أتابع هنا في المقال الرابع والأخير ما بدأته منذ شهرٍ مضى حول البحث في أسباب سقوط الأسهم في قيعان الخسائر، مستحضراً في ضوء ما سبق تفاقم أوضاع الخلل العميق في هيكل السوق المحلية، وكيف زادت تشوهاته وتعقّدت من بعد بدايات 2003، وأنها استمدت وقودها الأساسي من تباطؤ كل من وزارة المالية ووزارة التجارة والصناعة ومؤسسة النقد بالدرجة الأولى عن معالجة اختلالات قوى العرض والطلب في السوق من جهة، وذلك بصفة تلك الجهات الرسمية أنها كانت المسؤولة عن الإشراف والرقابة والتنظيم على السوق قبل تأسيس هيئة السوق المالية في وقتٍ لاحق. ومن جهةٍ أخرى الاندفاع المتسارع للمستثمرين الجدد طوال السنوات اللاحقة على سوقٍ مالية صغيرة الحجم والعمق، افتقرت تماماً لأي تغييرات أو معالجات هيكلية تساعد على امتصاص الصدمات المستقبلية المتوقعة في مثل تلك الأوضاع، وتحدّ أيضاً من نشوء وانتشار الثقوب السوداء في نسيج المجال الاستثماري المحلي كظاهرة تجميع وإدارة الأموال دون مسوغاتٍ نظامية، وتبادل التوصيات المضللة، وإتاحة الفرصة لسيطرة أصحاب المحافظ الاستثمارية الكبيرة وتحكمهم من ثم بمقدرات السوق المالية. اللافت للنظر في الجانب التنظيمي والرقابي على السوق طوال تلك الفترة هو تأسيس هيئة السوق المالية في منتصف الطريق أي في 2004، والتي اجتهدت مُنذها بتسريع الجهود لأجل تنظيم وتطوير السوق المالية، خاصةً أنها حلّت تقريباً محل ثلاث جهاتٍ رسمية. وليست مبالغةً مني إذا قلت إنها تسلّمت تركةً ثقيلة الوزن بما تتطلبه من جهودٍ تنظيمية عملاقة! تركةً مهترئة الجسد بما تضمّه من اختلالاتٍ عميقة لم تمسّها مشارط الإصلاح والتطوير طوال عقدين من الزمن! تركةً تشير حالتها المرضية وفقاً لما أوضحته من قبل إلى قابلية استشراء توابع اختلالاتها العميقة، ولعل ما زاد من وطأتها انفضاض الدعم والمساندة اللازمين من قبل الجهات الرسمية المسؤولة سابقاً عن السوق لصالح الهيئة الجديدة، بل إنها انقلبت فيما بعد إلى الاصطدام مع أدوار ومسؤوليات الهيئة كما حدث في الحالة التاريخية الشهيرة لاكتتاب "اتحاد اتصالات"!
لقد واجهت الهيئة في تاريخٍ مبكر من عملها عدداً كبيراً من التحديات الجسيمة، كان أبرزها: "1" حداثة خبرتها وتجربتها، وزاد من وطأة هذا التحدي عدم استعانتها بالخبرات الدولية المتخصصة في ذات المجال، الأمر الذي لو تمَّ لساعدها كثيراً على تخطّي كثيرٍ من العقبات والمشاكل التي نشأت وتشكّلت في أوقاتٍ لاحقة. "2" ضعف وهشاشة التنسيق والتعاون اللازمين بين الجهات الرسمية السابقة والهيئة، وإن وصل أحياناً إلى العدم! وخير دليلٍ على ذلك، استقرار المعروض من الأسهم المتاحة للتداول "وزارة المالية"، وتنامي السيولة المحلية بصورةٍ مفرطة نتيجةً للارتفاع القياسي في مستوى التسهيلات البنكية "مؤسسة النقد"، والتداخل المضاد لقرارات وصلاحيات الهيئة "وزارة التجارة والصناعة". "3" نتيجة لما تقدّم، لم تستطع الهيئة أن تُجاري بالصورة اللازمة سرعة واتساع تشوهات السوق المالية اللاحقة، المتمثل أبرز ظواهرها في الزيادة المتسارعة والقياسية لأعداد المستثمرين الجدد، وارتفاع وتائر المضاربة غير الهادفة إلا لرفع أسعار أسهم الشركات غير ذات العوائد والصغيرة الحجم، وما صاحب ذلك من تفاقمٍ واسع النطاق لمخالفات جمع الأموال من الأبواب الخلفية للنظام، وتصدّي مجموعة من أصحاب المحافظ الكبرى "الهوامير" لقيادة جحافل المحافظ الصغيرة في معاركٍ ضارية لرفع أسعار أسهم شركاتٍ لا تسمن ولا تغني من جوع! كما أسهم أيضاً في زيادة حرارة السباق تلكؤ مجالس إدارات أغلب الشركات المساهمة عن