![]() |
تفسير قوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم ...)
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فما زلنا -بعون الله تعالى- في تفسير سورة النور، سائلين الله أن يرزقنا وإياكم نوراً نهتدي به. قال الله جل وعلا -وهو أصدق القائلين-: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32]. هذه الآية جاءت تبعاً لما قبلها، وما قبلها ذكر الباري جل وعلا فيه ما يدعو إلى غض البصر وحفظ الفرج وتحصين العورات، وقد جاء القرآن مسلسلاً ذلك الأمر بحسب أحوال الناس، فمنع الله جل وعلا دخول البيوت بلا استئذان، وأمر بغض البصر، ثم أمر بحفظ الفرج. ولكي تكون هناك نواة لمجتمع مسلم كان لا بد من وجود أسرة، وبعض أهل الفضل والعلم يقول: إن هناك أمرين لا بد للإنسان من أن يطلع عليها شرعاً، وهما أحكام النكاح وأحكام البيوع؛ لأن الإنسان بحاجة إلى الغذاء الذي يحصل عليه عن طريق الأخذ والعطاء، وفي حاجة إلى أن تكون له أسرة، ويعبرون عن ذلك بالنكاح أو بالزواج، فيحتاج إلى أن يكون ذا علم بأحكام النكاح، وهذا من باب الجملة. والرب جل وعلا هنا يقول: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ [النور:32] وقوله: (أنكحوا) فعل أمر، ووجود فعل أمر لا بد من أن يكون معه مأمور، والمأمور بهذه الآية قطعاً وفق قواعد اللغة هم الأولياء والسادة، وليس كل أحد مأموراً بنفسه؛ لأنه لو كان كذلك لجاء الفعل: (وانكحوا) من غير همزة قطع، لكنه جاء هنا بهمزة قطع وَأَنكِحُوا [النور:32]، فهذا في المقام الأول يخاطب به الولي ويخاطب به السيد. يقول ربنا جل وعلا: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32] و(الأيامى) يدخل فيه الرجال والنساء، والأصل أن الأيم هي من لا زوج لها، أو فقدت زوجها، ثم استخدمت هذه اللفظة مجازاً أو استعارة، فأطلقت على الرجل والمرأة إذا كان أحدهما لا زوج له، والأصل إطلاقه على النساء، وهو الأكثر. وقد جاء فيه قول الشاعر: وأزواج سعد ليس فيهن أيم وهو بيت قدح فيه في سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فدعا على من قال فيه هذا البيت فداهمه جمل شارد فقتله. والشاهد كلمة (أيم) فالأيامى: جمع أيم، وهذا خطاب للأحرار، والدليل على أنه خطاب للأحرار أن الله قال بعد ذكر ما يتعلق بالأرقاء والمماليك من العبيد والإماء: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ [النور:32] أي: زوجوهم. وقد اتفقت كلمة العقلاء على أن النكاح أفضل وأعظم المباحات ظهوراً، فالمباحات يتردد منها ما اتفق على أنه مباح، ومنها ما اختلف فيه، ومنها ما يدور حول الكراهة، ولكن الإجماع منعقد على أن النكاح من أفضل المباحات ظهوراً من حيث الحكم الشرعي، فقد جعله الله سنة من سنن الأنبياء والمرسلين، كما قال جل وعلا: وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد:38]. وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في حق من استحدث هدياً غير هديه: (وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) فالنكاح أعظم ما أباحه الله جل وعلا لعباده، ويترتب عليه مصالح عظيمة، وقد قال بعض الفقهاء: إن النكاح تدور عليه الأحكام الفقهية الخمسة، والعلم عند الله. |
بيان المراد بالصالحين من العبيد والإماء
قال الله تعالى: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32]، ونكاح الإماء والعبيد جاء مقروناً مقيداً بقوله جل وعلا: وَالصَّالِحِينَ [النور:32]، واختلفت كلمة المفسرين في المقصود بمعنى الصالحين هنا على قولين: فقال بعضهم: إن الصلاح المقصود به الصلاح الإيماني، بإتيان الطاعات واجتناب المحرمات، وهذا ظاهر الرأي. وقال آخرون -وهو الذي أرجحه-: إن المقصود أنهم صالحون للنكاح، وصالحون لأن يرعوا أسراً، وصالحون لبيت الزوجية؛ لأن الصلاح الأول عام لا يمكن تخصيص الإماء والعبيد به دون الأحرار، لكن الثاني يحسن التخصيص به؛ لأن الإنسان إذا رأى في عبده قدرة على النكاح وإقامة بيت زوجية رغبه في ذلك الأمر، وإلا فالأصل أن يبقيه على ما هو عليه في نطاق العبودية. |
بيان المراد بقوله تعالى (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله)
قال الله جل وعلا: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32] هذه الآية توافق ما كان عليه الناس آنذاك، فقد كانت العرب في جاهليتها كانت تخشى الفقر، وكانت تظن أن من أسباب الفقر كثرة العيال، فقال الله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [الإسراء:31]، وقال: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:151] . والمقصود أنه في ظل هذا الجو الخائف من الفقر عند فتح باب الزوجية إذا كثر العيال وتغير الحال قال الله جل وعلا: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32] والمعنى: أيها الولي! إن أتاك فقيراً يطلب نكاحاً وكنت تثق به في دينه وأمانته فلا يجعلنك كونه فقيراً ترده، بل زوجه، قال الله: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]. ولا خلاف في أن الجملة شرطية، وأدوات الشرط تنقسم إلى قسمين: الأول: أحرف، وهي (إن)، والثاني: أسماء، مثل (متى) و(أين)، فهذه أدوات شرط لكنها أسماء، وأما (إن) فهي حرف. وهذا الشرط اختلف الناس في فهمه، فهل المعنى أنه وعد من الله جل وعلا بأن المتزوج إذا كان فقيراً سيغنيه الله قطعاً، أم أن المقصود منه أنه لا يمنعنكم كونه فقيراً من أن تزوجوه؟ وهذا الذي تميل إليه النفس، وإن كان الأكثرون من أهل التفسير على الأول، ولهم حجج ظاهرة بينة. أظهرها أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الذين كان حقاً على الله أن يغنيهم ويعينهم، وهم: الناكح الذي يريد العفاف، والمكاتب، والمجاهد، وهذا قول نبينا صلى الله عليه وسلم. وقد وجه للقائلين بهذا القول سؤال، وهو أننا نرى واقعاً، وهو أن هناك من ينكح ولا يغنى، والواقع لا يمكن رده؛ لأن الواقع في عرف الفضلاء والعقلاء أعظم الشهود، والدين لا يمكن أن يصادم الواقع أبداً، وقد ألف شيخ الإسلام (درء تعارض العقل والنقل)، والمقصود بالعقل في المقام الأول الشيء المشهود الواقع؛ لأنه لا يمكن أن يطالب الناس بأن يتخلوا عن أعينهم وبصيرتهم ويمتنعوا عن قبول الشواهد التي يرونها عياناً. فأجاب هؤلاء الفضلاء عن القول بأننا نرى من ينكح وهو فقير فقالوا: إن الإطلاق في سورة النور مقيد بنظائره في سور أخرى، كقوله تعالى: فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ [التوبة:28]، فقالوا: هذا القيد يسري على هذا. ولكن صناعة الأصول تقتضي عدم حمل الإطلاق على هذا التقييد لاختلافهما في السبب، واختلاف السبب يمنع جريان أحكام الإطلاق والتقييد على منحى واحد، وفي المسألة أخذ ورد بين العلماء، ولكننا هنا نثير القضية بمجملها، ولا يلزمنا الفصل، ولكنني قلت: أختار أن المقصود من الآية أن المخاطب الولي، والمراد: لا يمنعنك فقر ذلك الرجل الطالب النكاح أن ترده لفقره؛ لأن الدنيا عرض زائل ولا ينبغي أن يمنعك ذلك. ثم إن فضل الله واسع، ولا يعني ما قلناه أنه لا يعان، ولكن من الصعب أن نقول: إن هذا وعد من الرب تبارك وتعالى؛ إذ أسلوب المقطع في نفس الآية لا يساعد على القول بأن يكون ذلك وعداً من الله. |
تفسير قوله تعالى: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنهم الله من فضله)
ثم قال جل شأنه: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33]. الألف والسين والتاء في قوله: وَلْيَسْتَعْفِفِ للطلب، أي: يطلبون العفة في حالة عجزهم عن تحقيق أمر النكاح. والعجز هنا المقصود به العجز عن السبب في الوصول إلى فتح باب الزوجية، إما لفقر وهو الأظهر، وإما لحالة اجتماعية يمتنع من خلالها الناس أن ينكحوه، وأمثال ذلك. ولا يمكن لنا أن نقيد ما أطلقه القرآن؛ لأننا إذا قيدنا ما أطلقه القرآن فلن نجعل هذا القرآن حاكماً على كل زمن، والأصل أن القرآن حاكم على كل زمن ومهيمن على كل كتاب. وبيان ذلك أنه قد يخرج إنسان من السجن وهو شاب ثري عنده مال، ومع ذلك لا ينكح من أهله أو من قبيلته أو من أبناء جلدته، فلو جعلنا عدم الوصول للنكاح محصوراً في المال فماذا سنقول في هذه الصورة؟! هل نقول: إنها غير مذكورة في القرآن؟! فقول الله: يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33] جملة واسعة، بمعنى: إن كانوا فقراء فسيغنيهم، وإن كان هناك عارض آخر فسيزيل الله جل وعلا. والمفسر للقرآن يحتاج إلى تأن واطلاع على أحوال الناس قبل أن يخوض في الحكم على آيات الله ويبين مراد الرب تبارك وتعالى منها. يقول تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ [النور:33] وطريقة الاستعفاف مفتوحة؛ لأن أحوال الناس تختلف، ولكن هناك طريقة منصوصاً عليها، وهي ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: (فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) أي: مانع. والمقصود أن الإنسان أدرى بنفسه، فكل ما يستطيع أن يعف به نفسه فليفعله. |
الحث على مكاتبة الأرقاء
ثم قال ربنا: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور:33] هذا استدراج، فلما ذكر الله العبيد والإماء في المقام الأول نبه جل وعلا على إحدى الوسائل التي يكون بها العبيد والإماء أحراراً، فقال ربنا: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ [النور:33] أي: يطلبون الْكِتَابَ [النور:33] أي: يطلبون الحرية عن طريق المكاتبة، والأصل أن العبد وما ملك ملكٌ لسيده، فإذا كان هذا العبد صاحب حرفة تجر له مالاً فإن الله جل وعلا يضع له صورة من صور الخلاص من العبودية، ألا وهي أن يطلب العبد من سيده أن يكاتبه، والمكاتبة على وزن المفاعلة، وهي أمر يقع بين اثنين، فيقوم هذا العبد بصنعته تلك فيجمع مالاً في المقام الأول، ويمكن أن يستفيد مالياً من طرائق أخر، ثم يجعل هذه الأموال منجمة على أقساط تقدم لسيده يتفقان عليها وقتاً وزمناً، فإذا أتم العبد ما اشترطه عليه سيده أصبح بعد ذلك حراً. قال ربنا جل جلاله يفصل ذلك كله: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النور:33] (من) مدغمة في (ما) وأصلهما (من ما)، وملك اليمين يكنى به عن الأرقاء الذين تحت أيدينا. قال تعالى: فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور:33] أي: إن علمتم أن لديهم حرفة يستطيعون بها إذا أصبحوا أحراراً أن ينفقوا على أنفسهم، أما إذا لم تعلموا فيهم الخير فلا تجعلوهم عرضة لأن يكونوا أحراراً فيتكلوا على أوساخ الناس ويأخذوا من الصدقات وأمثالها، ويمتهنوا التوسل، لكن قال أهل العلم - ولا أعلم في هذا خلافاً -: لو فرضنا أنه لم يعلم فيه خيراً فإنه لا يوجد مانع من أن يكاتبه. |
بيان المراد بالخطاب في قوله (وآتوهم)
ثم قال ربنا: وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [النور:33] . اختلفت كلمة المفسرين في المخاطب بقول الله جل وعلا: وَآتُوهُمْ [النور:33] على ثلاثة أقوال، وأجمعها أن نجمع بين الأقوال الثلاثة؛ لأن الآية تحتمل ذلك كله، فنقول: إن المخاطب به ولي أمر المسلمين والسيد وعامة الأثرياء وأصحاب الزكوات والصدقات من المسلمين. أما ولي الأمر فيعين المكاتب من بيت مال المسلمين، وأما السيد فيعينه بأن يسقط عنه جزءاً مما اتفقا عليه، وأما أصحاب الثراء والمال فإنهم يعطونه من الزكوات أو من الصدقات. وإجراء الكلام على هذا المنوال أفضل من تخصيصه؛ لأن الله أطلق، وقد قلت: من الصعب أن نقيد ما أطلقه الله. |
بيان معنى قوله تعالى (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ...)
