقف اللغوي الكامل، وذلك أن المواقف اللغوية تتكون من ثلاثة عناصر مرسل ورسالة ومستقبل، فإذا استطاع المرسل أن يتقن الرسالة وصلت الرسالة إلى المرسل إليه. فالرجل صعد على المنبر في قوم ذوي ثورة وتمرد على ولاتهم، فلا يحسن معهم الشفقة، فالموقف القوي يطلب منه أن يقدم رسالة يظهر فيها حزمه، فلهذا بدأها بغير حمد الله والثناء عليه. وإنما فعل ذلك لمناسبة الموقف، وهذا مثل ذبح الأضحية يوم العيد، فإنه لا يقال معه: بسم الله الرحمن الرحيم؛ لأننا لو قلنا: (الرحمن الرحيم) لما نحرنا ما بين أيدينا من الضأن. و لكن نقول: (باسم الله، الله أكبر) لمناسبة الموقف. وقد زعموا أن أبا عمرو بن العلاء كان راكباً على دابته، فمر بسوق النخاسين، وجملة من في السوق قوم لا يفقهون من اللغة إلا اليسير، وكان قد اختلط العرب بالعجم، وهو ضليع في النحو مغرق في مسائل الألفاظ العويصة، فسقط من فوق دابته فاجتمع الناس عليه خوفاً من أن يكون قد أصابه مكروه، فقال لهم: ما لكم تكأكأتم كتكأكؤكم على ذي جنة، افرنقعوا. فلم يقم أحد؛ لأن الموقف اللغوي هنا ناقص؛ إذ النحاة العالمين بـ (عسى) ولـ (عل) يفهمون مراده، فكيف يفهمه العامة؟! وقد أراد أن يقول: ما لكم تجمعتم علي كتجمعكم على رجل مجنون، انصرفوا. ولكن الناس لم ينصرفوا، ولم يتحركوا عنه؛ لأنهم لم يفقهوا شيئاً مما يقول. وغاية ما أردت بيانه هو شأن أمثال زياد ، فهذا الصبي الذي حصلت فيه الملاعنة جاء في المسند بسند فيه ضعف ولكنه يقبل في مسائل الأخبار أنه رؤي أميراً على إحدى الولايات في مصر. وبعض العلماء وهو يفسر القرآن نجده يلحظ هذه القضية، وذلك في قول الله تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء:71]، والمراد: بكتابهم؛ لأن الإمام ورد في اللغة بمعنى: الكتاب، وفي القرآن وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12]. فقال بعض المفسرين -وأظنه محمد بن كعب القرظي -: (بإمامهم) يعني: بأمهاتهم. فقيل له: لماذا لا يدعون بآبائهم؟! فقال: ستراً على أبناء الزنا؛ لأنه لا يعرف لهم آباء، وإظهاراً لشرف الحسن والحسين في نسبتهما إلى فاطمة ؛ لأن فاطمة بنت نبينا صلى الله عليه وسلم. والمقصود أن هذه الاستحضارات يستحضرها الناس أحياناً في الكلام عن القضايا، والتفسير علم مفتوح تلتقط أوراقه من هنا وهناك، وهذا كله يدخل في باب المعرفة. |
فضيلة الكف عن معايب الناس
وبقي الآن ذكر ما أراده الله من تحريك القلوب بذكر القذف وإيجاب الحد فيه، وذكر الملاعنة، فنقول: إن الإنسان كلما من الله جل وعلا عليه بحفظ لسانه من الخوض في أعراض الناس كان أقرب إلى ربه وأدنى إلى شرف المعالي. ولا يليق برجل يأمل يوماً أن يكون ذا شأن أن يشغل نفسه بالآخرين، وليس زعيم القوم من يحمل الحقد، والذين يحملون الحقد والحسد هم أكثر الناس حديثاً عن غيرهم؛ لأنه يضيرهم ما يرون من نعم الله جل وعلا على غيرهم، فيدفعهم ذلك الحسد الذي في قلوبهم إلى أن يلفقوا الأخبار ويصطنعوا الأحاديث على سواهم، فينجم عن ذلك انتقاص الناس، فيسلط الله جل وعلا عليهم من يكشف عيوبهم. ولكن العظيم الشأن الذي أرجو الله أن نكون مثله يترفع عن مثل هذه الأمور ولا يعبأ بها ولا ينظر إليها، وإنك لن تغيظ عدوك بأكثر من أن تظهر عدم مبالاتك به، يقول المتنبي : أفي كل يوم تحت إبطي شويعر ضعيف يقاويني قصير يطاول لساني بنطقي صامت عنه عادل وقلبي