روائع شعريه |
روائع الكسرات |
|
||||||||||
الـــمـــلـــتـــقـــى الــــــــــعــــــــام [للنقاش الهادف والبناء والمواضيع الاسلامية والعامه] |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
11-01-17, 12:24 AM | #21 |
تفسير قوله تعالى: (وتحسبهم أيقاظاًَ وهم رقود ...)
قال تعالى: (وَتَحْسَبُهُمْ) أي: تظنهم. أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ [الكهف:18] ، أفضل ما يحمل عليه المعنى: أن الله أنزل عليهم هيبة، وأن أعينهم كانت مفتوحة، ولذلك من رآهم فإنه يظنهم أيقاظاً؛ لأنه لا يظن بشخص أنه يقظ إلا إذا كان مفتوح العينين، والعرب تزعم في كلامها أن الذئب ينام بإحدى عينيه فقط ويبقي الأخرى مفتوحة. تقول العرب في كلامها عن الذئب: ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى المنايا فهو يقظان نائم وقد مر معكم أنك لو دخلت مجمعاً للحيوانات أو ما يسمى حديقة في عرف الناس هذه الأيام، ومررت على الحيوانات، فإنك تجد الأسد رابضاً؛ لأن الله سلط عليه الحمى، فلا يوجد في الحيوانات من هو شديد الحمى مثل الأسد، هناك مثل عند العامة يقولون: خَلَقَ الشوكة وصوَّبَ رأسها، ليبان أنها شوكة فتميزت بذلك والله يقسم كل شيء، ولا يعطي أحداً الكمال. والذئب إذا رأيته قبل أن يراك تغلبه، وإذا رآك قبل أن تراه قلما تغلبه، لكن إذا رأيته يصيبه نوع من الهلع في نفسه، ولهذا من شدة خوفه فإنه ينام بإحدى مقلتيه ويبقي الأخرى مفتوحة. الذي يعنينا أنك لو دخلت أي حديقة فإنك لا تجد الذئب رابضاً أو مقعياً وإنما تجده يفر ويتحرك حتى ولو كان عجوزاً في مترين أو في متر؛ إلا أنه سريع الحركة لا يثبت؛ لأنه يبقى خائفاً حتى لا يراه أحد قبل أن يراه هو، وهذه أشياء تفيد الإنسان في فهم أمور عديدة في الحياة، وليس شرطاً أن تفيدك فيما أنت فيه الآن. ثم قال سبحانه: وَنُقَلِّبُهُمْ [الكهف:18] فأسند التقليب إلى ذاته العلية، وفيه فائدتان: الأولى: تشريف لهم، والثانية: بيان لطف الله جل وعلا لهم. وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ [الكهف:18] ، قال العلماء في علة ذلك: حتى لا تأكل الأرضة أجسادهم، ومعلوم أن الله قادر على أن يحفظ أجسادهم دون تقليب، لكن المقصود إجراء سنن الله جل وعلا في الكون، وأصله أن الإنسان إذا نام على جنب واحد أو على حال واحدة أن الأرضة تأكل جسده. وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف:18] كلبهم مضاف إليهم، أي أنه لهم جملة أو لأحدهم أو لبعض منهم، كل ذلك واقع ومحتمل. والكلب حيوان معروف، وقد أباح الله جل وعلا صيده إذا كان معلَّماً، قال تعالى: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ [المائدة:4] لما ذكر الله جل وعلا ما أباحه من الأطعمة، والعرب تضرب به المثل في الوفاء، وكانت تتخذه العرب للحراسة، والكلام فيه يطول. لكن المقصود من هذا هنا أن الله ذكر الكلب هنا ليبين جل وعلا أن من صحب الأخيار يلحق بهم، ويؤيده ما في الصحيح من حديث أنس : (أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ قال: ما أعددتَ لها؟ قال: ما أعددتُ لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله. فقال عليه الصلاة والسلام: أنت مع من أحببت) . قال أنس رضي الله عنه: والله! ما فرحنا بعد إسلامنا بشيء أعظم من فرحنا بهذا الحديث، فكان أنس يقول: وأنا والله! أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر . قال بعض الرواة لهذا الحديث: وأنا والله! أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر وأنس ، ونحن نقول: نحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر والصحابة كلهم وكل مؤمن تبع النبي وأصحابه بإحسان إلى يوم الدين. قال الله جل وعلا: وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف:18] ، الوصيد: مقدمة الكهف، وكلمة باسط اسم وأراد الله بهذه الجملة الإسمية: الاستمرار؛ لأن الاسم يلحق به الاستمرار أكثر مما يلحق بالفعل، فقوله جل وعلا: (باسط) غير لو قال: يبسط؛ لأنها قابلة للتحريك لكن يظهر أن النوم الذي أصاب أصحاب الكهف أصاب كذلك الكلب. قال تعالى: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ [الكهف:18] أيها المخاطب! لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا [الكهف:18] ، وهذا نوع من الحماية لهم، لكن الإشكال الوارد: أن الإنسان يرتعب أولاً ثم يفر، والله في هذه الآية قدم الفرار على الرعب، ولعله يجاب عن هذا بأن يقال: إن الرائي لهم يصيبه رعب فمن هول ذلك الرعب وقبل أن يتملكه، يسارع بالفرار. |
|
11-01-17, 12:26 AM | #22 |
تفسير قوله تعالى: (وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم ...)
قال الله جل وعلا: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ [الكهف:19] بعثهم هنا بمعنى: أيقظهم من سباتهم. لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ [الكهف:19] مازال الحديث عن أهل الكهف. وهنا قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ [الكهف:19] يعني تكلم أحدهم: كَمْ لَبِثْتُمْ [الكهف:19] وكأنه شعر بطول المدة. وهنا أدخل الأحوال النفسية في الخطاب. قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف:19] ، وهؤلاء الفتية نعتهم الله جل وعلا بأنهم ذوو هدى، فلو كان هناك تغير في أجسادهم بأن طالت أشعارهم أو أظفارهم، أو انحنت ظهورهم أو دب على رءوسهم المشيب، لما قال القائل منهم: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف:19] ؛ لأنه محال أن يقع هذا في يوم أو في بعض يوم، وهذا لا يختلف عاقل في إدراكه، فدل هذا القول على أنهم لم يتغير منهم شيء. قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ [الكهف:19] ، ونقول مراراً عند تفسير هذه السورة: إن الإنسان مكلف بما هو فيه، فلك الساعة التي أنت فيها، والماضي تستسقي منه، لكن لا يكون مثبطاً لك ولا تركن إليه دون عمل. مضى السلف الأبرار يعبق ذكرهم فسيروا كما ساروا على الدرب واسمعوا ولا خير في الماضي إذا لم يكن له من الحاضر الزاهي بناء مرفع وهذا للاستشهاد في الأعمال ليس للاستشهاد في الألفاظ فإنه لا يقبل في الألفاظ. نعود فنقول: إن الله جل وعلا قال هنا أنهم تساءلوا فلما علموا أن التساؤل في الأمر القديم لا ينفعهم لجئوا إلى المشكلة التي يعاصرونها، وهي: أن لهم سنين دون طعام، فهم جوعى يحتاجون إلى ما يسد رمقهم وجوعهم. فقالوا: قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ [الكهف:19] أي: ما زالوا يملكون فضة، وفهم منها بعض العلماء أنهم أبناء أثرياء. فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ [الكهف:19] الورق هو الفضة، والفضة قرينها الذهب، والذهب والفضة مالان يقال في نعتهما: ربويان وزكويان، والمعنى أن فيهما الزكاة بخلاف ما لا يعد للتجارة كبيت الرجل، وخيله، ودابته فهذا لا يقال عنه مال زكوي؛ لأنه ليس كذلك إلا إذا أُعِدَّ للتجارة، ولا يقال عنه مال ربوي؛ لأنه لا يدخله الربا وليس من أصناف الربا، لكن الذهب والفضة من أعظم زينة الدنيا التي يدخلها الربا، والزكاة تكون فيهما. قال الله جل وعلا: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا [الكهف:19] وكأنهم يعيشون بيننا، فأرادوا أن يوصوا أحدهم ليشتري لهم طعاماً طيباً. أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا [الكهف:19] قيل أزكى بمعنى: أطيب، وقيل: أغلى، واللفظ يحتمل المعنيين، وهذا يدل على أنهم كانوا أبناء أغنياء. فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ [الكهف:19] (وليتلطف) تفيدك في أن الإنسان من حق نفسه عليه في مسيرته الدعوية والعلمية وحياته الاجتماعية أن يكون حريصاً على أن يبحث عن الأمان لنفسه، ولا يعرض نفسه للمهالك. يقول عليه الصلاة والسلام: (حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) ، ففي الفترة المكية جاءه أبو ذر أو أحد الصحابة وكان يجهر بالدعوة فقال عليه الصلاة والسلام: الحق بقومك، فإذا سمعت أن الله أظهرني تعال واقدم علي. لأن هذا الصحابي الجليل آنذاك لا يصلح وسط تلك الفئة؛ لأن فيه نوع من الجرأة، والمرحلة آنذاك لا تحتاج إلى جرأة بل تحتاج إلى نوع من السكينة والطمأنينة. والمقصود أن المرء يحتاج في مسيرته إلى ألا يشغب على نفسه، ولا يدل الحاسدين عليه، هذا من الحكمة التي أمر الله جل وعلا بها، ودل عليها قول الله عن أهل الهداية: وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا [الكهف:19] ، لا أي: يحاول أن يدل الناس والأعداء علينا. |
|
11-01-17, 12:28 AM | #23 |
تفسير قوله تعالى: (إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم ...)
إِنَّهُمْ [الكهف:20] أي: الأعداء. إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ [الكهف:20] أي: ينتصروا عليكم فيصبحوا قادرين يَرْجُمُوكُمْ [الكهف:20] والمقصود: يعذبوكم. أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ [الكهف:20] وهذه الثانية أنكى من الأولى؛ لأن فساد الجسد لا يمكن أن يقارن بفساد المعتقد. فالإنسان قد يكون مبتلى في جسده وهو في قمة الفلاح، فقد كان عطاء بن أبي رباح أعرج أعور، فيه شلل في بعض أجزاء جسده، وكان لا يفتي في مكة وفي زمانه أحد غيره، فلم يضره ما فيه من آلام في جسده بل كان في قمة الفلاح، لكن قولهم: وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف:20] المقصود منه: عدم الفلاح الأخروي وإذا فسد المعتقد وأعادوكم في ملتهم فعدم الفلاح مرتبط بفساد المعتقد. |
|
11-01-17, 12:29 AM | #24 |
تفسير قوله تعالى: (وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق ...)