ثم قال ربنا: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:33] . في هذه الآية نقول: لا يردن في ذهنك أن مجتمع المدينة في عهد النبوة كان البغاء فيه ظاهراً، فحري بتلك الحقبة زماناً ومكاناً أن يتحرر في أذهاننا أنها أفضل حقبة، وأن ذلك أمثل جيل وأكمل رعية، ولكن المراد هنا فئة من المنافقين كانت تسكن المدينة، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي ، وكان لديه جاريتان يكرههما على البغاء، فورد أنهما شكتاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله جل وعلا هذه الآية رحمة بالفتاتين وتوبيخاً لـعبد الله بن أبي . فالله جل وعلا يقول تعريضاً: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:33] فالله يقول له: كيف تفعل ذلك وأنت سيد؟! والأصل أن تحافظ على من تحت يديك فلا تكرههن على البغاء وهن لا يردنه وإنما يردن التحصن، وإلا فلو طلبت المرأة البغاء بذاتها فذلك لا يسمى إكراهاً، فالقيد هنا جاء مخاطباً للواقع، والقيد إذا جاء مخاطباً للواقع فلا مفهوم له. ولو اعتبرناه قيداً له مفهوم لأصبح لزاماً أن نقول: يجوز أن يكون هناك بغاء من غير إكراه، لكن هذا القيد لا مفهوم له، كقول الله جل وعلا في حق ذاته العلية: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ [المؤمنون:117]، فلا يعني ذلك أنه يجوز أن تدعو إلهاً آخر لك فيه برهان؛ لأنه لا يوجد إله غير الرب تبارك وتعالى. يقول تعالى: وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:33] المراد بالآية تلك الفتاتان على وجه الخصوص، ومن كان مثلهما ممن لم تأت النبي عليه الصلاة والسلام للشكوى، والمخاطب بسبب النزول يدخل دخولاً أولياً عند الجمهور، ومالك يرى أن دخول من نزل بسببهم الآية يدخل دخولاً ظنياً، وهذا لا يتضح هنا، ولكن يتضح في آية الأحزاب في قول الله جل وعلا: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33] فهل تدخل في ذلك أمهات المؤمنين أم لا؟ قال في المراقي: واجزم بإدخال ذوات السبب وانقل عن الإمام ظناً تصب فقوله: (واجزم بإدخال ذوات السبب) هو مذهب الجمهور، (وانقل عن الإمام) يقصد مالكاً ؛ لأن القائل مالكي (ظناً تصب) أي أن الإمام يرى أن دخولهم ظني في حين أن الجمهور يرون أن دخولهم قطعي. |
تفسير قوله تعالى: (ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات)
ثم قال ربنا تبارك وتعالى: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [النور:34] . لقد ذكر الله جل وعلا في القرآن الكريم براءتين: براءة مريم وبراءة يوسف، ثم ذكر الله في هذه السورة الكريمة سورة النور براءة عائشة ، فهذا معنى قول الله: وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [النور:34] على الأظهر. أما قول ربنا قبلها: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ [النور:34] وقوله جل وعلا: وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [النور:34] فهو مطرد؛ إذ القرآن موعظة لكل مؤمن في أي زمان وفي أي مكان، وهذا ظاهر. |
تفسير قوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض ...)
بيان عظمة نور الله ثم قال الله جل وعلا: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النور:35]. هنا نستشهد بقول لـابن القيم رحمه الله، والكلام إذا كان نفيساً حسن أن يستشهد به، بصرف النظر عن قائله، فإذا كان قائله قد عرف فضله وإمامته زاد ذلك الأمر قبولاً عندك وعند الناس. قال ابن القيم رحمه الله: الله جل وعلا من أسمائه النور، ومن أوصافه النور، وحجابه النور، وكتابه نور، وشرعه نور، ورسوله نور، والجنة التي وعدها عباده نور يتلألأ. وقال العلامة ابن سعدي رحمه الله في تفسيره: نور السماوات والأرض حساً ومعنىً، فالذين اهتدوا اهتدوا بنور الله، والأرض والسماوات إنما تشرقان بنور الله، واستنار بنور الله كل شيء حتى العرش وأركان العرش، فالله جل وعلا نور السماوات والأرض حساً ومعنىً. ثم ضرب الله المثل، وقد جرت العرب في كلامها على أن تضرب الأمثال، فأصابت ثلاثة أمور: إصابة المعنى، وإيجاز اللفظ، وحسن التشبيه. وبتعبير أصح: نالت العرب بالأمثال أموراً ثلاثة: على أن من أصل العرب في كلامها أنها إذا قالت المثل لا ترى أن أحداً يملك الحق في تغييره، فالمثل يقال كما قيل أول مرة، كمثل: (الصيف ضيعت اللبن) فهذا المثل يقال بهذه الطريقة خاطبت به ذكراً أو خاطبت به أنثى، خاطبت به فرداً أو خاطبت به مثنى أو خاطبت به جماعة، ويقولون: إن أصله أن امرأة كانت تحت رجل طاعن مسن، ولكنه كان ذا مال، فأصرت عليه أن يطلقها، فطلقها في الصيف، فتزوجها شاب من بني قومها، ولكنه كان فقيراً، فذات يوم أمسيا هي وزوجها فقيرين، فرغبت في اللبن، فبعثت إلى زوجها الأول تطلبه لبناً، فلما وصل المبعوث المرسول إلى الزوج الأول قال له: إن فلانة تطلبك لبناً، فأجابه: (الصيف ضيعت اللبن)؛ لأن الطلاق كان في الصيف. فأياً كان المثل فإنه يقال كما هو، والعرب لها أمثالها، والله جل وعلا ساق الأمثال في القرآن، وقال في خاتمة هذه الآية: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النور:35]. وقد ضرب الله أمثلة كثيرة في القرآن، وقال جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [البقرة:26]. |
نورانية الرسول صلى الله عليه وسلم
يقول ربنا جل جلاله: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور:35] والنبي صلى الله عليه وسلم نور بنص القرآن، وقد جاء في مدحه عليه الصلاة والسلام في قصيدة كعب بن زهير بأنه نور عند من يقول بصحة نسبة قصيدة كعب بن زهير إليه، وهي قصيدة لا يملك أحد الجزم بصحة سندها، ولكن ذكرها عند أهل السير والأخبار والآثار وقبولهم لها يدل على أن لها أصلاً عظيماً، وكعب كان من عائلة مشتغلة بالشعر، وكانت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عداوة، فأهدر النبي عليه السلام دمه، فدخل المدينة وأنشد بين يدي رسول الله: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول وما سعاد غداة البين إذ رحلوا إلا أغن غضيض الطرف مكحول تجلو عوارض في ظلم إذا ابتسمت كأنه منهل بالراح معلول كانت مواعيد عرقوب لها مثلاً وما مواعيده إلا الأباطيل إلى أن قال: إن الرسول لنور يستضاء به مهند من سيوف الله مسلول وهذه رواية ابن قتيبة وأمثاله، وفي روايات أخر: إن الرسول لسيف يستضاء به والذي يعنينا الرواية الأولى؛ لأنها هي التي تتفق مع ما نحن فيه، فالنبي صلى الله عليه وسلم نور وما جاء به النور، وكان يسأل من ربه النور إذا خرج في ممشاه إلى الصلاة وإذا قام من الليل، كل ذلك ثابت عنه صلوات الله وسلامه عليه. |
مثل نور المؤمن
قال الله: مَثَلُ نُورِهِ [النور:35] هذا تقريب كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [النور:35] والمشكاة هي الكوة التي في الجدار الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ [النور:35] وفي زماننا نطلق المصباح على الآلة كلها، وأما في لغة القرآن فالمصباح المراد به الفتيلة، وهذا ظاهر؛ لأن الله قال: الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ [النور:35] والفتيلة تقع داخل الزجاجة. قال تعالى: الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ [النور:35] لصفائه ونقائه يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ [النور:35]، فالله يشهد أن هذه الشجرة مباركة، أي: كثيرة النفع زَيْتُونِةٍ [النور:35] وهذا بيان لنوع الشجرة؛ لأن الشجر المبارك كثير، فلما قال الله: زَيْتُونِةٍ [النور:35] عرفنا أنها شجرة الزيتون، وأهل التاريخ يقولون: إنها أول شجرة نبتت بعد الطوفان، ودعا لها بالبركة سبعون نبياً، وموطنها الأرض المقدسة في الأرض المباركة في موطن الأنبياء، فموطنها الأول في الشام. فالله يقول: هذا الزيت يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية، والشجرة الشرقية هي التي لا تتعرض للشمس حالة الغروب، والغربية عكسها. وأما الشجرة التي تتعرض للشمس دائماً فهي التي لا تسمى شرقية ولا غربية، قال الله تعالى: لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ [النور:35]. ثم قال الله: نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35] وخلاصة الأمر أن الكوة -المشكاة- هي قلب المؤمن، ويجتمع فيه نوران: نور الفطرة ونور الوحي والعلم من عند الله. ففطرته ظاهرة عليه، وهذا معنى قول الله جل وعلا: يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ [النور:35]، وقوله: نُورٌ عَلَى نُورٍ [النور:35] هو نور العلم والوحي والإيمان، على نور الفطرة. قال تعالى: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35] وذلك لئلا يقول قائل: إن الأمر واضح، فنحن سنهتدي إليه، فأخبر الله جل وعلا أنه ليس الأمر كذلك، وإن كان واضحاً جلياً، فقال: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35] والإنسان ينبغي له أن يدرك أن المقصود لا يطلب إلا بالرب تبارك وتعالى. فهذا مجمل ما دلت عليه الآية. |
ذكر تفسير للآية غير مقصود بها
