نقلا عن الوطن:للكاتب/خالد الغنامي
وصف المؤرخ شمس الدين الذهبي، أحمد بن حسين بن حسن الجعفي الكوفي أبا الطيب المتنبي بأنه كان "معجباً بنفسه، كثير البأو والتيه، فمقت لذلك" وعندما نتأمل سيرة أبي الطيب نجد أن كلام الذهبي دقيق وصحيح، بل إنه كان سليط اللسان فاحش العبارة لدرجة أن المسلسلات العربية التي صورت لنا شخصية المتنبي في أكثر من عمل، لم يستطع واحد منها أن يسمع جماهير المتنبي تلك القصيدة التي قتل بسببها . إنها شيء لا يمكن أن يسرد على مسامع عامة الناس، فحش ما بعده فحش في لغة سهلة جداً لا رمزية فيها. كما أنه "خرج في شبابه إلى قبيلة بني كلب وأقام فيهم وزعم أنه علوي ثم ادعى "النبوة" فافتضح أمره وحبس دهراً وأشرف على القتل ثم تاب" كما تقول المصادر التاريخية. يضاف لهذا أنه كان براغماتياً بلا مبدأ، فقد مدح سيف الدولة ملك الشام وكافور حاكم مصر برغم أن الاثنين كانا عدوين وصلت بهما الأمور إلى الاشتباك العسكري والحرب. لعل هذا هو السبب الذي جعل سيف الدولة وكافور يحرمان أبا الطيب من حلم حياته، وهو أن يكون أميراً على ولاية يمنحها له أحدهما، لم يفعلا ذلك لأن أبا الطيب كان بلا ولاء سياسي، كما أن الفنان الذي يصل لهذه الدرجة الاستثنائية من الإبداع لا يمكن أن يكون إدارياً جيداً، إنها شخصية الفنّان النرجسي الذي لا يملك قضية سوى نفسه. لعلي هنا لا أذيع سراً، عندما أقول إن شاعر العربية بلا منازع أبا الطيب المتنبي كان من الطائفة الشيعية، وإن أبا المسك كافور الإخشيدي حاكم مصر في منتصف القرن الرابع الهجري كان من الطائفة السنية، فما الذي جعل الثقافة العربية يجتمع سنيّها وشيعيّها على أن تتجاوز الخصومة المذهبية وتنتصر بقضها وقضيضها لأبي الطيب وتقف معه في خندق واحد؟ إنه الفن والشعر والأدب واللغة، إنه الإبداع الذي لا يستطيع شيء أن يوقفه أو أن يصمد أمامه في خصومة. هذا ما يحدث عندما يجلس مجموعة من الناس من ذوي الولاءات السياسية المتباينة، يعلو ضجيجهم وغضبهم حول قضايا الساعة ولربما وصل الأمر للعداوة، لكن السكينة تعلوهم عندما يتحدثون عن الإبداع والجمال فلا تجد غاضباً ولا مخاصماً، الإبداع سقف أعلى يأخذ بأكتاف الناس ويوحدهم ثم يطير ويسمو بهم على كل الخصومات ويضعهم على جزيرة خرافية حيث الخضرة والماء والوجه الحسن، فلنبحث عنه ولنجتمع عند بابه.