![]() |
تفسير قوله تعالى: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا...)
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. فما زلنا وإياكم نتفيأ ظلال سورة الكهف، وقد مضى القول في آخر اللقاء السابق عن قول الله جل وعلا: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [الكهف:45]. وقلنا: إن هذه الآية تبين أن لله جل وعلا كمال القدرة، وجليل الصنعة، وأنه جل وعلا قادر على الإحياء، قادر على الإفناء، قادر على الإعادة. قال الله فيما بعدها: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف:46]. قال علي رضي الله عنه: الْمَالُ وَالْبَنُونَ : حرث الدنيا، وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ : حرث الآخرة. وقد جمعهما الله لأقوام. أما التفسير الجزئي للآيات فإن الله جل وعلا ذكره في صدر الآية أن المال والبنين من أعظم العطايا التي تعطى في الدنيا، وأنا قلت: البنين؛ لأني عطفتها على المال، ولأنها منصوبة، ولم أقلها حكاية عن القرآن، يعني: ليس خطأ في القراءة. قال الله: الْمَالُ وَالْبَنُونَ [الكهف:46]. البنون والمال كلاهما من زينة الدنيا باتفاق، لكن الله قدم المال؛ لأن المال تتعلق به نفس كل أحد بخلاف البنين فإنه لا يتعلق بهم قلب كل أحد، هذا الأمر الأول. الأمر الثاني: أن الإنسان إذا كان كثير المال، ولا أبناء عنده فلا يقال عنه: إنه شقي، شقاوة دنيوية، لكن من كان عنده كثرة أبناء، ولا مال له ففيه نوع من رقة الحال، وكثرة العيال، وشقاوة المرء في دنياه من حيث الجملة لا من حيث قضاء الله وقدره. فلهذا قدم الله جل وعلا المال، وإن كان حب الأبناء في النفس مقدم على حب المال، لكن هذا الذي من أجله قدم ذكر المال، فذكر الله اثنين من زينة الدنيا، وذكر الزينة يدل على أن هناك شيئاً من الضروريات غير الزينة؛ لأن الله قال: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا [الكهف:7]، والمعنى: أن ما على الأرض غير الأرض، فلما قال جل وعلا: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ [الكهف:46]، دل على أن هناك أشياء ألصق بالإنسان غير المال والبنين، وقد جمعها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (من أصبح معافى في بدنه، آمناً في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها). قوت اليوم الواحد، والأمن في الدور، والمعافاة في الأبدان هذه من أعظم النعم، لكنها تعين على طاعة الرب تبارك وتعالى، فإن رزق الإنسان مع هذه الثلاث مالاً وبنيناً فقد أتم الله عليه نعمة الدنيا، فما بقي عليه إلا أن يجعلها طريقاً للآخرة. لما ذكر الله متاع الدنيا الفاني، وكان قد ضرب مثالاً محذراً فيه قال: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [الكهف:45]. ذكر هنا ما يفنى؛ لأنه لا المال ولا البنون يغدوان مع صاحبهما إلى القبر، فذكر الله ما يغدو معك إلى قبرك، فقال جل ذكره: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف:46]، والأصل أن يقدم الصلاح هنا ولا تقدم الباقيات لكن الله ذكر الباقيات قبل الصالحات -مع أن الصالحات هي المستخدمة في القرآن كله- حتى تقابل قضية ما هو فان، ولا يجدي، ولا نفع منه في الآخرة: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ [الكهف:46]. وقد قال بعض العلماء: إن الباقيات على وجه التخصيص: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد وردت بهذا المعنى أحاديث، لكن الأصح أن يحمل قول الله جل وعلا: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ [الكهف:46]، على كل عمل صالح اجتمع فيه الشرطان: وهما: إرادة وجه الله، وموافقة شريعة محمد صلى الله عليه وسلم. وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف:46]، خير أملاً: أمور الدنيا وحرث الدنيا لا أمل من ورائها؛ لأن عمله ينقطع بمجرد الموت، أما الأعمال الصالحة فسماها الله باقيات؛ لأن أمل نفعها بعد البعث أعظم وأجدى. |
تفسير قوله تعالى: (ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة...)
ثم قال جل ذكره: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً [الكهف:47]. أي: واذكر يوماً تسير فيه الجبال، وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً [الكهف:47]، ولن نطنب في الحديث عن الجبال؛ لأنه سيأتي لها شيء مخصوص، ومن منهجنا بالتفسير أن ما ذكر في الآيات عرضاً لا نتوقف عنده، وما ذكر أصلاً نقف عنده، وسيأتي ذكر الجبال كأصل في صورة طه عند قول الله جل وعلا: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ [طه:105]، ولكن المقصود هنا: ذكر أهوال اليوم الآخر. وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ [الكهف:47]، دل عليه قول الله: وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ [التكوير:3]. وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً [الكهف:47]، الأرض الآن موجودة، سواء هي أرض المحشر أو غير أرض المحشر، وبارزة بمعنى: ظاهرة، وأنت تقرأ بالتاريخ، وتعي بعقلك أنه عندما يحتدم الجيشان ويلتقيان لا يميز فارس عن فارس، فمعنى المبارزة: أن يخرج واحد من هذا الجند مثلاً في الشق الأيمن ويخرج واحد من الجند فيصبح ظاهراً بيناً؛ لأنه خرج عن جملة الجيش الأول، ويخرج آخر عن الجيش الثاني فيصبح بارزاً ظاهراً عن الجيش الثاني، ولقاءهما يسمى مبارزة، وكانت هذه طريقة في الحروب، كما هي مقدمة معركة بدر. معنى: وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً ، فالأرض في الدنيا مغطاة بما عليها من بنيان، وبما عليها من جبال، وبما عليها من زرع، فقل ما ترى الأرض على حقيقتها إلا الصحراء غير المثمرة التي عليها نبت، وإلا الأرض أذهبت معالمها ما عليها مما أفاءه الله على بني آدم، لكن يوم القيامة يقول ربنا: وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً [الكهف:47] فلا يوجد على الأرض أي معلم، ولهذا جاء في الحديث: (وليس فيها معلم لأحد)، لا يوجد علامة نتواعد ونتفق على أن نلتقي عندها، وهذا معنى قول الله: وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً . ثم قال ربنا: وَحَشَرْنَاهُمْ ، أي: جمعناهم: فَلَمْ نُغَادِرْ ، أي: لم نترك، ويقال لفلان: غادر؛ لأنه ترك الأمانة، ولم يغادر منهم أحداً قطعاً فكل مخلوق سيحشر في عرصات يوم القيامة. |
تفسير قوله تعالى: (وعرضوا على ربك صفاً...)
وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الكهف:48]. فكما خلقناكم أول مرة، وهذا بداية الخلق الأول، ويبعث بعد الموت يسمى الخلق الثاني أو الخلق الآخر، وهو الذي حار فيه أهل الإشراك، قال الله جل وعلا: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ [ق:15]، وهم يعترفون بالخلق الأول، وأن الله خالقهم، لكن المشكلة كما قال الله: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق:15]، هو الشك عندهم في قضية البعث. فقال ربنا وهو يخاطب أهل الإشراك: بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا [الكهف:48]، اسم زمان، أي: ليس لكم موعد زماني ولا مكاني، وهذا مخاطب به أهل الكفر في المقام الأول أنهم كانوا يعترضون على البعث والنشور، قال الله جل وعلا: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن:7]. ثم ما زالت الآية تذكر أهوال اليوم الآخر قال الله: وَوُضِعَ الْكِتَابُ ، وهو اسم جنس: ولكل أحد كتابه كما دلت عليه كثير من النصوص: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ ، أعاذنا الله وإياكم منهم: مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ، أي: أصابهم الوجل والخوف، انقلب ما كانوا يظنونه وهماً إلى حقيقة، وأصبح أمراً مرئياً لا يمكن إنكاره. قال الله جل وعلا: وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مؤنث ويل، والمعنى: الدعوة على أنفسهم بالهلاك والثبور، أي: شعروا بالهلاك والثبور: يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف:49]. قول الله جل وعلا: صَغِيرَةً ، إخبار بدقة ما تضمنه الكتاب، وقوله جل وعلا: وَلا كَبِيرَةً ، إخبار بالعموم. قال الله: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا [الكهف:49]، كل ما صنعه الإنسان، واقترفته اليدان، وأبصرته العينان، أي خطيئة في ليل أو نهار سيراها المرء بين عينيه، أعاذنا الله وإياكم من ذل الفضيحة يوم العرض عليه، قال الله: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ، بل إنه سبحانه يغفر ويرحم، ويقيل العثرة، ويقبل التوبة، ويعفو عن السيئات. وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ، منزه جل وعلا عن أن يظلم أحداً، فأنت عندما تناجي ربك اثن على ربك بأنه تنزه عن الصاحبة والولد، وتقدس فلم يلد ولم يولد، وتعالى أن يظلم أحداً، فكلما نعت الله بما أثنى به على نفسه كنت أقرب إلى رحمة ربك، ومثال ذلك قوله: مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا [الجن:3]، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:3]، وقال: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]. |
تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم...)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف:50]. هذه القصة تكرر ذكرها في القرآن، لكن العلماء يقولون: إن ذكرها في كل مرة له غاية وعبرة، فذكرها في سورة البقرة إعلام بمبادئ الأمور، وذكرها هاهنا تنظير للحال، وتوطئة للإنكار، فالعبر من القصة تختلف من طريقة إلى طريقة، ومن سورة إلى سورة، والقصة واحدة لا تتغير. وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ [الكهف:50]، وإبليس رأس الجن. قال الله: إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ [الكهف:50]. |
تفسير قوله تعالى ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض...)
قال الله: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ [الكهف:51]، أي: لا يوجد لهم دليل قيم، ولا برهان يتكئون عليه في دعواهم، فإن الله خلق السماوات والأرض قبل أن يخلق الخلق، ثم إن الله جل وعلا ما أشهد أحداً خلق نفسه، حتى يشهده على خلق غيره: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ [الكهف:51]. وهذه الآيات إبقاؤها على ظاهرها أعظم هيبة والغيبة التي فيها أعظم أثراً في القلوب. |
تفسير قوله تعالى: (ويوم يقول نادوا شركائي...)
ثم قال الله جل وعلا: وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ [الكهف:52]، وفي هذه المرة استجاب أهل الإشراك، وهم يردون قول الله في الدنيا، والدليل على أنهم استجابوا: فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ [الكهف:52]، والذين لم يستجيبوا هم المدعوون، ولم يستجيبوا؛ لأنهم لا يملكون القدرة، وإنما هم أسماء سموها. قال الله: وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا [الكهف:52]، الموبق: الهلاك، قال الله: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا [الشورى:34]، أي: يهلكهن بما كسبوا، لكن ما المقصود به هنا؟ هل هو واد ما بين المحشر والنار؟ هل هو واد في النار؟ الله أعلم بكيفيته وحيثيته وكنهه، لكن المقصود أنه الهلاك هو الذي سيكون محل أهل الإشراك يوم القيامة. |
تفسير قوله تعالى: (ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها...)
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ [الكهف:53]، وهذه رؤيا بشرية، فانقلب الأمر الذي كان وعداً إلى حقيقة. وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا ، وظن هنا ليست على بابها، وإنما بمعنى الاعتقاد؛ لأنه لا يعقل أن يروا النار وهم يدفعون إليها، ويشكون هل يدخلونها أو لا يدخلونها. وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا [الكهف:53]، أي: لا محيط ولا ملجأ عن النار. |
تفسير قوله تعالى: (ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن...)
قال الله بعدها: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الكهف:54]، وهذا عود على بدء؛ فإن الله كرر وبين في هذا الكتاب العظيم ما ينفع الإنسان في أمر دينه ودنياه، فلا يوجد مجلس أعظم من مجلس يتدارس فيه كلام الله، جعل الله مجلسنا هذا ومجلسكم من هذه المجالس. قال الله: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الكهف:54]، ومع ذلك قال الله: وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الكهف:54]. (أكثر) اسم تفضيل، لكنها هنا مسلوبة التفضيل، والمعنى: وكان الإنسان كثير الجدل، ليست المقارنة بين الإنسان وغيره، وإنما المقصود أن الإنسان كثير الجدل. |
تفسير قوله تعالى: (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى...)
ثم قال: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا [الكهف:55]، (الناس) هنا عموم مراد به خصوص، أو عام أريد به الخاص، والمقصود: كفار قريش. وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ [الكهف:55]، وسنة الأولين: أن الله جل وعلا أهلكهم بهلاك الاستئصال، كما أهلك عاداً وثمود، وقوم لوط وغيرهم. أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا [الكهف:55]، لها معنيان: قبلاً بمعنى مقابل أي: مواجه، و(قبل) تكون جمع لقبيل، والمقصود متنوع، والمعنى: ألوان من العذاب: أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا [الكهف:55]، أي: ذا ألوان وأنواع متعددة. ثم بين الله: وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [الكهف:56]، والمعنى: أننا لن نبعث الرسل ليطلب منهم قومهم العذاب، فهذا خلاف ما كلف الله به الرسل، ولا شأن للرسل لهم به، إنما بعثهم ليبشروا ولينذروا في آن واحد، وما بعثهم ليطلب منهم عذاب أو غير عذاب، لكن الناس إذا جاءهم الرسول خرجوا عن الطريق الذين يخاطبون به، ولا يقبلون بشارة، ولا يخافون نذارة، وإنما أخذوا يطلبون من الرسل العذاب، وهذا خلاف المقصود من إرسال الرسل. وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ [الكهف:56]، وهذا هو نوع من الجدال المذموم: وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا [الكهف:56]، فقد بعث لهم الآيات، وصرفت لهم الآيات، وبعث لهم النذر لتكون طرائق ومعالم تهديهم إلى الحق، فقلبوا ظهر المجن، ولم يفقهوا التعامل معها، وجعلوها هزواً، فقد سخروا من القرآن فقالوا: إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [الأنعام:25]، وسخروا بمن نزل عليه القرآن فقالوا: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر:6]، وكلا الحالتين جعلوا من القرآن ومن الرسول مادة هزو لهم، وهذا لا يضر إلا إياهم، نقول: وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا [الكهف:56]. |
تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه...)