وبعض أهل العلم بنحو منحىً آخر في تفسير الآية، فيعدل عن ظاهر القرآن، فيقول: إن المقصود بالنور النبي صلى الله عليه وسلم، وإن المشكاة هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإن قول الله جل وعلا: لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النور:35] المقصود به اليهود يصلون جهة المغرب، والنصارى يصلون جهة المشرق، فيقولون: قوله: لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النور:35] أي: لا يهودياً ولا نصرانياً، وإن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ هذا من الشجرة المباركة التي هي إبراهيم لكونه أباً لأكثر الأنبياء. وهذا القول من حيث معناه صحيح، فالنبي عليه الصلاة والسلام ليس يهودياً ولا نصرانياً، وهو وارث إبراهيم ومتبعه، وهذا لا خلاف فيه، ولكن القول بأنه المقصود بالآية بعيد جداً، فلا بد من أن تكون هناك آلة متفق عليها في التعامل مع آيات الكتاب، ولا يحق لنا ولا لغيرنا أن نغير الآلة التي نتعامل بها في آيات الكتاب حتى نصل إلى مقصودنا، على أنه ينبغي أن يعلم أن المعاني أحياناً تكون صحيحة، ولكن الوصول إليها قد يكون بطريقة خاطئة، فلو أصاب إنسان في المعنى فلا يعني ذلك أنه أصاب في الطريقة التي يتوصل بها إلى المعنى. |
حصول نور الله في قلب المؤمن
قال ربنا: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النور:35] وقد بينا قضية المثل في القرآن، وأن الله جل وعلا ذكره في أكثر من آية من كتابه، ولما كانت الحاجة داعية إلى معرفة مظان هذا النور قال الله بعدها: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ [النور:36]. وبعض العلماء جعل قوله: فِي بُيُوتٍ [النور:36] معلقاً بالمشكاة، وتكلم عن المصابيح، ثم قال: إن هذا الكلام منتقض تاريخياً؛ لأن نسل النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن فيه مصابيح، وهذا كله نرى أنه لا حاجة لنا إليه، فالآية تتكلم عن نور الهداية، ولهذا قال الله: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35] . فإذا كان الإنسان بعد ذلك قد رغب فيما عند الله وعلم أن الله هو الهادي حق له أن يبحث عن الأمكنة التي يجد فيها نفحات الله ونوره وهدايته، فقال الله جل وعلا: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [النور:36] وهي المساجد. وبعض العلماء يقولون: إن كلمة (بيوت) محصورة في المساجد الأربعة التي بناها الأنبياء، وهي المسجد الحرام والمسجد الأقصى والمسجد النبوي، ومسجد قباء. فهذه الأربعة بناها الأنبياء، والصواب أن يقال: إن الأمر على إطلاقه، فالمساجد كلها بيوت الله، سواء بناها الأنبياء أو بناها غيرهم. |
عمارة المساجد بالبناء
قال تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36] نبه الله جل وعلا على أمرين: عمارتها مادياً وعمارتها معنوياً. فعمارتها مادياً بتشييدها وبنائها وحفظها عما يضر بها. وعمارتها معنوياً بإقامة ذكر الله جل وعلا فيها، والثاني هنا أشرف من الأول، وفي كل خير، ففي الحديث: (من بنا لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة). وأول بيت وضع في الأرض المسجد الحرام، ثم المسجد الأقصى، وجدده -أي: المسجد الأقصى- سليمان بن داود عليه السلام، وتزعم إسرائيل اليوم أن تحته هيكل سليمان. ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فدخل المدينة من جهة الجنوب بنى مسجد قباء في بني عمرو بن عوف، فكان أول مسجد أسس في الإسلام، ثم أتى بطن المدينة فبنى مسجده عليه الصلاة والسلام، ولم تكن تقام الجمعة إلا في المسجد النبوي، ثم جاءه عليه الصلاة والسلام وفد من الأحساء من هجر ثم ارتحلوا عنه، فصلوا الجمعة في محافظة في الأحساء تسمى جواثا. وكثير من الفقهاء على أن ثاني جمعة أقيمت في الإسلام أقيمت في جواثا، لأنه لم تكن تقام الجمعة إلا في المدينة في مسجده صلى الله عليه وسلم، وأقيمت بعد ذلك في جواثا في الأحساء، وقد مررت بها، ولكن لم يتيسر لي أن أدخلها، وهي ديار علم وفضل، يقول أهلها يفتخرون: والمسجد الثالث الشرقي كان لنا والمنبران وفصل القول في الخطب أيام لا مسجداً لله نعرفه إلا بطيبة والمحجوج بالحجب يقصدون المسجد الحرام. والمقصود من هذا تفصيل تاريخي عام عن المساجد في الأرض، ثم بنيت لله جل وعلا مساجد في كل مكان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجداً) وهذا دعوة صريحة صحيحة لأهل الخير والفضل للتسابق في بناء المساجد. |
عمارة المساجد بذكر الله
وأما عمارتها شرعياً ودينياً، فأعظم ذلك إقامة ذكر الله جل وعلا فيها، وهذا الذي قال الله فيه: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا [النور:36] جل جلاله بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [النور:36] أي: ينزهه عما لا يليق به، ويحمده الحمد الذي يستحقه، ويثني عليه أقوام ركع سجد، قال الله عنهم: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37] . وكلمة (رجال) هنا -وإن جاءت نكرة- مخصوصة بالوصف الذي بعدها، فالجمل بعد المعارف أحوال وبعد النكرات صفات، وكلمة (رجال) نكرة، فجملة: لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ [النور:37] وصف لكلمة (رجال) وقد قال بعض السلف -وينسب ذلك إلى ابن مسعود -: إن المقصود بالآية في المقام الأول أصحاب الأسواق. قال الله تعالى: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ [النور:37] فما الفرق ما بين التجارة والبيع؟ إن التجارة هي العمل برءوس الأموال بحثاً عن ربح، فحين يقال: فلان تاجر عنده رأس مال فمعنى ذلك أن رأس ماله يتضاعف، أما البيع فهو أخص من التجارة، فلا يلزم كل أحد يبيع أن يريد ربحاً، فالإنسان قد تضطره مشاكله أحياناً إلى أن يبيع شيئاً غالياً نفيساً له عنده مقام أو ذكرى حميدة، فيبيعه بأقل من قيمته وهو لا يريد ربحاً، وإنما يريد مالاً. وقد تخرج الحاجات يا أم مالك كرائم من رب بهن ضنين فهذا هو الفرق بين التجارة والبيع. والمشهد يتحقق إذا رأيت أهل سوق، فإذا سمعوا المؤذن تركوا ما في أيديهم وتسابقوا إلى المسجد، وقد ورد أن ابن مسعود رأى أقواماً بهذه الصنيعة فقال: هؤلاء الذين عنى الله بقوله: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37] . فالآية -وإن دخل فيها هؤلاء الرجال دخولاً أولياً، وهم أهل الأسواق- لا تمنع دخول غيرهم، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وما عمرت المساجد لأكثر من أن يذكر الله جل وعلا فيها. والغدو والآصال وقتان، ولكن يظهر لي أنه ليس المقصود حقيقة الوقتين، وإنما المقصود جملة الآناء من أطراف الليل والنهار. |
ذكر ما يجازى عليه بالإحسان من الأعمال
قال تعالى: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:37-38] . أعمال الناس على ثلاثة أقسام: عمل أذن الله به وأباحه ولم يأمر به، فهذا يسمى حسناً. وعمل أمر الله به وتعبد خلقه به، فهذا يسمى أحسن. وعمل نهى الله عنه وحرمه، فهذا يسمى قبيحاً مستهجناً. فإذا كان يوم القيامة جوزي العباد على الأحسن، وبهذا تفهم معنى قول الله: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا [النور:38] ولا يأتين أحد فيقول: إن العبد يعمل عملاً حسناً وعملاً أحسن منه، فيكافئه الله على الأحسن، فهذا من غير أن يشعر نسب إلى الله الظلم، والله يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40]، ولكن نقول: إن هذا الذي صنفناه على أنه أحسن هو في ذاته مراتب عدة. ولا يقتصر فضل الله على المجازاة على أعمالنا، بل قال الله: وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النور:38] جاءت منصوبة لأنها معطوفة على الفعل (يجزي)، والفعل (يجزي) جاء منصوباً؛ لأنه مسبوق بلام التعليل. قال تعالى: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:38]. هذا بيان لفضل الله الرب تبارك وتعالى، وأن الله جل وعلا لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وقد تحرر معنا كثيراً أننا نقول: إن الله جل وعلا يقدم من يشاء بفضله ويؤخر من يشاء بعدله، ولا يسأله عن مخلوق عن علة فعله، ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله. |
خلاصة ما سبق تفسيره