قال الله: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ [الكهف:21] ، فأخرجنا من تصرف الفتية وأدخلنا في تدبير العلي الكبير، ذهب ذلك الفتى الذي بعثه أصحابه يقيناً أنه أخرج تلك الورق فعرفها من أخرجها له أنها قديمة، فصار بينهما نوع من المساءلة التي تدل عليهم، وهذا المعنى حقيقي؛ لقول الله جل وعلا: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [الكهف:21] وهناك أشياء تدل بعضها على بعض، فالذي حفظ هؤلاء ثلاثمائة عام ثم بعثهم من مرقدهم - والموت أخو النوم - قادر على أن يبعث من في القبور كما قال الله في إنبات الأرض: إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى [فصلت:39]، والأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير وهذا معنى قول الله: لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا [الكهف:21] أي: أنها حق قادم لا شك فيه. إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ [الكهف:21] والذي يتنازع هم القوم الظاهرون. يتنازعون أمر هؤلاء الفتية بعد أن ماتوا، والدليل على وقوع ذلك بعد موتهم أن الله قال: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21]. واتخاذ المسجد لا يكون على أحياء إنما يكون على موتى، فإن احتج أحد بأنه يجوز بناء المساجد على القبور نقول: إن هذا باطل بدليل: أن القرآن فيه محكم ومتشابه، فالمتشابه من أي قول يرد إلى المحكم، وقد قال صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه، أي: في آخر أيام حياته مما لا يدخله النسخ قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: يحذر ما صنعوا، أي: ما صنع اليهود والنصارى بقبور الصالحين، واللعن لا يكون إلا على أمر كبير عظيم منهي عنه في الدين. فهذا الحديث فصل خطاب وليس من الإنصاف ولا من طرائق العلم المعتمدة المعتبرة أن يترك الإنسان المحكم ويفر إلى المتشابه، وإنما يفر الإنسان من المتشابه ويعمد إلى المحكم إذا أراد أن يصل إلى الحق، أما من لم يرد الوصول إلى الحق فسيتخذ بنيات الطريق، ويتلوى في قواعد العلم حتى يصل إلى مبتغاه وهواه، أعاذنا الله وإياكم من اتباع الهوى. قال تعالى: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21] فإن قال قائل: إن قبر النبي صلى الله عليه وسلم اليوم في مسجده. نقول: إن الصحابة لم يتخذوا مسجداً على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فالمسجد بني قبل وجود القبر، وإنما الحقيقة التاريخية أن حجرة عائشة رضي الله عنها وأرضاها التي قبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم هي أصلاً خارجة عن المسجد والمسجد كان الصف الأول منه مواز للحجرة ما يسمى بالروضة الآن وهي المكان المفروش بفراش أخضر، ويوجد إلى اليوم مكان لمحراب النبي صلى الله عليه وسلم المجاور للمنبر داخل الروضة، هذا المحراب كان موضع صلاته صلى الله عليه وسلم، فلما كانت خلافة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وسع المسجد من جهة القبلة؛ من جهة الجنوب، والمحراب الذي يصلي فيه الأئمة اليوم هو محراب عثمان لم يصل به النبي صلى الله عليه وسلم وإنما صلى فيه عثمان ، وإنما تأسينا به؛ لأن الصحابة وهم أفقه منا وأتقى تأسوا بـعثمان عندما جعل قبلة المسجد متقدمة قليلاً من جهة الجنوب. ثم مضى الأمر على هذا الحال حتى كانت خلافة الوليد بن عبد الملك وهو أحد خلفاء بني أمية وكان له شغف بالبناء والعمارة والناس على دين ملوكها، ففي زمن الوليد كان الناس يتساءلون عن البناء أكثر شيء، وهذه حياتهم، في زمن عمر بن عبد العزيز كان يحيي الليل فكان الناس يتساءلون: كم صليت من الليل؟ كم قمت؟ كم أوترت؟ فـالوليد كان من شغفه بالبنيان أنه أمر عامله على المدينة آنذاك وهو عمر بن عبد العزيز ابن عمه رحمه الله، أمره أن يوسع المسجد، فلما امتدت التوسعة جهة الشرق؛ ولأن الحجرة تقع في جهة الشرق أدخل الحجرات، وقد أخطأ من صنع هذا الصنيع، أخطأ خطأً تاريخياً؛ لأنه ألبس على الناس أمرهم، فظن المتأخرون من الناس أن القبر بني داخل المسجد وإلا فإن الحجرة كانت خارج المسجد في عهد الرسول وفي عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية ويزيد بن معاوية ومعاوية بن يزيد ومروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان فهؤلاء تسعة خلفاء والوليد العاشر - إن لم أنس - أحداً من الخلفاء الذي وصل إليه الأمر. وهذا كله تقريباً عام 90 هجرياً أو أكثر بقليل، وهو متأخر، فلا علاقة للقبر بالمسجد أو المسجد بالقبر، ثم إنه في عهد هذه الدولة المباركة عندما جاءت التوسعة توخى ولاة الأمر في هذه البلاد أن تكون التوسعة شاملة للمسجد كله وإنما تأخروا من جهة الشرق قليلاً حتى لا يصبح القبر وسط المسجد، ويلاحظ الإنسان في بنيان الحرم أن فيه مثل المستطيل ثم تبدأ التوسعة فمكان القبر من جهة الغرب أو الشرق لا يوجد توسعة في مقدمة الصفوف، لا توجد توسعة حتى لا يصبح القبر متوسطاً للمسجد، وفي هذا محاولة لإبعاد اللبس، وهي عمل صالح مبارك موفق اهتدى إليه ولاة الأمر والعلماء في هذه البلاد. هذا الذي يعنينا حول قول الله جل وعلا: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21] وفي قوله جل وعلا: غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ [الكهف:21] دلالة على أن السلطان يصنع ما لا يقدر عليه غيره، وهذا معنى غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ [الكهف:21]. |
|
11-01-17, 12:32 AM | #25 |
تفسير قوله تعالى: (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ...)
