ينبع في العهد العباسي:
لعل أول وأهم الأحداث التي ارتبطت بالحجاز وأحد ثغوره( ينبع ) في العهد العباسي " ثورة محمد بن عبد الله ذي النفس الزكية " رحمه الله . وهو محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، أبو عبد الله الملقب بالأرقط ، وبالمهدي ، وبالنفس الزكية ، ولد ونشأ بالمدينة ، وكان يقال له صريح قريش ، لأن أمه وجداته لم يكن فيهن أم ولد . (انظر : ابن الأثير : الكامل ، ج5، ص12، وابن الطقطقا : محمد بن علي بن طباطبا : الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية ، دار صادر ـ بيروت، 1386هـ ـ 1966م، ص165ـ166، وانظر الزركلي : الأعلام، ج6، ص220 ) .
ولما أعلن أبو العباس السفاح الخلافة عباسية رفض النفس الزكية مبايعته ، ولما تولى أبو جعفر المنصور الخلافة لم تكن له همة إلا طلب النفس الزكية والسؤال عنه ، واختار أبو جعفر رجلاً من رجاله يقال له عقبة بن أسلم، أعده لمهمة كشف حقيقة ما يخبئه آل علي له ، واستطاع عقبة هذا أن يأخذ ما أراد من عبد الله بن الحسن بالحيلة والدهاء وعرف منه أن ابنيه محمد وإبراهيم خرجا لطلب الخلافة ، فنقل ذلك لأبي جعفر ، وفي رحلة حج للمنصور سجن عبد الله بن الحسن ، ولم يكتف بذلك بل بعث عيناً له وكتب معه كتاباً على ألسنة الشيعة ، إلى محمد يذكرونه طاعتهم ، ومسارعتهم ، وبعث معه بمال وألطاف ، فقدم الرجل المدينة ، فدخل على عبد الله بن حسن فسأله عن محمد فذكر له أنه في جبل جهينة (أي جبل رضوى بينبع) وقال : امرر بعلي بن حسن ، الرجل الصالح ، الذي يدعى الأغر وهو بذي الإبر ، فهو يرشدك ، فأتاه فأرشده. ولكن كان لأبي جعفر كاتب على سره متشيعاً، فكتب إلى عبد الله بن حسن بأمر ذلك العين، وما بُعث له، فقدم الكتاب على عبد الله، فارتاعوا وبعثوا أبا هبار إلى علي بن الحسن وإلى محمد ليحذرهم الرجل، فخرج أبو هبار حتى نزل بعلي بن حسن، فسأله فأخبره أن قد أرشده اليه، قال أبو هبار: فجئت محمد إلى موضعه الذي هو به، فإذا هو جالس إلى كهف معه عبد الله بن عامر الأسلمي، وابني شجاع وغيرهم، والرجل معهم أعلاهم صوتاً، وأشدهم انبساطاً، فلما رآني ظهر عليه بعض النكرة، فجلست مع القوم، فتحدثت ملياً، ثم أصغيت إلى محمد، فقلت: إن لي حاجة فنهض، ونهضت معه فأخبرته بخبر الرجل، فاسترجع، وقال: فما الرأي؟ فقلت: إحدى ثلاث أيها شئت فافعل، قال: وما هي؟ قلت، تدعني فأقتل الرجل قال ما أنا بمقارف دماً إلا مكرهاً: أو ماذا؟ قلت توقره حديداً تنقله معك حيث انتقلت قال: وهل بنا فراغ له من الخوف والإعجال: وماذا؟ قلت تشده، وتوثقه وتودعه بعض أهل ثقتك من جهينة. إلا أن هذا الرجل عين أبي جعفر هرب منهم وأبلغ المنصور بأمرهم. واشتد طلب المنصور لمحمد بن عبد الله، وخرج إلى محمد النفس الزكية والي ينبع من قبل المنصور بالخيل والرجال، فهرب النفس الزكية من جبل رضوى، وأثناء ذلك أفلت له ولد صغير من الجبل فتقطع.
ولما حج المنصور سنة 144هـ وفي عودته من الحج أخذ معه بني الحسن وجعلت القيود والسلاسل في أرجلهم وأعناقهم، وكان يراقب هذا الموقف جعفر الصادق من وراء ستر وهو يبكي ودموعه تجري على لحيته وهو يدعو الله ثم قال: والله لايحفظ الله حرميه بعد هؤلاء، وكان محمد وأخوه إبراهيم يأتيان إلى أبيهما ويستأذنانه بالخروج ويقول لاتعجلا حتى يمكنكما ذلك.
وسجنهم المنصور بقصر ابن هبيرة شرقي الكوفة، وأحضر المنصور محمد بن إبراهيم بن الحسن ـ وكان أحسن الناس صورة. فقال له: أنت الديباج الأصغر: قال: نعم قال: لأقتلنك قتلة لم أقتلها أحداً ثم أمر به فبنى عليه اسطوانة وهو حي فمات فيها، وكان ابراهيم بن الحسن أول من مات منهم، ثم عبد الله بن الحسن. وذكر أن المنصور أمر بقتلهم وقيل بل سقوا سماً.
دفعت هذه الأحداث، وإلحاح المنصور في طلبه محمداً أن يخرج فخرج قبل وقته الذي فارق عليه أخاه إبراهيم، فأنكر ذلك، ولكن إبراهيم تأخر عن وقته لجدري أصابه، وقد خرج في أول يوم من رجب (145هـ) وفي رواية لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة، واستطاع السيطرة على المدينة.
كلف أبو جعفر المنصور عيسى بن موسى بقتـال النفس الزكية وقـال: لا أبالي أيهما قتل صـاحبه، وأرسل معه 4000 من الجند وكتب إلى عيسى بن موسى من لقيك من آل أبي طالب فاكتب إلي باسمه ومن لم يلقك فاقبض ماله، فقبض عين أبي زياد "في ينبع"، وكانت لجعفر بن محمد "الصادق"، فلما قدم على أبي جعفر كلمه جعفر، قال: مالي قال: قد قبضه مهديكم.( انظر: الطبري: الأمم والملوك، ج4، ص402ـ412 (أحداث سنة 144). وابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج4، ص374ـ376. الطبري: الأمم والملوك، ج4، ص422 ـ 423. ، ج4، ص437).
منقول