ثم قال الله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [الكهف:57]. هذا استفهام إنكاري، أي: لا أحد أظلم ممن ذكر بآيات ربه، ومع ذلك أعرض عنها ونسي ما قدمت يداه. وما تصنعه من خير، وما تصنعه من شر يسمى كسب، لكن جرى أسلوب القرآن أن الله إذا قال: بما قدمت يداك، يراد به العمل السيئ، ودليله قول الله في الحج: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [الحج:10]. قال الله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الكهف:57]، الأكن: الغطاء: وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [الكهف:57]، أي: ثقل في السمع، صمم: وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف:57]، (إذاً) هي الرابط، أي: إذا كان الله قد وضع على قلوبهم أكنة، في سمعهم وقر، فلن يهتدوا، إذاً: كل أمر راجع إلى مشيئة الله، قال الله عن أهل تقواه: وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43]. وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف:57]. |
تفسير قوله تعالى: (وربك الغفور ذو الرحمة.... لمهلكهم موعداً)
قال الله: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ [الكهف:58]. هذا توطئة لما بعدها والذي بعد لو قوله: لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ [الكهف:58]. فهم حري بهم أن يعجل لهم العذاب، لكن من أسباب عدم تعجيل العذاب لهم أن الله رب غفور ذو رحمة: لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ ، ثم جاءت: بَلْ ، وهي للإضرار الانتقالي، انتقال ذي الخطاب: بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ ، زماناً ومكاناً، الزمان: يوم القيامة ما والمكان: أرض المحشر، لكن المقصود هنا الزمان، وهذا أقرب. بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف:58]، (موئل) بمعنى: لجأ، فموئل بمعنى: ملجأ: لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف:58]، أي: لن يجدوا ملجئاً يفرون إليه عن ذلك الموعد، سواء قلنا أنه مكاني أو زماني، وبينهما تلازم؛ لأن الزمان لا بد له من مكان يكون فيه، والمكان لا بد له من زمن يقع الحدث فيه. وَتِلْكَ الْقُرَى [الكهف:59]، عائد على الأمم السابقة: عاد وثمود وغيرها. وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا [الكهف:59]، أي: حين ظلمهم. وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا [الكهف:59]، أي: جعلنا لمهلكهم موعداً معيناً مخصوصاً محدداً، ولما جاء ما كان لهم أن ينجوا منه، قال الله جل وعلا: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207]. |
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لفتاه...)
ثم قال الله جل وعلا: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ [الكهف:60]، وهذا خبر موسى عليه الصلاة والسلام مع الخضر مع فتاه. الاختلاف فيمن يكون موسى المذكور في الآية أختلف فيمن هو موسى المذكور: هل هو موسى الكليم النبي المعروف، أو رجل آخر من بني إسرائيل؟ هذه أول قضية. والجمهور على أنه موسى بن عمران النبي المكلم المعروف، وهو الذي أراه وأميل إليه. وقال آخرون: إنه من بني إسرائيل لكنه ليس النبي المعروف، وحجة هؤلاء الذين قالوا إنه ليس بموسى: أنه لا يعرف أن موسى خرج من أرض التيه، هذا تاريخياً. ولا يعلم ولا يعقل أن موسى وهو النبي المكلم، والرسول المبجل الذي كاد أن يصل إلى منزلة أن يرى الله يطلب العلم من غير نبي. وحجة الجمهور ظاهرة، وهي أن الله قال: وَإِذْ قَالَ مُوسَى [الكهف:60]، ولا يعرف موسى في القرآن إلا واحد هو موسى بن عمران، ولو كان موسى المذكور غير موسى بن عمران لبينه الله جل وعلا. |
قصة ذهاب موسى إلى الخضر
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ [الكهف:60]، فتى موسى هو: يوشع بن نون بالاتفاق، وهو أحد أنبياء بني إسرائيل الذي ساس بني إسرائيل بعد موسى. وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ [الكهف:60]، أصل الأمر الذي دفع موسى إلى أن يحلف: لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [الكهف:60]، أي: أمشي سنين عديدة، والدافع إلى ذلك بينته السنة، وهو حديث ابن عباس عن أبي بن كعب : أن موسى عليه الصلاة والسلام وقف خطيباً في بني إسرائيل فوعظ موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فتبعه رجل من بني إسرائيل قال: يا نبي الله! هل أحد في الأرض أعلم منك؟ فنسي موسى أن يرد العلم إلى ربه فقال: لا، فعاتبه ربه أن في الأرض من هو أعلم منك، قال: يا رب! وكيف لي به، قال الله له: خذ حوتاً في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثمة يعني: موجود، فأخذ حوتاً في مكتل ومعه غلامه يوشع بن نون، ووصلوا إلى مجمع البحرين، واستراح موسى، وبقي يوشع يحرس نبي الله، فالحوت ردت له الروح فخرج وأتى البحر، فضرب الله كالطاق محدد على الحوت، ويوشع يتعجب وينتظر متى يستيقظ موسى ليخبره، فاستيقظ موسى ونسي يوشع أن يخبره، واستمرا في سيرهما، فجاع موسى وأصابه التعب، وطلب من فتاه الغداء، ولم يكن الحوت هو الغداء وإنما الحوت علامة فلما طلب الغداء تذكر قضية الحوت: قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ [الكهف:63]. رجع قال الله: فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [الكهف:64]، وسيخبرك بما تفيده الآيات، لما رجع وجد الخضر مغطى، فوقف موسى على رأسه وقال له: السلام عليكم، فكشف عن غطائه وقال: وأنى بأرضك السلام، قال: أنا موسى قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، فتعجب الخضر كيف قدم عليه موسى، قال: جئت أطلب على يديك، أخذ عنك علماً، قال: أنت على علم علمك الله إياه لا أعلمه أنا، وأنا على علم علمني الله إياه لا تعلمه أنت، فأخبره موسى بإلحاح أنه سيطلبه فتوجه معهما كما سيأتي: قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [الكهف:60]. اختلف الناس أين مجمع البحرين؟ على أقوال أربعة، وقل ما إن يحصيها أحد إلى أربعة، وهذا فائدة أن يأتي الإنسان متأخراً؛ لأنه يستطيع أن ينظر في أقوال السابقين: فذهب قوم إلى أنه ملتقى بحر فارس والروم، والمعنى: أنه مضيق باب المندب الآن، وقال محمد بن كعب القرضي أحد أئمة التفسير قال: إنه في طنجة اليوم عند مضيق جبل طارق، في ملتقى المحيط الأطلسي مع البحر الأبيض المتوسط. وذهب البقاعي رحمه الله واختاره الأمين الهرري ، وليس شيخنا الأمين الشنقيطي ؛ فإن الأمين الهرري معاصر حي، متع الله به، ونفعنا والمسلمين بعلمه، مال إلى هذا الرأي، وهو أنه في مدينة دمياط في أرض مصر، التقاء المالح بالعذب في دلتا مصر في دمياط، وحجة هؤلاء من حيث النظر قوية، وهم قالوا: إن الحديث دل على أن عصفوراً يأتي ينقر في البحر، والعصفور لا يشرب من الماء المالح، فلا بد أن يكون مجمع البحرين هذا فيه ماء عذب، وهذا يكون في دلتا مصر، هذا الرأي الثالث، لكن يرد عليه أن المانع من قبوله أنه لن يعرف أن موسى بن عمران بعد خروجه من مصر رجع إليها، لكنه كان مع قومه في أرض التيه، فلا يعرف أنه دخل مصر ووصل إلى دمياط، وكذلك القول أنه ذهب إلى طنجة بعيد؛ لأن القضية قضية أنه ترك قومه وأتى إليهم، وهذا لم يذكر في القرآن وهذه الحقبة الطويلة ماذا فعلوا فيها؟ فهم في ثلاثين يوم عندما ذهب لميقات ربه عبدوا العجل، فلو كان ذهب إلى طنجة سيطول ذلك العصر، فالسفر يحتاج إلى آماد بعيدة، وكذلك ما يقال عن طنجة يقال عن باب المندب، إذاً بقينا بقول رابع، لا بد من قول رابع. القول الرابع قاله الشعراوي رحمه الله، وهو: أنه اجتماع خليج السويس مع خليج العقبة، وهذا ما أذهب وأميل إليه إلى ساعتي هذه، ولابد من قرينة تبين ذلك والقرينة أن الله قال: فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [الكهف:64]، وهذا يلزم منه أمران: اللازم الأول: أنه في شيء يظهر عليه أثر المشي، وإلا فلا وجود للأثر، فتكون صحراء. الأمر الثاني: قول الله جل وعلا: فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [الكهف:64]، فيه نوع إشعار أن هذه المنطقة لا يوجد فيها معالم ممكن أن يستدل بها موسى ويوشع، ولو كان فيها معالم ما احتاج إلى أن يقال: ارتد على عَلَى آثَارِهِمَا [الكهف:64]، يعني: يرجعون حسب المعاني التي مروا بها، فيعرفون يمين هذا الجبل مثلاً ويمين هذا البحر، ويسار هذا النهر، فدل على أنهم كانوا في صحراء، والصحراء هذه لا ينطبق عليها إذا قلنا خليج السويس، وخليج العقبة إلا صحراء سيناء، فإذا قلنا: إنه كان في صحراء سيناء فيتفق مع سياق القصص القرآني عن موسى بأنه خرج من أرض مصر يريد أرض فلسطين: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21]. وهي أريحا، فهذا يتفق مع قصص القرآن مع أنه لم تطول المدة في الخروج عن قومه كل يتفق إلى حد ما نقول إن هذا القول الرابع الذي ذكره الشعراوي رحمه الله أقربها إلى الصواب، ولا أدري هل قاله أحد قبل الشعراوي أو لم يقله، والعبرة عندي بقرب القول من الصواب والعلم عند الله. |
تفسير قوله تعالى: (فلما بلغا مجمع بينهما...)
فَلَمَّا بَلَغَا [الكهف:61]، الاثنان موسى وفتاه: مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا [الكهف:61]، كما بينا: فَلَمَّا جَاوَزَا [الكهف:62]، أي: المكان: فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف:62]. وأنبياء الله بشر، يتعبون وينصبون كما ينصب ويتعب الخلق. (قال) أي: يوشع: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا [الكهف:63]، فهو السبب بالنسبة للحوت، فعجب بالنسبة لموسى وفتاه، قال الله تعالى: فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [الكهف:64]، وهذه أوضحناها. فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا [الكهف:65]، وهذه إضافة تشريف: آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [الكهف:65]. |
اختلاف العلماء في نبوة الخضر
ذهب بعض العلماء إلى أن الخضر كان نبياً، ومن حججهم ما يلي: أن الله قال: آتَيْنَاهُ رَحْمَةً [الكهف:65]، والرحمة إذا أطلقت يراد بها النبوة، قال الله جل وعلا: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [الزخرف:32]، هذا الأول. والثاني: أن الله جل وعلا قال: وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [الكهف:65]، ومعلوم أن علم كل أحد من الله، لكن المقصود أنه أعطيه إياه بغير واسطة، إلا إن يكون ملكاً، وهذا قالوا: لا يقع إلا للأنبياء، هذا الثاني. والثالث: أنه قال عن نفسه: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82]، والمعنى أنه بوحي من الله، والرابع: أنه يستحيل أن يأخذ نبي الله أي: موسى علمه عن غير نبي، يستحيل وهذا الرأي عقلي فدل على أن الخضر كان نبياً، وقد مر معنا وهذه مسألة خلافية والعلم عند الله، لكن يرجح أنه يكون نبياً. |
تفسير قوله تعالى: (فوجدا عبداً من عبادنا...)