قال تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ [الكهف:22]. يقول بعض العلماء: إن عدد أصحاب الكهف سبعة وثامنهم كلبهم، وأن الآية نصت على ذلك؛ فإن الله قال: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف:22] ثم قال: رَجْمًا بِالْغَيْبِ [الكهف:22] وقال: سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف:22] ولم يقل: رجماً بالغيب وجاء بالواو بعد قوله: (وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) ، وقالوا إن هذه الواو واو الثمانية. والحق الذي يجب المسير إليه أنه ليس في الآية ما يدل على أنهم سبعة وثامنهم كلبهم، صحيح قد يكونوا سبعة وثامنهم كلهبم، لكن أقول: الآية لا تدل عليه، إذا قلنا لا تدل عليه يجب الرد على الدليلين الذين احتجوا بهما. أما الرد على الأول: فإن الله لم يقل رجماً بالغيب في الثالثة؛ لأنه تكرر في الأول، وهذا أسلوب قرآني واضح لمن تأمل القرآن، قال الله تبارك وتعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46] إلى أن قال جل وعلا: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56] وتقدير الآية: ولا جان قبلهم، لكنه لم يكررها بعد جان وكررها بعد الإنس؛ لأنه ذكرها في الأول يغني عن ذكرها في الثاني، وهذا أسلوب قرآني في أكثر من آية يستطيع الإنسان أن يصل إليه. أما قولهم إن الواو واو الثمانية فهذا من العجب، فلا يوجد في اللغة شيء اسمه: واو الثمانية - مع تقديرنا لمن قال به من فضلاء العلماء - وقد احتجوا بآيات من القرآن: منها قوله جل وعلا: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ [التوبة:112]إلى أن قال: الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة:112] قالوا: هذه ثمانية. ومثله قول الله تبارك وتعالى: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ [التحريم:5]إلى أن قال جل ذكره: ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا [التحريم:5]. والرد على هذا أن يقال: أما الواو في ثيبات وأبكارا فهي واو عاطفة يراد بها التقسيم؛ لأنه لا يمكن أن تكون المرأة ثيب وبكر في وقت واحد، فلا يستقيم أن يقال: ثيبات أبكارا. والأمر الثاني المتعلق بآية التوبة: الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة:112] أن هذا أمر فيه التصاق، يعني: كل ما جاء في القرآن عن أمر بمعروف ونهي عن منكر يؤتى بالواو، ويكون ذلك حتى في الأفعال: يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. ومن الأدلة التي احتجوا بها: آية الزمر التي قال الله فيها: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا [الزمر:73]، فقالوا: إن المقصود من هذه الواو أن الله قال: أبواب الجنة ثمانية، ولا ريب أن الواو هذه واو حال، والمعنى أنه سيحدث شيء قبل فتح الأبواب، وقد دلت عليه السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم يطرق باب الجنة. ومن الأدلة الدامغة في أنه لا يوجد واو ثمانية أن لو وجدت لالتزمها القرآن، قال الله جل وعلا: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ [الحشر:23] الثامن: الْمُتَكَبِّرُ [الحشر:23] فلو كان هناك واو تلتصق بالثمانية كما ذهبوا إليه لقال الله: العزيز الجبار والمتكبر، لكن الله لم يقلها؛ لأنه لا التزام لها أصلاً، وإنما قيلت في تلك