وخلاصة هذا الدرس أنه سلف ذكر آيات أحكام تكلمت عن النكاح وأحكام المكاتبة، ثم بين الله جل وعلا بآية فصلت بين القضايا الفقهية والقضايا الإيمانية بأن الله أنزل الله هذا القرآن موعظة ومثلاً. ثم تكلم الرب جل وعلا عن نوره الذي ملأ أركان عرشه، ثم قرب هذا المثال للناس بشيء يرونه بين أيديهم وأذكر في هذا أن أبا تمام الشاعر العباسي المسمى حبيب بن أوس الطائي دخل على أحد الخلفاء فمدحه بقوله: إقدام عمرو في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياس وهؤلاء كانوا من المشاهير في العرب فـأحنف في حلمه، وإياس القاضي في ذكائهـ وعمرو في شجاعته، وحاتم في كرمه، وأي إنسان يظهر في بلاط الأمراء يكون له حساد، فقام أحد الناس يحسد أبا تمام وقد أصبح له مكان عند الخليفة، فقال: إن الأمير أكبر وأشرف ممن ذكرت، تصف أمير المؤمنين بأجلاف العرب! ومن يستطيع أن يقول في مجلس الأمير: إن هؤلاء ليسوا أجلافاً؟! فقال أبو تمام في ساعته يدافع عن نفسه: لا تنكروا ضربي له من دونه مثلاً شروداً في الندى والبأس فالله قد ضرب الأقل لنوره مثلاً من المشكاة والنبراس وهذه تدل على ذكائه، ويقولون: إن الطبيب الكندي كان حاضراً، فلما فتشوا في أوراق أبي تمام لم يجدوا فيها هذين البيتين، بمعنى أن أبا تمام ارتجلهما مباشرة ليدافع عن نفسه، فقال: هذا رجل سيأكل الذكاء دماغه. أو كلمة نحوها، فمات أبو تمام صغيراً في الأربعينات، فقد يكون هذا بسبب ذكائه كما يزعم هذا الطبيب، والأصل أنه بقدر الله، وقد يكون هناك أسباب أخرى لم يطلع عليها الطبيب. وأياً كان فقد تخلص أبو تمام هنا تخلصاً عظيماً. وإنك لتعجب ممن يأتيك أحياناً فيحاول أن يكتب شعراً، وهو لم يقرأ قرآناً ولا حديثاً ولا شعر العرب، فمن أين تأتي الدرر والمعلومات والألفاظ حتى تستطيع أن تحررها إلى أبيات؟ فهذا محال. فعدم الأخذ بأسباب الشيء يحول بينك وبين الوصول، والله يقول عن ذي القرنين: وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا [الكهف:84]، فمن رام مجداً فلا بد له من أن يعلم أن لكل مجد طرائق وسبلاً توصل إليه، فيأخذ بها متوكلاً على الله جل وعلا ويرجو من الله التوفيق والسداد. وأقول: إن الله جل وعلا ذكر المساجد وحرمتها، وبين أن أعظم ما يمكن أن يقال فيها هو ذكر الله تبارك وتعالى، فطر الله قلبي وقلوبكم على توحيده، وجعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه. فهذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، وفي الدرس القادم -بإذن الله تعالى- سنعرج على أعمال الذين كفروا، ثم نذكر ما ذكر الله جل وعلا من دلائل قدرته وجليل صنعته في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ [النور:43]. نسأل الله التوفيق والسداد والعون والقبول، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين. |
تضمنت سورة النور بيان مآل أعمال الكافرين، إذ لم يقترن بها إيمان بالله تعالى ينفعهم، وضرب الله تعالى لهم في ذلك مثلاً لكبرائهم وآخر للأتباع والمقلدين. كما تضمنت السورة بيان عظيم قدرة الله تعالى في سوق السحاب وإنزال المطر، وتقليب الليل والنهار، وخلق أنواع الدواب، مع ذكر إفراد الكائنات له تعالى بالتسبيح والتقديس الذي علمه تعالى وعلم غيره مما يفعلون.
|
تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة ..)
بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده، ونستعنيه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وسع الخلائق خيره، ولم يسع الناس غيره، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله شرح الله له صدره، ورفع الله له ذكره، ووضع الله عنه وزره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فنشرع في تكملة ما كنا قد بدأناه في الدرس الماضي في سورة النور، وكنا قد ذكرنا نعت الله جل وعلا لعباده المؤمنين، ووعده إياهم بقوله: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [البقرة:212]. وفي هذا الدرس سنشرع في تفسير آيات أخرى. يقول الرب تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39]. هذا مثل ضربه الله جل وعلا لأعمال الكفار لبيان أنهم لا ينتفعون بها. فهؤلاء المشركون كفرة، ولكن لديهم قدرة في المجادلة، ومن مجادلتهم أنهم يقولون: نحن لم نعكف في بيوتنا، بل لدينا أصنام نعبدها، وقالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، فإذا كان يوم القيامة سنجد حصيلة أعمالنا، فنحن نطعم كما تُطعمون، ونسقي كما تُسقون، ونفعل الخيرات، ونقوم بواجبات، فالله جل وعلا يصور حال تلك الأعمال التي اتكلوا عليها، فقال ربنا: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ [النور:39]. والقيعة: جمع لقاع، والقاع هو الأرض المنبسطة التي لم تعلها الجبال والآكام، فأصبحت واضحة مرئية، والسراب يسمى سراباً إذا لاح في أول النهار، وفي آخر النهار لا يسمى سراباً، بل يسمى (الآل)، والمعنى واحد، فهذا السراب يلوح لرائيه كأنه ماء، فإذا كان الرائي ظمآن فإنه سيتعطش للوصول إليه، ولهذا قال الله جل وعلا: يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً [النور:39]. أما غير الظمآن فهو يراه سراباً كما يراه غيره، ولكن لعدم وجود تعلق به لا يلتفت إليه، ولا يعطيه كبير اهتمام، فلهذا قال الله جل وعلا: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ [النور:39] أي: جاء إلى ما كان يعتقد أنه ماء (فلم يجده شيئاً) وليته خلص لا له ولا عليه، ولم يتكلف إلا المجيء، ولكن الله قال موبخاً لهم: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ [النور:39]، فهو يزعم أنه لا رب ولا إله، وأن هذه الأعمال هي التي تنفعه، فيفعل الكافر المشرك تلك الأعمال، حتى إذا كان يوم القيامة لم يجد تلك الأعمال، كمن كان يبحث عن السراب، ولكن من يبحث عن السراب غاية أمره أنه لم يجد شيئاً، وأما هذا فقال الله عنه: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ [النور:39] أي: يوم القيامة فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39] أي أن الله جل وعلا لا يبطئ في حسابه إذا ظهر مقتضاه، وحسابه قد وقته الله جل وعلا أن يكون في يوم موعود محدود، كما قال تعالى: وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود:104-105]. |
تفسير قوله تعالى: (أو كظلمات في بحر لجي ...)
ثم قال ربنا: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ [النور:40]. (أو) حرف عطف بالاتفاق، ولكن هل هي للتنويع، أو للتخيير؟ والصواب أنها للتنويع، فإذا قلنا: إنها للتنويع فإنه لابد من إيجاد طرف ثان، فنقول: إن المثال الأول للأئمة من أهل الكفر، وأما المثال الثاني فلأتباعهم ومقلديهم. قال الله جل وعلا: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ [النور:40] وفي اللغة (لُجة): بضم اللام، وفيها (لَجة) بفتح اللام، واللجة: كثرة الأصوات وارتفاعها، ولا علاقة لها بالآية، وأما اللجة فهي معظم البحر، والبحر اللجي: هو البحر الكثير الماء البعيد القعر. قال تعالى: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ [النور:40] أي: ظلم وجهل وكفر وعناد، فمثالهم كرجل في قاع البحار ومن فوقه موج والفرق بين الموج واللجة أن اللجة هي البحر نفسه، وأما الموج فما يخرج عن البحر ويرتفع، وهو شهير ظاهر. قال ربنا: ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ [النور:40] وليست الظلمات في الموج والسحاب، وإنما هذا نظير مثال، فالظلمات هي كفره وجهله وعناده. |
بيان معنى قوله تعالى (لم يكد يراها)
قال تعالى: إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا [النور:40] أي: في هذه الظلمات كلها يحاول أن يخرج يده، فيخرجها؛ لأنها تتعلق بقدرته الذهنية، وبقدرته الحركية، ولا تتعلق بالرؤية، ولكن هل يراها أن لا؟ قال ربنا: لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا [النور:40] وتحرير المسألة أن (كاد) عند النحويين فعل من أفعال المقاربة، وأكثر المفسرين يقول: إن معنى (لم يكد يراها) أي: لم يقرب أن يراها، فكيف يراها؟! ولهم في هذا استدلال بأبيات لذي الرمة وغيره. ولكن الصواب أن يقال: إن (كاد) فعل إذا أثبت دل على النفي، وإذا نفي دل على الإثبات، كما قيل: أنحوي هذا العصر ما هي لفظة جرت على لساني جرهم وثمود إذا استعملت في صورة النفي أثبتت وإن أثبتت قامت مقام جحود أي: مقام النفي والنكرة، وهذه اللفظة هي الفعل (كاد)، كما قال الله جل وعلا: أَكَادُ أُخْفِيهَا [طه:15]، فالفعل مثبت، وقد أخفاها الله جل وعلا عيناً وقتاً، وقال: فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا [محمد:18]، المهدي والدجال وعيسى، طلوع الشمس من مغربها. فقوله تعالى: لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا [النور:40] معناه -بحسب فهمنا اللغة- أنه يرى شيئاً يسيراً منها، وهذه معضلة، إذ كيف يرى شيئاً يسيراً من النور؟! فهذا هو الذي جعلهم يقولون: إنه لم يقرب أن يراها، فكيف يراها؟! وأظن -والعلم عند الله- أن المقصود بالإظهار البين في النور اليسير من باب إقامة الحجة، أما الذي لا يرى بالكلية -كالمجنون والصغير وأمثالهم- فلا حساب عليه؛ لأنه لم تقم عليه حجة، والعلم عند الله. |
مغبة فقدان الهداية
قال تعالى: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40]. أي: كيف يراها، وكيف يهتدي، وكيف يبلغ مراده والرب جل وعلا لم يجعل له نوراً؟! وإنك لتجد رجلين من أب وأم واحدة يوفق أحدهما لأعظم الطاعات، ويغيب أحدهما عنها بالكلية، وقد اتفقا في منشئهما وتربيتهما وعرقهما، بل وفي الرحم التي خرجا منها، لكن جعل الله لأحدهما نوراً، ولم يجعل الله للآخر نوراً، فمن جعل الله له نوراً اهتدى، ومن لم يجعل له نوراً، ضل وغوى، والعياذ بالله. |
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات ومن في الأرض ...)
