روائع شعريه |
روائع الكسرات |
|
||||||||||
الـــمـــلـــتـــقـــى الــــــــــعــــــــام [للنقاش الهادف والبناء والمواضيع الاسلامية والعامه] |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
13-01-17, 12:34 AM | #51 |
تفسير قوله تعالى: (وربك الغفور ذو الرحمة.... لمهلكهم موعداً)
قال الله: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ [الكهف:58]. هذا توطئة لما بعدها والذي بعد لو قوله: لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ [الكهف:58]. فهم حري بهم أن يعجل لهم العذاب، لكن من أسباب عدم تعجيل العذاب لهم أن الله رب غفور ذو رحمة: لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ ، ثم جاءت: بَلْ ، وهي للإضرار الانتقالي، انتقال ذي الخطاب: بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ ، زماناً ومكاناً، الزمان: يوم القيامة ما والمكان: أرض المحشر، لكن المقصود هنا الزمان، وهذا أقرب. بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف:58]، (موئل) بمعنى: لجأ، فموئل بمعنى: ملجأ: لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف:58]، أي: لن يجدوا ملجئاً يفرون إليه عن ذلك الموعد، سواء قلنا أنه مكاني أو زماني، وبينهما تلازم؛ لأن الزمان لا بد له من مكان يكون فيه، والمكان لا بد له من زمن يقع الحدث فيه. وَتِلْكَ الْقُرَى [الكهف:59]، عائد على الأمم السابقة: عاد وثمود وغيرها. وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا [الكهف:59]، أي: حين ظلمهم. وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا [الكهف:59]، أي: جعلنا لمهلكهم موعداً معيناً مخصوصاً محدداً، ولما جاء ما كان لهم أن ينجوا منه، قال الله جل وعلا: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207]. |
|
13-01-17, 12:35 AM | #52 |
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لفتاه...)
ثم قال الله جل وعلا: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ [الكهف:60]، وهذا خبر موسى عليه الصلاة والسلام مع الخضر مع فتاه. الاختلاف فيمن يكون موسى المذكور في الآية أختلف فيمن هو موسى المذكور: هل هو موسى الكليم النبي المعروف، أو رجل آخر من بني إسرائيل؟ هذه أول قضية. والجمهور على أنه موسى بن عمران النبي المكلم المعروف، وهو الذي أراه وأميل إليه. وقال آخرون: إنه من بني إسرائيل لكنه ليس النبي المعروف، وحجة هؤلاء الذين قالوا إنه ليس بموسى: أنه لا يعرف أن موسى خرج من أرض التيه، هذا تاريخياً. ولا يعلم ولا يعقل أن موسى وهو النبي المكلم، والرسول المبجل الذي كاد أن يصل إلى منزلة أن يرى الله يطلب العلم من غير نبي. وحجة الجمهور ظاهرة، وهي أن الله قال: وَإِذْ قَالَ مُوسَى [الكهف:60]، ولا يعرف موسى في القرآن إلا واحد هو موسى بن عمران، ولو كان موسى المذكور غير موسى بن عمران لبينه الله جل وعلا. |
|
13-01-17, 12:36 AM | #53 |
قصة ذهاب موسى إلى الخضر