بصمتي ضاحك منه هازل وأتعب من ناداك من لا تجيبه وأغيظ من عاداك من لا تشاكل فالإنسان إذا أراد أن يقهر عدوه فلن يجد شيئاً يقهره به مثل ترفعه عن مجاراته، وقد قال أبو تمام : إذا جاريت في خلق دنيئة فأنت ومن تجاريه سواء رأيت الحر يجتنب المخازي ويحميه عن الغدر الوفاء فهذه جملة من الآداب واللافتات المعرفية والعلمية حول هاتين الآيتين المباركتين من سورة النور يسر الله جل وعلا أن نقوله ونمليها، والله المستعان وعليه البلاغ. وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين. |
حفلت سورة النور بذكر حادثة الأفك المفترى على الطاهرة المطهرة الصديقة بنت الصديق الأكبر عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وقد تضمنت آياتها براءة عائشة وصفوان رضي الله تعالى عنهما، وذكر من تولى كبر الحادثة، وهتك أستار المنافقين، وبيان الواجب على المؤمنين في هذه القضية ونحوها، وبيان جوانب الخير في الحادثة، كما تضمنت الدعوة إلى الصفح والعفو عن المسيء، وبيان جرم قاذف المؤمنات المحصنات، وغير ذلك من الأمور العظيمة.
|
ذكر حادثة الإفك
الحمد لله وحده حمداً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا الدرس تابع لما كنا قد تكلمنا فيه من سورة النور، وقد ذكرنا في درسين سابقين ما كان فيهما من أحكام في صدر السورة. والآن ننتقل إلى الآيات المعنية بقصة الإفك: وهي آيات تنتهي عند الآية السادسة والعشرين من هذه السورة المباركة، وقصة الإفك تناولها أصحاب السيرة كما تناولها المفسرون، لعلاقتهما بالأمرين في حق النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن القرآن هو الذي نزل ببراءة عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها. وقبل أن أشرع في التفسير، وبيان ما ذكره العلي الكبير في كلامه أقول: إن النبي عليه الصلاة السلام جاء بدين جديد على خلاف ما كان عليه قومه، فواجهه قومه بأن اتهموه بالسحر والكهانة والجنون وغير ذلك، ومثل هذه الاتهامات قد وطن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على مقابلتها، فهي من جنس ما كان يتوقعه من أذى وصدود ورد لدعوته ممن لم يؤمن بها، ولكن حديث الإفك كان ابتلاء من نوع آخر، ولا يوجد ابتلاء في السيرة العطرة والأيام النضرة في حياته صلى الله عليه وسلم مثيل له، ولهذا قال الله: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا [النور:17]. فهو حدث لم يتكرر، ونوع من البلاء لم يقع إلا مرة واحدة في غزوة المريسيع، واستصحاب هذا عند تفسير القرآن أو تفسير هذه الآيات المعنية بحديث الإفك أمر مهم جداً لطالب العلم في التأمل في كلام الله جل وعلا، فبعض الآيات والأحداث تتكرر؛ لأن الابتلاء فيها ينضوي تحت خيمة واحدة، أما هذا الابتلاء فلا ينضوي تحت أي خيمة، وإنما هو مستقل لوحده، لم يعهده النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، ولم يعهده في المدينة، إلا ذلك الحين، ثم انجلى بعد شهر من الأسى بإنزال الله جل وعلا قوله: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [النور:11]، وهو أول ما سنفسره، إلى قوله سبحانه وتعالى: أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [النور:26]. هذا الأمر الأول. الأمر الثاني: أن الناظر في القرآن لا ينبغي له أن يحكمه شيء واحد، وإنما هي معانٍ تقرب للناس، بحسب فهمنا لكلام الله، وإلا فلن يصل تعبيرنا عن مراد الله إلى المعنى المقصود الأسمى؛ لأن تعبيرنا وفهمنا لكلام الله لن يصل أبداً إلى نص القرآن نفسه، فنص القرآن مقدس، ومقاربة العلماء لذلك النص غير مقدسة. |
