روائع شعريه |
روائع الكسرات |
|
||||||||||
الـــمـــلـــتـــقـــى الــــــــــعــــــــام [للنقاش الهادف والبناء والمواضيع الاسلامية والعامه] |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
26-05-17, 01:57 AM | #21 |
27-05-17, 01:46 AM | #22 |
يصف الله في هذه الآيات البينات حال المنافقين ومرضى النفوس حيال حصار المشركين لمدينة رسول الله يوم الأحزاب، وكيف أنهم لم يثقوا بنصر الله لرسوله، بل وصفوا وعد النبي لهم بالفتوحات والنصر بأنه غرور لا طائل تحته، ولهذا فضحهم الله وكشف زيف الإيمان في قلوبهم، وأظهر خوف أنفسهم، وما يبطنونه من الكفر والنفاق، وتوعدهم بعظيم عقابه، وأليم عذابه سبحانه.
|
|
27-05-17, 01:47 AM | #23 |
تفسير قوله تعالى:(وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب .... وكان عهد الله مسئولاً)
الحمد لله الذي به تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرض والسماوات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فكنا قد انتهينا في اللقاء الماضي إلى قول الله جل وعلا: وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا [الأحزاب:13]. الحديث ما زال موصولاً عن حال المنافقين والذين في قلوبهم مرض أيام غزوة الأحزاب، وقد مر معنا قولهم الذي حكاه الله عنهم: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12] ثم حكى الله قولاً آخر لهم: وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ [الأحزاب:13] و(منهم) عائدة على قوله: (وإذ قالت طائفة منهم) أي: من أهل النفاق والذين في قلوبهم مرض، (يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا) وقد بينا هذا إجمالاً في لقاء ماضٍ، و(يثرب) اسم للمدينة قبل الإسلام، وهو اسم ممنوع من الصرف على لغة النحويين لسببين: اتفقوا على السبب الأول وهو: العلمية، والسبب الثاني: متشعب، فمن الممكن أن تكون (يثرب) ممنوعة من الصرف للعلمية ووزن الفعل. وممكن أن تكون العلة: العلمية والتأنيث. ومعنى ممنوع من الصرف، أي: لا ينون ولا يجر بالكسرة، لا ينون مع أن التنوين من خصائص الأسماء، قال ابن مالك : بالجر والتنوين والنداء وأل ومسند للاسم تمييز حصل فالمقصود هنا: أن يثرب هذه كان اسمها على اسم أحد العماليق في أشهر أقوال أهل التاريخ قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فالذين يريدون أن يتكلموا بخطاب دنيوي محض لا يقولون المدينة، بل يقولون: يثرب، ومنه قول جرير في قصيدته الشهيرة التي مطلعها: أقل اللوم عاذل والعتابا وقولي إن أصبت لقد أصابا قال يمدح شعره: دخلن-يعني: قصائده- قصور يثرب معلمات ولم يتركن من صنعاء باباً فلما أراد أن يتكلم عن حاجة دنيوية محضة قال: يثرب، ولم يقل: المدينة، وهنا هؤلاء المنافقون يريدون أن يعيدوها جاهلية كما كانت، فيردون قومهم إلى ما كانوا عليه من عدم نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الله عن بعضهم أنهم كانوا يقولون: وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ [الأحزاب:13] ولم يقل: يا أهل المدينة فهو لا يريد أن يوقظ الحس الإسلامي الذي في قلوبهم، أراد أن يعيدها جاهلية كما كانت إسلامية: (يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا). الآن المسلمون مع النبي صلى الله عليه وسلم يحفرون الخندق ويرابطون، وهذه الطائفة تريد من أكثر الناس أن يعودوا، فقوله: (لا مقام لكم فارجعوا) تحتمل وجهين: الأول: لا مقام لكم في دين الإسلام فارجعوا إلى الكفر، وهذا يصح لأنه من مقاصدهم، لكن الآية والجو العام لا يساعد عليه. الثاني: لا مقام لكم في المرابطة مع النبي صلى الله عليه وسلم فارجعوا إلى يثرب، (لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم) قيل: إنهم بنو حارثة، وبنو حارثة هؤلاء سبق لهم أن خذلوا النبي صلى الله عليه وسلم في أحد، (ويستأذن فريق منهم النبي يقولون) أي: سبب استئذانهم (إن بيوتنا عورة) معنى إن بيوتنا عورة أي: مكشوفة، معرضة للسرقة، لا يوجد بها رجال، والعورة كل مكان فيه خلل، والعورة تطلق على المكان المتوسط بين الجبال، قال لبيد : وأجن عورات الجبال ظلامها الذي يعنينا هنا قولهم: (إن بيوتنا عورة) فهل صدقهم الله أم كذبهم؟ كذبهم، قال الله جل وعلا: وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ [الأحزاب:13] فلما رد الله جل وعلا زعمهم الذي أظهروه، أخبر الله بزعمهم الذي أخفوه، فقال: (إن يريدون إلا فراراً) أي: استئذانهم منك لا يقصدون منه -كما زعموا- أن يحموا بيوتهم، وإنما أرادوا الفرار من ملاقاة العدو، (إن يريدون إلا فراراً) ثم قال الله: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا [الأحزاب:14]. هذه الآية اختلف العلماء فيها اختلافاً كثيراً لكن أحاول أن أجمع لك شتاتها، (دخل) في القرآن تأتي كثيراً في وصف ذلك الغازي والفاتح، قال الله جل وعلا: لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ [الإسراء:7] وقال الله جل وعلا لبني إسرائيل: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21]. وقال الله على لسان الرجلين الموفقين: قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ [المائدة:23] فالكل يتكلم عن غزو وفتح، فالله جل وعلا هنا يقول: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا [الأحزاب:14] القطر: الناحية، والمقصود: أقطار المدينة أي: نواحي المدينة، وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا [الأحزاب:14]. وأكثر أهل العلم على أن المراد بالفتنة هنا: الشرك. فيصبح معنى الآية: أن هؤلاء القوم الذين خذلوك ويريدون الفرار، لو طلب منهم الشرك لوافقوا عليه جبلةً غير متباطئين؛ لأن الإسلام أصلاً لم يدخل إلى قلوبهم، هذا قول، وعليه أكثر العلماء. وقال الضحاك رحمة الله تعالى عليه من المفسرين: إن المعنى وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا [الأحزاب:14] أي: أنهم -وهذا قول قوي- ما خذلوك وفروا لأنهم جبناء، وإنما خذلوك وفروا لأنهم لا يريدون أن ينصروك، فالمعنى: لو كانت القضية قضية عصبية لما تلبثوا بها إلا يسيراً أي: لحاربوا ودافعوا، فالمراد بالفتنة في قول الضحاك : القتال من أجل العصبية. قال تعالى: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا [الأحزاب:14] لكن أكثر أهل التفسير على أن المراد بالفتنة هنا: الشرك، ويؤيده قول الله جل وعلا: حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [الأنفال:39]. قلنا: إن بني حارثة سبق لهم أن فروا يوم أحد، فذكرهم الله جل وعلا بالعهد الذي قطعوه على أنفسهم من قبل، فقال الله: وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا [الأحزاب:15]. |
|
28-05-17, 01:27 AM | #24 |
تفسير قوله سبحانه: (قل لن ينفعكم الفرار ..... من دون الله ولياً ولا نصيراً)
وفي هذا تعظيم للعهد الذي بين العبد وبين ربه، وأن الإنسان إذا قطع على نفسه عهداً أو وعداً وجب عليه أن يلتزم به، ثم قال الله: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:16]. العقل يقول: إن الإنسان ينجو إذا فر، لكن إذا أراد الله الحياة لهذا فسينفعه الفرار، لكن إذا كان الله جل وعلا لم يرد له حياة فلن ينفعه فراره، كما أن المتقدم في الجيش والقادم في أول الصف إذا أراد الله له أن يقتل فسيقتل، لكن إن لم يكن الله يريد له أن يقتل حتى لو تقدم الصفوف فلن يقتل، إن لم يكن الله جل وعلا قد كتب عليه حياته. ثم قال الله جل وعلا لهم: هب أنكم فررتم ونجوتم من القتل في الخندق، هل يعني ذلك أنكم ستحيون حياة أبدية؟! محال؛ ولهذا قال الله بعدها: وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:16]. يقولون: إن عبد الملك بن مروان المؤسس الثاني لدولة بني أمية، وبخلافته انتقلت الخلافة من الفرع السفياني إلى الفرع المرواني، قال شوقي : مررت بالمسجد المحزون أسأله هل في المصلى والمحراب مروان وبلاد الشام معروفة بمرض الطاعون، وقد مات كثير من الصحابة والتابعين بسبب طاعونها، فحل بها الطاعون أيام عبد الملك بن مروان ففر، فلما فر أخذ معه عبداً من عبيده يخدمه، والمستوى العقلي والفكري بين غلام خادم وما بين أمير المؤمنين مختلف اختلافاً كبيراً، والحديث لا يمكن أن يكون متلائماً للفرق الفكري، لكن عبد الملك لم يكن معه إلا هذا الغلام، ولابد من الحديث خاصة أن الخائف والهارب من الطاعون يريد من أحد أن يسليه، وهما في الطريق لم يبعدوا عن دمشق كثيراً قال عبد الملك لغلامه: قل لي ما تقول أنت وأقرانك؟ قال: يا أمير المؤمنين! بلغني فيما بلغني أن أسداً أجار ثعلباً، فقال له الثعلب: أنا أصطاد لك على أن تجيرني من كل أحد، فوافق الأسد، فأصبح الثعلب يختال في مشيته لأنه في حمى الأسد، فجاء طير كبير الحجم جداً يريد أن يخطف الثعلب ويحمله معه، فخاف الثعلب وارتعد، فارتقى على ظهر الأسد يريد منه أن يحميه، فجاء الطائر وتناول الثعلب وحمله، فقال الثعلب يستنجد بالأسد، لماذا لم تحمن يا أبا الحارث، وأبو الحارث كنية الأسد، فقال الأسد: لقد وعدتك أن أحميك من دواب الأرض أما ما يأتي من السماء فلا طاقة لي به، ففهمها عبد الملك ولوى عنق الدابة وقال: والله لقد وعظتني يا غلام أيما وعظ، ثم تلا: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:16] وعاد إلى دمشق ونجاه الله من الطاعون فلم يهلك. فثمة أمور يعجز المرء أن يتخذ فيها حيلة، فليس له إلا أن يسلم أمره إلى الله، ثم إنك أحياناً قد يرحمك الله بمشورة أو برأي من هو أقل منك فهماً أو عقلاً أو علماً، وإذا أنت صدقت مع الله في سريرتك، وأحسنت نيتك فإن الله يسخر لك خلقه يدلونك ويهدونك ويحمونك ولو كانوا ضعفاء؛ لأنهم إنما هم سخرهم العلي الكبير لك. قال الله: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:16] معنى الآية: إن نجوتم إذاً لا تمتعون إلا قليلاً، فإذاً لا تمتعون إلا قليلاً جواب لشرط محذوف، وهذا قالوا: إنه موجود في لسان العرب، قال قائلهم: لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل ابن شيبان إذاً لقام بنصري معشر خشن عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا معنى الكلام أنه يقول: لو كنت من قبيلة بني مازن لما استطاع أحد أن يتجرأ على إبلي، ثم قال: إذاً لرده ذو معشر خشن يقصد: أنه لو سلبت إبلي لردها أولئك الأخيار، وهو لم يذكر كلمة: إن سلبت إبلي، كذلك في الآية لم يذكر النجاح، ولكن قول الله جل وعلا: وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:16] دل على أنها جواب شرط لفعل شرط محذوف. ثم قال الله جل وعلا: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [الأحزاب:17] والآية في معناها العام تهدف إلى بيان أن الله جل وعلا وحده من يحفظ، ووحده من يكلأ عباده، ووحده من ينصر، ووحده من يعصم، لا رب غيره، ولا إله سواه. |
|
29-05-17, 04:36 AM | #25 |
تفسير قوله تعالى: (قد يعلم المعوقين .... وكان ذلك على الله يسيرا)
ثم قال الله جل وعلا: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:18]. والبأس: الحرب والقتال، (قد يعلم الله) قد هنا ليست للتقليل وإنما للتحقيق، (قد يعلم الله المعوقين) المعوقين: اسم فاعل من عوق، والتشديد في عوق يراد به التكفير، ومنه قول الله جل وعلا: وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ [يوسف:23] أي: أحكمت غلقها. وكذلك قول الله جل وعلا: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ [الأحزاب:18] أي: يكثرون من تثبيطكم، قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ [الأحزاب:18] اتفقنا على أن هناك أقواماً يثبطون غيرهم عن الجهاد في سبيل الله كما في معركة الأحزاب على وجه الخصوص، السؤال هنا: من القائل ومن المقول له؟ أكثر أهل العلم على أنهم طائفة من المنافقين تقول لبعض مرضى القلوب، وهذا الذي عليه أكثر أهل العلم. وقال آخرون: إن القائلين هم اليهود لإخوانهم من أهل النفاق. لكن نرجح الأول لقرينة هي أن الله قال: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ [الأحزاب:18] أي: ممن ينتسبون إلى الإسلام، واليهود لم يكونوا ينتسبون للإسلام. قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [الأحزاب:18] أي: تعالوا إلينا، ثم قال الله: وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:18]لم تكن هناك حرب وقت الخندق، بل كانت المرابطة موجودة على الجهة في الخندق التي تقابل جهة الكفار. الآن اترك هذا كله جانباً حتى تفهم الآية نفياً وإثباتاً، الله يقول: (لا يأتون البأس) هذا نفي، أي: لا يأتون مواضع القتال، ثم قال: (إلا قليلاً) وهذا إثبات، فاجتمع نفي وإثبات، فلا بد من تخريجها، الله هنا يصف كيف تعامل المنافقون مع المرابطين حتى انطبق عليهم قول الله: (ولا يأتون البأس إلا قليلاً) أنا إذا ضربت الأمثال أحاول أن أخرج بك عن آيات القرآن، فإذا فهمت المثل خارج القرآن فإنك تستطيع أن تفهمه في القرآن، أنتم ثلة أصدقاء، والصداقة فيها حقوق، هب أن أحدكم يريد أن يتزوج، نفرض أن رجلاً يريد أن يتزوج، فلما أراد أن يتزوج وقعت عليكم مسئولية إعانته في الزواج، أي: الحضور والقيام بالواجب، وهناك من لا يريد أن يفزع لكنه في نفس الوقت يخشى من لوم الآخرين، فهو يريد أن يأتي ولا يريد أن يأتي في آن واحد، نفرض أن الحفل ست ساعات، ففي الساعة الأولى عند استقبال الضيوف وتوزيع المهام يحضر فيراه والد الرجل وأخوه وأصدقاؤه ويرون أن فلاناً أتى، فإذا بدأ العمل انصرف، وذهب يقضي مصالحه، فإذا جاء وقت تقديم الضيافة للناس جاء ووقف ليراه كل الحضور، فالناس يمشون ويقولون: ما أعجب صداقة فلان كان واقفاً مع صديقه وقت فرحه، وهو لم يفعل شيئاً، ثم إذا جاء الناس يغادرون جاء، فلو حسبت مدة لبثه لم تتجاوز الدقائق، فهو في الحقيقة لم يأت ولم يقدم أي خدمة، لكنه أقنع الناس بأنه أتى. تعال لهؤلاء المنافقين، هذا الخندق احتاج النبي صلى الله عليه وسلم زمناً حتى يحفره، واحتاج إلى أقوام يرابطون على الثغور ليرون هل هناك أحد من أهل الإشراك تجاوز الخندق ووصل إلى المؤمنين؟ هل هناك فجوة أو حفرة أو ردم انهار أو يحتاج إلى زيادة حفر؟ مسألة تحتاج إلى مرابطة، فإذا علم أن هناك اجتماعاً عقده النبي صلى الله عليه وسلم جاءوا، فيراهم الناس، فإذا بدأ العمل تواروا ورجعوا إلى بيوتهم، فإذا علموا أنه بعد يومين أو ثلاثة يقيم النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من وليمة أو طعام أو ما أشبه ذلك حتى يخفف عن أصحابه جاءوا، هذا صنيعهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولهذا قال الله: (ولا يأتون البأس إلا قليلاً) قلة حضورهم تعني قطعاً: أنهم لا يريدون أن ينصروا الله ورسوله، لكنهم خافوا من الملامة وأن يورثهم النبي صلى الله عليه وسلم عقاباً، فلجئوا إلى التحايل في تعاملهم مع نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم. المؤمن إذا فقه كيف يفهم القرآن وطبقه على واقعه وقاس الأشباه والنظائر يكون أقدر من غيره على أن يوصل مقصود مراد الله إلى غيره من الناس، قال الله: (ولا يأتون البأس إلا قليلاً أشحة عليكم) الشح: البخل بما في الوسع مما ينفع الناس، شيء تملكه بوسعك أن تعطيه غيرك فينفعه، فإذا ضننت به على غيرك فهذا هو الشح. الله جل وعلا يقول: (أشحة عليكم) هؤلاء المنافقون بخلوا بجهدهم وبقوتهم البدنية بمالهم بحضورهم على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذا قول الجمهور. وآخرون من العلماء -وهذا قال به الزمخشري - وله في الشعر العربي ما يؤيده، لكن الآية كلها لا تساعده، قال: معنى (أشحة عليكم) أي: أنهم يظهرون أنهم شحيحون عليكم بمعنى: حريصون عليكم، يريدون منكم بقولهم: عودوا إلى المدينة أن يحافظوا على أرواحكم. فالآية في قوله تبارك وتعالى: (أشحة عليكم) تحتمل المعنيين، لكن الجمهور على ما حررناه أولاً. قال الله جل وعلا: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ [الأحزاب:19]أي: مظنة الخوف وهو القتال، رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [الأحزاب:19]. العرب دائماً تقول القول بالدوران في الشيء المخيف، كما عبر عنه عنترة في شعره، فإذا ذهب الخوف (سلقوكم) هنا معنى (سلقوكم) أي: تجرءوا عليكم، وإلا السليقة تطلق على عدة أمور: فتطلق على الأرض المطمئنة، وعلى الفطرة، وهنا على الجرأة في الخطاب، قال: سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [الأحزاب:19]، فأحبط الله أعمالهم؛ لأنهم منافقون، لكن قال الله: وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [الأحزاب:19] (ذلك) عائدة على ماذا؟ تحتمل معنيين: قال: (كان ذلك على الله يسيراً) أي: إحباط الله لأعمالهم يسير هين عليه، وهذا أوجه وأرجح، فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك الإحباط على الله يسيراً، هذا الأول. الأمر الثاني: أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [الأحزاب:19] أي: عدم إيمانهم أمر هين على الله، لا يعبأ الله به؛ لأن الله لا تضره معصية عاص، ولا تنفعه طاعة طائع. يتحرر من هذا أن الآية والآيات ما زالت تتحدث عن حال المنافقين يوم الأحزاب، وهي حال أنبأت عما يبطنونه من الكفر، وعما جبلوا عليه من الجبن والهلع، وعدم نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، بعد ذلك بآية أو آيتين يأتي بيان موقف أهل الإيمان الذي قال الله فيه: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22]. هذا ما تحرر إيراده، وتيسر إعداده، وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين. |
|
29-05-17, 04:58 PM | #26 |
لما ذكر الله تعالى حال المنافقين والكفار في غزوة الأحزاب ذكر حال المؤمنين الأخيار، وكيف أنهم رضوا بالله رباً، واكتفوا به نصيراً، وازدادوا مع إيمانهم إيماناً، وصدقوا الله ورسوله يقيناً واعتماداً، وصبروا ورابطوا، فنصروا واستبشروا، ومن النار نجوا، ومن الجنة اقتربوا، وأولئك هم المؤمنون حقاً، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، فالمقصد واحد، والغاية أسمى، والله ولي المؤمنين.