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ [الكهف:60]، فتى موسى هو: يوشع بن نون بالاتفاق، وهو أحد أنبياء بني إسرائيل الذي ساس بني إسرائيل بعد موسى. وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ [الكهف:60]، أصل الأمر الذي دفع موسى إلى أن يحلف: لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [الكهف:60]، أي: أمشي سنين عديدة، والدافع إلى ذلك بينته السنة، وهو حديث ابن عباس عن أبي بن كعب : أن موسى عليه الصلاة والسلام وقف خطيباً في بني إسرائيل فوعظ موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فتبعه رجل من بني إسرائيل قال: يا نبي الله! هل أحد في الأرض أعلم منك؟ فنسي موسى أن يرد العلم إلى ربه فقال: لا، فعاتبه ربه أن في الأرض من هو أعلم منك، قال: يا رب! وكيف لي به، قال الله له: خذ حوتاً في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثمة يعني: موجود، فأخذ حوتاً في مكتل ومعه غلامه يوشع بن نون، ووصلوا إلى مجمع البحرين، واستراح موسى، وبقي يوشع يحرس نبي الله، فالحوت ردت له الروح فخرج وأتى البحر، فضرب الله كالطاق محدد على الحوت، ويوشع يتعجب وينتظر متى يستيقظ موسى ليخبره، فاستيقظ موسى ونسي يوشع أن يخبره، واستمرا في سيرهما، فجاع موسى وأصابه التعب، وطلب من فتاه الغداء، ولم يكن الحوت هو الغداء وإنما الحوت علامة فلما طلب الغداء تذكر قضية الحوت: قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ [الكهف:63]. رجع قال الله: فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [الكهف:64]، وسيخبرك بما تفيده الآيات، لما رجع وجد الخضر مغطى، فوقف موسى على رأسه وقال له: السلام عليكم، فكشف عن غطائه وقال: وأنى بأرضك السلام، قال: أنا موسى قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، فتعجب الخضر كيف قدم عليه موسى، قال: جئت أطلب على يديك، أخذ عنك علماً، قال: أنت على علم علمك الله إياه لا أعلمه أنا، وأنا على علم علمني الله إياه لا تعلمه أنت، فأخبره موسى بإلحاح أنه سيطلبه فتوجه معهما كما سيأتي: قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [الكهف:60]. اختلف الناس أين مجمع البحرين؟ على أقوال أربعة، وقل ما إن يحصيها أحد إلى أربعة، وهذا فائدة أن يأتي الإنسان متأخراً؛ لأنه يستطيع أن ينظر في أقوال السابقين: فذهب قوم إلى أنه ملتقى بحر فارس والروم، والمعنى: أنه مضيق باب المندب الآن، وقال محمد بن كعب القرضي أحد أئمة التفسير قال: إنه في طنجة اليوم عند مضيق جبل طارق، في ملتقى المحيط الأطلسي مع البحر الأبيض المتوسط. وذهب البقاعي رحمه الله واختاره الأمين الهرري ، وليس شيخنا الأمين الشنقيطي ؛ فإن الأمين الهرري معاصر حي، متع الله به، ونفعنا والمسلمين بعلمه، مال إلى هذا الرأي، وهو أنه في مدينة دمياط في أرض مصر، التقاء المالح بالعذب في دلتا مصر في دمياط، وحجة هؤلاء من حيث النظر قوية، وهم قالوا: إن الحديث دل على أن عصفوراً يأتي ينقر في البحر، والعصفور لا يشرب من الماء المالح، فلا بد أن يكون مجمع البحرين هذا فيه ماء عذب، وهذا يكون في دلتا مصر، هذا الرأي الثالث، لكن يرد عليه أن المانع من قبوله أنه لن يعرف أن موسى بن عمران بعد خروجه من مصر رجع إليها، لكنه كان مع قومه في أرض التيه، فلا يعرف أنه دخل مصر ووصل إلى دمياط، وكذلك القول أنه ذهب إلى طنجة بعيد؛ لأن القضية قضية أنه ترك قومه وأتى إليهم، وهذا لم يذكر في القرآن وهذه الحقبة الطويلة ماذا فعلوا فيها؟ فهم في ثلاثين يوم عندما ذهب لميقات ربه عبدوا العجل، فلو كان ذهب إلى طنجة سيطول ذلك العصر، فالسفر يحتاج إلى آماد بعيدة، وكذلك ما يقال عن طنجة يقال عن باب المندب، إذاً بقينا بقول رابع، لا بد من قول رابع. القول الرابع قاله الشعراوي رحمه الله، وهو: أنه اجتماع خليج السويس مع خليج العقبة، وهذا ما أذهب وأميل إليه إلى ساعتي هذه، ولابد من قرينة تبين ذلك والقرينة أن الله قال: فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [الكهف:64]، وهذا يلزم منه أمران: اللازم الأول: أنه في شيء يظهر عليه أثر المشي، وإلا فلا وجود للأثر، فتكون صحراء. الأمر الثاني: قول الله جل وعلا: فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [الكهف:64]، فيه نوع إشعار أن هذه المنطقة لا يوجد فيها معالم ممكن أن يستدل بها موسى ويوشع، ولو كان فيها معالم ما احتاج إلى أن يقال: ارتد على عَلَى آثَارِهِمَا [الكهف:64]، يعني: يرجعون حسب المعاني التي مروا بها، فيعرفون يمين هذا الجبل مثلاً ويمين هذا البحر، ويسار هذا النهر، فدل على أنهم كانوا في صحراء، والصحراء هذه لا ينطبق عليها إذا قلنا خليج السويس، وخليج العقبة إلا صحراء سيناء، فإذا قلنا: إنه كان في صحراء سيناء فيتفق مع سياق القصص القرآني عن موسى بأنه خرج من أرض مصر يريد أرض فلسطين: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21]. وهي أريحا، فهذا يتفق مع قصص القرآن مع أنه لم تطول المدة في الخروج عن قومه كل يتفق إلى حد ما نقول إن هذا القول الرابع الذي ذكره الشعراوي رحمه الله أقربها إلى الصواب، ولا أدري هل قاله أحد قبل الشعراوي أو لم يقله، والعبرة عندي بقرب القول من الصواب والعلم عند الله. |
|
13-01-17, 12:36 AM | #54 |
تفسير قوله تعالى: (فلما بلغا مجمع بينهما...)
فَلَمَّا بَلَغَا [الكهف:61]، الاثنان موسى وفتاه: مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا [الكهف:61]، كما بينا: فَلَمَّا جَاوَزَا [الكهف:62]، أي: المكان: فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف:62]. وأنبياء الله بشر، يتعبون وينصبون كما ينصب ويتعب الخلق. (قال) أي: يوشع: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا [الكهف:63]، فهو السبب بالنسبة للحوت، فعجب بالنسبة لموسى وفتاه، قال الله تعالى: فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [الكهف:64]، وهذه أوضحناها. فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا [الكهف:65]، وهذه إضافة تشريف: آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [الكهف:65]. |
|
13-01-17, 12:37 AM | #55 |
اختلاف العلماء في نبوة الخضر
ذهب بعض العلماء إلى أن الخضر كان نبياً، ومن حججهم ما يلي: أن الله قال: آتَيْنَاهُ رَحْمَةً [الكهف:65]، والرحمة إذا أطلقت يراد بها النبوة، قال الله جل وعلا: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [الزخرف:32]، هذا الأول. والثاني: أن الله جل وعلا قال: وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [الكهف:65]، ومعلوم أن علم كل أحد من الله، لكن المقصود أنه أعطيه إياه بغير واسطة، إلا إن يكون ملكاً، وهذا قالوا: لا يقع إلا للأنبياء، هذا الثاني. والثالث: أنه قال عن نفسه: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82]، والمعنى أنه بوحي من الله، والرابع: أنه يستحيل أن يأخذ نبي الله أي: موسى علمه عن غير نبي، يستحيل وهذا الرأي عقلي فدل على أن الخضر كان نبياً، وقد مر معنا وهذه مسألة خلافية والعلم عند الله، لكن يرجح أنه يكون نبياً. |
|
13-01-17, 12:39 AM | #56 |
تفسير قوله تعالى: (فوجدا عبداً من عبادنا...)