الشخصيات المذكورة في قصة الإفك
سنتكلم ابتداءً عن الشخصيات التي تتعلق بقصة الإفك، حتى إذا شرعنا بعد ذلك في تفسير الآيات كانت الصورة واضحة جلية. فأول تلك الشخصيات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو غني عن التعريف، ثم الصديق لكونه والداً لـعائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، ثم أم رومان أم عائشة رضي الله عنها، وزوجة أبي بكر ، وهؤلاء الثلاثة قد لا يكونون مقصودين بالأمر، وإنما ينصرف الأمر أول ما ينصرف إلى عائشة وإلى صفوان بن المعطل . فأما عائشة فهي الصديقة بنت الصديق ، رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وهي أشهر من أن تعرف بها، ولكن نعرف بالشيء الذي تعلق بالقضية، فقد رزق النبي صلى الله عليه وسلم حبها، وأتاه جبريل بصورتها سرقة من حرير، وفي رواية: في كفه، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أنها ستكون زوجته، وقال: (إن يرد الله خيراً يمضه)، أو: (أن يرد الله شيئاً يمضه)، ثم كانت زوجته رضي الله تعالى عنها وأرضها، فبعد الهجرة بنى بها النبي صلى الله عليه وسلم في شوال. وهذه المباركة أنزل الله جل وعلا فيها هذه الآيات بياناً لبراءتها، وتوفي النبي عليه الصلاة السلام بين سحرها ونحرها، ودفن في حجرتها رضي الله تعالى عنها وأرضاها. وأما من رميت به فهو صفوان بن المعطل السلمي ، أحد خيار الصحابة، ومما يدل على أن الله جل وعلا أراد به خيراً أنه مات شهيداً، والظفر بالموت شهادة ليس بالأمر الهين، فقل ما يعطاه أحد، والله تعالى يقول: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140]، وليس كل أحد يتخذ شهيدا. فـصفوان بن المعطل لما رآها قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فكان ذلك سبباً في نجاته كما سيأتي. ومن الشخصيات شخصيات خاضت في الأمر بشدة، وبعضها تولى كبر الأمر، وهو عبد الله بن أبي المنافق الخزرجي النسب، قدم النبي عليه الصلاة السلام المدينة وكان القوم من الأوس والخزرج قد أجمعوا أمرهم على أن يولوه ملكاً عليهم، ولهذا اغتاظ من قدوم النبي عليه الصلاة السلام إلى المدينة. ومن تلك الشخصيات حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمشهور عند العلماء أنه وقع في الأمر، وشارك في نشره، وحمنة بن جحش أخت زينب بنت جحش زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، المنافسة لـعائشة في الخطوة عند رسول الله عليه الصلاة السلام، فلو قدر أن زينب هي التي شاركت لكان الأمر فيه بعض العذر، لا بعض الجواز؛ لكونها منافسة لـعائشة ، ولكن الورع عصمها، ولم تقل كلمة واحدة في عائشة . لكن حمنة أختها انتصرت لها، والإنسان قد تغلب عليه العاطفة، فيريد أن ينفع غيره فيضر نفسه ويضر غيره، وربما لا يصل إلى ضرر غيره، كما فعلت حمنة ، فـحمنة لا علاقة لها بـعائشة ؛ إذ هي زوجة لـطلحة ، ولكنها أرادت أن تنصر أختها، فشاركت في النقل لعلها تصيب من ذلك نقصاً في عائشة ، ولا تعتقد صحة ذلك؛ لأن الله قال: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ [النور:15] فلا يوجد من ذلك شيء مستقر في القلب، ولكنها