قال ابراهيم النظام : تجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحُسْن التشبيه، وجَوْدة الكناية، فهو نهاية البلاغة
وقال صاحب الحكم والأمثال :-
في أقسام الكلام :-جميع ما يُتَلفَظ به من الكلام ضربان: مهمل ومستعمل، فالمهل ما لم يوضع للإِفادة والمستعمل ما وضع للإفادة وذلك ضربان: أحدهما ما يفيد معنى فيما وضع له وهي الألقاب كزيد وعمرو وما أشبهه. والثاني ما يفيد معنى فيما وضع له ولغيره وذلك ثلاثة أشياء: اسم وفعل وحرف على ما يسميه أهل النحو، فالاسم كل كلمة دلت على معنى في نفسها مجرد عن زمان مخصوص كالرجل والفرس والحمار وغير ذلك، والفعل كل كلمة دلت على معنى في نفسها مقترن بزمان كقولك ضرب ويقوم وما أشبهه، والحرف ما لا يدل على معنى في نفسه ودل على معنى في غيره كمن وإلى وعلى وأمثاله وأقل كلام مفيد ما بني من أسمين كقولك زيد قائم وعمرو أخوك أو ما بني من اسم وفعل كقولك خرج زيد ويقوم عمرو: وأما ما بني من فعلين أو من حرفين أو من حرف واسم أو حرف وفعل فلا يفيد إلا أن يقدر فيه شيء مما ذكرناه كقولك يا زيد فإن معناه أدعو زيد
مثل ( إِنّ غَداً لنَاظِرِهِ قَرِيبُ. )
أي لمنتظره، يقال: نَظَرْتُه أي انتظرته وأول من قال ذلك قُرَاد بن أجْدَعَ، وذلك أن النعمان بن المنذر خرج يتصيد على فرسه اليَحْمُوم، فأجراه على أثَر عَيْر، فذهب به الفرس في الأرض ولم يقدر عليه، وانفرد عن أصحابه، وأخذته السماء، فطلب مَلْجأ ياجأ إليه، فدُفِع إلى بناء فإذا فيه رجل من طيء يقال له حَنْظَلة ومعه امرأة له، فقال لهما: هل من مَأوًى، فقال حنظلة: نعم، فخرج إليه فأنزله، ولم يكن للطائي غير شاة وهو لا يعرف النعمان، فقال لامرأته: أرى رجلاً ذا هيئة وما أخْلَقَه أن يكون شريفاً خطيراً فما الحيلة؟ قالت: عندي شيء من طَحين كنت ادّخرته فاذبح الشاةَ لأتخذ من الطحين مَلَّة، قال: فأخرجت المرأة الدقيق فخبزت منه مَلَّة، وقام الطائيّ إلى شاته فاحتلبها ثم ذبحها فاتخذ من لحمها مَرَقة مَضِيرة، وأطعمه من لحمها، وسقاه من لبنها، واحتال له شراباً فسقاه وجعل يُحَدثه بقية ليلته، فلما أصبح النعمان لبس ثيابه وركب فرسه، ثم قال: يا أخا طيء اطلب ثَوَابك، أنا الملك النعمان، قال: أفعل إن شاء الله، ثم لحق الخيل فمضى نحو الحِيرة، ومكث الطائي بعد ذلك زماناً حتى أصابته نَكْبة وجَهْد وساءت حاله، فقالت له امرأته: لو أتيتَ الملك لأحسن إليك، فأقبلَ حتى انتهى إلى الحِيرَة فوافق يومَ بؤس النعمان، فإذا هو واقف في خَيْله في السلاح، فلما نظر إليه النعمان عرفه، وساءه مكانه، فوقف الطائيّ المنزولُ به بين يدي النعمان، فقال له: أنت الطائيّ المنزول به؟ قال: نعم، قال: أفلا جِئْتَ في غير هذا اليوم؟ قال: أبَيْتَ اللعن! وما كان علمي بهذا اليوم؟ قال: والله لو سَنَحَ لي في هذا اليوم قابوسُ ابني لم أجد بُدّا من قتله، فاطلب حاجَتَكَ من الدنيا وسَلْ ما بدا لك فإنك مقتول، قال: أبَيْتَ اللعنَ! وما أصنع بالدنيا بعد نفسي. قال النعمان: إنه لا سبيل إليها، قال: فإن كان لا بدّ فأجِّلْني حتى أُلِمَّ بأهلي فأوصي إليهم وأهيئ حالهم ثم أنصرف إليك، قال النعمان: فأقم لي كَفيلاً بموافاتك، فالتفت الطائي إلى شريك بن عمرو بن قيس من بني شيبان، وكان يكنى أبا الحَوْفَزَان وكان صاحب الردافة، وهو واقف بجنب النعمان، فقال له:
فأبى شريك أن يتكفل به، فوثب إليه رجل من كلب يقال له قُرَاد بن أجْدَع، فقال للنعمان: أبيت اللَّعْن! هو عليّ، قال النعمان: أفعلت؟ قال: نعم، فضمّنه إياه ثم أمر للطائي بخمسمائة ناقة، فمضى الطائيّ إلى أهله، وجَعَلَ الأجَلَ حولا من يومه ذلك إلى مثل ذلك اليوم من قابل، فلما حال عليه الحولُ وبقي من الأجل يوم قال النعمان لقُرَاد:
ما أراك إلا هالكاً غَداً، فقال قُرَاد:
فإن يَكُ صَدْرُ هذا اليوم وَلىّ=فإنَّ غَداً لناظرهِ قَريبُ
فلما أصبح النعمان ركب في خيله ورَجْله متسلحاً كما كان يفعل حتى أتى الغَرِيَّيْنِ فوقف بينهما، وأخرج معه قُرَادا، وأمر بقتله، فقال له وزراؤه: ليس لك أن تقتله حتى يستوفي يومه، فتركه، وكان النعمان يشتهي أن يقتل قُرَادا ليُفْلَتَ الطائي من القتل، فلما كادت الشمس تَجِبُ وقُرَاد قائم مُجَرَّد في إزار على النِّطَع والسيافُ إلى جنبه أقبلت امرأته وهي تقول:
أيا عَيْنُ بكى لي قُرَاد بن أجْدَعَا=رَهينا لقَتْلٍ لا رهينا مُوَدّعا
أتته المنايا بَغْتةً دون قومه=فأمسى أسيراً حاضر البَيْتِ أضْرَعَا
فبينا هم كذلك إذ رفع لهم شخص من بعيد، وقد أمر النعمان بقتل قراد، فقيل له: ليس لك أن تقتله حتى يأتيك الشخص فتعلم من هو، فكفَّ حتى انتهى إليهم الرجلُ فإذا هو الطائي، فلما نظر إليه النعمان شَقَّ عليه مجيئه، فقال له: ما حملك على الرجوع بعدَ إفلاتك من القتل؟ قال: الوفاء، قال: وما دَعَاك إلى الوفاء؟ قال: دِينِي، قال النعمان: فاعْرِضْهَا عليّ، فعرضها عليه، فتنصر النعمان وأهلُ الحِيرة أجمعون، وكان قبل ذلك على دين العرب، فترك القتلَ منذ ذلك اليوم، وأبطل تلك السُّنَّة وأمر بهدم الغَرِيّيْن، وعفا عن قُرَاد والطائي، وقال: والله ما أدري أيها أوفى وأكرم، أهذا الذي نجا من القتل فعاد أم هذا الذي ضمنه؟ والله لا أكون ألأمَ الثلاثة، فأنشد الطائيّ يقول:
ما كُنْتُ أُخْلِفُ ظنه بعد الذي=أسْدَى إلىّ من الفَعَال الخالي
ولقد دَعَتْنِي للخلاف ضَلاَلتي=فأبَيْتُ غيرَ تمجُّدِي وفعالي
إني امرؤ منِّي الوفاءُ سَجِية=وجزاء كل مكارم بَذَّالِ
وقال أيضاً يمدح قُرَادا:
ألا إنما يسمو إلى المجد والعُلا=مَخارِيقُ أمثال القُرَاد بْنِ أجْدَعَا
مخاريقُ أمثال القراد وأهله=فإنهمُ الأخيار من رَهْطِ تبعا
**********
مثل ( تَطْلُبُ أَثَراً بَعْدَ عَيْنٍ )
يضرب لمن ترك شيئا يَرَاه ثم تبع أثره بعد فوت عينه.