قال الله: فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:65-66]، إذاً رحل موسى يطلب علماً، والنبي يقول: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاءً بما يصنع)، فخروجك من بيتك لن يكون خروجاً أعظم توفيقاً من أن تخرج لتطلب العلم الشرعي. قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:67]. ثم استدرك قائلاً: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا [الكهف:68]، من أعظم ما يعينك على الصبر أن تعرف على ماذا تصبر، كمن يوضع في سجن، والذي يوضع في السجن إذا أريد به الرحمة يخبروه كم يوم يريدون أن يسجنوه، حتى يتكيف نفسياً وعقلياً، لكن إذا وضع إنسان في سجن ولم يخبر كم سيمكث في السجن، فهذا أدعى للهلاك وعدم الصبر؛ لأنك لا تدري هل تجلس سنة أو ألف سنة، يوماً أو عشرين يوماً فمعرفة الشيء تعين على الصبر عليه، ولهذا قال الخضر: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا [الكهف:68]. ولهذا قال العلماء: إن أعظم ما أعان الله به يعقوب على الصبر على فقد يوسف أنه كان يعلم أن آخر الأمر سيلتقي بابنه؛ لأن ابنه لما رأى الرؤية قال: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف:4]، ففهم يعقوب أن ابنه هذا سيصير أو سيئول إلى رجل ذي شأن وبال، وعظيم ملك، وهذا يترتب عليه لزاماً أن يلتقي غالباً بأبيه، فهذا من أسباب صبر يعقوب على فقد يوسف. والمقصود أن الخضر قال لنبي الله موسى: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:68-69]، وكما قالها موسى، قالها إسماعيل من قبله، لما أخبره أبوه أنه سيذبحه، قال: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102]. بعض من ليس له دربة في العلم يقول: انظر إلى وعد إسماعيل الذي وفى به، ووعد موسى الذي لم يف به، وهذا عدم فهم للأسلوب؛ فالمقام يختلف، فإن إسماعيل كان يصبر على شيء يعرفه، وهو أن وراء استسلامه جنات النعيم، وأن المقصود منه أن يكون قرباناً لله فقط، فهو يعرف مبدأ الأمر ومنتهاه، هذا بالنسبة لإسماعيل فلذلك وفى بوعده، أما كليم الله موسى فما كان يتعامل مع الله في هذا المقام، وإنما كان يتعامل مع مخلوق ولا يدري على أي شيء يصبر، فلذلك ما استطاع أن يوفي بالأمر الذي قطعه على نفسه، ولم يكن موسى يعلم على أي شيء يصبر، وهذا شهد له الخضر بقوله: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا [الكهف:68]، لكن الذي دفعه إلى أن يصبر مرة بعد مرة محاولته الوصول، فلما عجز؛ لأنه لم يكن يعرف نهاية هذا الأمر، ولا قراره ولا خبره آل به الأمر إلى أن يكون هناك فراق بينه وبين الخضر. قال الله عز وجل: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:68-69]، أي: أحاول أن أروض نفسي على ألا أعصيك، وموسى عليه السلام كما سيأتي مقامه مقام قائد، والقادة صعب أن ينقلبوا بين عشية وضحاها إلى أن يكونوا تابعين، فقد جرت العادة على أنه متبوع، فهو النبي الذي يسوس الأمة فيأمر فيأتمر الناس بأمره، ما بين عشية وضحاها أصبح يتلقى أوامر، ويؤمر بالصبر، ويطلب منه الطاعة من مخلوق مثله، ويرى أمور لا تتفق مع علمه، ويطلب منه ألا يعارض فلم يقدر على هذا، وقد حاول مرة ثانية وثالثة ثم ألزم نفسه: قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا [الكهف:76]. وأنا أحاول ألا أدخل على قضية انطلاقهما في البحر؛ لأن هذا يحتاج إلى درس مستقل، لكن نقول: قال الله جل وعلا عنه: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:69]، قال الخضر: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي [الكهف:70]، هذا شرط: فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:70]، والمسلمون على شروطهم، سترى في ختام القصة أن الخضر ألزم موسى بهذا الشرط قال: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:70]. قال الله جل وعلا: فَانطَلَقَا [الكهف:74]، أي: وقفا على الشاطئ، فجاءت سفينة، فعرفوا الخضر ولم يعرفوا موسى، فأركبوهما من غير نول.. من غير عطاء. من غير أجرة، ثم بينما هما في السفينة جاء عصفور، فوقف على حافة القارب نقر نقرتين في الماء، ثم رحل وطار، فقال الخضر لموسى: يا موسى! ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور بنقرتيه من البحر، ومعلوم أن العصفور لم ينقص شيء من البحر بنقرتيه، والمقصود أن علم الخضر وعلم موسى بالنسبة لعلم ما أحاطهم الله بعلمه كنسبة هاتين النقرتين من أرض البحر، فليكن من الكلمات التي تدأب على أن ترددها أن تقول دائماً: أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً، قابلت بعض شيوخ المدينة الصالحين -والشيوخ هنا بمعنى: كبار السن- قبل فترة في مزرعته، فكان يسألني أسئلة أظنه يعرف جوابها، المهم كان ما بين الفينة والفينة يردد هذا الذكر، فكلما أخبرته بخبر أطرق رأسه وقال: أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً، فخرجت من عنده وأنا متأثر بذكره أكثر مما هو متأثر بعلمي، والعبرة بما قربك من الله جل وعلا وأدناك من رحمته. والإنسان أحياناً إذا رأى أقواماً -لا نزكيهم على الله- لكن غالبهم الصلاح تجري على ألسنتهم أذكار يقولونها بسجية، وبطريقة أولية، ولها نصوص تؤيدها من الكتاب والسنة، فتعرف بعد ذلك إذا تأملت قولهم لماذا هم محفوظون بحفظ الله؟ ولماذا هم موفقون؟ ولماذا ترى النور في وجوههم؟ قد لا يكونون يملكون من العلم ما تملك كأفراد العلم وآحاده، لكن كما قال الحسن : إنما العلم الخشية، وقال الله جل وعلا وهو أصدق القائلين: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]. ركب أحد كبار السن مع أحد إخواننا إلى حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: منذ أن ركب إلى أن أوصلته الحرم وأنا لا أعرفه وجدته في عرض الطريق يبتغي صلاة الفجر وهو يقول: يا دائم المعروف! يا قديم الإحسان! قال: وأوصلته إلى الحرم، والله! ما كلمني كلمة، وكان محنياً ظهره وهو يقول: يا دائم المعروف! يا قديم الإحسان! فالإكثار من ذكر الله بالأذكار التي وردت، أو تأول القرآن كما تقول عائشة وكما فعل هذا الرجل المبارك، والأخذ منه من أعظم ما يجعل الإنسان ذا قلب رقيق، ولسان رطب بذكر الله، وهذه الغاية الأولى من تدارس القرآن وحلق العلم، المقصود أن تربى القلوب، وأن تذعن وأن تكون وجلة إذا ذكر الله تبارك وتعالى، جعل الله قلبي وقلبكم ممن يجل إلى ذكر اسم الله جل وعلا. أما ما يتعلق بالقصة تفصيلاً فهو إن شاء الله تعالى موضوع اللقاء القادم. وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، وألبسنا الله وإياكم لباسي العافية والتقوى. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
|
13-01-17, 06:42 AM | #57 |
14-01-17, 01:48 AM | #58 |
14-01-17, 01:51 AM | #59 |
في قصة موسى عليه السلام مع الخضر الكثير والكثير من العبر التي ينتفع بها المسلم عموماً وطالب العلم خصوصاً، ومن ذلك: عدم التقليل من شأن أحد من الناس، والتواضع للمعلم، وخفض الجناح بين يديه، وإظهار التبجيل له في حضرته. وفي قصة الملك الصالح ذي القرنين دروس عظيمة، وفوائد جمة تدل على عقله الراجح، وحنكته السياسية، ومقدرته على الحكم، وعلى الرغم من ذلك فإنه في قمة التواضع لربه وخالقه جل وعلا.