|
|
29-05-17, 04:58 PM | #27 |
تفسير قوله تعالى: (يحسبون الأحزاب لم يذهبوا... وذكر الله كثيراً)
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد: فما زلنا نتفيأ الآيات المباركات من سورة الأحزاب، وكنا قد انتهينا في الحديث عن حال المنافقين في تلك المعركة التي جعلها الله تبارك وتعالى ابتلاءً لعباده المتقين، وانتهينا إلى قول ربنا جل وعلا: يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:20]. قوله: (يحسبون الأحزاب لم يذهبوا) أي: ما زال أولئك المنافقون على ما في قلوبهم من هلع، وعلى ما في أنفسهم من جزع يظنون أن الأحزاب لم يذهبوا لما رأوه وعاينوه من عظم البلاء وشدة الخطب، ثم قال الله: (وإن يأت الأحزاب) إن هنا: شرطية، (ويأتي) فعل الشرط، وفعل الشرط -أيها المبارك- إذا جاء بعد أداة شرط جازمة يجزم، ثم إن جزمه أو علامة جزمه تكون بحسب حاله، فإذا كان معتل الآخر كما هو الحال هنا، فإن حرف العلة يحذف. قال الله: (وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب) من يسكن الأعراب أصالةً أو البادية أصالةً يسمى: أعرابياً، ومن يتردد عليها ولا يسكنها بالأصالة يسمى: بادياً. فهؤلاء لفرط جزعهم يتمنون ويودون وفق تعبير القرآن، لو أنهم بادون في الأعراب، (يسألون عن أنبائكم) أنباء المؤمنين؛ لأنهم يبغضون الدين وأهله فيتساءلون قائلين: أهلك محمد وأصحابه؟ أي: انتصر أبو سفيان وأحزابه، هذا تساؤلهم، ثم قال الله: (ولو كانوا فيكم) لو قدر وفرضنا أنهم كانوا فيكم (ما قاتلوا إلا قليلاً) فعبر الله جل وعلا بنفي القتل وأثبته بعد الاستثناء بقوله: (قليلاً). حذاق المفسرين وهذا من الفهم -وهو ما قاله القرطبي في الجامع- فهموا أن كلمة قليلاً: على أن قتالهم شيء يسير كالرمي بالحجارة والنبل وهذا واضح، لكن تدل على شيء آخر خفي؛ ولذلك قلت: إنه من حذاق المفسرين، وهو أن صنيعهم هذا يكون رياءً وسمعة، قالوا: لو لم يكن رياءً أو سمعة لما سماه الله قليلاً؛ لأن القليل إذا كان مقروناً بالإخلاص وابتغاء وجه الله فلا يقال له: قليل؛ فإن العمل يعظم بالنية. ولا ريب أن القرطبي رحمة الله تعالى عليه على بعض أخطاء وقع فيها في تفسيره، ولا يسلم من ذلك أحد: فإنا لم نوق النقص حتى نطالب بالكمال الآخرين لكنه من حذاق المفسرين حقاً، وله باب عظيم أو قدرة كبيرة في الصناعة الفقهية على وجه الأخص، وهو مالكي المذهب، فوبخ الله صنيع أهل النفاق بأن مدح نبيه عليه الصلاة والسلام، والنبي عليه الصلاة والسلام كان أول المرابطين وأول من وقف يحفر الخندق مع أصحابه، فقال الله جل وعلا لأولئك المنافقين -على فرض أن الآية مخاطب بها أهل النفاق- وآخرون يقولون: إن قول الله جل وعلا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] مخاطب بها المؤمنون، وأياً كان الأمر فإن الآية تحتمل الاثنين، فيكون الخطاب بالآية للمنافقين من باب التوبيخ، وللمؤمنين من باب الحث والثبات على ما هم فيه، أو على ما هم عليه. قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، هنا نأتي إلى مسألة علمية يجب أن تحرر، هل كونه صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة على باب الإيجاب أم الاستحباب؟ للعلماء فيها ثلاثة أقوال: فقال بعضهم: إنها على سبيل الإيجاب ما لم يدل دليل على الاستحباب، فهؤلاء جعلوا الإيجاب أصلاً. وقال بعضهم -وهو بدهي-: بل الأصل الاستحباب ما لم يدل دليل على الإيجاب. والقول الثالث -وهو الذي نختاره والعلم عند الله-: أنها للإيجاب في أمور الدين، وعلى الاستحباب في أمور الدنيا. هذا من حيث الأصل ثم ينظر في كل مسألة بحسب قرينتها، قال الله جل وعلا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21] ولا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم أسوة وأي أسوة، وقدوة وأي قدوة، بل لا أسوة بحق غيره صلى الله عليه وسلم؛ لأن العصمة لم تكن إلا له ولإخوانه الأنبياء من قبل، وهو الذي بعث إلينا. ونلاحظ أن الله جل وعلا عندما ذكر الأنبياء قال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90] ولم يقل: فبهم اقتده، وهذه مسألة تبحث في علم الرسول، لكني لا أريد أن أوسع شيئاً ليس هذا مقامه. قال جل وعلا: (لقد كان لكم في رسول الله) أي: كله عليه الصلاة والسلام في أمور الدين والدنيا، (لقد كان لكم في رسول الله) صلى الله عليه وسلم (أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) ولا يمكن أن يقبل عمل ويرفع إلا إذا كان العبد يرجو به الله واليوم الآخر، (لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً). من حيث الصناعة النحوية -وسندخل كما اتفقنا معكم قبل اللقاء بعض الإعرابات في الدرس حتى يتدرب طالب العلم على ألا يلحن نحوياً- قال الله: كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] (كان) فعل ماض ناقص، فأما قولنا: إنها فعل فلأنها ليست اسماً ولا حرفاً، وأما عن قولنا: (ماض) فلأنها في الزمن الماضي، وأما قولنا: ناقص فلأنها لا تكتفي بمرفوعها، بل تحتاج إلى اسم وخبر، ولا تحتاج إلى فاعل، فإذا جاءت في حالة تحتاج فيها إلى فاعل سميت تامة. ونظيره في القرآن قول الله جل وعلا: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280] هنا تامة، وهذا معنى: فعل ماض ناقص، (لكم) اللام: حرف جر، والكاف: ضمير متصل مبني على الضم في محل جر بحرف الجر، والجار والمجرور -اللام وما بعدها- خبر لكان مقدم، فكان تحتاج إلى اسم وخبر، قال الله جل وعلا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ [الأحزاب:21] إلى الآن لم يظهر اسم كان؛ ففي: حرف جر، ورسول: اسم مجرور وهو مضاف، ولفظ الجلالة: مضاف إليه متعلق بما بعده. كلمة (أسوة) هي: اسم كان، وأصل الكلام: لقد كان أسوة حسنة لكم، لقد كان أسوة حسنة في رسول الله لكم، فأسوة: اسم كان مرفوع وعلامة رفعه الضمة، أما (حسنة) فجاءت مرفوعة مثل (أسوة) فدل على أنها من التوابع، فهي صفة. والتابع يأخذ حكم المتبوع في الإعراب، فالصفة تأخذ حكم الموصوف، والبدل يأخذ حكم المبدل منه، والمعطوف يأخذ حكم المعطوف عليه. هذه صناعة نحوية أطنبت فيها قليلاً وقلت: هذا من باب التغيير في الدرس. |
|
30-05-17, 02:45 AM | #28 |
فسير قوله تعالى: (ولما رأى المؤمنون الأحزاب... إلى قوله: وما بدلوا تبديلاً)
ثم قال الله جل وعلا: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22]. من حيث الصناعة العقدية: هذه من أعظم الأدلة لمذهب أهل السنة -سلك الله بنا وبكم سبيلهم- على أن الإيمان يزيد وينقص، فهو يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية؛ لأن الله قال: (وما زادهم إلا إيماناً) وليس بعد كلام الله كلام، فأثبت الله جل وعلا بمقتضى هذه الآية لنا: أن الإيمان يزيد وينقص، وهناك آيات أخر بنفس السياق، لكن نحن الآن في الآية التي بين أيدينا. وهنا سؤال: الله يقول: ولما رأى المؤمنون الأحزاب، أما معنى: رأى المؤمنون الأحزاب هذه ظاهرة، فقد رأى المؤمنون الأحزاب بأعينهم، لكن قوله: (هذا ما وعدنا الله ورسوله) ما الذي وعدهم الله ورسوله؟ للعلماء -أيها المبارك- فيها قولان: قول يقول: إن المقصود بالآية: أن هذه الأحزاب ابتلاء من الله، فهذا وعد الله وهذا يردهم إلى القرآن، قال الله جل وعلا: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]؛ لأن نهاية البقرة من أوائل ما أنزل، فيصبح المعنى: أن هؤلاء المؤمنين لما رأوا الأحزاب تذكروا الابتلاءات التي أخبر الله بها، فقالوا: هذا الذي نراه الآن مما وعدنا الله به ورسوله، هذا قول. وآخرون قالوا: إن المقصود بقول الله جل وعلا: (لما رأى المؤمنون الأحزاب هذا ما وعدنا الله ورسوله) على ما قلنا في اللقاء الماضي: أن النبي صلى الله عليه وسلم وعدهم في