أول الرسل إلى أهل الأرض
هو نوح بن لامك بن متوشلخ أول رسول إلى أهل الأرض . كان مولده بعد وفاة آدم بمائة سنة وست وعشرين سنة . ويؤيد ذلك ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام . بعثه الله إلى الناس لما عبدت الأصنام، وضلوا عن عبادة ربهم . ومنشأ ضلال الناس بعد أن كانوا على الإسلام هو ما زينه الشيطان لهم من عبادة الأصنام، فعند تفسير قوله تعالى : { وقالوا لا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسر } قال ابن عباس هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت . فدعاهم نوح عليه السلام إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وترك ما يعبد من دونه .فدعاهم ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا(5)فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا(6)وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا(7)ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا(8)ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} . فدعاهم نبي الله نوح عليه السلام بكل طريقة وبكل وسيلة ، لعلهم يتوبون من شركهم بالله ، ويستغفرونه فيغفر لهم ، ولكن استمر أكثرهم على الطغيان والضلال البعيد وعبادة الأصنام، وأقاموا على عداوة نوح عليه السلام والسخرية به . قال تعالى : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(59)قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(60)قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(61)أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(62)} . ولبث نوح عليه السلام يدعوهم ويذكرهم بالله تسع مائة وخمسين عاماً كما أخبرنا ربنا { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً } . ولما تطاول الزمن وأيس نوح عليه السلام من توبتهم من الشرك، ولما رأى عليه السلام استمرار قومه على المعاصي والعناد والمكابرة ، وتحديهم أن يأتيهم العذاب {قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} . عندئذ دعا عليهم نبيهم ولكل نبي دعوة مستجابة {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا(26)إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا(27)} . فاستجاب الله له {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} . ثم أمره الله سبحانه وتعالى أن يصنع سفينة وأن هؤلاء القوم مآلهم إلى الغرق ، وحذر الله نوحاً من مراجعته في قومه فإنهم قد حق عليهم العذاب ، قال تعالى :{ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ ءَامَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(36)وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ(37)ْ} ولما شرع نوح في صنع السفينة سخر قومه منه { وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} . ولما تكامل بناء السفية أمره الله أن يحمل فيها من كلٍ زوجين اثنين من الحيوانات والطيور وغيرها لبقاء نسلها {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ ءَامَنَ وَمَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} . وقال تعالى : {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ(11)وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ(12)وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ(13)تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ(14)وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا ءَايَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ(15)}. فماء ينزل من السماء ، وأرض تفجرت عيوناً، حتى أغرق الله القوم المكذبين ، ونجى برحمته نوحاً والمؤمنين فلله الحمد والمنة .
ولما أغرق الله قوم نوح إلا المؤمنين كان من جملة القوم الذين أغرقهم الله زوجة نوح عليه السلام فإنها كانت على الكفر ، قال الله عز وجل في شأنها : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} . والخيانة المراد بها هنا ، هو عدم التصديق بالرسالة ، وعدم اتباع الرسول وبقائها على الكفر .
وابنه (يام) الذي أبى أن يركب السفينة مع أبيه ، قال تعالى : { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ(42)قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}
وأمر الله رسوله نوح أن يقول إذا ركبوا الفلك واستقروا عليها : الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين . وأن يقول : رب أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين . قال تعالى { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . ثم لما قضى الله الأمر ، وأغرق الظالمين، أمر الله السماء أن تمسك ، والأرض أن تذهب بالماء الذي عليها ، قال تعالى : { وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظالمين} . ثم أمر الله نوحاً أن يهبط على وجه الأرض سالماً ، مباركاً { قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} . فهبطت السفينة على الجودي ، وهو جبل معروف في الجزيرة . ثم لما أُهبط نوح ومن معه، سأل الله نجاة ابنه فإن الله وعد بإنجائه وأهله ، { وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ(45)قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ(46)قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ(47)} . فبين الله له أن ابنه وإن كان من صلبه إلا أن بقاءه على الشرك أخرجه من مسمى الأهل . ثم طلب نوح عليه السلام من ربه أن يغفر له سؤاله ما ليس له به علم .
وكان من أخر آمره عليه السلام ، كما في مسند أحمد أنه لما دنا أجله ( وحضرته الوفاة قال لابنه إني قاص عليك الوصية آمرك باثنتين وأنهاك عن اثنتين آمرك بلا إله إلا الله فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة قصمتهن لا إله إلا الله وسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق الخلق وأنهاك عن الشرك والكبر...الحديث ) .
قال ابن كثير : فإن كان ما ذكر محفوظاً عن ابن عباس من أنه بعث وله أربع مائة وثمانون سنة , وأنه عاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة، فيكون قد عاش على هذا ألف سنة وسبعمائة وثمانين سنة .