الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده, نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبعه.
أمّا بعد :
فإنّ التقوى منقبة جامعة لنصوف البر والخير ولذلك عظمت عناية القرآن بها, وحسبك أن المواطن التي ذكرت فيها التقوى ومشتقاتها في كتاب الله العزيز قد نيفت على أربعين ومائتي مواطن: تأمر بالتقوى, وتحث عليها, وتربط إفلاح بها و وتبين منزلة المتقين في الدنيا والآخرة, عند الله تعالى وعند الناس كما في قوله سبحانه : {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [ البقرة: 189] .
فالتقوى خير, ولباسها لباس خير, وزادها أنفع الزاد, ويكفيها شرفاً أن أمر عباده بها فقال تعالى : {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [ الزمر: 10] وفي أية أخرى قال سبحانه {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}[البقرة:197], وفي ثالثة قال عز من قائل : {وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} [ الأعراف : 26 ] وهي وصية الله لنا ولمن قبلنا {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ} [ النساء : 131 ].
من ثمرات التقوى:
للتقوى ثمرات عظيمة, ونتائج كبيرة, لأن الله تعالى ما أمر العباد بها, وكرر ذلك إلا لعظيم مكانتها عنده تعالى وتقدس, لذا كان الجزاء عليها متناسباً مع عظيم منزلتها. ثمرات وفوائد في الدنيا والآخرة منها :
1 – أن العاقبة والنصر لأهلها, كما في قول الله سبحانه : {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132 ] وقال تعالى : {إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [ الأعراف: 128].
2 – بالتقوى يفرق العبد بين الحق والباطل, وبين الخير والشر وبين الضار والنافع, وتغفر له خطيئاته كما قال تعالى : {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [ الأنفال : 29 ].
3 – فوز المتقين بالنور, إذ يظل النور ملازماً لأهل التقوى, نور الأبصار, لأن البصائر هي التي تعمي كما فى قول الله سبحانه : {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [ الحج : 46 ] لكن المتقين حفظوا بتقواهم من عمى البصائر فهم بنور التقوى يوفقون في أعمال دنياهم وأعمال أخراهم.
ولقد جاء النداء القرآني آمراً بالتقوى من أجل الحصول على ذلك النور, حتى يستنير به البصائر مع نور الأبصار, قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [ الحديد : 28 ] .
4 –أن المتقين أفضل النّاس, التفاضل عند الله تعالى لم يكن بالجاه ولا السلطان ولا المال. ففرعون ما نفعه سلطانه, وهامان ما سرته وزارته, وقارون ما أغنى عنه ماله. ولم يكن القرب من الله تعالى بالأحساب والأنساب, فكبار قريش وسادة مكة الذين كانوا أميز النّاس حسباً, واوسطهم نسباً يتحلقون حول الكعبة ينتظرون ذلك العبد الحبشي بلال بن رباح رضي الله عنه وأرضاه يصعد ظهر الكعبة, وأقدامه فوق هام السادات, ليعلين النداء بالتوحيد بعد الفتح. ما كان بين عبوديته وبين مكانته تلك إلّا سنوات قلائل, وعم النبي صلى الله عليه وسلم أبو لهب, في نار ذات لهب.
إنّه العدل الرباني في إلغاء وسائل التفاضل بين البشر كلها إلا وسيلة التقوى, وهي التي يستطيع أن ينالها كل أحد متى ما تخلي عن الشهوات, وسارع إلى الطاعات كما في قول الله سبحانه : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [ الحجرات : 13 ].
{اتقاكم !} وليس أعزكم حسباً, ولا أوسطكم نسباً, ولا أوفركم مالاً, ولا أعظمكم جاهاً, ولا أقواكم سلطاناً, بل أكرمكم وحسب.
5 – أنّهم يحظون بمعية الله تعالى وولايته, يكفي المتقين شرفاً معيه الله لهم, يحوطهم ويرعاهم ويحافظهم ويسددهم في أقوالهم وأفعالهم كما في قول الله نعالى : {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [ النحل : 128 ] ثم إنّهم نالوا ولاية الله تعالى كما قال سبحانه : {إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [ الأنفال : 34 ].
6 – أنهم ناجون يوم القيامة, النجاة يوم القيامة تكون للمتقين في الحياة الدنيا, قال الله تعالى : { وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً (72)} [ مريم : 71-72 ], وقال سبحانه : {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [ الزمر : 61 ] .
7 – أنّهم آمنون يوم القيامة, لما كانت النجاة من نصيب المتقين يوم القيامة كانوا هم أبعد النّاس عن الخوف والحزن كما دل على ذلك قول الله تعالى : فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [ الأعراف : 35 ].
8 – أنهم مبشرون بالجنّة, هل أعدت الجنّة إلّا لهم ؟ ! قال الله سبحانه {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [ ق : 31 ], وقال تعالى : {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّا} [ مريم : 63 ], وقال عز وجل : {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} [ الرعد : 35 ], وقال عز من قائل : {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [ آل عمران : 133 ] .
ندم المفرطين في التقوى
لا تسل عن ندم أهل النّار على تقصيرهم في حق التقوي حينما يقول قائلهم : {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(57)} [ الزمر:56-57 ].
كيف نحصل على التقوى ؟!
التقوى سهلة النيل لمن وفق الله من عباده, لكن ما أعسرها على من كان عن الرحمة مبعداً.
يحصل العبد عليها متى ما تخلى عن الشهوات, وسارع إلى الطاعات, ومن يستطيع ذلك إلا من كان من عباد الله موفقاً.
ما هي التقوى ؟!
عرف التقوى طلق بن حبيب بكلمات مختصرات فقال رحمه الله تعالى : هي العمل بطاعة الله, على نور من الله ثواب الله, وترك معاصي الله على نور من الله, مخالفة عذاب الله " ( السير للذهبي 4 / 602 ). وقال ميمون بن مهران : " لا يكون الرجل تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشرك لشريكه, وحتى يعلم من أين ملبسه ومطعمه ومشربه " ( نزهة الفضلاء 1 / 469 ).