أرادت نصرة أختها، فنصرتها لأختها أعمت بصيرتها عما تنظر إليه. ومن تلك الشخصيات مسطح بن أثاثة أبن خالة لـأبي بكر ، كان فقيراً مستضعفاً، وكان أبو بكر ينفق عليه، فشارك في قضية إشاعة الأمر، وهو بدري، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (... لعل الله أطلع على أ هل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) وليس المعنى: إنني قد أذنت لكم بالمعاصي. إذ لو كان المقصود هذا لما عوتب مسطح هنا، ولما أقيم عليه الحد. وأبو أيوب الأنصاري كان أحد الذين عصمهم الله هو وزوجته، فقالا خيراً، وقالا عن ذلك الإفك: هو الكذب بعينة. ومنهم الجارية التي سألها النبي عليه الصلاة السلام، فبعض أهل العلم يقول: إنها بريرة ، وبعضهم يقول: إن بريرة لم تكن بعد في عهدة عائشة ، وكيفما كانت تلك الجارية فإنها امرأة عصمها الله، فقالت: يا رسول الله! أهلك ولا أعلم إلا خيراً . وذكرت عن عائشة أنها امرأة تغفل عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله. ومنهم أسامة بن زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان من الشخصيات الحاضرة في القصة، استشاره النبي عليه الصلاة السلام فقال: يا رسول الله! أهلك ولا نعلم إلا خيرا. وعبارة (ولا نعلم إلا خيرا) تدل على كمال عقل، فهي ليست مفرطة في المدح، ولا تقارب الذم أبداً، ولكنها في نفس الوقت فيها شيء من التزكية، وهي عبارة لو استخدمها المزكون اليوم لكان ذلك جيداً. ومنهم علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، خاتم الخلفاء الأربعة، ورابع الحنفاء رضي الله عنه وأرضاه، وقد قال: يا رسول الله! النساء غيرها كثير. وليس المقصود اتهام عائشة ، ولكن علياً ليس كـأسامة ، فـأسامة مولى لا يلحقه عيب لو وقع الأمر حقاً، أما علي فهو ابن عم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلاهما ينتسب إلى بني هاشم، فهو عصبة لرسول الله، والرسول صلى الله عليه وسلم عصبة له، فهو ينظر من باب أن الأمر يتعلق ببني هاشم وزوجاتهم، فأراد أن يغلق الباب، ويسد على الناس طرائق أقوالهم، ولم يرد أن يتهم عائشة ، ولكنه ملف أراد أن يغلقه، وقضية لا يريد لها أن تثار، هذا هو المقصود من قول علي رضي الله تعالى عنه: (النساء غيرها كثير) يعني إن تعلق قلبك بها حباً، فتزوج غيرها ينسيك إياها، وانفك من مسألة أن يقدح الناس فيها، هذا هو مقصود قول علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وقد قالت الصديقة بنت الصديق رضي الله تعالى عنها وأرضاها بعد سنين من هذه الحادثة: إن علياً لم يكن بيني وبينه إلا ما يكون ما بين المرأة وأحمائها، أي: قرابة زوجها. فهذه هي الشخصيات التي يأتي خبرها في قصة الإفك، وهناك شخصيات غير مسماة، وهم عامة المؤمنين، وعامة المنافقين، ولكن هؤلاء أفراد مميزون جاء ذكرهم في القصة. وقد وقعت الحادثة في غزوة المريسيع -غزوة بني المصطلق- في السنة الخامسة تقريباً، قبل دخول المدينة في منطقة تسمى العشيرة إلى الآن، تبعد عن المدينة قرابة عشرين أو ثلاثين كيلو متر، بعد الخروج من المدينة بطريق الهجرة الجديد، فهذا هو المكان، وهذا هو الزمان، وأولئك هم أفراد القصة. أما القصة إجمالاً فحاصلها أن النبي عليه الصلاة السلام كان إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه ابتغاءً للعدل، وفي هذه الغزوة جاءت القرعة لـعائشة