قال الباهلي: أولُ من قال ذلك مالك ابن عمرو العاملي، قال: وذلك أن بعض ملوك غَسَّان كان يطلب في عاملَةَ ذَحْلاً، فأخذ منهم رجلين يقال لهما مالك وسِمَاك ابنا عمرو، فاحتبسهما عنده زمانا، ثم دعاهما فقال لهما: إني قاتل أحَدَكما فأيكما أقتل، فجعل كل واحد منهما يقول: اقتلني مكان أخي، فلما رأى ذلك قتل سماكا وخلى سبيل مالك، فقال سِماك حين ظن أنه مقتول:
ألا من شَجَتْ ليلة عامدَهْ=كما أبداً ليلَةٌ واحدَهْ
فأبْلِغْ قُضَاعة إن جِئْتَهم=وخُصَّ سَرَاة بني ساعدة
وأبلغ نِزَاراً على نأيها=بأنَّ الرِّمَاحَ هي الْعَاِئَدْه
وأقْسِمُ لو قَتَلُوا مالكا=لكُنْتُ لهم حَيَّةً رَاصِدَهْ
برأس سبيل عَلَى مَرْقَبٍ=ويوماً على طُرُقٍ وَارِدَهْ
فأمَّ سِمَاكٍ فَلاَ تَجْزَعِي=فَلِلْمَوْتِ مَا تلِدُ الوالده
وانصرف مالك إلى قومه، فلبث فيهم زمانا، ثم إن رَكْباً مروا وأحدهم يتغنى بهذا البيت
وأقْسِمُ لو قتلوا مالكا=لكنت لهم حَيَّةً رَاصِدَهْ
فسمعت بذلك أم سماك فقالت: يا مالك قبح الله الحياة بعد سماك، اخْرُجْ في الطلب بأخيك، فخرج في الطلب، فلقى قاتل أخيه يسيرُ في ناسٍ من قومه، فقال: من أحَسَّ لي الجمل الأحمر، فقالوا له وعرفوه: يا مالك لك مائة من الإبل فكُفَّ، فقال: لا أطلب أثر بعد عين، فذهبت مثلا، ثم حمل على قاتل أخيه فقتله، وقال في ذلك:
يا راكِباً بَلِّغاً ولا تَدَعاً=بني قُمَيْرٍ وإنْ هُمُ جَزِعُو
فَلْيَجِدُوا مثلَ ما وَجَدْتُ فقد=كُنْتُ حَزِيناً قد مَسَّنِي وَجَعُ
لا أسمع اللهوَ في الحديث ولا=ينفعني في الفِرَاشِ مُضْطَجَعُ
لا وَجْدُ ثَكْلَى كما وَجَدْتُ ولا=وَجْدُ عَجُول أضَلَّها رُبَعُ
ولا كبيرٍ أضَلَّ ناقَتَهُ=يوم تَوَافَى الحَجِيجُ واجْتَمَعُوا
ينظر في أوْجِهُ الرِّكاب فلا=يَعْرِفُ شيئاً والوَجْهُ ملتمع
جَلَّلْتُه صارمَ الحديدة كالـ=ـملح (كالملح) وفيه سَفَاسِقٌ لُمَعُ
بين ضُمَيْرٍ وباب جِلِّقَ في=أثوايِهِ من دِمَائِهِ دُفَعُ
أضْرِبُهُ بادياً نَوَاجِذُه=يدعو صَدَاه والرأسُ مُنْصَدِعُ
بني قُمَير قَتَلْتُ سيدَكم=فاليومَ لا رَنَّةٌ ولا جَزَعُ
فاليوم قُمْنَا على السِّوَاءِ فَإِنْ=تجرُوا فدهري ودهركم جَذَع
.
******
و هذه أبيات لمحمد بن القاسم الهاشمي:-
من كانَ يملكُ درهمينِ تعلمتْ=شفتاه أنواعَ الكلامِ فقالا
-وَتقَدَّمَ الفصحاءَ فاستمعوا له=ولرأيتُه بين الورى مُخْتالا
-لولا دراهمُهُ التي في كيسِهِ=لرأيته شَرَّ البريةِ حالا
-إِن الغنيَّ إِذا تكلمَ كاذباً * قالوا=صدقْتَ وما نطقْتَ مُحالا
-وإِذا الفقيرُ أصابَ قالوا: لم=يُصِبْ وكذبْتَ ياهذا وقُلْتَ ضلالا
-إِن الدراهمَ في المواطنِ كُلِّها=تكسو الرجالَ مَهابةً وجلالا
-فهي اللسانُ لمن أرادَ فصاحةً=وهي السلاحُ لمن أرادَ قِتالا
|