قال الله: فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:65-66]، إذاً رحل موسى يطلب علماً، والنبي يقول: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاءً بما يصنع)، فخروجك من بيتك لن يكون خروجاً أعظم توفيقاً من أن تخرج لتطلب العلم الشرعي. قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:67]. ثم استدرك قائلاً: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا [الكهف:68]، من أعظم ما يعينك على الصبر أن تعرف على ماذا تصبر، كمن يوضع في سجن، والذي يوضع في السجن إذا أريد به الرحمة يخبروه كم يوم يريدون أن يسجنوه، حتى يتكيف نفسياً وعقلياً، لكن إذا وضع إنسان في سجن ولم يخبر كم سيمكث في السجن، فهذا أدعى للهلاك وعدم الصبر؛ لأنك لا تدري هل تجلس سنة أو ألف سنة، يوماً أو عشرين يوماً فمعرفة الشيء تعين على الصبر عليه، ولهذا قال الخضر: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا [الكهف:68]. ولهذا قال العلماء: إن أعظم ما أعان الله به يعقوب على الصبر على فقد يوسف أنه كان يعلم أن آخر الأمر سيلتقي بابنه؛ لأن ابنه لما رأى الرؤية قال: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف:4]، ففهم يعقوب أن ابنه هذا سيصير أو سيئول إلى رجل ذي شأن وبال، وعظيم ملك، وهذا يترتب عليه لزاماً أن يلتقي غالباً بأبيه، فهذا من أسباب صبر يعقوب على فقد يوسف. والمقصود أن الخضر قال لنبي الله موسى: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:68-69]، وكما قالها موسى، قالها إسماعيل من قبله، لما أخبره أبوه أنه سيذبحه، قال: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102]. بعض من ليس له دربة في العلم يقول: انظر إلى وعد إسماعيل الذي وفى به، ووعد موسى الذي لم يف به، وهذا عدم فهم للأسلوب؛ فالمقام يختلف، فإن إسماعيل كان يصبر على شيء يعرفه، وهو أن وراء استسلامه جنات النعيم، وأن المقصود منه أن يكون قرباناً لله فقط، فهو يعرف مبدأ الأمر ومنتهاه، هذا بالنسبة لإسماعيل فلذلك وفى بوعده، أما كليم الله موسى فما كان يتعامل مع الله في هذا المقام، وإنما كان يتعامل مع مخلوق ولا يدري على أي شيء يصبر، فلذلك ما استطاع أن يوفي بالأمر الذي قطعه على نفسه، ولم يكن موسى يعلم على أي شيء يصبر، وهذا شهد له الخضر بقوله: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا [الكهف:68]، لكن الذي دفعه إلى أن يصبر مرة بعد مرة محاولته الوصول، فلما عجز؛ لأنه لم يكن يعرف نهاية هذا الأمر، ولا قراره ولا خبره آل به الأمر إلى أن يكون هناك فراق بينه وبين الخضر. قال الله عز وجل: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:68-69]، أي: أحاول أن أروض نفسي على ألا أعصيك، وموسى عليه السلام كما سيأتي مقامه مقام قائد، والقادة صعب أن ينقلبوا بين عشية وضحاها إلى أن يكونوا تابعين، فقد جرت العادة على أنه متبوع، فهو النبي الذي يسوس الأمة فيأمر فيأتمر الناس بأمره، ما بين عشية وضحاها أصبح يتلقى أوامر، ويؤمر بالصبر، ويطلب منه الطاعة من مخلوق مثله، ويرى أمور لا تتفق مع علمه، ويطلب منه ألا يعارض فلم يقدر على هذا، وقد حاول مرة ثانية وثالثة ثم ألزم نفسه: قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا [الكهف:76]. وأنا أحاول ألا أدخل على قضية انطلاقهما في البحر؛ لأن هذا يحتاج إلى درس مستقل، لكن نقول: قال الله جل وعلا عنه: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:69]، قال الخضر: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي [الكهف:70]، هذا شرط: فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:70]، والمسلمون على شروطهم، سترى في ختام القصة أن الخضر ألزم موسى بهذا الشرط قال: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:70]. قال الله جل وعلا: فَانطَلَقَا [الكهف:74]، أي: وقفا على الشاطئ، فجاءت سفينة، فعرفوا الخضر ولم يعرفوا موسى، فأركبوهما من غير نول.. من غير عطاء. من غير أجرة، ثم بينما هما في السفينة جاء عصفور، فوقف على حافة القارب نقر نقرتين في الماء، ثم رحل وطار، فقال الخضر لموسى: يا موسى! ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور بنقرتيه من البحر، ومعلوم أن العصفور لم ينقص شيء من البحر بنقرتيه، والمقصود أن علم الخضر وعلم موسى بالنسبة لعلم ما أحاطهم الله بعلمه كنسبة هاتين النقرتين من أرض البحر، فليكن من الكلمات التي تدأب على أن ترددها أن تقول دائماً: أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً، قابلت بعض شيوخ المدينة الصالحين -والشيوخ هنا بمعنى: كبار السن- قبل فترة في مزرعته، فكان يسألني أسئلة أظنه يعرف جوابها، المهم كان ما بين الفينة والفينة يردد هذا الذكر، فكلما أخبرته بخبر أطرق رأسه وقال: أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً، فخرجت من عنده وأنا متأثر بذكره أكثر مما هو متأثر بعلمي، والعبرة بما قربك من الله جل وعلا وأدناك من رحمته. والإنسان أحياناً إذا رأى أقواماً -لا نزكيهم على الله- لكن غالبهم الصلاح تجري على ألسنتهم أذكار يقولونها بسجية، وبطريقة أولية، ولها نصوص تؤيدها من الكتاب والسنة، فتعرف بعد ذلك إذا تأملت قولهم لماذا هم محفوظون بحفظ الله؟ ولماذا هم موفقون؟ ولماذا ترى النور في وجوههم؟ قد لا يكونون يملكون من العلم ما تملك كأفراد العلم وآحاده، لكن كما قال الحسن : إنما العلم الخشية، وقال الله جل وعلا وهو أصدق القائلين: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]. ركب أحد كبار السن مع أحد إخواننا إلى حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: منذ أن ركب إلى أن أوصلته الحرم وأنا لا أعرفه وجدته في عرض الطريق يبتغي صلاة الفجر وهو يقول: يا دائم المعروف! يا قديم الإحسان! قال: وأوصلته إلى الحرم، والله! ما كلمني كلمة، وكان محنياً ظهره وهو يقول: يا دائم المعروف! يا قديم الإحسان! فالإكثار من ذكر الله بالأذكار التي وردت، أو تأول القرآن كما تقول عائشة وكما فعل هذا الرجل المبارك، والأخذ منه من أعظم ما يجعل الإنسان ذا قلب رقيق، ولسان رطب بذكر الله، وهذه الغاية الأولى من تدارس القرآن وحلق العلم، المقصود أن تربى القلوب، وأن تذعن وأن تكون وجلة إذا ذكر الله تبارك وتعالى، جعل الله قلبي وقلبكم ممن يجل إلى ذكر اسم الله جل وعلا. أما ما يتعلق بالقصة تفصيلاً فهو إن شاء الله تعالى موضوع اللقاء القادم. وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، وألبسنا الله وإياكم لباسي العافية والتقوى. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
جزاك الله خير
وكتب لك الاجر والثواب الحسن |
بارك الله فيك
|
في قصة موسى عليه السلام مع الخضر الكثير والكثير من العبر التي ينتفع بها المسلم عموماً وطالب العلم خصوصاً، ومن ذلك: عدم التقليل من شأن أحد من الناس، والتواضع للمعلم، وخفض الجناح بين يديه، وإظهار التبجيل له في حضرته. وفي قصة الملك الصالح ذي القرنين دروس عظيمة، وفوائد جمة تدل على عقله الراجح، وحنكته السياسية، ومقدرته على الحكم، وعلى الرغم من ذلك فإنه في قمة التواضع لربه وخالقه جل وعلا.
|
تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة ... من أمري عسراً)
الحمد لله الذي خلق فيسر، وشرع فقدر، ووعد وبشر، وأوعد فأنذر. والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله، بعثه ربه من أعز قبيل، بواضح الدليل وسواء السبيل، في أكرم جيل وأمثل رعيل، أثنى عليه وعلى أصحابه من قبل في التوراة والإنجيل، فصلى الله وملائكته والصالحون من خلقه عليه، كما وحد الله وعرف به ودعا إليه، اللهم وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فهذا لقاء متجدد حول تأملاتنا في كلام ربنا جل وعلا، وقد انتهى بنا المطاف في اللقاء السابق إلى خبر موسى عليه الصلاة والسلام، مع العبد الصالح الخضر، والتقائهما عند مجمع البحرين، ومضى القول أن موسى عليه الصلاة والسلام مع فتاه نسيا حوتهما، وذلك سبباً في رجوعهما ليلتقيا بالعبد الصالح، ثم تبدأ تلك القصة التي أخبر الله عنها، وجاءت كذلك مفصلة في صريح السنة، في حديث ابن عباس عند البخاري وغيره. قال الله جل وعلا -وهي أول الآيات التي نشرع في التأمل فيها- قال الله تبارك وتعالى: فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا [الكهف:71]. وقد اتفق موسى عليه الصلاة والسلام مع الخضر على أن ينطلقا سوياً، واشترط الخضر على موسى أن يلتزم الصمت، وأن لا يبدءه بسؤال حتى يخبره بما عنده، ووافق موسى عليه الصلاة والسلام على هذا الشرط، وأخذ الخضر منه العهد والميثاق. وسيأتي بعد ذلك بيان أن المؤمنين على شروطهم، وأن ذلك لا يغير من كون كل منهما على جادة الصواب وسواء السبيل. قال الله جل وعلا: فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ [الكهف:71] ففهم أنهما ركبا في السفينة، وأظنه قد مر معنا أنهما وقفا على شاطئ البحر ينتظران مركباً، فمرت سفينة فعرفت الخضر، فأركبوهما من غير أجرة، إجلالاً وإكراماً للخضر، وهذا فيه دلالة على أن عباد الله الصالحين يسخر الله جل وعلا لهم من يحبهم، ويعطيهم ويمنحهم فضلاً من الله تبارك وتعالى عليهم. قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ [الكهف:71]، ركبا السفينة، وكان موسى فرحاً أن أولئك القوم المساكين أركبوهما من غير أجرة، ففجأة وإذا بالخضر يعمد إلى قدوم فيخرق السفينة، ثم يضع مكان ذلك الخرق قطعة من خشب تسده، فاشتاط موسى غضباً؛ لأنه شخص قيادي بفطرته، وتعود أن يسوس بني إسرائيل، ولم يتعود أن يكون تابعاً، وإنما تعود أن يكون متبوعاً، فقال منكراً على الخضر ناسياً الشرط الذي بينهما: قال: قَالَ أَخَرَقْتَهَا - أي السفينة- لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا [الكهف:71] واللام للتعليل؛ ولهذا جاء الفعل المضارع بعدها منصوباً بالفتح؛ لأنه صحيح الآخر. (لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لقد جئت) أي: بفعلك هذا، والتاء للمخاطب تاء الفاعل للمخاطب، شَيْئًا إِمْرًا [الكهف:71] أي: شيئاً مستعظماً لا يقبل. ما زاد الخضر على أن ذكره بالشرط الذي بينهما، قال: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:72]، وهذا ليس فيه عتاب ولا لوم، ولكنه تذكير بالشرط، فتذكر موسى الشرط، فآوى إلى رشده، ولم يغب عنه الرشد يوماً عليه الصلاة والسلام، قال: قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ [الكهف:73]، أي: إنما وقعت مني هذه نسياناً، والله جل وعلا أعذر عباده بالنسيان، وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا [الكهف:73]، أي: لا حاجة لأن تزيد في اللوم، وتكلفني ما لا أطيق، لمجرد أنني نسيت، والإنسان ينبغي عليه أن يقبل عذر المعتذر إذا كان ذلك لأول وهلة. |
تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً ... من لدني عذراً)
قال الله جل وعلا: فَانطَلَقَا [الكهف:74]، أي: ما زالا سوياً، وليس هناك ذكر لـيوشع بن نون في الآيات كما سيأتي، والله أعلم هل كان يوشع معهم وهو الأظهر، أو لم يكن معهم وهو بعيد، لكن سواء كان معهم أو لم يكن معهم فإن يوشع بن نون فتى موسى غير مقصود بالحكاية كلها؛ لأن موسى هو المقصود بالأمر، وإنما يوشع كان تبعاً لموسى، يخدمه ويقوم بشئونه. قال الله جل وعلا: فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا [الكهف:74]، ولا يتصور أنهم لقوا الغلام في البحر، ولكن المقصود أنهم تجاوزوا البحر، ودخلوا مدينة على شاطئ البحر، وقد مر معنا كثير مثله، وسميناه إيجاز حذف، وقلنا: إن القرآن فيه مساواة وفيه إطناب وفيه إيجاز، وكل ما يقتضيه السياق جاء في القرآن على أحد هذه الأنماط الثلاثة: الإيجاز أو الإطناب أو المساواة. قال الله جل وعلا: حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ أي: قتل الخضر ذلك الغلام، فتعجب موسى، وهذه أكبر من أختها، أعظم من الأولى، قال: مستنكراً: أَقَتَلْتَ والهمزة للاستفهام، أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ ، لو قتلتها بنفس أخرى لكان القتل حق، لكنها نفس زكية قتلتها من غير جرم ولا ذنب يظهر لي. لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا [الكهف:74]، و(نكرا) أخت (إمرا) في استعظام الشيء، وفي القرآن -كما مر معنا- منكر ونكر، النكر: الشيء المستعظم على النفوس، الذي تتهول منه الأعين إذا رأته، وإن كان حقاً في ذاته. أما المنكر فهو ضد المعروف، ولو أن النفس العاصية قبلته لكنه يبقى منكراً إذا كان على غير شريعة الله جل وعلا، فالمنكر: ما حرمه الله وذمه الله، ولو ألفته النفس. والنكر: ما استعظمته النفس ولو كان حقاً في ذاته، وسيأتي هذا في بيان قصة ذي القرنين إن شاء الله تعالى. قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ [الكهف:75] زاد هاهنا قوله: (لك) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي [الكهف:76] الفاء عند النحويين واقعة في جواب الشرط، والأصل في جواب الشرط أن يخلو من الفاء، لكن الفاء تقع لأسباب منها أن يكون الفعل مبدوءاً بالطلب، وقوله: (فلا) للنهي، والنهي نوع من الطلب. قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي [الكهف:76]، وهذا شرط التزم به موسى لنفسه، ولا ندري هل موسى ضجر من القضية فأراد أن ينهي الأمر، أو أن موسى عليه الصلاة والسلام أراد أن يلزم نفسه ألا يسأل الخضر أياً كان الأمر فقد كانت هذه آخر الحوادث التي مرت لموسى والخضر. قال الله: قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا [الكهف:76]، أي: لا عذر لي بعد ذلك إذا وصل الأمر إلى كونه ثابتاً. |
تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية .... عليه صبرا)
قال الله: فَانطَلَقَا [الكهف:77] أي: واصلا سيرهما، حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا [الكهف:77]، المستطعم. موسى والخضر، والهمزة والألف والسين والتاء هنا للطلب، والهمزة همزة وصل، اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا [الكهف:77]، أي: طلبوا منهم طعاماً، وضيافة. قال الله: فَأَبَوْا [الكهف:77] أي: أن الذي أبى وامتنع هم أهل قرية، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا [الكهف:77]، وهذا فيه إشارة إلى أن يوشع غير موجود، وهذا يدل على طباع أهل تلك القرية، وقد فهم منها العلماء فائدة جليلة: أن عبرة الإنسان بمقامه عند ربه، فهم لا يمكن أن يتواطئوا كلهم ويعرفوا له قدراً، لكن العظيم لا يبالي بعدم معرفة الخلق له، والعبرة التي ينبغي أن تحرص عليها، والمسألة التي ينبغي أن تعض عليها النواجذ: أين مقامك عند ربك جل وعلا؟ أما الخلق فمنهم المنصف ومنهم المبالغ، ومنهم الحاقد ومنهم الجاهل وهم يختلفون في الإنسان، ولا يوجد أحد أجمع الناس عليه، فنبي الأمة ورأس الملة صلى الله عليه وسلم مات ومن أمة العرب من لا يرى النبي أهلاً للنبوة، لكن هذا لا يضيره، ولا يقدح في مقامه عليه الصلاة والسلام عند ربه. قال بعض من ينظم الشعر: فإن رددت فما في الرد منقصة قد رد موسى قبل والخضر وإن كان السياق الذي جاء فيه النظم غير حميد، لكنني أنا أجتز منه ما هو مقبول، والمقصود أن الله قال: فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا [الكهف:77]، وكان هذا من المفترض أن يدفع الخضر في فهم موسى إلى أن يمتنع عن الإحسان إلى أولئك القوم الذين أبو أن يضيفوهما، لكن الخضر بادر على غير طلب منهم إلى جدار يريد أن ينقض، أي: يكاد أن ينقض؛ لأنه ليس منقض، وليس مستوياً، لو كان مستوياً لما احتاج إلى أن يقومه الخضر ، ولو كان منقضاً تماماً لما قال الله: يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ [الكهف:77]، قال الله: يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ [الكهف:77]، أي: أقام الخضر ذلك الجدار، وجعله عائداً إلى أصله الأول في أنه متمكن لا يهدم، فاستشاط موسى غضباً وقال معاتباً الخضر: قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا [الكهف:77]، أي كان ينبغي عليك أن تطلب منهم أجراً على صنيعك هذا، مقابلة بالمثل، ولحاجتنا إلى الطعام، وهنا أوقف الخضر المسألة وطبق الشرط الذي بينهما، وقلت في التمهيد: المسلمون على شروطهم، قال: قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف:78]، فلهذا قال الله جل وعلا: وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ [البقرة:282]، وقال في الطلاق في الرجعة: وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2] وقال: وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا [البقرة:282]. فالوضوح في المعاملات أمر محمود، ولا يضير الإنسان أن يعطي ديناً أو أن يقترض، فيطلب منه من أقرضه ورقة أو سنداً أو ما أشبه ذلك مما به المواثيق، هذا مما شرعه الله جل وعلا لعباده، والدليل: هذا عبد صالح، ويعرف أن موسى كليم الله، ومع ذلك أجرى تنفيذ الشرط بينهما وقال: قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ [الكهف:78]، والسين للمستقبل القريب وهو بحسب الأحوال، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:78]، والزيادة في المبنى زيادة في المعنى؛ ولهذا قال الخضر: مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:78]، ما زال الأمر في موسى ملتبساً لا يعرف موسى تأويلاً ولا مصوغاً لأعمال الخضر التي قام بها، فالأمر مازال مدلهماً في ذهنه فخاطبه الخضر بجنس ما هو فيه، قال: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:78]. |
تفسير قوله تعالى: (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون ...)
ثم شرع الخضر يبين لموسى عليه السلام هذه القضايا، ويحل العقد واحدة تلو الأخرى. قال: أَمَّا السَّفِينَةُ [الكهف:79] أي: السفينة التي خرقتها، أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف:79] واللام للملك، فالذي يملكون هذه السفينة هم المساكين، والمسكين من عجز على أن يجد لنفسه دخلاً يوافق مصروفه من حيث الجملة، واختلف أيهما أشد فقراً الفقير أو المسكين، مع الاتفاق على أنهما من ذوي الحاجات، والأظهر والعلم عند الله أن الفقير أشد فقراً من المسكين، بدليل تقديم الله له في أصناف الزكاة الثمانية المستحقين لها، قال الله جل ذكره: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا [التوبة:60]. والمقصود أن الخضر قال: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف:79] أي يؤجرونها، فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79] بخرقها، وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الكهف:79]، (كل) من ألفاظ العموم، مرت معنا مراراً، وظاهر كلام الخضر عن الملك أن الملك يأخذ كل سفينة صالحة وعرفنا أنه لا يأخذ المعيبة، أنه لو كان الملك يأخذ كل سفينة صالحة وغير صالحة لما احتاج أن يخرقها. وقوله: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79] نص في موضع الخلاف، وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الكهف:79] أي: ظلماً وتجبراً، كلمة: ( وراء ) جاءت في القرآن على عدة معان، من أشهرها ثلاثة، وراء بمعنى أمام: زمانياً ومكانياً، أما بمعنى أمام زمانياً قول الله جل وعلا: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100]، وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم:17] يعني: هذا في مستقبل أيامه، فحياة البرزخ، والعذاب المتوعد به أهل النار، لم يأت بعد، وإنما هو أمام المتوعد به، هذا ظاهر. وأما وراء بمعنى أمام مكانياً فدليلها الآية التي بين يديك، يقول الله جل وعلا على لسان الخضر: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الكهف:79]، ومعنى وراء أمامهم مكاناً ملك يأخذ كل سفينة غصباً، فأول معاني وراء في القرآن بمعنى: أمام، وتأتي بمعنى: خلف، وهو الأصل في استخدامها اللغوي، تأتي بمعنى خلف، قال الله جل وعلا على لسان العبد الصالح شعيب: وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا [هود:92]، وظهر الإنسان خلفه وليس أمامه، فقوله: وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا [هود:92] نص في أنها تأتي بمعنى خلف. بقيت أشهر معانيها والتي تأتي بمعنى غير أو بعد، قال الله تعالى في النساء: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء:23]، ثم ذكر المحصنات، ثم قال: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُ [النساء:24] أي: ما بعد ذلك، وقال جل وعلا: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ [المؤمنون:5-7] أي: غير ذلك فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المؤمنون:7]، وهذا يدل -كما قلنا- على بعض المعاني التي تأتي عليها كلمة وراء في القرآن. فهذا السبب الأول، وأنت تلحظ أن الخضر عليه السلام أسند فعل العيب إلى نفسه فقال: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الكهف:79]. الآن قضية لماذا خرق السفينة حلت أمام موسى، والمسكين قلنا: أسند إليهم ملك السفينة وسماهم مساكين، فعلى هذا لو أن إنساناً -وهذا يأتيك في باب الفقه في الزكاة- مصروفه أكثر من دخله فإنه يعد مسكيناً، من كان مصروفه العادي من غير سرف ولا مخيلاء أكثر من دخله الثابت المتوقع شهرياً أو سنوياً يسمى مسكيناً. هذا خبره مع السفينة. |
تفسير قوله تعالى: (وأما الغلام فكان أبواه ... وأقرب رحماً)
قال: وَأَمَّا الْغُلامُ [الكهف:80] أي: شأن الغلام الذي أنكرت علي أن أقتله، وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ [الكهف:80]، والأبوان هنا: أبوه وأمه، وهذا على جريان كلام العرب في التغليب، ولغة القرآن: كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الأعراف:27]. وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا [الكهف:80]، أي: أنه سبق في علم الله وقدره أن هذا الولد لو نشأ وعاش سيكون كافراً، ويخشى من طغيانه وكفره، مع تعلق والديه به أن يكون سبباً في كفر والديه، فلئن يفقد الولد في الصغر خير لهما من أن يبقى الولد ويحيا ويموتان على الكفر، فخيرة الله لعبده خير من خيرة العبد لنفسه، وكم من أمور حجبها الله جل وعلا عنا وبقيت في قلوبنا بعض علامات الحزن والأسف عليها ولو فتح لنا الغيب لسجدنا شكراً على أن الله حجبها عنا، ولذلك من أرفع مقامات الصالحين الرضا بقضاء الله وقدره، قال الله جل وعلا على لسان العبد الصالح: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44]، وتقول أم سلمة : أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج من بيتها إلا ويرفع رأسه إلى السماء ويقول: (آمنت بالله، واعتصمت بالله، وتوكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل أو أن أظلم أو أن أظلم، أو أن أجهل أو أن يجهل علي)، والعبد الصالح هو من أوكل إلى الله جل وعلا أمره، واستعان بالله تبارك وتعالى، ورضي بقضاء الله وقدره، ولا يمسي إلا وهو راض كل الرضا عن ربه، بصرف النظر عما أتاه، أو عما لم يأته، فما كان لك سيأتيك على ضعفك، وما لم يكن لك لن تناله بقوتك. فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا [الكهف:81] أي يعوضهما الله، ومعنى الآية إجمالاً: بمن هو أقرب زكاة ورحماً لهما، ولا يكون سبباً في كفرهما ولا في تجاوزهما للحدود، مع الرب تبارك وتعالى، هذه المسألة الثانية. |
تفسير قوله تعالى: (وأما الجدار ... تسطع عليه صبراً)
ثم قال له: وَأَمَّا الْجِدَارُ [الكهف:82]، وهي آخر القضايا، فالذي دفعني إلى إصلاحه وتقويمه رغم لؤم أهل القرية أنه كان لغلامين يتيمن في المدينة. واليتيم في بني الإنسان من فقد أباه دون البلوغ، وفي الحيوان من فقد أمه دون أباه؛ لأن الحيوان لا يعرف أباه، وفي الطير من فقد أباه وأمه، ووجه الشاهد هنا: اليتيم المعروف. وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ [الكهف:82] أي: تحت الجدار، كَنزٌ لَهُمَا [الكهف:82]، أي لليتيمين، ولو قدر وترك هذا الجدار على حاله فإنه ينقض ولو انقض لتسلط الأشرار على الكنز، وليس لليتيمين قدرة ولا شدة ولا بلغة في الدفاع عن نفسيهما؛ لأنهما ضعيفان. قال: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا [الكهف:82] فأراد ربك، فنسب الفضل إلى الله، وتأدب مع الله جل وعلا، ولم ينسبه إلى نفسه، وفي خبر السفينة نسب إرادة العيب إلى نفسه، قال: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79]، وقد مر معنا في دروس متكررة أنه كذلك من أرفع المقامات حسن الأدب مع الله، وأعظم الأدب مع الله توحيده، سئل عليه الصلاة والسلام: (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وقد خلقك)، فمن وحد الله جل وعلا عرف طريق الأدب الحق مع الله تبارك وتعالى، فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا [الكهف:82]، أي اليتيمين، واليتيم يبتلى بأمرين: بلوغ الأشد البدني يكون بالقدرة على النكاح، ويبلغ الأشد العقلي بأن يختبر، فإذا تصرف تصرفاً راشداً في ماله سلم له ماله، وإذا اجتمعت فيه قوتان: قوة البدن وقوة العقل، فقوة البدن عبر عنها بقوله: حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ [النساء:6]، وقوة العقل عبر الله عنها بقوله: َإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]. فنقول: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا [الكهف:82] أي: بعد أن يبلغا أشدهما، وقوله: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:82]، هذه ضمناً جاءت لتبين أن أعظم ما يدخره الآباء للأبناء أن يكون الآباء صالحون في أنفسهم، وقد قيل: إن هذا الأب المقصود هو الجد السابع لليتيمين، وهذا غير بعيد لكن الأولى إمرار القرآن على ظاهره، فقوله جل وعلا: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:82]، إنما ينصرف في لغة العرب أول ما ينصرف إلى الأب المباشر، ولا ينصرف إلى الجد، وإن كان يصح تسمية الجد أباً، لكنه ينصرف أول ما ينصرف إلى الأب. وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:82]، فبرحمة الله جل وعلا لهذا الوالد في قبره، وهو ميت لصلاحه سخر الله موسى والخضر يتجاوزان البحار والقفار ليقيما جداراً تحته كنز من أجل يتيمين، فمن استودع الله شيئاً حفظه تبارك وتعالى؛ ولهذا لن تودع أحداً شيئاً أعظم من أن تودعه عند الله، وأعظم ما تودعه الله جل وعلا دينك؛ ولهذا نقول: يا مقلب القلوب! ثبت قلبنا على دينك. وانظر إلى الأدب في قوله: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الكهف:82] فأخرج نفسه، وكأنه يقول: أنا مجرد آلة تنفذ، حتى لا يفهم أن هناك شفقة غير منبعثة من شيء خارجي من الخضر نفسه، ولكنه أسند هذا الأمر وجعل غدوه ورواحه وصنيعه إنما هو رحمة من الله، جعله الله رحمة للخلق. ثم زاد الأمر توكيد بقوله: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82]، و(ما) نافية، أي: ما فعلته بتصرف مني، وقد قلنا: إن هذه الآية من أعظم الأدلة على أن الخضر كان نبياً، وإن كان الناس أي العلماء اختلفوا فيه، هل هو نبي أو لا، وقلنا: واختلفت في خضر أهل العقول قيل: نبي أو ولي أو رسول لكن الذي يظهر عندي -والعلم عند الله- أن القول بنبوته يقطع الخلاف فيما حام حوله من كثير من التأويلات، وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ [الكهف:82] أي: الذي صنعته ورأيته وشاهدته وبصرته لك وبينته إليك، ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:82]، فخفف المسألة؛ لأنها قد حلت العقد، واحدة بعد الأخرى، وانتهى الأمر إلى أن قال: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:82]. وهنا قلنا: نكرر أن الزيادة في المبنى زيادة في المعنى، وأن الخطاب في الأول كان يناسب حال موسى ومقامه، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ [الكهف:78] ثم انتقل الأمر إلى أن قال: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:82]. |