|
|
14-01-17, 01:55 AM | #60 |
تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة ... من أمري عسراً)
الحمد لله الذي خلق فيسر، وشرع فقدر، ووعد وبشر، وأوعد فأنذر. والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله، بعثه ربه من أعز قبيل، بواضح الدليل وسواء السبيل، في أكرم جيل وأمثل رعيل، أثنى عليه وعلى أصحابه من قبل في التوراة والإنجيل، فصلى الله وملائكته والصالحون من خلقه عليه، كما وحد الله وعرف به ودعا إليه، اللهم وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فهذا لقاء متجدد حول تأملاتنا في كلام ربنا جل وعلا، وقد انتهى بنا المطاف في اللقاء السابق إلى خبر موسى عليه الصلاة والسلام، مع العبد الصالح الخضر، والتقائهما عند مجمع البحرين، ومضى القول أن موسى عليه الصلاة والسلام مع فتاه نسيا حوتهما، وذلك سبباً في رجوعهما ليلتقيا بالعبد الصالح، ثم تبدأ تلك القصة التي أخبر الله عنها، وجاءت كذلك مفصلة في صريح السنة، في حديث ابن عباس عند البخاري وغيره. قال الله جل وعلا -وهي أول الآيات التي نشرع في التأمل فيها- قال الله تبارك وتعالى: فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا [الكهف:71]. وقد اتفق موسى عليه الصلاة والسلام مع الخضر على أن ينطلقا سوياً، واشترط الخضر على موسى أن يلتزم الصمت، وأن لا يبدءه بسؤال حتى يخبره بما عنده، ووافق موسى عليه الصلاة والسلام على هذا الشرط، وأخذ الخضر منه العهد والميثاق. وسيأتي بعد ذلك بيان أن المؤمنين على شروطهم، وأن ذلك لا يغير من كون كل منهما على جادة الصواب وسواء السبيل. قال الله جل وعلا: فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ [الكهف:71] ففهم أنهما ركبا في السفينة، وأظنه قد مر معنا أنهما وقفا على شاطئ البحر ينتظران مركباً، فمرت سفينة فعرفت الخضر، فأركبوهما من غير أجرة، إجلالاً وإكراماً للخضر، وهذا فيه دلالة على أن عباد الله الصالحين يسخر الله جل وعلا لهم من يحبهم، ويعطيهم ويمنحهم فضلاً من الله تبارك وتعالى عليهم. قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ [الكهف:71]، ركبا السفينة، وكان موسى فرحاً أن أولئك القوم المساكين أركبوهما من غير أجرة، ففجأة وإذا بالخضر يعمد إلى قدوم فيخرق السفينة، ثم يضع مكان ذلك الخرق قطعة من خشب تسده، فاشتاط موسى غضباً؛ لأنه شخص قيادي بفطرته، وتعود أن يسوس بني إسرائيل، ولم يتعود أن يكون تابعاً، وإنما تعود أن يكون متبوعاً، فقال منكراً على الخضر ناسياً الشرط الذي بينهما: قال: قَالَ أَخَرَقْتَهَا - أي السفينة- لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا [الكهف:71] واللام للتعليل؛ ولهذا جاء الفعل المضارع بعدها منصوباً بالفتح؛ لأنه صحيح الآخر. (لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لقد جئت) أي: بفعلك هذا، والتاء للمخاطب تاء الفاعل للمخاطب، شَيْئًا إِمْرًا [الكهف:71] أي: شيئاً مستعظماً لا يقبل. ما زاد الخضر على أن ذكره بالشرط الذي بينهما، قال: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:72]، وهذا ليس فيه عتاب ولا لوم، ولكنه تذكير بالشرط، فتذكر موسى الشرط، فآوى إلى رشده، ولم يغب عنه الرشد يوماً عليه الصلاة والسلام، قال: قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ [الكهف:73]، أي: إنما وقعت مني هذه نسياناً، والله جل وعلا أعذر عباده بالنسيان، وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا [الكهف:73]، أي: لا حاجة لأن تزيد في اللوم، وتكلفني ما لا أطيق، لمجرد أنني نسيت، والإنسان ينبغي عليه أن يقبل عذر المعتذر إذا كان ذلك لأول وهلة. |
|
|
|