المواطن لا لعدد الثمانية، وإنما لأن الحالة تناسب وتفرض أن تكون هناك واواً. نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: أنا من القليل الذين يعلمونهم، كانوا سبعة وثامنهم كلبهم. أقول: هذا محتمل لكن ليس من الآية: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا [الكهف:22]. وهنا قال العلماء إن الإنسان إذا فسر هذه الآية ينبغي عليه أن ينبه طلابه على أنه لا يتعلق بعددهم كبير علم، فهناك أمور يجب الاصطلاح عليها، فهناك أمور تسمى: من مليح القول، وأمور تسمى: من متين العلم، فلو قُدِّر أن عرفنا عددهم فهذا من مليح القول وليس من متين العلم. والدليل على أنه ليس من متين العلم، أنه لو كان كذلك لأخبر الله جل وعلا به، قال الله جل وعلا: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ [الكهف:22] وكلمة (ما): نافية. إِلَّا قَلِيلٌ [الكهف:22]. ثم قال الله لنبيه: فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا [الكهف:22] أي: لا تجادلهم بكثرة؛ لأنكم لن تصلوا إلى بغيتكم، فلابد أن يكون بين طرفا الجدال أرضية مشتركة، وتقارب، أما إذا كان هناك تفاوت فإن الأدنى سفيه لن يعرف للعالي قدره، وإذا لم يعرف له قدره لن يكون هناك توافق في الجدال: وإن عناء منك أن تعلم جاهلاً فيحسب جهلاً أنه منك أعلمُ. متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم لا يمكن أن يتفقوا، ولهذا قال الله لنبيه: فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا [الكهف:22] ، بل إنه بعد ذلك قطع وحسم المادة كلها فقال: وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا [الكهف:22] ؛ ذلك لأنهم ليسوا ذوي علم ولا يستفتى إلا من كان ذو علم، وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا [الكهف:22] أي من القرشيين. سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف:22] السين للاستقبال، والمعنى أن هذا الأمر لم يقله القرشيون بعد، لكنهم سيقولونه وقد قالوه؛ لأن الله جل وعلا أخبر بأنهم سيقولوه. مما يستطرف في هذا المقام: أنهم يقولون إن دعبل الخزاعي ، وهو شاعر كان مناصراً لآل البيت بقوة وفيه تشيع شديد، وله أبيات في ذلك منها: ذكرت محل الربع من عرفات فأجريت دمع العين بالعبراتِ التي فيها: ديار علي والحسين وجعفر وحمزة والسجاد ذي الثفنات كان على خصومة مع المعتصم والمعتصم هو ثامن خلفاء بني العباس، ويقولون إن رقم ثمانية ارتبط به ارتباطاً كبيراً، فهو ثامن الخلفاء العباسيين، وكان له من الأبناء: ثمانية ذكور، وثمان إناث، وحكم ثماني سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام، ومات وعمره ثمان وأربعون سنة، وهو الذي آذى الإمام أحمد وكان متأولاً. المهم: أنه خالف دعبل ، والعاقل لا يعارض السفهاء خاصة منهم الشعراء؛ لأن الشاعر قد يكون جباناً، لكنه يقول قولاً يسيراً بين الناس فيغلبك بشعره لا بقوته ولا بسلطانه، فانتهز دعبل كون المعتصم ثامن الخلفاء فقال يهجو المعتصم : ملوك بني العباس في الكتب سبعة ولم تأتنا عن ثامن لهم كتب كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة غداة ثووافيه وثامنهم كلب ويقال إن المعتصم أهدر دمه وهو معذور من الناحية السياسية في إهداره لدمه. وقد بقيت خصومة المعتصم مع دعبل ، وقد كانت قديمة حتى مع المأمون