تفسير قوله تعالى: (ويسألونك عن ذي القرنين ... فأتبع سبباً)
قال الله جل وعلا بعدها: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا [الكهف:83-85]. ذو القرنين أنموذج لملك صالح بلا خلاف، لكن هل هو نبي أو غير نبي؟ هذه مسألة خلافية، وقد جاء في الحديث: (لا أدري أكان ذو القرنين نبياً أم لا؟) فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم توقف في نبوته، فمن باب أولى أن يتوقف أتباعه من العلماء، صلوات الله وسلامه عليه. (يسألونك) وردت في القرآن كثيراً، وقد ردت على ألسنة الكفار، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ [طه:105]، ووردت على ألسنة الكفار وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الإسراء:85]، ووردت هاهنا: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ [الكهف:83]، والسائل: هم القرشيون بأمر من اليهود، ووردت: (يسألونك) من مجتمع المدينة الأول، الذي كان معاصراً للنبي صلى الله عليه وسلم، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219]، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة:222]، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189]. لكن الفرق بين السؤالين، أن الأولى كانت أسئلة من كفار يريدون إثبات النبوة للمجادلة فيها، أما الأسئلة الثانية كانت أسئلة قوم مؤمنين يريدون أن يفقهوا الشريعة، وإن كانت هذه الأمة كما قال ابن عباس : أقل الأمم سؤالاً، وجملة ما في القرآن من أسئلة لا يكاد يتجاوز أربعة عشر سؤالاً. قال الله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ [الكهف:83]، لم يذكر الله اسمهم ولا زمانهم ولا مكانهم؛ لأن المقصود من القرآن العظة والاعتبار، وليس التدوين التاريخي؛ والعظة والاعتبار تحصل من غير تدوين تاريخي، فينبغي ضبط هذه المسألة. قال الله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ [الكهف:83] أي: يا نبينا سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ [الكهف:83] أي: من بعضه، فلن أقول لكم كل شيء، سأقول لكم بالقدر الذي ينفعكم وتقام به الحجة عليكم، وإلا فما أصبح قرآناً، وإنما أصبح كتاباً تاريخياً، لكنه قرآن، وهذا فهم يجب أن تستحضره، أن تفرق ما بين من يقرأ التاريخ مستعيناً بالقرآن، ومن يفسر القرآن فيجعله تاريخاً، ويحق لك أن تقرأ التاريخ مستعيناً بالقرآن لكن لا تقول عليه: تفسير، لكن إذا فسرت القرآن لا تجعله تاريخاً، ولهذا صبغة كل فرد تظهر على تفسيره، فمن كان جيداً في الفقه إذا فسر القرآن أدخلك في أقوال الشافعي وأحمد ومالك وأبي حنيفة وغير المتبوعين كـإبراهيم النخعي والليث بن سعد والطبري وغيرهما، حتى تصبح وكأنك تقرأ في كتاب فقه، أو يأتيك إنسان ويقول: هذه مسألة فرضية، ولها أوجه عند النحويين فكأنك تقرأ في شرح ابن عقيل ولا تقرأ في تفسير. أو يأتيك إنسان تاريخي فيأتيك بالأمم، دولة بني أمية ودولة بني العباس، والحرب التي حصلت بين آل البيت وخصومهم، وما إلى ذلك، كأنك تقرأ في أحداث تاريخية صدرها الناس، ولا تقرأ في كلام رب العالمين جل جلاله، لكن إذا أردت أن تفسر القرآن فنجعل همنا الأول ما فيه من عظة واعتبار تدلنا على الواحد القهار، وإذا أردت أن أعرف تلك المسائل فأستشهد بالقرآن، فلا ضير، لكن لا أسميه تفسيراً ولا تأويلاً. نعود فنقول: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ [الكهف:83]، جعله الله نموذجاً للحاكم الصالح، حتى لا يتعذر أحد أن الحكم لا يقوم إلا على البطش والجبروت، فأتى الله بحاكم صالح ينفذ منهج الله. إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ [الكهف:84]، والتمكين بمعنى: الاستمرارية، والمعنى: أن ذا القرنين لم يكن يملك خوارق العادات، ولا يملك معجزات، فلو جادلت أحداً من الملوك بصنيع ذي القرنين وقال: هذا أعطاه الله معجزات، فقل: ليست معجزات، الله يقول: إِنَّا مَكَّنَّا [الكهف:84] تعني: الاستمرار، فبكونها تعني الاستمرار خرجت عن كونها من خوارق العادات، خرجت من كونها أمراً يفنى مباشرة، يعني: وهلة تظهر ثم تنتهي. إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا [الكهف:84]، أي: الأسباب التي يقوم بها حكمه على الوجه الأمثل. قال الله: فَأَتْبَعَ سَبَبًا [الكهف:85]، أي: أخذ بتلك الأسباب، ولا يعقل، فإن السفينة لا تجري على اليبس، والذي يريد أن يبني مجداً يأخذ بالأسباب ويتوكل على الله جل وعلا، فنحن لسنا أنبياء يوحى إلينا، ولكننا عندما نطلب علماً فإننا نبحث عنه في مواطنه، وفي مظانه، وفي الكتب، ونثني الركب، ونراجع المسائل، ونقوم الليل لكي نستذكره، وكلما وجدنا فرصة بحثنا عن مظان العلم، ولسنا أنبياء يوحى إلينا، مع سؤال الله جل وعلا العون والتوفيق والسداد، فنأخذ بالأسباب، وكذلك سائر الملوك يجب عليهم ذلك. |
تفسير قوله تعالى: (حتى إذا بلغ مغرب الشمس ... من أمرنا يسرا)
ثم ذكر الله جل وعلا رحلات هذا الملك الصالح، فقال: حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ [الكهف:86] أي: جهة الغرب. قال الله: حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا [الكهف:86] أي: وجد الشمس، تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ [الكهف:86]، فهم بعض الناس، وألفت في هذا كتب أن الشمس تغرب في عين حمئة، وهذا غير صحيح؛ لأن الله يقول: وَجَدَهَا [الكهف:86] بحسب نظر ذي القرنين ، ليس بحسب غروبها، والإنسان إذا كان في جدة مثلاً وينظر فيرى الشمس تغرب في البحر، وإذا كان في صحراء نجد فسيرى الشمس تغرب في الصحراء، وإذا كان في جبال تهامة والحجاز سيرى الشمس تغرب في الجبال، كلٌ بحسب الموطن الذي هو فيه، حتى إنك في عرفة تراها تغيب في السيارات، من كثرة مد السيارات تراها تغيب وراء السيارات؛ لأن هذا بحسب الرؤية، فهو وجدها تغرب في عين حمئة. نقول: إن ذا القرنين وصل إلى مكان جهة الغرب فيه عين حمئة، وهذا منتهى ما وصل إليه ذو القرنين من جهة المغرب، ثم إن الشمس تغرب بعد ذلك. وَوَجَدَ عِنْدَهَا [الكهف:86] أي: عند ذلك المكان، قَوْمًا قُلْنَا [الكهف:86]، وهذا ظاهر أنه بوحي، فإن قلنا إنه نبي فإن الوحي مباشرة، وإن قلنا: إنه ملك غير نبي فيكون معه نبي، ولا يستبعد أن يكون معه نبي، كما كان مع طالوت نبي، فعن طريق ذلك النبي أخبر ذو القرنين . قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا [الكهف:86]، وحتى تكون ملكاً لا بد أن يكون لك أثر، وإلا لما صار هذا ملكاً، والعظيم يترك أثراً، لا يمشي على الأمور بالهين، وهذه قد ربما تفهم على غير وجهها، لكن قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا [الكهف:86-88]، هذا منتهى العدل وفي نفس الوقت، إن الملك يبقى إذا كان الفاسق والمجرم يخاف من سطوتك، والكريم الفاضل يرجو فضلك، يبقى الملك، تبقى إدارتك، تبقى سياستك، يبقى نفوذك في الأمر إذا كان ذوي الصلاح يؤملون منك، وأهل الفجور يخافون منك. أما إذا كان أحد من الناس يحكم، فإن الفجار لا يخافونه، ولا الكرام يؤملون فيه، فلن يستمر ملكه؛ لهذا قال العبد الصالح: قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ [الكهف:87-88]، وهذا يدل على أن الظلم الأول مقصود به الشرك، وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا [الكهف:88]. ومنها يستنبط أن الأصل في الجهاد ليس المقصود به استرقاق الناس، ولا توسيع الرقعة، ولا اتخاذ الأراضي، ولا زيادة السلطان، وهذا كله لم يصنعه ذو القرنين ، وإنما المقصود أن يدخل الناس في الدين، فإذا دخلوا في الدين تحققت الغاية من رفع السيف عليهم. |
تفسير قوله تعالى: (ثم اتبع سبباً ... بيننا وبينهم سداً)
قال الله جل وعلا: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا [الكهف:89-90] أي: الشمس، فانتقل من المغرب إلى المشرق، قال تعالى: تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا [الكهف:90]، أي: أنهم في فقر شديد، فهم يسكنون بيوتاً وكهوفاً وصخوراً، ولم يذكر الله جل وعلا شيئاً عن أمرهم هذا، قال: كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا [الكهف:91]. ثم قال: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا [الكهف:89]، أي: أخذ بالأسباب ومضى. حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا [الكهف:93]، ولا ندري أي السدين، ويرجح أنها في أذربيجان جهة الاتحاد السوفيتي، ويقال: غير ذلك، وقلنا: أغفل الله مكانها، لكن السدين هنا هما الجبلان العظيمان. حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا [الكهف:93]، أي: ضعاف عقول، قَالُوا [الكهف:94] أي: هؤلاء يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ [الكهف:94]، ونصبت (ذا)؛ لأنها منادى مضاف، وهو من الأسماء الخمسة ينصب بالألف. قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ [الكهف:94]، والمشتكي هم هؤلاء القوم الذين نعتهم الله بأنهم لا يكادون يفقهون قولاً، وأنهم قوم بدائيون، وأما يأجوج ومأجوج فقد اختلف الناس فيهم وقالوا كلاماً كثيراً، لكن أظهر الأقوال: أنهم قبيلتان من نسل يافث بن نوح على نوح السلام. وبعض العلماء يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليهما في رحلة الإسراء والمعراج، حتى تقوم عليهم الحجة، وهذا لا يبعد، لكنه لم يثبت. قال الله جل وعلا على لسانهم: قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا -عطية - عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا [الكهف:94]؟ وهذا ملك سياسي دبلوماسي، فكان أولاً متصلاً بالله. |
تفسير قوله تعالى: (قال ما مكني فيه ربي خير ... آتوني أفرغ عليه قطراً)
قال تعالى: قَالَ مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ [الكهف:95]، فحمد الله على ما أعطاه، ورفض الخراج، وقد كنت أحسب قديماً في أول علم التفسير أنه رفض الخراج؛ لأنه لا يريد أن يأخذ مع استغنائه، لكن الذي بدا شيء آخر، وهو أنه رفض الخراج حتى يستفيد من قوتهم البدنية، والمعنى: أنه لو قبل أن يأخذ الخراج لأوكلوا إليه بناء السد، فكان ذلك أشبه بالعقد بينه وبينهم وهم ينتظرون صنيعه، لكنه علم أنهم قوم لا يكادون يفقهون قولاً، ومن كان قوياً في بدنه، وغير مكتمل في عقله، لا يحسن بك أن تعدم الفائدة منه، فاستخدمه فيما يتفق مع شخصيته، فقال لهم: قَالَ مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ [الكهف:95] أي: بقوة أبدانكم، وما أعطاكم الله من قوة وجلد وحمل أعينوني بها، أما العقول فقد قال الله من قبل: لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا [الكهف:93]، فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ [الكهف:95] أي: وبين يأجوج ومأجوج رَدْمًا [الكهف:95]. آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ [الكهف:96]، زبر الحديد يعني: قطع الحديد، والزبر في اللغة: الكتابة. آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ [الكهف:96]، الصدفين: الجبلين العظيمين، وهنا فائدة نعرج بها، يقول الناس إذا لقوا أحداً على غير ميعاد: قابلته صدفة، وهذا خطأ، وأنا لا أتكلم عن خطأ شرعي، وإنما خطأ لغوي فمعنى صدف الرجل عن أخيه: أعرض عنه، فالصحيح أن تقول: قابلته مصادفة، يعني: على غير اتفاق، ولا يصح أن تقول صدفة، فصدفة بمعنى: إعراض، تقول: قابلته مصادفة، لا تقل: قابلته صدفة. قال الله جل وعلا: حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا [الكهف:96]، ذكر الله نفخ النار، وذكر أنهم أفرغوا عليه القطر، والقطر هو النحاس المذاب. غاية الأمر أنه خطط ونفذ بمعونة أبدانهم، وكمال عقله، واتحاد جيشه على أنه بنى في تلك الفجوة التي ما بين الجبلين العظيمين التي كان من خلالها تأتي قبائل يأجوج ومأجوج سداً منيعاً، مكوناً من نحاس مذاب، ومن حديد ومن صخر. |
تفسير قوله تعالى: (قال هذا رحمة من ربي ...)