معركة الخندق وهو يحفر: أنه ستفتح لهم فارس والروم وأبواب صنعاء. والآية تحتمل المعنيين ولا يوجد تعارض بينهما، قالوا: وهذا ما وعدنا الله ورسوله، (وصدق الله ورسوله)، وقد بينا فضيلة الصدق في اللقاء الماضي، (وما زادهم) أي: هؤلاء المؤمنين (إلا إيماناً وتسليماً). ثم قال الله جل وعلا: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23]، من أوائل من يدخل في هذا المدح الرباني والتبشير الإلهي: أنس بن النضر رضي الله تعالى عنه وأرضاه عم أنس بن مالك ، وكان الناس -كما هو الحال في زماننا- أحياناً يسمون أبناءهم بأسماء قراباتهم، فسمي أنس بن مالك باسم عمه، أي: أن مالكاً هذا أراد أن يبر أخاه أنساً فسمى ابنه باسم أخيه. وأنس بن النضر رضي الله عنه وأرضاه لم يكتب له أن يشهد بدراً، فأخذ يعاتب نفسه ويقول: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيب عنه لئن شهد النبي صلى الله عليه وسلم مشهداً آخر ليرين الله ما أفعل، ثم خاف أن يزيد عليها، حتى لا يقع منه ألا يبر ما نطق به، فلما كان يوم أحد قابله سعد بن مالك رضي الله عنه في ساحة المعركة، فقال: واهاً يا أبا عمرو ! إلى أين؟ قال: إني أجد ريح الجنة دون أحد، وأحد الجبل الذي كانت في أسفله أو دونه أو بجواره المعركة، فـأنس رضي الله عنه علم الله منه صدقه، قال: إني أجد ريح الجنة دون أحد، وقد يقولها منافق، ولكن هذا الصحابي الجليل المبارك رضي الله عنه وأرضاه استشهد يوم أحد، ووجد وفيه أكثر من بضع وثمانين جرحاً ما بين ضربة أو طعنة أو رمية، وهذا يدل على أنه أبلى بلاءً شديداً رضي الله عنه وأرضاه. فمن أوائل من يدخل في هذه الآية المباركة: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب:23]: أنس بن النضر ومصعب بن عمير وأجلاء الصحابة ممن استشهد يوم أحد أو بعده أو قبله. ثم قال الله جل وعلا: (فمنهم) أي: من هؤلاء (الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه من قضى نحبه)، والنحب -أيها المبارك- ما التزم الإنسان الوفاء به، فلما كان النحب ما التزم الإنسان الوفاء به وكان الموت مما لابد منه، سمي من لاقى الموت: قاضياً نحبه. وعلى ذكر الموت فقد أدركنا أجلاء في المدينة كبار السنة يربون أبناءهم على حقائق ويقينيات منذ الصغر، حتى ينشأ صلباً في وجه ما يعتريه أكثر من غيره، وكانوا يربون أطفالهم على حقيقتين: لا نجاة من الموت، ولا سلامة من الناس. يقول حسان : وإن امرأً يمسي ويصبح سالماً من الناس إلا ما جنى لسعيد يعني: إذا كان الناس لا يقولون فيك إلا ما هو فيك فأنت تعتبر سعيداً، لكن محال ألا يقول الناس فيك إلا ما هو فيك، بل تجد منهم من يبالغ في مدحك ومن يبالغ في ذمك، وقلما سمعت قولاً صادقاً يحكم فيك بما هو فيك. قال: (فمنهم من قضى نحبه ومنهم) رضي الله عنهم وأرضاهم (من ينتظر) أي: ما زال على هذا الطريق العظيم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، هؤلاء الذين قيل فيهم (ومنهم من ينتظر) يدخل فيهم طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وأرضاه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال عنه يوم أحد: أوجب طلحة ، وقيل: إنه ممن قضى نحبه ولكنه كان يمشي على الأرض رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فقد أبلى طلحة بلاءً عظيماً يوم أحد في الثبات والدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال الله يمدح أولئك الأخيار الذين كانوا شامة في جبين الأيام، وتاجاً في مفرق الأعوام، قال عنهم: (وما بدلوا تبديلاً) وفي هذا تعريض بحال المنافقين، والذين قال الله فيهم كبعض بني حارثة: وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا [الأحزاب:15]. من حيث الصناعة النحوية: (ما): نافية، (وبدلوا) فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة، وواو الجماعة هذه ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل، و(تبديلاً): مفعول مطلق، وهناك من الفضلاء من ليس بصاحب صنعة نحوية، وهذه الأشياء قد يراها مفاجئة، لكن ثق تماماً أنه مع الدربة ومع الأيام ستصبح جزءاً من شخصيتك، أنت ما هو كيانك الجسدي؟ كيانك الجسدي بناؤه من الغذاء الذي تأكله مع الأيام، ما هو بناءك الثقافي؟ هو العلم الذي تسمعه مع الأيام، فلا يمكن أن تقول: إن الغذاء هذا أو ذاك هو الذي شكل تلك الجزئية من جسدك، لكن مع بعضها البعض، شكلت هذا الجسم المكون بقدر الله. وكذلك العلم، فما تسمعه يصبح جزءاً من شخصيتك، والذي يتكلم وينطق ويحاضر ويخطب إنما يقول ما استقر في ذهنه من علوم ومعارف سمعها أو وعاها عبر سنين وأيام وشهور، فكلما طال بياته وجمعه للعلم ثبت ورسخ إذا تكلم، أما إذا رأيته طار قبل أن يريش وحاول أن يستوي على سوقه قبل أن يتم تمامه فإنه لن يلبث حتى يسقط عافاني الله وإياكم من السقوط. |
|
31-05-17, 03:41 AM | #29 |
.
تفسير قوله تعالى: (ليجزي الله الصادقين بصدقهم... إلى قوله: إن الله كان غفوراً رحيماً) قال الله تعالى: وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:23-24]. هنا إشكال، وقد قلت في اللقاء الماضي وفي لقاءات سبقت: إن وجود الإشكال دافع للتعلم والبحث. يقول ربنا وكلنا يعلم ذلك: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، والمنافق كافر، والكافر لا يدخل تحت المشيئة؛ لأن الله يقول: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف:50]، إنما المؤمن هو الذي إذا عصى الله دخل تحت مشيئته، لكن المنافق كافر لا يدخل تحت المشيئة. هذا الأصل يحدث عندك إشكالاً لأن الله قال: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:24]، دائماً في المناقشات العلمية حاول أن تستريح، وخذ الأصل المخيف وأبعده من رأسك، فأنت معك أصل قاطع أن المنافق مخلد في النار، إذاً: هذه الآية لا تتحدث عن الآخرة؛ لأن المنافق في الآخرة مخلد في النار، يعني: من لقي الله يوم القيامة وهو منافق فهو في النار، ولا يوجد شيء اسمه مشيئة هنا؛ لأن الله يقول: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]. إذاً: أول طريقة تأخذها في السياق العلمي هنا أن تقول لمن سألك: كيف يقول الله: (ويعذب المنافقين إن شاء)؟ فتقول: هذه الآية لا تتكلم عن الآخرة، بل تتكلم عن الدنيا، وهذا الجواب يريحك كثيراً قبل أن تبحث في المسألة، فهناك درجتان تقابلهما ثمرتان: الدرجة الأولى: النفاق، ويقابلها العذاب. الدرجة الثانية: التوبة تقابلها الرحمة. فالذي حصل هنا: أنه اختار إحدى الدرجتين وإحدى الثمرتين، وأخفى إحدى الدرجتين وإحدى الثمرتين، قال الله تعالى: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [الأحزاب:24]، فالعذاب ثمرة ودرجته: الاستدامة في النفاق، فيصبح معنى قول الله تعالى: (ويعذب المنافقين إن شاء) أي: يبقيهم على نفاقهم؛ لأن العذاب ثمرة لدرجة هي الاستدامة على النفاق. فالله هنا ذكر الثمرة ولم يذكر الدرجة، لكننا فهمنا الدرجة من الثمرة، فهمنا، ثم قال جل جلاله: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [الأحزاب:24] وهنا لم يذكر الله الثمرة، وذكر الدرجة وهي التوبة من النفاق، والرحمة ثمرتها. فيصبح معنى الآية إجمالاً: أن الصادقين سيجزيهم الله بصدقهم في الدنيا والآخرة، أما المنافقين فربنا يقول: أنا قادر على أن أبقيهم على نفاقهم فيكونوا أهلاً للعذاب، وقادر على أن أتوب عليهم فيتركوا النفاق فيكونون أهلاً للرحمة. هذا معنى قول الله جل وعلا: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [الأحزاب:24]، ولما كان ربنا غلبت رحمته غضبه لين الآية جل شأنه بقوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:24] وفي هذا إقامة حجة عليهم، ودعوتهم إلى التوبة. |
|
02-06-17, 04:41 PM | #30 |
|
|