ثم قال الله جل وعلا: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ [النور:41]. هذا شيء مشاهد، و(من) للعاقل، وهنا ذكرت للتغليب، فقوله تعالى: مَنْ فِي السَّمَوَاتِ [النور:41] يشمل الملائكة في المقام الأول، وَالأَرْضِ [النور:41] يشمل بني آدم، وكل من يدب على الأرض، وبقي الذي بينهما، ولهذا قال الله: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ [النور:41] لأنها ليست في السماء، وليست في الأرض، فهذا تخريج. وقال آخرون: هذا ليس بتخريج، وإنما الطير داخلة في قوله جل وعلا: (من في السموات ومن في الأرض)، وذكرها تعالى لبيان أنها تسبح حال كونها صافات، ولهذا قال: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ [النور:41]. قالوا: فلو قال: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ) من غير ذكر (صافات) لقلنا بالأول، ولكل من القولين ما يؤيده من حيث النظر. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النور:41]. وهناك خلاف بين العلماء في فاعل (علم) والأكثرون على أن فاعل (علم) عائد على كلمة (كل) أي: كل واحد من هؤلاء علم صلاته وتسبيحه، وأما الرب جل وعلا فقال عن نفسه: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ [النور:41]. |
تفسير قوله تعالى: (ولله ملك السماوات والأرض ...)
ثم بين جل وعلا عظيم ملكه فقال: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:189] أي: ليس الأمر مقتصراً على أمة في السماء تسبح، وأمة في الأرض تسبح، فليس ذلك هو حدود ملك الله، بل كل ما في الكون له، قال الله: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:189]. ويجب أن يستقر في قلب كل أحد أن الله جل وعلا بيده مقاليد كل شيء، ورزق كل أحد عليه، ومصير كل شيء إليه، هذه القناعات اليقينيات المستنبطة من الكتاب والسنة هي التي تورث قلباً حياً ويقيناً راسخاً، فينجم عن ذلك عمل صالح. |
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يزجي سحاباً ...)
ومازالت الآيات تبين عظيم القدرة الإلهية، حيث يقول تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا [النور:43]، والإزجاء هو الدفع، وقد نسمع أحياناً إنساناً يقدم له فيقول: بضاعتي مزجاه، وهذه كلمة مأخوذة من سورة يوسف، ومعنى مزجاة: مدفوعة، والبضاعة المزجاة هي التي لا يقبلها أحد، فكلما عرضتها على تاجر يعتذر ويمتنع عن القبول، ويقول: اذهب إلى فلان فلعله يقبلها. فهذا معنى قولهم: بضاعة مزجاة، فالإزجاء هو السوق والدفع. فالله تعالى يقول: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا [النور:43] فتسوقه الملائكة بواسطة الرياح، ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ [النور:43] وقد كان قطعاً، والقطعة من السحاب تسمى قزعة، ثم يجعله متراكماً بعضه فوق بعض. قال تعالى: فَتَرَى الْوَدْقَ [النور:43] أي: المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ [النور:43]، ويلحظ هنا تكرار (من) ثلاث مرات، وكلها جارة، ولكلٍ معنى، فـ (من) في قوله: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ [النور:43] لابتداء الغاية. و(من) في قوله: مِنْ جِبَالٍ [النور:43] للتبعيض. و(من) في قوله: مِنْ بَرَدٍ [النور:43] لبيان النوع والجنس. قال تعالى: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ [النور:43] أي: يصيب بالبرد وبالمطر وبالصواعق. |
بيان معنى قوله تعالى (يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار)
قال تعالى: يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ [النور:43]. السنا -بغير همزة- الرفعة والعلو المعنوي والحسي، والسناء -بالهمزة- اللمعان والضوء والنور، والمقصود به هنا اللمعان والبرق والنور، فأحياناً يجتمع الأمران: السنا المعنوي المقصود به الرفعة، والسناء المقصود به اللمعان. فأما اجتماعهما فقد ورد في شعر ابن زيدون ، وابن زيدون شاعر أندلسي عاصر انتقال الحكم من بني أمية إلى ملوك الطوائف، وبنو أمية أسسوا ملكهم في الأندلس على يد عبد الرحمن الداخل الملقب بصقر قريش، والذي لقبه بصقر قريش هو خصمه أبو جعفر المنصور ، وهذا من إنصاف أبي جعفر . فاستمر الحكم في الأندلس، ثم انتقل من بني أمية إلى ملوك الطوائف، وهم مسلمون من غير ذرية بني أمية، وفي تلك الفترة ظهر ابن زيدون ، فأصبح وزيراً وهو في الثلاثين من عمره، ومثل هذا ينجم عنه الحسد، فتعلق بامرأة اسمها ولادة بنت المستكفي ، فقال فيها أطيب شعره، والذي يعنينا من شعره هنا ما أردناه في قوله تعالى: يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ [النور:43]، حيث قال: ودع الصبر محب ودعك ذائع من سره ما استودعك يقرع السن على أن لم يكن زاد في تلك الخطا إذ شيعك يا أخا البدر سناء وسناً رحم الله زماناً أطلعك والبدر هو القمر، وقصد بأخي البدر معشوقته، وقوله: سناءً وسناً، أي: أنت مثل البرق في برقه ونوره ولمعانه، ومثل البدر في علوه وارتفاعه. فالله تعالى هنا يقول: يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ [النور:43]. والعامة تلغز فتقول: ما الشيء الذي يسمع ولا يرى، وما الشيء الذي يرى ولا يسمع؟ ويقصدون بالذي يسمع ولا يرى الرعد، ويقصدون بالذي يرى ولا يسمع البرق، وقد جرت عادة العرب بأنها تشيم، أي: تنظر في البرق، فتقول: أين سينزل، قال الأعشى : فقلت للشرب في درنى وقد ثملوا شيموا وكيف يشيم الشارب الثمل يقول: أنا مع مجموعة سكارى فرأيت بارقاً. وهل يا ترى بارقاً عارضاً قد بت أرقبه كأنما البرق في حافاته الشعل فقال لمجموعته: شيموا، أي: انظروا إلى هذا البرق أين سيسقط. ثم يقول مستنكراً حال نفسه: وكيف يشيم الشارب الثمل، يعني: من كان قد غلبه السكر فأنى له أن يشيم ويعرف مواطن البرق. قال تعالى: يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ [النور:43] واللام في (الأبصار) لام الحقيقة، وضدها لام المجاز، وبيان ذلك أن الله جل وعلا قال في سورة البقرة: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [البقرة:20] وهناك فرق تام بين الآيتين: فالآية الأولى: أراد الله بها ضرب مثل عن هؤلاء المنافقين الذين يسكنون المدينة ويرون تنزل الآيات فلا ينتفعون بها، ولهذا قال: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ [البقرة:20] فأضاف الأبصار إليهم، وليس المقصود إلا إظهار عدم انتفاعهم بالكتاب والسنة. أما آية النور فالله يتكلم فيها بذكر لام الحقيقة، والمراد: البصر الحقيقي الذي هو يخاطب به كل أحد، فكل إنسان إذا تأمل البرق ونظر فيه وأمعن فإنه يكاد سنا البرق أن يذهب ببصره، ولو لم يذهب ببصره؛ لأنها جاءت مثبتة، فتعتبر في حكم المنفية. |
تفسير قوله تعالى: (يقلب الله الليل والنهار ...)
ثم قال الله جل وعلا: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [النور:44]، وهذا من دلائل قدرته، وكمال صنعته جل وعلا، وهو أنه يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، والله تعالى يقول في سورة آل عمران: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:26-27]. قال بعض السلف: هاتان الآيتان من آل عمران هما اللتان صدر الله جل وعلا بهما التوراة التي أنزل على موسى عليه السلام، وقالوا: إن آخر آية في التوراة هي آخر آية في سورة الإسراء: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا [الإسراء:111] إلى آخر الآية. يقول الله جل وعلا هنا: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ [النور:44] فما الليل والنهار إلا مطيتان مسخرتان بأمر الرب تبارك وتعالى، فلما ذكر الله جل وعلا قدرته على تقليبهما، وعلى أنه جل وعلا يجعل هذا حيناً أطول من الآخر، والآخر أطول من الأول حيناً آخر، قال سبحانه جل وعلا بعد ذلك: إِنَّ فِي ذَلِكَ [آل عمران:13] أي: في هذا الأمر الذي يحصل ويرى لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [آل عمران:13]. والمؤمن حري به أن يتأمل ما خلق الله جل وعلا من حوله حتى يقوده ذلك إلى معرفة ربه. |
تفسير قوله تعالى: (والله خلق كل دابة من ماء ...)