بقدر الله، فخرج عليه الصلاة والسلام بـعائشة وأتى المريسيع، فحصل ما حصل من سبي وبعض قتال، واقتتال على الماء ومناوشة بين المهاجرين والأنصار أراد أن يثيرها عبد الله بن أبي ، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهي القضية، فأمر الركب بالرحيل في غير ساعة يرحلون فيها، ففقدت أم المؤمنين عقداً كان عليها، والعقد هو ما يحيط بالعنق، يراد به الزينة، فإذا أحاط بالمعصم سمي سواراً، فإذا أحاط بالإصبع يسمي خاتماً. فلما فقدت أم المؤمنين عقدها ذهبت إلى ذلك المكان الذي يرجى أن يكون فيه، وفي تلك اللحظات رحل الجيش، وكان هناك أناس مسئولون عن هودج أم المؤمنين، وكانت امرأة نحيلة؛ إذ كانت في قرابة الرابعة عشرة من عمرها، وقليلاً ما تأكل اللحم، ولم يمض على زواجها إلا ثلاث سنين أو أربع على الأكثر، فالهودج التي هي فيه، لا يكاد يختلف على أشداء الرجال، وإنما يختلف عندما يكون الذي يحمله ضعيفاً، ولكن أشداء الرجال الذين يحملون امرأة في الرابعة عشرة لم يظهر لهم فرق، فحملوا الهودج وهم لا يشكون في أن أم المؤمنين فيه، فعادت فلم تجد نبي الله عليه الصلاة السلام، ولم تجد القوم جميعاً، ولا يمكن لها أن تنطلق، فذهبت إلى شجرة في نفس المكان، فوضعت عليها لثامها وجلست، فغلبها النوم بقدر الله، وكان صفوان بن المعطل قد كلف بساقة القوم، فتأخر عن الجيش ليمضي قدر الله، فلما أتى إلى المكان الذي كان فيه الجيش وجد الجيش قد ذهب، وهو يعلم ذلك، ولكنه وجد خيالاً، فاقترب منه فإذا هو أم المؤمنين، وكان يرها قبل الحجاب، فعرفها، ولن تخفى عليه، إذ كان مجتمع المدينة صغيراً، وقد لا يعرف كل صغيرة وكبيرة، ولكن الإنسان لا يجهل أن تكون هذه امرأة فلان إذا رآها مرة أو مرتين، فاقترب منها، وألهمه الله تعالى أن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وإذا أراد الله شيئاً هيأ له أسبابه، ومن أراد الله أن يرحمه فتح له طرائق الرحمة، وألهمه ما يقول، وأعانه على ما يفعل، وينبغي أن تعلم أنه ما يرفع شيء من الأرض إلى السماء أعظم من الإخلاص، ولا ينزل شيء من السماء إلى الأرض أعظم من التوفيق. فلما سمعت عائشة استرجاع صفوان أفاقت على استرجاعه، فلم تتكلم، فأناخ الناقة، وركبت أم المؤمنين، ولم يكلمها ولم تكلمه، وهو يعلم قطعاً أنه سيتعرض للبلاء، أما هي فكانت صغيره في الرابعة عشرة، فربما لم يدر بخلدها أن يتكلم فيها. وقبل أن يصل الجيش إلى المدينة أناخوا المطايا في عز الظهيرة في منطقة تسمى العشيرة الآن, وكانوا في منطقة مكشوفة، فإذا بـصفوان يقبل وأم المؤمنين على ناقته، وهو يقود الناقة، فرآهما عبد الله بن أبي ، فطار فرحا، فقال بصوت يسمع ولا يسمع -أي: يسمعه الضعفاء الذين لا يمكن أن يشهدوا به، وهم قادرون على أن ينقلوه، ولا يسمعه من يستطيع أن يأتي شاهداً عليه- قال: امرأة نبيكم مع رجل! والله ما نجت منه ولا نجا منها! كلمة تكاد تسقط لها بعض الجبال، ولا أقول: الجبال كلها؛ لأن هذا يقال في حق الله فقط. فلما قال ذلك انتشرت الكلمة، وأم المؤمنين لا تدري، فلما رجعت أصابتها وعكة في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعل ذلك كونها عائدة من سفر، ولكن الأمر أذيع وأشيع، وبلغ النبي عليه الصلاة السلام، فرأت في النبي عليه السلام تغيراً في معاملته، وذلك اللطف الذي كانت تعهده منه قل أو تلاشى قليلاً، ولم يدر