القيام بدورها المطلوب في ضوء الواقع الجديد للسوق، إضافةً إلى إفراط البنوك المحلية في منح التسهيلات المالية للمحافظ الاستثمارية، وتجاهلها دورها المسؤول فيما يتعلق بإسهامها المطلوب تجاه توعية المستثمرين بالمخاطر المحيقة بالسوق، وإيضاح الصورة كاملةً أمامهم، بدل أن تزيد من صبِّ الوقود على النار! وزاد من حلكة الظلام في غابة السوق أن برز على الصفحات الاقتصادية في الصحف المحلية، وعبر الشاشات الفضائية بعض من ادّعى أنه في علم الاقتصاد والتحليل المالي "مالك" الذي لا يُفتى في مدينةٍ ولا باديةٍ هو فيها! فئةٌ منتفعة بالدرجة الأولى اخترقت الصفوف وضلّلت الأفراد، كانت أقرب شبهاً بروابط الأندية المشجعة في الملاعب، تُطرب جموع المستثمرين بأهازيجها "تحليلاتها" الساذجة، ليندفع المؤشر العام للسوق في رحلةٍ مكوكية تصاعدية، تراكمت على كاهله الهش مئات النقاط فوق مئاتها، حتى جاءت ساعة الصفر التي قضت على ما نسجته العناكب! ليسقط سقوطه المدويّ من أعلى قمّة 20634.86 نقطة فاقداً أكثر من 51 في المائة من قيمته، مرتطماً على وجهه بقاع 10046.83 نقطة. إنه السقوط الأمرّ في تاريخ السوق المحلية، السقوط الذي ذاق مرارته الكبرى صغار المستثمرين وحدهم أكثر من أي طرفٍ آخر. كان سباق غير متكافئ على الإطلاق بين هيئة حديثة التجربة منفردة الجهد والعمل، وبين تلكم التحديات الجسيمة الجاثمة في كل زاوية من زوايا السوق المحتقنة. إنها رحلةٌ مريرة انطبق عليها بالحرف الواحد المثل القائل "لا يُصلح العطار ما أفسده الدهر"!
إجمالاً، أضع هيئة السوق المالية في خانة الأكثر عملاً، والأقل أخطاءً بين كل من سبق ذكرهم أعلاه. ولو أنها حصّنت موقعها الأكثر حساسيةً بين جميع الأطراف ذات العلاقة بالسوق ببعض "المضادات" لتجنبت أغلب "المطبّات" التي وقعت فيها السوق المحلية، لعل من أهم تلك المضادات: أولاً: عقد الشراكات الاستراتيجية مع هيئات الأوراق المالية في الأسواق المتقدمة، والاستفادة من خبراتها الكبيرة والمتراكمة في الإشراف والرقابة على الأسواق المالية "البورصات"، والاستعانة بالخبرات والكفاءات المتخصصة فيها حول ما يختص برسم الخطط الاستراتيجية والسياسات المحددة لتطوير وتنظيم سوقنا الناشئة، واقتراح وسنِّ الأنظمة واللوائح وكيفية تطبيقها على أرض الواقع. إذ إن الحساسية المفرطة لسوقنا المحلية وفقما أوضحته سابقاً ليست على الإطلاق بمؤهلة لتحمّل طريقة العمل القائمة على الاجتهاد، ومحاولات التجربة القابلة للصح أو الخطأ. إضافةً إلى أهمية توافر مثل تلك الخبرات المتخصصة في مثل الظروف الراهنة التي تمر بها السوق المحلية، وما يمكن أن تقترحه من حلول ملائمة تكتيكياً واستراتيجياً. ثانياً: إن الهيئة لم تأخذ بنفس القدر من الاهتمام في جانب التزامها القانوني بالنظام ولوائحه التنفيذية جوانب أخرى لا تقل أهمية عن الشق القانوني، لعل من أهمها بقية التداعيات والآثار الاقتصادية والمالية والاجتماعية وحتى النفسية لقراراتها على استقرار السوق، وارتباط جُل مصالح المستثمرين بالتغيرات المحتملة في تلك المجالات الحيوية ذات الحساسة العالية، ويؤكد هذا الأمر أهمية الفقرة الأولى السابقة. ختاماً، اجتهدت في تشخيص ما وصلت إليه سوقنا المحلية، بغية التعرّف على الأخطاء أولاً لكيلا تتكرر بالرغم من مرارة آلامها وفوات الأوان على بعضها، وذاك ما تمّ بحثه في المقالات السابقة لهذا المقال. ثانياً: بدء البحث في اقتراح الحلول الملائمة والمتاحة للخروج من الأزمة الراهنة للسوق، وتلك المهمة المستقبلية التي أرجو أن أنجح في استكمالها بأقرب وقت. والله ولي التوفيق.