قال بعد ذلك: قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي [الكهف:98] أي لكم؛ لأن الله جل وعلا بهذا الردم حماكم من أذى يأجوج ومأجوج، قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي [الكهف:98] أي: عند قرب قيام الساعة، وتؤيده آية الأنبياء، وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنبياء:97]، وقبلها قال تعالى: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ [الأنبياء:96]، قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا [الكهف:98]، وهذا سيأتي في الدروس القادمة. ويأجوج ومأجوج قلنا: إنهما قبيلتان من نسل يافث بن نوح ، قال عليه الصلاة والسلام: (ويل للعرب من شر قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بين أصبعيه الإبهام والسبابة) صلوات الله وسلامه عليه، وهم أمة من الأمم، الله أعلم بعددهم، ليس لأحد بهم قدرة، وعند خروجهم يشرب أولهم بحيرة طبرية فلا يبقي لآخرهم شيئاً، فيأتي آخرهم فيقول: كان هنا ماء، يرمون النشاب إلى السماء، فيرد الله رأس الرمح أحمر، فيقول: بعضهم لبعض غلبنا أهل الأرض، وقهرنا أهل السماء، وهم فتنة من أعظم الفتن، ويفر عيسى والمؤمنون الذين معه إلى جبل الطور فيدعو عليهم، فيصيبهم النغف في رقابهم، يموتون موتة رجل واحد، ثم تأتي طيور تحملهم، ثم ينزل الله مطراً ليس لأهل زرع ولا ضرع، يغسل الله من نتنهم، ثم إن المؤمنين الذي ينزلون مع عيسى يشبون ويوقدون النار، من قسي يأجوج ومأجوج سنين طويلة، مما يدل على أنهم تركوا أسلحة كثيرة، وهذا يدل على كثرتهم. هذا ما يمكن أن يقال عن يأجوج ومأجوج، ويمكن أن يقال عن هذه الآيات المباركات التي شرعنا فيها بيان قصة كليم الله موسى مع العبد الصالح الخضر، ثم ذكرنا إجمالاً نبأ الملك الصالح ذي القرنين، وما مكن الله جل وعلا له في الأرض، وأن الأصل في جهاد المسلمين والغاية الكبرى أن يدخل الناس في دين الله أفواجاً. هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده حول هذه السورة الكريمة، بقي لنا إن شاء الله تعالى في اللقاء القادم، سنختم بقول الله تعالى: قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا [الكهف:98]، وندخل على قول الله: وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ [الكهف:99]، ثم نذكر أهل الجنة ومآلها، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف:107]، ثم نذكر -إن شاء الله تعالى- في اللقاء القادم الفرق ما بين كلام الله وكلام المخلوقين، ثم نذكر خاتمة الصورة، وأن الوحي أعظم خصائص الأنبياء التي أعطاهم الله جل وعلا إياها، إذ قال جل شأنه: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، هذا كله موضوع الحلقة أو اللقاء القادم إن شاء الله تعالى. أسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يلبسنا وإياكم لباسي العافية والتقوى. وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
ذكر الله عز وجل في آخر سورة الكهف أولئك الذين يعملون أعمالاً يحسبون أنهم يحسنون صنيعها، فيتفاجئون بأنها هباء منثوراً؛ وذلك بسبب إعراضهم عن سبيل الله، ثم ذكر تبارك وتعالى على سبيل الإيجاز ما أعده لعباده المؤمنين، ثم بين أنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يواكب المخلوق شيئاً من صفات الخالق، وذكر صفة الكلام.
|
تفسير قوله تعالى: (قال هذا رحمة من ربي ...)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ الله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: سنعرض في هذا اللقاء المبارك إلى ما بقي لنا من آيات من سورة الكهف من قوله جل شأنه: قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا [الكهف:98] إلى آخر السورة المباركة وهي قول الله جل وعلا: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]. وسورة الكهف قد مضى الحديث عنها في اللقاءات السابقة تفصيلاً وانتهينا إلى خبر الملك الصالح ذي القرنين ، وقلنا فيما سلف: إن العلماء اختلفوا فيه: هل هو نبي أم غير نبي؟ ورجحنا التوقف في المسألة؛ لما ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا أدري أكان ذو القرنين نبياً أم لا؟) ، وما دام رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه توقف في أمر ذي القرنين فحق على حملة العلم من بعده أن يتوقفوا، وإن كنا نقول: إن ظاهر القرآن يدل على أنه نبي. وهذا الملك الصالح بنى سداً سمي في القرآن ردماً، والطلب التي تقدمت به تلك القبائل عبروا عنه سداً لكنه عبر عنه بالردم، وهذا الردم كانت الغاية منه أن يصد دخول قبائل يأجوج ومأجوج من الإفساد في الأرض، فاستعان ذو القرنين بعتاد أولئك القوم بأن يعينوه ورتب بناء ذلك الردم وسد تلك الفجوة ثم بعد أن فرغ منها وانقطع الشر وسد البأس قال لهم: هَذَا [الكهف:98] أي: الذي بنيته ويشير إلى الردم رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي [الكهف:98]، ووصفه بأنه رحمة؛ لأن الله جل وعلا منع به الأذى، والرحمة كلمة واسعة وهي: كل ما كان سبباً في حصول مرغوب أو دفع مرهوب. قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي [الكهف:98] وهذا من أدب ذي القرنين مع ربه أنه نسب هذا الأمر إلى الله ولم يشر إلى ذاته أو إلى نفسه طرفة عين. فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي [الكهف:98] والمقصود بوعد الله هنا: قرب قيام الساعة، ويؤيده قول الله جل وعلا في الأنبياء: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ [الأنبياء:96-97] ، فرتب الله جل وعلا اقتراب الوعد الحق على خروج قبائل يأجوج ومأجوج، وأن خروجهم من أعظم أمارات الساعة وأشراطها كما مر معنا في أخبار عديدة، وسيأتي تفصيلاً في موضعه ومنهجنا في التفصيل أننا لا نستطرد كثيراً في خبر نعلم أنه سيأتي الحديث عنه في حينه. قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ [الكهف:98] وهذا يحتمل أمرين: إما أن يدك على يد يأجوج ومأجوج عندما يحفروه وهذا الذي نميل إليه. وإما قصد ما يحدث في الأرض من تغير معالمها عند قيام الساعة، والأول أقرب، قال صلى الله عليه وسلم وقد نام عند زينب بنت جحش قال: (ويل للعرب من شر قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج)، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (ويل للعرب من شر قد اقترب) أراد الأمة كلها عرباً وعجماً؛ أراد من كان على الإسلام، لكن الحديث فيه دلالة ظاهرة صريحة على أن العرب هم مادة أهل الإسلام، وهذا النوع من الافتخار لا ينافي ما جاء في الشرع من النهي عن الفخر؛ لأن الإنسان إذا تكلم عن مادة الأشياء فإنما يضع الأمور في مواضعها الصحيحة، وعليه يقاس قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين: (أنا النبي لا كذب) ثم قال مفتخراً: (أنا ابن عبد المطلب)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (أنا ابن عبد المطلب) لا يلزم منه التعالي على غيره وإنما الإخبار بأصل مادته صلوات الله وسلامه عليه، فهذا إن شاء الله من جنسه. قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا [الكهف:98] (حقاً) نصبت؛ لأنها خبر لكان، أي: أنه لا ارتياب ولا شك في أن وعد الله الذي أخبر عنه سيأتي؛ لأنه لا يستطيع أحد أن يرد ما قضى الله جل وعلا وقدر أن يكون. |
تفسير قوله تعالى: (وتركنا بعضهم يومئذ يموج ...)
قال الله جل وعلا بعدها: وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ [الكهف:99] ذهب بعض المفسرين أو أكثر المفسرين على أن المقصود: الناس جميعاً في قوله: وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ [الكهف:99]، لكننا نقول -والعلم عند الله-: إننا نرى أن هذا مخالفاً للصواب؛ لأن كلمة (يومئذٍ) عائدة لقول ذي القرنين: قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي [الكهف:98] عائدة عليها، يعني: يومئذ عائدة لليوم الذي يجعل فيه ذلك الردم دكاء، وليست عائدة لقيام الساعة وحشر العباد، والدليل على أنها ليست عائدة على قيام الساعة وحشر العباد أن الله قال بعدها: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا [الكهف:99]، والواو تقتضي الترتيب وهي عاطفة والعطف يقتضي المغايرة بصورة أولية، فلا يمكن أن يكون المعنى شيئاً واحداً. لكننا نقول: وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ [الكهف:99] المقصود: قبائل يأجوج ومأجوج، يَمُوجُ فِي بَعْضٍ [الكهف:99] أي: من كثرتهم يموج بعضهم في بعض، والموج الاختلاط بين الأشياء، والاضطراب يكون على غير نظام، ويؤيد هذا ما ورد في الأحاديث الصحيحة في خبر يأجوج ومأجوج أن أولهم يشرب بحيرة طبريا فيأتي آخرهم فيقول: قد كان ها هنا ماء، ولكثرتهم يموج بعضهم في بعض، فليس المقصود الناس جميعاً وإن قال: ذلك أفاضل من العلماء. ثم قال الله: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا [الكهف:99] على كثرة ما ورد في القرآن من ذكر النفخ في الصور إلا أن الله جل وعلا لم يذكر في القرآن قط اسم الملك الذي سينفخ في الصور، فكلها جاءت بالبناء للمجهول لكنه اشتهر بين العلماء بدلالة السنة من وجه أو آخر على أن الذي ينفخ في الصور هو الملك إسرافيل عليه السلام، والمستقر عند العلماء أن رءوساء الملائكة أربعة منهم: إسرافيل عليه السلام، وأنه قد التقم الصور، يعني: ينتظر متى يؤمر بالنفخ فينفخ، كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح. قال الله: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا [الكهف:99] وهذه يقيناً أنها النفخة الثانية؛ لأن النفخة الأولى ليس بعدها جمع وإنما يكون بعدها الصعق ثم يكون بعدها أربعون الله أعلم إن كانت أياماً أو سنيناً أو شهراً، ثم يكون بعد ذلك بعث الخلائق من جديد. قال الله: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا [الكهف:99] وهذه تعود على الجميع؛ على كل من خلقه الله، فإنه يجمع يوم القيامة. |
تفسير قوله تعالى: (وعرضنا جهنم يومئذٍ ... لا يستطيعون سمعاً)
ثم ذكر الله جل وعلا بعضاً من مراتب أهوال اليوم الآخر فقال جل شأنه: وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا [الكهف:100] اللام هنا للكافرين، بمعنى على، وهو استخدام عربي معروف دل عليه ما ورد من آيات أخر مثل قول الله: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر:46]، فاللام هنا بمعنى: على أي: عرضنا جهنم على الكافرين، كما أن الكافرين يعرضون على النار، فكل من جهنم وكل من الكافرين يعرض أحدهما على الآخر نكاية بهم، الله يقول: النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحج:72]، والوعد لا يكون إلا في الخير لكن المخاطب ليس الكفار فلم يقل الله: وعدت الذين كفروا النار، ولا قال: وعدت النار الذين كفروا، وإنما قال الله: النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحج:72] وإلا فإن الوعد يستخدم للخير في الأصل. نعود فنقول: وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا [الكهف:100] وهذه أول مراحل العذاب، واللام هنا بمعنى على وهو استخدام عربي معروف وقد جاء في بيت شعر عربي عجزه: فخر صريعاً لليدين وللفم والمعنى خر صريعاً على يديه وعلى فمه، فعبر باللام نيابة عن: حرف الجر على. قال الله جل ذكره: وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا [الكهف:100] وهؤلاء هم الكافرون الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا [الكهف:101]، ومعلوم لكل أحد أن هؤلاء الكافرين المخاطبين في الآيات القرآنية كانوا يسمعون وكانوا يبصرون لكنهم لم يكونوا ينتفعون بأبصارهم ولم ينتفعوا بأسماعهم كما قال الله: أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا [الأعراف:179] . وقد تقرر عقلاً أن الجارحة إذا لم تفد صاحبها فهي كالعدم، فمن كانت له قدمان لا يستطيع أن يمشي عليهما فكأنه ليس له قدمان، ومن كانت له أعين لا يرى فيها بعين بصيرته مخلوقات الله جل وعلا ويستدل بها على عظمة ربه ووحدانيته في المقام الأول فهو كمن ليس له عين أصلاً، ومن كانت له أذن وهو لا يعتبر بالقرآن ولا يتدبره ولا يتذكره ولا يسمعه ولا ينتفع بما يسمع من المواعظ والأحاديث والذكر فكأنه لا سمع له أصلاً، وسنقرر هنا مسألة إيمانية عظيمة وهي من فرائد ما ينقل، ونقول من الآية ومن غيرها: وهذه حري بها أن تفهم ويعمل بها: أن الله جل وعلا حجب عنا جميعاً في الدنيا ذاته العلية، ومكننا من رؤية مخلوقاته، فالله لا يرى في الدنيا، ومكننا جل وعلا من رؤية مخلوقاته، فمن رأى تلك المخلوقات بعين البصيرة واستدل بها على ربه جل وعلا وعرف الله من خلالها ووحده وعظمه وأجله فإنه يرى ربه في الآخرة بعينه الباصرة، ومن لم تدله بصيرته على عظمة الله ووحدانيته وجلالة خلقه جل وعلا وقدرته على الخلق بعين بصيرته فإنه يحرم يوم القيامة لذة النظر إلى وجه الله بعينه الباصرة، قال الله جل وعلا عن أهل النار: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، وقد قدمنا مراراً في دروس عدة أنه لا عذاب أشد وأنكى من أن يحرم أهل النار من رؤية وجه الواحد القهار، ولا عطية لأهل الجنة أعظم من أنهم يرون وجه العلي الأعلى جل جلاله، قال الرب تبارك وتعالى ممتناً عليهم: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22] من النضرة بسبب أنها إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23]؛ لأنها تبصر وترى وجه ربها العلي الأعلى. على هذا يفهم أن السمع والبصر من الجوارح التي من الله جل وعلا بها على خلقه، من استعملها استعمالاً صحيحاً دلته على الله قد انتفع بها، أما من كتب الله عليه الشقاوة وجعل على بصره غشاوة، وختم الله من قبل على قلبه وسمعه فهذا كمن لا سمع له ولا بصر ولا قلب، قال الله جل وعلا: الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا [الكهف:101] . |
تفسير قوله تعالى: (أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا ...)