بخلدها أن يكون ذلك بسبب شيء سمعه عنها. ثم قدر لها أن تتعافى تدريجاً، فخرجت مع أم مسطح -أحد الذين ساهموا في نشر الأمر- إلى الصحراء، لقضاء الحاجة، ولم يكن للعرب يوم ذاك عهد بتلك الأمور، فلما خرجتا كانت هذه المرأة تريد أن تدخل عائشة في القضية، فقد علمت أن عائشة لا تعلم، بدليل أنها لو كانت تعلم لسألتها عن خوض ابنها في ذلك، ولكنها لم تسألها، فأرادت أن تشركها في القضية، فبدأت تتعمد التعثر، وإذا تعثر الإنسان فجأة فإنه تصدر منه كلمات من باب ردة الفعل، فلما عثرت قالت: تعس مسطح . ولا يوجد ارتباط بين مسطح وبين سقوطها في البرية، فـعائشة أنكرت ذلك، ولو قالت كلمة مألوفة لما أنكرت عائشة ، وهي لا تريد أن تقول كلمة مألوفة، بل تريد أن تقحم عائشة في القضية، وتريد أن تفتح باباً للحديث، فرددتها مرتين، فتعجبت أم المؤمنين، فقالت: سبحان الله! رجل شهد بدراً تدعين عليه! أو كلمة نحوها، فقالت: يا هنتاه -وكانت عائشة بجوارها- و(هنتاه) كلمة تقال للبعيد، ولكنها تريد أن تبين لها أنها امرأة تعيش في عالم آخر، ولا تدري بما يحصل في الساحة، وإلا لقالت: يا هذه، فقالت: يا هنتاه! أما علمت؟! ثم أخبرتها، فقالت: سبحان الله، وتحدث الناس بهذا؟! قالت: نعم، فرجعت وازداد مرضها، حيث أصبح ذلك هماً وغماً، ومرضاً قلبياً، ثم سألت أمها، فقالت لها أمها تريد أن تخفف وطأة الأمر عليها: يا بنية! إنه قل أن تكون امرأة وضيئة -أي: مثلك- لها حظوه عند زوجها، ولها ضرائر، إلا أكثرن عليها. فازدادت حزناً على حزن رضي الله عنها وأرضاها، وكل هذا يحصل والوحي لا ينزل بشيء، ولا ينزل قرآن من السماء، ونبي الأمة ورأس الملة يتهم في زوجته، ولكن الله جل وعلا أراد أن يمحص بشريته عليه السلام من نبوته. فأي شيء عظيم تريد أن تكشفه إذا كان مختلطاً بغيره، وتريد لمعانه أخرجه عن غيره، حتى يظهر جلياً بيناً؛ لأنه حين يكون وسط الأشياء التي تشوبه وتختلط به لا يظهر. فالله جل وعلا أراد هنا أن يميز نعمة النبوة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لتكون منفكة عن بشريته، فبشريته ذهب يستشير، ودعا الجارية، ودعا أسامة ودعا علياً ، وصعد المنبر وقال: من يعذرني في رجل بلغ أذاه أهلي. ويختصم الحيان الأوس والخزرج، فما يزال بهما حتى يسكتهما، ويذكر عن صفوان أنه ما علم فيه إلا خيراً، فقال: لقد ذكروا لي رجلاً -يقصد صفوان - لا أعلم عنه إلا خيراً، ولا يدخل على أهلي إلا معي. أي: هم لا يتحدثون عن رجل وجدته مرة مع أهلي، أو رأيته يطلع على أهلي، وإنما يتكلمون عن رجل لا أعلم عنه إلا خيراً، ولا يدخل على أهلي إلا معي، فيتجنب أن يأتي البيت وأنا غير موجود، فبعيد جداً أن يتهم، وهذا كله كلام بشر يحصل في أي مجتمع، ويقوله أي فرد؛ فالوحي منفك في هذه القضية، وليس معنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن نبياً في تلك الفترة، فهذا محال، بل هو نبي في كل حال، ولكننا نتكلم عن تصرفه مع هذه الحدث، فهنا يتصرف ببشريته عليه الصلاة والسلام، فلما استغرق الجهد البشري جاء الوحي الرباني والتنزيل الإلهي ليفصل في القضية. ثم دخل عليه الصلاة والسلام على عائشة وقد استأذنته من قبل أن تمرض عند أبويها، ولك أن تتصور موقف خير الأصحاب، فقد كان يعرف النبي صلى الله عليه وسلم منذ أن كان عمره ثمانية عشر عاماً، وكان صديقاً له مدة تزيد على عشرين عاماً، إذ لما