ثم قال ربنا -وهو أصدق القائلين-: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ [النور:45] فكل ما يميز وما لا يميز مما يمشي على الأرض يسمى دابة. وأهم ما ينبغي أن يعرف في الآية أن الحجة العظيمة الأولى التي أقامها الله جل وعلا على أهل الإشراك هي كونه جل وعلا خالقاً، وما سواه مخلوقاً، فهذه أهم قضية ناقشها القرآن، قال الله: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل:17]، وقال: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الفرقان:3]، وقال: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان:11]. وأراد الله من هذا كله أن يقول لهم: إن العبادة الحقة لا يستحقها إلا من يخلق، فما دام أنه لا أحد يخلق إلا الله فمن المقطوع به ألا يعبد أحد بحق إلا الله. هذا الذي أراده الله من إثبات قدرته على الخلق، حتى يقيم الحجة على عباده، فكيف تلتفون إلى من لا يخلق فتعبدونه وتتركون من يخلق؟! وقد قال الله جل وعلا: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ [الحجر:85] قال العلماء: قوله: (إلا بالحق) لإثبات أن الله وحده هو الخالق، فلا يستحق العبادة غيره. وقال تعالى هنا: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ [النور:45]، وقال في الأنبياء: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30]. فالماء في سورة الأنبياء اسم جنس، أما هنا فليس اسم جنس، ولهذا جاء نكرة، ففي سورة الأنبياء يتكلم عن جنس المخلوقات، أما هنا فلم يتكلم عن جنس المخلوقات، بل يحدد ماهية المخلوقات، بدليل قوله تعالى بعدها: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ [النور:45] و(من) تستخدم للعاقل، وسوغ استخدامها لغير العاقل أن الله جل وعلا تكلم عن الدواب، والدواب يدخل فيها العاقل من بني آدم، فبالتغليب أدخل غير العاقل. قال الله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ [النور:45] مثل الحيات، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ [النور:45] مثل بني آدم وبعض الحيوانات، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ [النور:45]. |
بيان قدرة الله تعالى
ويرد على ذهن الإنسان حال العنكبوت والعقرب ونحوهما، فهي لا تمشي على بطنها، ولا على اثنتين، ولا على أربع، فتجيبه الآية: يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [النور:45] وكأن الله يقول: بل هناك غير العنكبوت والعقرب لم تره عيناك، فلا يحتاج إلى أن تستدل علينا بعنكبوت وعقرب، ولذلك فصل الله الخطاب والأمر بقوله: يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [النور:45]، وهذا التبيين مناسب لقول الله جل وعلا: يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [النور:45]، فقوله: (يخلق الله ما يشاء) درس قائم بذاته؛ إذ الإنسان أحياناً تكون له أمنيات ورغبات، فيمنعه من الدعاء تصور استحالة أن تقع، فمما يحل هذا الإشكال اليقيني قول الله جل وعلا هنا: يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [النور:45] وهذه المسألة حصلت للصديقة مريم، فإن الملائكة بشرتها بعيسى ابن مريم ولم تقل لها: عيسى بن فلان، فعرفت أنه سيأتي من غير زوج؛ لأنها لو قالت عيسى بن فلان لعرفت أن الأمر عادي، قال تعالى: إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [آل عمران:45]. فلما أرادت أن تعترض قالت: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [آل عمران:47] فعرفت أنه سيأتي من غير مساس؛ لأنه لو كان سيأتي بمساس لنسب إلى أبيه، فأجابها بقوله: قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ [آل عمران:47] في حين أن الله جل وعلا أجاب زكريا بغير هذا، حيث قال: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [آل عمران:40] ؛ لأن قصة زكريا وجد فيها السبب، ولكن وجد عارض لحق أحد السببين، وهو كبر الوالد وكون المرأة عاقراً، فكان المطلوب إزالة ذلك العارض، فعبر الله عنه بقوله: كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [آل عمران:40]. أما في قصة مريم فليس هناك سبب آخر قائم حتى نقول: هناك عارض يحتاج إلى أن يزال، بل لا يوجد سبب يعين على ولادة؛ لانفصال أحد السببين، فقال الله جل وعلا: قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:47]. |
أهمية استحضار قدرة الله تعالى في سؤاله إجابة الدعوات
وأنت -أيها الأخ- قد تقف في عرفات -وهو موطن إجابة- وتصلي في الليل وتسجد، وذلك موطن إجابة، وتدخل أحد الحرمين، وهما مواطنان فاضلان، وتقف عند باب الكعبة، وهو موطن عظيم، وتمر عليك أوقات تقدم فيها طاعات تشعر فيها بقربك من الله، فعليك أن تزدلف إلى الله جل وعلا قبل أن تسأله بكلامه، وتردد ما أخبر الله جل وعلا به أنه قادر على كل شيء، فقل: اللهم إنك قلت وقولك الحق: كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ [آل عمران:47]، وقلت: وقولك الحق، كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [آل عمران:40]، وقلت وقولك الحق: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:20]، وقلت وقولك الحق: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40]. وأنت الذي أرجعت يوسف إلى أبيه، رددت موسى إلى أمه، جمعت ليعقوب بنيه، وجعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم، أنت الله لا إله إلا أنت لا تسأل عما تفعل وهم يسألون، أنت الله لا إله إلا أنت تنزهت عن الصاحبة والولد، وتقدست فلم تلد ولم تولد. وتذكر هذه المعاني العظيمة التي ذكرها الله في كتابه، وإلا فلا معنى لأن تقرأ القرآن ثم لا تصدقه، تقول عائشة : (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتأول القرآن يقول في دعائه: يا بر يا رحيم! قني عذاب السموم) وأخذ الاستغفار من سورة إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] فكان يستغفر الله جل وعلا، يتأول القرآن. فالمقصود أن هذه المعاني العظيمة المقررة في قلبك أولاً وأخراً عليك أن تستحضرها ثم تقولها؛ لأن الإنسان إذا كرر شيئاً يعتقده، فكرره بلسانه وأسمعه نفسه قل ألا يترك هذا أثراً في قلبه، فإذا وصلت إلى مرحلة الاستكانة والافتقار والتذلل بين يدي الله، فعرض على الله جل وعلا حاجتك، وسل الرب تبارك وتعالى بغيتك، وألح عليه تبارك وتعالى في الطلب، ثم اختم ذلك بعظيم حسن ظنك، وعظيم رغبتك فيما عند الله تبارك وتعالى، فتذكر من أسمائه الحسنى وصفاته العلى ما يغلب على ظنك أنه مناسب لدعائك حتى يكون ذلك أرفع لدعوتك، وأسمع لصوتك، والله جل وعلا بعد ذلك كله أرحم منك بنفسك، وأقرب إجابة، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]. والمقصود من هذا أننا قد نورد أحياناً مسائل علمية، ونعرج على أقوال النحاة، ونذكر ما دونه الشعراء، ولكن هذا إنما يدفع ويطرد به الملل، ويقرب به البعيد، ويوضح به المعنى، ولكن الغاية الأولى من القرآن كله أن تلين قلوب العباد لربهم تبارك وتعالى، بأن يكون فيه موعظة، ويكون فيه معانٍ تحرك القلب المسلم، وتجعل الإنسان قريباً من ربه وتدفعه إلى الطاعة، وتحجم به عن المعصية، وتبين له عظمة الله جل جلاله، ومن لم يهتد بالقرآن لن يهتدي بغيره قال الله: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40]. اللهم إنا نسألك نوراً نهتدي به، ورزقك حلالاً طيباً مباركاً نكتفي به. هذا ما تهيأ إيراده وأعان الله جل وعلا على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين. |
اشتملت سورة النور على بيان حال ثلاث طوائف من الناس، فالطائفة الأولى هي طائفة المنافقين المعرضين عن حكم الله ورسوله، والمعرضين عن طاعتهما، ومآل هؤلاء هو البوار والخسران. والطائفة الثانية هي طائفة الكفار المظهرين عداوتهم للمؤمنين، وهؤلاء ليسوا بمعجزين لربهم، ومأواهم النار. والطائفة الثالثة هي طائفة المؤمنين الذين وعدهم الله تبارك وتعالى بنصره لهم في الدنيا ورحمته بهم في الآخرة.
|
ذكر بعض دلائل قدرة الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أظهر لنا من فضله وكرمه ووهبنا من آلائه ونعمه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فما زلنا نرتع في رياض الجنة وأعظم مقامات الدنيا كما قال أهل العلم وهو مقام التدبر في كتاب الله جل وعلا والسورة التي نحن بصددها هي سورة النور، وكنا قد وقفنا عند قول الله جل وعلا: لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النور:46]. وأحب قبل أن أشرع وأبدأ بها أن أعود قليلاً إلى الآيات التي سلفت، وكنا قد جعلنا لذلك الدرس حظاً كبيراً من قضية الوعظ، وهذا الأصل في القرآن، فإن الله جل وعلا جعله موعظة كما بينه في كتابه، وقد سبق معنا قول الله جل وعلا: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ [النور:43]، والذي أريد أن أقوله هنا هو أن هذه الآية من أعظم الآيات الدالة على قدرة الله جل وعلا، فالله جل وعلا ذكر فيها مخلوقاً واحداً، هو السحاب، وضمنه أربعة أضداد لا يمكن أن تجتمع في مخلوق واحد، ولا يقدر على ذلك إلا الله، فالسحاب يكون منه الودق، أي: المطر والغيث، وهو ماء، ويكون منه في نفس الوقت الصواعق التي تحرق، وهي في الجملة النار، والماء والنار ضدان لا يجتمعان، فجمعهما الرب في مخلوق واحد، وفي نفس الوقت يقول الله جل وعلا: ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا [النور:43]، والسحاب إذا تراكم بعضه على بعض حجب نور القمر وضوء الكواكب وأصبحت الدنيا ظلمة، ومع ذلك قرنه الله جل وعلا بالبرق، فقال سبحانه: يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ [النور:43]، والبرق نور وضياء، والنور والظلمة لا يجتمعان، فينجم عن السحاب أربعة أضداد، الماء والنار، وهما ضدان، والنور والظلمة وهما ضدان. وهذا من دلائل قدرة الله تبارك وتعالى، والمؤمن -إن كان موفقاً- ينظر إلى القرآن مثل هذه الرؤية، وإن كننا ننهج في التفسير تفسيراً موسوعياً، ونعرج على قضايا نحوية وبلاغية ومعرفية، فذلك من باب أن يستفيد المرء مما نقول، ولتستقيم الطريق العلمية والمعرفية، ولكن قبل أن يؤصل الإنسان نفسه معرفياً ليبز أقرانه ويصل إلى مقصوده، عليه أن يعلم أن المقصود الأسمى أن تثبت القدم يوم العرض على الله، ولن تثبت القدم يوم العرض على الله إلا إذا ملئت بموعظة وضياء القرآن، فينظر إلى القرآن نظر تدبر وإيمان يستدل به من خلال تدبر الآيات على عظمة الواحد القهار جل جلاله. فهذه الآية من أعظم الآيات الدالة على عظيم قدرة الرب جل وعلا. |
تفسير قوله تعالى: (ولقد أنزلنا آيات مبينات...)