ثم قال جل شأنه: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا [الكهف:102]، والهمزة هنا: همزة استفهام، والمقصود من هذا الاستفهام: التوبيخ، والمعنى العام: أفيحسب أولئك الذين عبدوا ما عبدوا من دون الله من ملائكة وأنبياء وأقوام صالحين، وجعلوهم أولياء من دون الله يعبدونهم ويعظمونهم ويصرفون لهم من الطاعات ما لا يجب ولا يجوز شرعاً صرفه إلا لله فصرفوه للأولياء، أيحسب بعد ذلك كله -والجواب محذوف- أنهم ناجون من العذاب وأنهم يتركوا، هذا لا يمكن أن يكون. وجاء في الحديث الصحيح قال: (قال: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وقد خلقك) والملائكة والأنبياء الذين عبدوهم يتبرءون من أولئك الذين عبدوهم من دون الله، لكن الملائكة والأنبياء الذين عبدوا من دون الله لا يسمون طواغيت وهذا احتراز لا بد منه، وإنما يسمى طاغوت من رضي بتلك العبادة، ومن صرفت له طاعة وعبادة ورضي بها أو أمر بها، أما من لم يرض بها ولم يأمر بها أصلاً كما صنعت الملائكة وعيسى بن مريم وغيرهم ممن عبد من عبد من دون الله من الصالحين فلا يسمون طواغيتاً، وإنما الجرم كل الجرم على من جعلهم أولياء من دون الله. أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا [الكهف:102]، النزل: أول ما يقدم للضيف كالقهوة التي تقدم للضيف في عصرنا هذا، لكن القهوة شراب، وأحياناً تكون طعاماً كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن أول نزل أهل الجنة زيادة كبد النون) أي: زيادة كبد الحوت، ولا تكون مكاناً في الأصل لكن الله قال هنا: إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا [الكهف:102] فكأن جهنم هي أول ما يقدم للضيف، والحق أنني أقول: إن هذه الآية مر عليها المفسرون مروراً عادياً ولا يرون فيها إشكالاً، لكن نقول والعلم عند الله: إن هذه الآية مشكلة وكثير من آيات القرآن التي فيها جهنم فيها إشكال كبير ينتبه له أو لا ينتبه له، لكنني في صدد فهم نظريتها كاملة وقد وصلت إلى أكثرها لكنها لم تكتمل بعد، وسبب الإشكال أن الله يقول مثلاً في سورة تبارك: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ [الملك:5]، ثم قال: وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ [الملك:6]، فكأن جهنم غير السعير، وقال الله في البروج -وكنت أتحاشى تفسيرها-: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10]، فكأن عذاب جهنم غير عذاب الحريق، وقد يقول إنسان: إنها دركات، وهذا لا يعقل هنا؛ لأن المخاطب بها فئة واحدة والفئة الواحدة لا تنقسم، لكنني لست في عجلة في إظهار ما توصلنا إليه لكن نجعل هذه الآية أو فهمها معلقاً حتى حين، وكذلك الفردوس في القرآن تحتاج إلى إعادة نظر. نقول: إن الله يقول هنا: إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا [الكهف:102] ، وبينا أن النزل الذي عليه عامة أهل التفسير أنه أول ما يقدم لهم من مكان في النار؛ لأن النزل في اللغة هو أول ما يقدم للضيف. |
تفسير قوله تعالى: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً ... يوم القيامة وزناً)
نعود فنقول: قال الله جل وعلا بعدها: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:103-105] ثمة معانٍ جليلة تتضمنها هذه الآيات، أولها: أنه لا يمكن أن يقال: إن المخاطب بها فئة بعينها، وإنما المخاطب كل من صنع صنيعاً يعتقد أنه حسن وأنه ناجٍ بذلك العمل وذلك العمل لا يدل الشرع عليه يدخل في هذه الآية بقليل أو بكثير بنسب متفاوتة، كل من صنع صنيعاً ويعتقد أنه أحسن بذلك العمل وأنه ناجٍ يدخل في هذه الآية: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:103-104]، قوله: ضَلَّ سَعْيُهُمْ [الكهف:104] بمعنى: اضمحل ولم ينجم عنه فائدة، وهم يحسبون ويعتقدون مع هذا الاضمحلال وهذا الضلال أنهم يحسنون صنعاً ويتقنون أمراً. قال الله: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ [الكهف:105] هذا الاحتراز في أن الآيات لا تطلق إطلاقاً عاماً إلا على أهل الكفر لكنها تطلق من وجه نسبي على غيرهم لا من وجه عام كما قيل لـعبد الله بن مسعود في قضية الميراث لما مات رجل عن زوجته قبل الدخول فأفتى فيها بعض الصحابة وقال: ائتوا ابن مسعود فسيوافقني، فلما أخبر ابن مسعود قال: قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، ثم قال بفتوى أخرى وافقت فتوى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك قبل أن يعرف، المقصود قول ابن مسعود : قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، والآية ليست في بابها لكنه أخذ جزئية منها، فالتشبه هنا ليس بكامل الوجوه وعليه يحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر)، فالمقصود: جزء من التشبيه وهو إمكانية الرؤية، وليس المقصود تشبيه الله بخلق من مخلوقاته، فهذه مثلها، وعلى هذا -وهذا تأصيل علمي- يحمل في الأخذ الجزئي من الآية قول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه خال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه قتل عثمان وأن الذين قتلوه زعموا أنهم بقتلهم له يتقربون إلى الله، وهؤلاء يدخلون في الأخسرين أعمالاً، فتلا الآية؛ لما قيل له: إن قتلة عثمان صنعوا وصنعوا وصنعوا تلا الآية: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103-104] لكن الآية آخرها لا ينطبق عليهم؛ لأن الله قال: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ [الكهف:105] ، وهؤلاء الذين قتلوا عثمان يؤمنون بلقاء الله، بل إنهم قتلوه في زعمهم تقرباً إلى الله، وهذا يهمنا جداً في أن نفهم أن الإنسان أحياناً تختلط عليه الأمور وتتزاحم عليه الشبهات إذا قبل أن يسمع من كل أحد، وإن لم يكن مؤصلاً علمياً يملأ بغير شيء صحيح. ذكر الإمام البخاري رحمه الله في تاريخه سنداً عن غالب قال: حدثنا غالب وفي هذا السند عن محمد بن سيرين ، ومحمد بن سيرين يقول في هذه الرواية: إنه وقف عند الكعبة فسمع رجلاً يدعو يقول: اللهم اغفر لي وإن كنت أظن أنك لن تغفر لي، فقال له محمد بن سيرين : يا هذا! ما سمعت أحداً يدعو بمثل دعائك، فقال: إنك لا تدري إنني كنت قد أعطيت الله عهداً أن ألطم عثمان على وجهه متى قابلته، فقتل عثمان قبل أن ألطمه، فلما وضع عثمان في داره ليصلى عليه دخلت في جملة من يصلي حتى وجدت خلوة فكشفت عن وجهه ولحيته ولطمته، ثم رفعت يميني فإذا هي يابسة. قال ابن سيرين رحمه الله في الرواية: فأنا رأيت يمينه يابسة كأنها عود. ووجه الدلالة الآن هنا: أن هذا يعطي الله عهداً يعني يعرف أن هناك رباً ويعطيه عهداً ويريد أن يحافظ على العهد الذي أعطاه الله وعثمان رضي الله عنه لم يأخذ من هذا الرجل ديناراً ولا درهماً ولم يسفك له دماً ولم يهتك له عرضاً، وربما أنه لم يقابله طول حياته، لكن هذا الرجل كان يسمع ويقبل أن يسمع ممن يطعن في عثمان وليس المجنون الذي فقد عقله؛ لأنه لا يلام، إنما المجنون من يعطي غيره عقله ليقوده، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (عثمان في الجنة)، (أشد أمتي حياءً عثمان)، (ما ضرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم ..) إلى غير ذلك من المناقب، فيجعل هذه الآثار كلها وراء ظهره ثم يسمع قول رجل من عامة الناس في قلبه حقد وحسد على عثمان فيصدقه ويصل به الأمر إلى أن يقطع العهود والمواثيق على قتل عثمان ، فهذا أول ما تتضمنه الآية في أنها ليس مخصوصاً به أحد، فاليهود والنصارى وسائر من زعم أنه بفعله يتقرب إلى الله كقول القرشيين: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] يدخلون في هذه الآية، لكن أولئك الذين عبدوا عيسى أو عبدوا عزيراً أو عبدوا أصناماً يدخلون بها من كل وجه ويدخل بها غيرهم إذا كان غير ذلك بحسب قوله في المسألة. ثم قال الله: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105] وهذه الآية أشكلت على المفسرين، وقال بعض أهل الفضل ممن يشار إليهم بالبنان قولاً تعجب منه، قال بعضهم: إن معنى قول الله: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105] أنه لا يوزن لهم عمل، وحجة هؤلاء الفضلاء في قولهم هذا: أن الميزان يقوم على كفتين حسنات وسيئات، فالكفار لا حسنات لهم وبالتالي لا ميزان لهم، والآية يقولون: دليل على ما نقول؛ لأنه لا ميزان إلا لشيء مقابل شيء، وأهل الكفر نحن مجمعون على أنه لا حسنات لهم، فما دام لا حسنات لهم فكيف يكون لهم ميزان، فالآية ليست مجازية وإنما صريحة في أن الله جل وعلا لا يقيم لهم وزناً يوم القيامة. وهذا القول قاله الثعالبي واختاره ابن سعدي وقاله كثير من المفسرين، لكن لو قدر أن هؤلاء تأنوا في أن الله يقول في سورة المؤمنون: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [المؤمنون:102-110] فكل هذه الآيات تدل على أنهم كفار ومع ذلك أثبت الله لهم أنهم توزن أعمالهم؛ لأن الله قال: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ [المؤمنون:103] والله شهد لهم بالكفر؛ لأن العصاة من أهل الإيمان لا يقال لهم: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108] وإنما يخاطب بهذا من كتب الله عليه الخلود في النار، فهم كفار ومع ذلك نسب الله إليهم صراحة أنهم توزن أعمالهم فقال: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [المؤمنون:102] في حق أهل الإيمان، وقال: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ [المؤمنون:103] في حق أهل الكفر. فلا معنى أبداً لقول: إن أهل الكفر لا ميزان لهم. ومن الأدلة العقلية فضلاً عن هذا الدليل النقلي الظاهر: أن الميزان أكثر ما ذكر في الصور المكية والصور المكية مخاطب بها كفار قريش قال تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ [الأعراف:8] في الأعراف، وقال: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء:47]، وهذه الآية التي بين أيدينا في الكهف وهي مكية وكلها سور مكية، ولم يكن الحديث عن أهل الإيمان في كيفية حسابهم إنما كان في أهل الإيمان وأنهم يحاسبون على الجملة، يكلم عنهم على أنهم فرقة مؤمنة وفرقة كافرة. ثم نعود فنقول: اختلف الناس في من الذي يوزن؟ وهذا مر معنا وإنما نعيده إجمالاً، قيل: يوزن العمل ودليل هؤلاء قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والحمد لله تملأ الميزان)، وهذا صريح في أن العمل يوزن، وقيل: يوزن العمل، والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والحمد لله تملأ الميزان)، وقيل: توزن صحائف الأعمال أي: أن الأعمال تكتب في صحائف فتوزن، ودليلهم حديث البطاقة المعروف، وقال آخرون: بل يوزن صاحب العمل ودليلهم قول النبي صلى الله عليه وسلم في منقبة عبد الله بن مسعود : (أتعجبون من دقة رجليه؟ إنهما في الميزان لأثقل من جبل أحد) ، فقالوا: وهذا دليل على أنه يوزن صاحب العمل، وقال آخرون وهو الذي عليه أهل التحقيق: أنه يوزن العمل وصحائف العمل وصاحب العمل جمعاً بين الآثار. لكن إلى الآن لم نحل الإشكال في الآية، حل الإشكال في الآية أن يقال والعلم عند الله: أن معنى قول الله جل وعلا: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105]: أنهم يوزنون فتخف موازينهم فيصبح حالهم حال من لم يعبأ الله به، وهذا مما ينبغي التنبيه إليه، فإن الله لم يقل: فلا ننصب، ولم يقل: فلم نضع، وإنما قال: فَلا نُقِيمُ [الكهف:105] ، ونقيم تأتي في القدر المعنوي ليس في القدر الحسي وإنما هذا من لوازم الأمر بمعنى: أنهم يوزنون وتوزن أعمالهم ثم تخف فيصبحون كمن لا قدر لهم عند الله لا يعبأ الله جل وعلا بهم، فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105] . |
تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ... لا يبغون عنها حولاً)
ثم قال الله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف:107-108]. أعلق الحديث عنها، فلنا رأي في الفردوس إلى الآن لم يكتمل، لكن على ما قال المفسرون الآية ظاهرة، وهي أن الإيمان والعمل الصالح سبب في دخول جنات الفردوس، والفردوس جاء في الآية مطلقاً وفي الحديث جاء مقيداً ففي بعض الروايات أن الفردوس الأعلى من الجنة، والفردوس الأعلى من الجنة وهي وسط الجنة وأعلاها فيها في وقت واحد وأظن إني شرحته قبل بمعنى أنه كالقبة فالقبة تأتي في الوسط وهي في نفس الوقت أعلى مكان في السقف. خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا [الكهف:108] أي: عن جنات الفردوس، حِوَلًا [الكهف:108] وهذا تكلمنا عنه كثيراً لكنني أقول: ما زلت متوقفاً في معنى الآية، من أسباب التوقف أن الله لم يقل: خالدين فيها أبداً قال: خَالِدِينَ فِيهَا [الكهف:108] ، وتأتي في جهنم كذلك من أسباب التوقف أن الله قال في آخر البينة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا [البينة:6] ولم يقل: أبداً، أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، وقال بعدها: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [البينة:7-8] ما عبر بالفردوس هنا وإنما عبر بالجنات، فإذا عبر بالجنات يقول: أبداً، وإذا عبر بالفردوس يقول: خالدين فيها، وإذا عبر بالنار يقول: خالدين فيها أبداً، وإذا عبر بجهنم لا يقول: خالدين فيها أبداً، قال الله مثلاً: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [النساء:93] ولم يقل: أبداً، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93] وبالعقل: هو الآن يقول: في جهنم، ثم يقول: وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93] أي: غير جهنم، لكن كما قلت: النظرية لم تكتمل بعد، وهذه إشكالات نسأل الله التوفيق في حلها. نقول: وصفهم الله -أي: أهل الجنة- بأنهم لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف:108] أي: لا يريدون عنها خروجاً وهذا من حقهم بلا شك جعلنا الله وإياكم من أهلها، فالجنة أعلى المنازل وأرفع الدرجات وأعز الأماني لبنة من ذهب ولبنة من فضة حصباؤها اللؤلؤ والياقوت، من يدخلها ينعم فلا يبأس، ويخلد فلا يموت، لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم، جعلنا الله وإياكم من أهلها. |
تفسير قوله تعالى: (قل لو كان البحر مداداً ...)