جاء الإسلام كان عمر الصديق ثمانية وثلاثين عاماً، ثم بعد ذلك صار صاحباً له بتعبير القرآن، وعاش معه كل سنين العذاب في مكة في المرحلة السرية والجهرية، ثم كان معه في المدينة، وفي بدر وأحد والخندق، ثم تعود ابنته زوجة ذلك الصاحب إليه متهمة بأنها خانته في عرضه، فهذا شيء مذهل بالنسبة للصديق ، ولكنه الأدب؛ إذ لما سكت الله فما أنزل شيئاً سكت رسول الله فما حكم بشيء، فلما سكت رسول الله سكت أبو بكر، فما استطاع أن يدافع عن ابنته ولن يتهمها، ولكنه سكت لسكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعود إليه ابنته متهمة فيظل يبكي رضي الله عنه وأرضاه، حتى ورد في بعض الروايات أنه كان يقرأ القرآن على سطح المنزل، فيسمع ابنته تبكي فيبكي، ولكن الأدب منعه أن يتكلم بكلمة واحدة. ثم دخل نبينا صلى الله عليه وسلم يعرض الأمر مكشوفاً على عائشة فقال: إن كنت أذنبت فاستغفري، وإن كنت بريئة فسيبرئك الله، فقالت كلاماً، ثم قالت: ما أقول لكم إلا كما قال أبو يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يوسف:18]. تقول: (كما قال أبو يوسف) فنسيت اسم يعقوب، وفي هذه اللحظات انقطعت كل الطرائق الدنيوية، فمن كان حول النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال مشورته، وأبو بكر سكت، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يدر كيف يفصل في القضية، والمرأة تبكي، فأنزل الله جل وعلا قوله: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [النور:11]، وما زال الوحي يتنزل عليه حتى انفصم عنه صلوات الله وسلامه عليه وأن جبينه ليتفصد عرقاً. فكانت هذه هي براءة عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، ونهاية شهر الأسى في حياة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فقال لها: احمدي الله. ففرح الأبوان أبو بكر وأم رومان ، فقالا لها: قومي إلى رسول الله. فقالت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله. وليس المقصود أنها غضبت على نبي الله صلى الله عليه وسلم، حاشاها، فهذا لا يقع في قلب أي أحد من المسلمين الصادقين، ولكنها أرادت أن تبين جلالها وفضلها وحقها على رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. والمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا القرآن وأظهر بما تلاه من كلام الله براءة أم المؤمنين وصفوان بن المعطل رضوان الله تعالى عليهما، فهذا هو مجمل حديث الإفك كما وقع في صحيح الأخبار وصريح الآثار. |
تفسير قوله تعالى: (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم ..)
قال الحق تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [النور:11]. قوله: (جاءوا بالإفك) أي: ابتدعوه؛ لأنه ليس له أصل، والإفك: الكذب، وهو أقبح الكذب؛ لأن الإفك هو القلب، كما قال الله جل وعلا: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى [النجم:53]، والمؤتفكة: قوم لوط، وسموا مؤتفكة لأن الله قلب عليهم بلدتهم فجعل عاليها سافلها، فـالصديقة رضي الله عنها وأرضاها أهل لكل فضيلة، فكيف ينسب إليها أعظم شيء في الرذيلة؟! فهذا قلب للحقائق، ولهذا سماه الله جل وعلا إفكا فقال: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [النور:11]، والعصبة: الجماعة دون الأربعين. |
بيان معنى قوله تعالى (لا تحسبوه شراً لكم ...)