قال ربنا وهو أصدق القائلين: لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النور:46]. ولا يلحظ هنا التتابع في الآيتين، حيث يقول الله: لقد أنزلنا آيات مبينات ظاهرة جلية تخبر عن عظمتنا، وتدل على وحدانيتنا، وترشد إلى عبادتنا. ولكي لا يتعلق الناس بها قال الرب بعدها: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النور:46]، فليس النظر في الآيات المبينات والتدبر فيها كافياً للهداية، بل لا بد مع التدبر والنظر في هذه الآيات التي أنزلت من أن يصاحب ذلك توفيق من الرب جل وعلا ولهذا قال الله: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213]، وقد مر معنا تحرير ذلك في أكثر من موضع. |
تفسير قوله تعالى: (ويقولون آمنا بالله وبالرسول...)
ثم قال الله جل وعلا: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور:47]. بقدر الله جل وعلا أراد أن تكون المدينة المجتمع الإسلامي الأول، وأراد الله لها أن تجمع أخلاطاً عدة، فلينظر في حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفاعله مع تلك الأخلاط، حتى لا يكونن مجتمع بعد ذلك بمعزل عن مجتمع المدينة الأول، فيحق لكل أحد أن يتأسى بهديه عليه الصلاة والسلام. فالمدينة كانت زاخرة بالمهاجرين والأنصار أعظم الناس إيماناً، وكان هناك من هم دونهم في الإيمان وليسو منافقين، من الأعراب وبعض الصحابة. وكان هناك منافقون يظهرون ما لا يبطنون، وكان هناك يهود، وكان هناك نصارى يؤوون إليها، كما حصل من نصارى نجران، وكان هناك أعراب جفاة ينظرون إلى مصالحهم، وكان هناك دول تحيط بها، كفارس والروم، وقد حصل لهم بعض المنازعات مع الروم كما هو معلوم. فقراءة هذا المجتمع قراءة صحيحة من الكتاب والسنة والسيرة الصحيحة تعين الإنسان في أي منصب على أن يصل إلى أن يعرف حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم في الحدث. وهنا يخبر الله جل وعلا عن طائفة من المنافقين، ولكن الخبر هنا جزئي يتعلق بالحكومات، والناس تحتكم في ثلاثة أمور: في الفروج والدماء والأموال، ولا يوجد حكم في غير هذا، فأي تنازع بين الناس يكون إما في أموالهم وإما في فروجهم، وإما في دمائهم. يقول بعض أهل التفسير: إن منافقاً يقال له بشر اختصم مع يهودي، فطلب منه اليهودي أن يحتكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى بشر هذا الذي يدعي الإيمان، الاحتكام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرشد إلى كعب بن الأشرف ؛ لعلمه أن النبي صلى الله عليه وسلم يقضي بالحق وهو يعلم أنه على الباطل، فقال الله عنهم: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا [النور:47] أي: بألسنتهم، ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور:47]. قال العلماء: نفي الإيمان عنهم يدل على أن الإيمان لا يقبل من غير عمل؛ لأن الله أثبت لهم أنهم قالوا الإيمان بألسنتهم، ونفى عنهم العمل بقوله جل وعلا: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فقال بعد ذلك معقباً وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور:47]، فالإيمان إيمان بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان. فهذه الطائفة من المنافقين كانت تسكن المدينة، والله جل وعلا من سننه التمحيص، فتأتي الطوارق والحوادث تتابع، فمرة على هيئة أفراد، كما حصل في قضية بشر ، ومرة على مستوى الأمة، كما يحدث التكليف بالجهاد، أو يحدث أمر عام يميز طائفة من الطوائف، وأحياناً تحدث أحداث جزئية تميز أفراداً عن أفراد، ومع ذلك لم يأتِ في القرآن اسم منافق واحد؛ لأن القرآن أكبر من أن يتحدث عن أفراد، وإنما يتحدث عنهم في بعض المواضع لمصلحة أرجح من إخفائهم، فمريم هي المرأة الوحيدة التي ذكرت في القرآن؛ حتى لا يقول قائل: ليس عيسى ابن مريم، وإنما شخص آخر، فذكره الله -أي: عيسى- وذكر اسم أمه حتى لا يبقى تأويل ولا احتمال يفزع إليه من يريد أن ينجو بالآية عما تقصد. يقول تعالى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور:47] (ما) هي الحجازية، تعمل عمل (ليس)، (ليس) و(ما) كلتاهما أداة نفي، ولكن الاختلاف في العمل، فالحرف أو الفعل له معنى وله عمل، وكل الحروف لها معنى إلا الحروف الأبجدية الجزئية، فلا تعرف إلا إذا ركبت، والخلاف هنا كائن في (ما) هل هي عاملة أو مهملة لا تعمل؟ فالحجازيون يعملونها عمل ليس، فترفع المبتدأ ويسمى اسمها، وتنصب الخبر ويسمى خبرها، ومن آية عملها أن يكون خبرها مقترناً بالباء، كما هو هنا: وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور:47]. |
بيان حال المنافقين عند دعوتهم إلى حكم الله ورسوله
ثم قال ربنا: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ [النور:48] في هذه الآية ذكرت (إذا) مرتين، فالأولى هي (إذا) الشرطية، والأخرى (إذا) الفجائية، (إذا الفجائية) يأتي ما بعدها فجأة، ولهذا سميت (إذا الفجائية) والمعنى: أن هؤلاء القوم إذا دعوا إلى أن يحكم الله ورسوله بينهم لا يقبلون هذا العرض قبول متريث، بل لما انطوت عليه سرائرهم من بغض الله وبغض رسوله، وعدم قبول قول الله وعدم قبول قول رسوله يفاجئونك مباشرة بالجواب قبل أن تكمل عرضك، فهذا هو المنزع البلاغي المقصود من الإتيان بـ(إذا) الفجائية في هذا الموقف. وقوله تعالى: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ [النور:48]، قال بعض العلماء: (ليحكم) جاءت بصيغة الإفراد، وقد دعوا إلى الله ورسوله، ومعلوم أن الدعوة إلى الله دعوة إلى كتابه، والدعوة إلى الرسول دعوة إلى سنته، فقالوا: إن المقصود هنا هو الدعوة إلى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الميداني العملي، وإنما ذكر اسم الله قبل اسم رسوله تشريفاً وتبركاً. قال الله تعالى: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ [النور:48]، ثم قال سبحانه: وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ [النور:49]، والإذعان: الانقياد، فلماذا يأتون عندما يكون لهم الحق؟! إنهم يأتون لعلمهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم سيقضي بالحق، فإذا علموا أزلاً أنهم على الحق لم يجدوا بداً من أن يذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا اتباع هوى لا اتباع دين، وقد يتلبس به بعض الناس من حيث لا يشعر، فيأتي إلى العالم ليسأله يبتغي جواباً قد بيته قبل أن يعرض سؤاله، فهو يريد أن يسمع جواباً يرتضيه، ولا يريد الحق، وهذا يحدث في مسائل الحكومات كما هو في العادة. ومن طرائف ما يروى في هذا الباب أن رجلاً اختصم مع زوجه إلى الشعبي ، والشعبي هو أحد رجال الصحيح، متفق عند جمهرة الناس على جلالته وتقواه وورعه، وكان يقضي بين الناس. فلما عرض الرجل وزوجته خبرهما حكم الشعبي للمرأة دون الرجل، فلما وجد الرجل أن الشعبي لم يحكم له جعل ذلك مثلبة في حق الشعبي فقال: فتن الشعبي لما رفع الطرف إليها سحرته ببنان وخضاب في يديها كيف لو أبصر منها نحرها أو ساعديها لا جفا حتى تراه راكعاً بين يديها نشرت هذه العبارات في الناس، والناس يفرحون بمثل هذه الأراجيز؛ لأنها سهلة الحفظ وتغطي فراغاً اجتماعياً لديهم، فانتشرت بين الناس، فلما انتشرت قال الشعبي : والله ما حكمت إلا بالحق، وما رفعت إلي بناناً ولا خضاباً. والبنان: رءوس الأصابع، والخضاب: كالحناء ونحوه، والرجل لما شعر أنه مغلوب جعلها في القاضي. فهذه صورة قبيحة في الناس، ولكنها صورة متأصلة في المنافقين، حيث قال الله جل وعلا: وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ [النور:49] ومهم جداً أن تعرف القيد، وهو أنهم يأتون إليه لعلمهم أنهم على الحق، لا ليقينهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بالحق. |
بيان أسباب إعراض المنافقين عن حكم رسول الله
ثم قال الله جل وعلا بعد ذلك من باب التدرج في ذكر أخلاقهم: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ [النور:50]، فهذه الثلاث مجتمعة فيهم، وليس المقصود التساؤل: هل فيهم مرض؟ هل فيهم ارتياب؟ هل فيهم خوف من الله؟ فهذا غير مقصود وإنما هذه الصفات الثلاث كلها موجودة بينهم، ففي قلوبهم علل وأمراض شك، وأعظم علتهم أنهم غير موقنين بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله، ونجم عن هذا ريب، ونجم عن هذا الريب خوفهم من أن يجور النبي صلى الله عليه وسلم عليهم؛ لأنهم إذا كانوا غير مقتنعين بنبوته فبدهي أن يرموه عليه الصلاة والسلام بالجور والظلم؛ لأن القول بأنه عدل عليه الصلاة والسلام تبع للقول بأنه نبي، وهم لا يقولون بنبوته أصلاً، فلذلك لم يقولوا بعدله عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم إذا كانوا مقتنعين بأنه كذب على الله، فمن باب أولى أن يكذب على الناس. فالمهم أن الآية ليس المقصود منها إلا التدرج في وصف أخلاقهم، حيث قال تعالى بعد ذلك: بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [النور:50]، والمعنى: أن هذه الأخلاق كلها فيهم، وبيان ذلك بصورة ميسرة أنه قد يكون إنسان يحسدك، وبينك وبينه عداوة، وهو كاذب، فعندما يحيف عليك في أمر فإنك لا تدري لأي شيء صنع بك ذلك الأمر، هل حسداً، أم للعداوة المتأججة، أم لكذبه الذي اعتاد عليه، ولا يعني هذا نفي إحدى تلك الصفات، ولكن السؤال: أين الباعث على هذا الأمر، فجاء الجواب القرآني: بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [النور:50]. و(أم) شبيهة العمل بـ(أو)، ويقول أهل النحو: إن بينهما منزعاً دقيقاً، وبيان ذلك أنه إذا كان بينك وبين أحد فورة، وحصل لك فرج بشيء، فإنك تؤمل أن يبعث لك أحداً من طرفه يشاركك في فرحتك، فإن بعث لك أخاه زيداً أو أخاه عمراً، فإن كل الذي يهمك هو أن يأتي أحدهما، فعندما يتأخر وتغيب أنت عن الحفل لحظات وتعود فإنك تسأل فتقول: أجاء زيد أو عمرو؟ فأنت لا تريد أن تسأل عن الذي جاء، وإنما تريد أن تسأل عن المجيء نفسه، فيكون الجواب هنا بـ (نعم) في حالة الإثبات، وبـ (لا) في حالة النفي. أما في استخدام (أم) فإنك على يقين من أن أحدهما جاء، ولكنك لا تدري من الذي جاء، فتقول: أجاء زيد أم عمرو؟ فيكون الجواب بحسب من جاء، فيذكر زيد في حالة إتيانه، وعمرو إن كان هو الذي أتى، فهذا هو الفارق بين (أم) و(أو). ثم جاء بعد (أم) ذكر (بل) في الآية الثانية، و(بل) عند النحويين للإضراب، والإضراب الانتقال، والانتقال أحياناً يكون لاستئناف كلام جديد، وأحياناً تجمع (بل) بين الإضراب والإبطال. فالإضراب متأصل فيها، أما الإبطال فقد يقع وقد لا يقع، ومعنى الإبطال: أن تأتي فتنقل الجملة على أنها تستوعب إبطال الذي سبق، كما قال تعالى عن كفار قريش: وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ * أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا [ص:6-8]، فكل الذي مضى حكاية كلام صناديد قريش، ثم قال الله: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي [ص:8] فهذا انتقال وإبطال لما قد سلف من قولهم، ولكنها لا تأتي على كل حال للإبطال، بل تأتي على كل حال للانتقال. |
تفسير قوله تعالى: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله...)