ثم قال الله جل وعلا: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف:109]، في القرآن فعلان: نفذ بالذال ونفد بالدال، فنفد بالدال بمعنى: انتهى، ونفد بالذال بمعنى: اخترق وعبر ولم تأت إلا مرة في سورة الرحمن في قوله تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ [الرحمن:33] فتكررت ثلاث مرات في آية واحدة في سورة واحدة هي سورة الرحمن. أما الآية التي بين أيدينا فإنها تتكلم عن النفاد وهو الانتهاء، قال الله في النحل: مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ [النحل:96] يعني: ينتهي، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96]. على هذا نقول: إن الآية المقصود بها بيان الفرق، ومعناها عموماً أن هذا البحر لو كان مداداً حبراً، ولو أن الأشجار بريت فأضحت أقلاماً كما دلت عليها آية لقمان: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [لقمان:27] لأن المداد من بحر أو من غيره والأقلام من شجر أو من غيرها هذه مخلوقات، والمخلوقات لها منتهى، وأما كلمات الله فهي صفة من صفاته لا منتهى لها، فالله جل وعلا يتكلم متى شاء بما شاء إذا شاء، وعلى هذا لا يمكن أن يواكب غير المخلوق المخلوق فيما يتعلق بالله من صفاته التي لا تنفك عنه، قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف:109] ، (مثله) يعني: من جنس البحر. |
تفسير قوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم ...)
ثم قال الله جل وعلا في خاتمة السورة: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الكهف:110] كان القرشيون يعيرون النبي صلى الله عليه وسلم أنه بشر، وقد مر معنا أن هذا الرد الذي قاله كفار قريش أمراً تكرر عند الأمم كلها فكل الأمم اعترضت على كون أنبيائها بشر. قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الكهف:110] لكن الله خصني بخصيصة أنه يُوحَى إِلَيَّ [الكهف:110] ومن هنا تعلم أن وحي الله إلى أنبيائه أعظم خصائص الأنبياء، ثم إن الأنبياء يشتركون بعد ذلك في خصائص لهم دون غيرهم، وخصائص شاركهم بعض الناس فيها واتفقوا عليهم السلام جميعاً فيها. |
بعض خصائص الأنبياء
جملة فإنه يقال: الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفاً، الرسل منهم ثلاثمائة وأربعة عشر، وأولو العزم منهم خمسة، والمذكورون في القرآن المتفق على نبوتهم خمسة وعشرون، والوحي ينزل على كل الأنبياء وهو أعظم خصائصهم، وبه يفرق ما بين النبي المؤيد بالوحي وما بين المصلحين في الأرض من الساسة والقادة والمفكرين فإنهم يخطئون ويصيبون؛ لأنهم غير معصومين، أما الأنبياء فإنهم معصومون؛ لأنهم يأخذون علمهم عن الله، والوحي هو أول خصائص الأنبياء. الأمر الثاني: أنهم تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم. الأمر الثالث: أنهم يخيرون عند الموت. الأمر الرابع: أنهم يدفنون في البقعة التي ماتوا فيها. والأمر الخامس: أن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم. سئل صلى الله عليه وسلم: (كيف نصلي عليك وقد أرمت؟ قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)، فلو خرجت من مجتمعنا العلمي هذا وسألك سائل: كيف يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على الأرض) والأرض غير مكلفة فكيف يقع عليها التحريم؟ يكون جوابك -ولا حاجة إلى أن أستفهم منك- أن تقول: هذا تحريم منع أو تحريم شرع؟ فهو تحريم منع لا تحريم شرع، ونظيره في القرآن قول الله جل وعلا: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ [القصص:12] تحريم منع ليس تحريم شرع؛ لأن موسى عليه السلام المخاطب بهذه الآية كان صبياً صغيراً رضيعاً لا يجري عليه قلم التكليف، لكن المعنى أننا منعناه من أن يقبل ثدي المرضعات، فالتحريم تحريم منع، أما التحريم الذي عليه قلم التكليف فهذا يسمى تحريم شرع، والأصل أن الأرض تأكل أجساد الناس إذا ماتوا، لكن الله جل وعلا منعها وهذا تحريم المنع من أن تأكل أجساد الأنبياء إكراماً جل وعلا لأنبيائه ورسله، هذه خصائص الأنبياء فقط، ثمة خصيصة تجمعهم لكن يمكن أن يشاركهم فيها غيرهم وهي رعي الغنم، فقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح قال: (وهل من نبي إلا رعاها) ، والمعنى: أن جميع الأنبياء رعوا الغنم، لكن لا يمنع أن يرعى الغنم غير الأنبياء فقد وقع هذا من كثير من الناس من الصالحين وغير الصالحين ورعوا الغنم لكن الأنبياء يعلمهم الله جل وعلا برعي الغنم كيف يكونون بعد ذلك ساسة للأمم. نعود إلى قولنا: إنهم تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم فهذا لا يعرف كيفيته، لكن المقصود: أن قلوبهم حية معمورة بذكر الله جل وعلا، وأنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين عمرت قلوبهم بذكر ربهم تبارك وتعالى ومحبته وجلاله ومن جميل ما قيل مأخوذ من هذا الأثر: لما أتتك قم الليل استجبت لها تنام عينك أما القلب لم ينم الليل تسهره بالوحي تعمره وشيبتك بهود آية استقم صلوات الله وسلامه عليه، والأبيات فيما أحفظ لأخينا الدكتور ناصر الزهراني وهي من جميل الشعر في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها بيت فرد بعد ذلك في نفس القصيدة: يا ليتني كنت فرداً من صحابته أو خادماً عنده من أصغر الخدم صلوات الله وسلامه عليه. نعود للآية: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الكهف:110] وهذا ما تقرر عقلاً ونقلاً وشرعاً وطبعاً أن الرسل ما جاءت إلا بالتوحيد، وقد قلنا مراراً: إن النبي صلى الله عليه وسلم يقولون في الروايات: إنه لما صلى بالأنبياء والمرسلين في المسجد الأقصى التفت فإذا مشيخة الأنبياء وراءه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وذريتهم فقال: (إن الله قد أمرني أن أسألكم: هل أمركم الله أن تدعوا إلى عبادة غيره؟ قالوا: لا) قال العلماء: هذا هو تفسير قول الله في الزخرف: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45] . قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ [الكهف:110] يدخل في رجاء لقاء الله ثلاثة أمور عندنا، وواحدة أو اثنتين عند المعتزلة، وعندما نقول: عندنا فإننا نقصد أهل السنة جعلنا الله وإياكم من سبيلهم، فالمعتزلة يقولون: فمن كان يرجو لقاء الله يعني: يرجو ثواب الله ويكتفون بهذا. وأهل اللغة يقولون: إن الرجاء يستخدم في المرغوب والمرهوب، فيما تطلبه وفيما تفر منه، والمعنى عندنا أن يرجو لقاء الله أي: أن المؤمن يرجو ثلاثة أمور: لقاء الله بمعنى: رؤيته، أي: يرجو رؤية الله بعمله، ويرجو ثواب الله بعمله، ويخشى عقاب الله بعمله، فأنت تصلي وتقرأ القرآن وتصوم يوم الإثنين وتسبح وتقوم الليل وتتصدق من أجل أمور ثلاثة لهذا العمل: لعل الله أن يثيبك؛ لعل الله أن يؤمنك من العقاب؛ لعل هذا العمل الصالح يكون سبباً في رؤية الله جل وعلا، هذا معنى فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ [الكهف:110] وإنما حصرها المعتزلة في قضية حصول الثواب وبعد العقاب؛ لأن مذهبهم قائم على أنهم ينفون رؤية الله جل وعلا، وقد مر معنا ما يسمى بلن الزمخشرية فإنهم يقولون: (لن تراني) بمعنى النفي المؤبد للرؤية. نعود فنقول: إن الله جل وعلا يقول: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110] . الله جل وعلا لا يعبد إلا هو، ولا يعبد بما شرع وهذه من أعظم قواعد الدين: أن الله لا يعبد إلا هو، وقد أمر ألا يعبد إلا هو، ولا يعبد جل وعلا إلا بما شرع قال تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، على هذا فقول الله جل وعلا: فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا [الكهف:110] الأصل أن العلماء يقولون: إن العمل الصالح لا بد فيه من شرطين: إخلاص العبادة، والأمر الثاني: موافقة العمل لهدي نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا حق لكن العمل الصالح في هذه الآية يراد به ما كان موافقاً لهدي نبينا صلى الله عليه وسلم، أما الإخلاص فقد دل عليه الجزء من الآية الذي بعده وهو قوله جل وعلا: وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110] ، ولا يمنع أن يكون المقصود بالعمل الصالح الأول وتكون جملة أو جزء آية: وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110] تأكيداً لمسألة الإخلاص وهو أقرب، وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110] ، وكلمة أَحَدًا [الكهف:110] نكرة وجاءت في سياق نفي، والمعنى: أن الله جل وعلا أغنى الأغنياء عن الشرك، فمن أشرك مع الله غيره أوكله الله جل وعلا إلى ما أشرك به، ولا يعبد الله جل وعلا بأعظم من إخلاص العبادة له، والإنسان قد ينال بنيته ما لا ينال بعمله، وكلما عظمت المعرفة والعلم بالله جل وعلا ركزت المحبة في القلب، وإذا ركزت المحبة في القلب لله جل شأنه نجم عن ذلك من الأعمال ما يقرب إلى الله جل وعلا، وأرفع الدرجات لا يناله المرء إلا إذا أقام نفسه على عتبة العبودية للرب تبارك وتعالى، وعتبة العبودية تستلزم ألا يكون في القلب أحد غير الله إلا أحداً نحبه أو نواليه في محبتنا وموالاتنا لربنا تبارك وتعالى، هذا جملة ما أخبر الله جل وعلا عنه في هذه السورة المباركة. |
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() الساعة الآن 03:58 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. Designed & TranZ By Almuhajir