قال تعالى: لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:11]. كما قال تعالى في سورة القمر: وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ [القمر:3] فالعبرة بالنهايات، فالنقص في البدايات لا يدوم، بل العبرة بما استقر عليه الأمر، وهو المطلوب والمقصود، وقد استقر الأمر على براءة عائشة وصفوان قال الله تعالى: لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ [النور:11]. وبعض العلماء رحمهم الله يقول: إن المقصود صفوان وعائشة ، ولكن الله جمع من باب ما هو كائن في أساليب لغة العرب، وهذا بعيد، وإن كان هذا الأسلوب موجوداً في لغة العرب، ولكن لا يمكن حمل المعنى هنا عليه، بل المعنى أن الأمة كلها تستفيد من هذا الحديث، فأما الذين ظُلِموا في الإفك فهو رفع لدرجاتهم، وشرف لهم أن يذكروا في القرآن، وأن تنزل براءتهم في القرآن. وأما الذين لم يذكروا من المؤمنين المعاصرين للحدث، أو المؤمنين الآتين بعد نزول الآيات، فإن في ذلك موعظة وأدباً لهم لاختيار هدي الله جل وعلا في تربية المجتمع، على أنه ينبغي أن يعلم أنه لا يوجد خير محض ولا شر محض، بل الأمور بالغالب، وأما الخير المحض ففي الجنة، والشر المحض في النار. قال تعالى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ [النور:11] أي: من الذين خاضوا في الإفك مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ [النور:11]. و(اكتسب) توافق (كسب) إلا أن العرب في فصيح كلامها تستعمل (كسب) في الخيرات، و(اكتسب) في الآثام. قال تعالى: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ منهم [النور:11] أي: تولى أصل القضية وحرص على إذاعتها وتبنى إشاعتها لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:11] والمقصود به عبد الله بن أبي بن سلول . |
تفسير قوله تعالى: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً ...)
وأما الآداب الناجمة عن الحدث فقد جاء تفصيلها بعد أن ذكر الله الحدث جملة وبين أن الأصل فيه أنه خير للناس، فقال جل ذكره: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا [النور:12]. وكلمة (أنفس) هنا دلالة على أن المجتمع المسلم مجتمع واحد، وهذه طريقة القرآن كما قال تعالى: وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ [الحجرات:11]، اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:66]. وقوله تعالى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا [النور:12] هذا الذي وقع من أبي أيوب الأنصاري . وإذا كان الإنسان أصلاً يظن بنفسه الخير، فكيف الظن بأم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها؟! قال تعالى: وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ [النور:12]. أي: كان الواجب أن يقال: إن هذا إفك واضح ظاهر بين، لا أن يخاض فيه. |
تفسير قوله تعالى: (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء ...)
وبعد أن خاطب الله جل وعلا المؤمنين بما ينبغي عليهم أن يفعلوه خاطب جل وعلا أولئك الذين تولوا الأمر، فقال الله تبارك وتعالى: لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النور:13]. وقد بينا أن هذا مرتبط بأول القصة، لأن الله ذكر في أول السورة قضايا القذف، وأن القذف يشترط فيه أربعة من الشهود، وإنما استثنى الله جل وعلا من هذا الإجمال الزوج إذا رمى زوجته، وليس هنا زوج يرمي زوجته، وإنما هم أناس يرمون زوجة نبيهم. فالاعتبارات والمعايير الشرعية المطلوبة هنا هي أربعة شهداء، حيث قال الله: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النور:13]، والكذب على الله أعظم الذنوب، ثم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الكذب على الناس. |
تفسير قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ...)
قال الله جل وعلى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:14]. (لولا) حرف امتناع لوجود، ويليها عند سيبويه المبتدأ، ويحذف خبرها غالباً، كما حرره ابن مالك بقوله: وبعد لولا غالباً حذف الخبر حتم وفي نص يميز ذا استقر وذلك كقولك: لولا زيد في هجر، أي: لولا زيد موجود في هجر. فـ (فضل) هي المبتدأ، وجواب لولا هو قول الله تعالى: لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:14]. أي أن الله جل وعلا رحمكم، وأعطاكم مهلة للتوبة، وعفا عنكم في كونكم لم تنكروا إنكاراً جلياً واضحاً على من خاض في الإفك، وإلا فإن ما وقعتم فيه أمر يستوجب أشد العذاب، ولكن رفع عنكم بسبب فضل الله جل وعلا ورحمته لكم. |
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() الساعة الآن 06:43 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. Designed & TranZ By Almuhajir