قال تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور:51]. نلحظ هنا أن كلمة (قول) منصوبة، وقد تستدرك فتقول: كيف ينصب اسم كان؟ والجواب أنها ليست اسم كان، بل هي خبرها، فإذا قررنا أن (قول) هنا خبر كان مقدم، كان لابد من الإجابة عن اسم (كان)، إذ من قواعد العلم أنك إذا دفعت شيئاً أتيت ببدله، وإذا أخرت شيئاً وضعت آخر عوضاً عنه حتى تستقيم الأمور، أما الترك والغفلة فلا يصنعان منك عالماً. فـ(قول) خبر (كان) مقدم، ولذلك نصبت، وأما اسم (كان) فالمصدر المؤول من (أن) وما دخلت عليه في قول الله جل وعلا: أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51]، فهذا من ناحية الصناعة النحوية. أما من حيث التفسير فإن الله لما ذكر حال أهل النفاق ذكر حال أهل الإيمان، وهذا من أسلوب القرآن المتكرر في أكثر من موضع، فقال تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور:51]. والفلاح: تحقق المرغوب ودفع المرهوب، فالإنسان إذا حصل له ما يؤمل وزال عنه الذي يخشاه ويكرهه فقد تحقق له الفلاح، فالله جل وعلا ربط الفلاح وقيده بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. |
تفسير قوله تعالى: (ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه ...)
ثم قال بعد ذلك تذييلاً: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور:52]. وهنا نفصل: فهناك حق لله، وهناك حق للرسول، وهناك حق مشترك بين الله ورسوله، فالإيمان والطاعة حق مشترك لله والرسول، والخشية والتقوى حق لله، والتوقير حق للرسول صلى الله عليه وسلم، فالله تعالى لا يقال في حقه: (توقير)، بل يقال أعظم من ذلك، فيقال: عرف فلان قدر ربه، أما كلمة (توقير) فتستخدم في أسلوب التعامل مع المخلوقين، كما قال تعالى عن الرسول صلى الله عليه وسلم: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح:9]. فالله جل وعلا هنا قال: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [النور:52] وهذا حق مشترك، ثم بعد أن ذكر الحق المشترك ذكر الحق الخاص له جل وعلا الذي لا يصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ [النور:52]، والتقوى من حيث الجملة: فعل المأمور وترك المحذور، ولكن هذا الإطلاق ليس على حاله دائماً، فالتقوى أحياناً يكون معناها ترك المحذور وتوقي عذاب الله، وذلك إذا جاءت مقرونة بالبر والإحسان والطاعة، فإذا جاءت مقرونة بالبر والإحسان والطاعة تنصرف إلى ترك المحذور، كما في هذه الآية: وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ [النور:52]، وهذا تخريج بعض العلماء. وبعض العلماء يقول: إن المقصود: بـ(يخش الله ويتقه) أنه يخشى مما سلف، بمعنى الخوف من التقصير فيما مضى، والتقوى: الخوف من التقصير فيما يستقبل. ثم قال تعالى: فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور:52]. |
تفسير قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن ...)
وبعد أن ذكر الله جل وعلا نماذج إيمانية عظيمة، عاد الحديث إلى المنافقين، فقال سبحانه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [النور:53]، فالذي أقسم هم المنافقون، وقوله: (جهد أيمانهم) أي: منتهى ما يبلغونه من الحلف والأيمان (لئن أمرتهم) أيها النبي (ليخرجن) أي: إذا نصصت عليهم وخصصتهم أو دعوتهم إلى قتال عام فإنهم سينفذون، فأجابهم الله بخطاب للنبي، وهذا يسمى تلقيناً، فهو تلقين إلهي للنبي، وهذا أول التلقين في هذا الموقف، وسيأتي تلقين آخر، فقال تعالى: قُلْ لا تُقْسِمُوا [النور:53] ولا خلاف في أن (لا) ناهية، ولكن ما المقصود بقوله جل وعلا: لا تُقْسِمُوا [النور:53]؟ لقد قال الله بعد ذلك: طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ [النور:53]، فإذا حرر معنى هذه الجملة يتحرر معنى قول الله جل وعلا: لا تُقْسِمُوا [النور:53]. قال بعض العلماء -وهذا الذي عليه الجمهور وهو الأظهر-: (طاعة معروفة) أي: نعلم من حالكم ونعرف من أخباركم ومن صنيعكم بنبينا صلى الله عليه وسلم، نعلم من خلال ما سبق منكم على مقتضى علم الله الأزلي أن طاعتكم معروفة، فليس منكم إلا الخذلان والترك، وعدم الاستجابة لأمر الله ورسوله، فيصبح بعد هذا معنى قول الله جل وعلا: لا تُقْسِمُوا [النور:53] أي: لا حرمة لقسمكم، ولا داعي له؛ لأن طاعتكم معروفة من قبل، هذا التحرير الأول للمسألة. التحرير الثاني: أن قوله تعالى: طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ [النور:53] مبتدأ محذوف الخبر، والتقدير: طاعة معروفة أولى من الأيمان، أي: لا حاجة لي إلى أن تقسموا يصير اللفظ تهكماً مثل الأول؛ إذ الأول يجري مجرى التهكم، ولا يصح مجرى التهكم إذا قلنا بهذا المعنى الثاني، فيصير المعنى: لا داعي للأيمان، فلا نريد منكم أيماناً مغلظة ولا جهد أيمان، بل نريد منكم أن تظهروا ما يثبت صدق اتباع نبيكم صلى الله عليه وسلم. وهذا المعنى يبنى عليه معنى آخر، وهو اشتقاق كلمة (معروفة) أهي من العلم أم من العرف؟ فإذا قلنا: من العلم، أصبح المعنى: طاعة معلومة ظاهرة بينة تثبت لنا صدق توجهكم. وأما إذا قلنا: من العرف، فالمعنى: أن الله جل وعلا لا يريد منكم إلا شيئاً معروفاً تعارف الناس عليه، أي: أمراً يسيراً هيناً، ولا يريد منكم أيماناً مغلظة، ومنه قول الله جل وعلا: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [الممتحنة:12]. ونرجح أن المقصود هو الأول مما ذكرناه. ثم قال سبحانه: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النور:54] وهذا هو التلقين الثاني من الله لنبيه، فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54]، وهذه صفة شرط، فربط الله الهداية بالطاعة، وإن السيادة لأهل الملة مرتبطة باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فـأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد وصلاح وغيرهم كانوا مجاهيل في الأصل، وإنما سادوا لما منّ الله عليهم باتباع نبيه صلى الله عليه وسلم: فمن أبو بكر قبل الوحي من عمر ومن علي ومن عثمان ذو الرحم من خالد من صلاح الدين قبلك من أنت الإمام لأهل الفضل كلهم أي: فالسيادة الدينية مقرونة باتباع هديه صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم رحمه الله في نونيته: وكمال شرع الله دين محمد صلى عليه منزل القرآن |
على الرسول البلاغ
ثم قال: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54]، وأكبر دليل أنه ليس على الرسول إلا البلاغ المبين أن الله قال له: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ [آل عمران:32]، فهو عليه الصلاة والسلام مبلغ، ولما كان عليه الصلاة والسلام يعلم أنه مبلغ وشعر بدنو الأجل وقرب الرحيل كان لا هم له إلا أن يتأكد من كونه أدى الأمانة وبلغ أو لم يؤدها ولم يبلغ، فاستشهد الناس أيام عرفة قائلاً: (ألا هل بلغت؟ فقالوا: نشهد أنك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة). |
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() الساعة الآن 06:14 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. Designed & TranZ By Almuhajir