أخو المعتصم إلا أنه السابع، طبعاً في السابع ما وجد شيئاً يقوله، لكن المأمون وصل إلى الحكم بعد مقتل الأمين ، والذي قتل الأمين رجل خزاعي من بني خزاعة من قوم دعبل ، فقال دعبل يهجو المأمون ويبين له أن الخلافة ما وصلته إلا بسبب قومه - ما معناه - : نحن الذين قتلنا الأمين وأوصلناك إلى الخلافة. المقصود: أن العاقل لا ينافس السفهاء، وقد جاء في الحديث أن الإنسان يدافع عن عرضه بالمال، والإنسان قد يذهب إلى بقال مثلاً ويريد أن يشتري شيئاً زهيداً بريال، فلو اختصمت معه وعلت أصواتكما لاجتمع الناس على ريال. ولو أخطأت في كلمة في المحراب أو في المنبر أو في الإمامة ولك خصوم فكل ذي نعمة محسود، فيأتي الناس إلى حاسديك ويسألونهم عنك، فيقولون عنك: أصلاً هذا ليس فيه خير؛ هذا لأجل ريال قاتل الناس، نسأل الله العافية. فأنت عاقل، لو قال: ما دفعت ريالاً أعطيه ريالين، ولو قال: ما دفعت ريالين أعطه ثلاثة. بالعلم والمال يبني الناس ملكهم لن يبن ملك على جهل وإقلال ولهذا في القرآن طيات وأمور خفية هي حقيقة التفسير، والأصل أن نستظل بما في القرآن وأن نفيء بما في القرآن من آيات تبين لنا كيف نكون أنفسنا، والدليل على ذلك أنه ما فقه القرآن أحد مثل نبينا صلى الله عليه وسلم، فالأيام النضرة للرسول صلى الله عليه وسلم أعظم مفسر للقرآن، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحفظ هذا في نفسه يقول - وعبد الله بن أبي مستحق للقتل -: (حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) وقف يقول: (من يعذرني في رجل بلغني أذاه لأهلي) فاختصم السعدان: سعد بن عبادة وسعد بن معاذ فنزل من المنبر حتى يسكن الناس ولا يخوض الناس في اللغط. وثمة أمور كان عليه الصلاة والسلام لا يستشير فيها استشارة عامة، فعندما حصلت حادثة الإفك - كما سيأتي - ذهب النبي عليه الصلاة والسلام إلى علي ابن عمه وأسامة والجارية وهم أناس خواص؛ لأجل ألاّ يشيع الخبر، يحاول صلى الله عليه وسلم أن يجمع شتات الموضوع. هذا ما يمكن أن يقال في هذا المقطع من هذه السورة المباركة. أعيد على وجه الإجمال. الآية التي مرت معنا تعنى بحفظ الله جل وعلا ورحمته بأولئك القوم، وكيف أن الله جل وعلا جمع لهم أمرهم وآواهم وأيدهم جل وعلا بحفظه، وحتى الشمس وهي شمس جعلها الله جل وعلا أمر طبيعي من تعرض لها آذته لكنه حفظهم وكلأهم ونسب التقليب إلى ذاته قال جل وعلا: وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ [الكهف:18] ثم أعثر عليهم وبين اختصام الناس فيهم، وبين المنهج الحق في الاتعاظ بالقرآن والأخذ منه. هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، والله المستعان وعليه البلاغ. وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
|
11-01-17, 03:31 AM | #26 |
11-01-17, 11:10 PM | #27 |
11-01-17, 11:11 PM | #28 |
11-01-17, 11:11 PM | #29 |
تفسير قوله تعالى: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً... لأقرب من هذا رشداً)
الحمد لله، وإن كان يقل مع حق جلاله حمد الحامدين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين. وبعد: فهذا لقاء متجدد مع برنامجنا من محاسن التأويل الذي نشرع فيه بعون من الله جل وعلا وتوفيق في تأملات في كلام الله تبارك وتعالى، والمنهج في هذه اللقاءات المباركة: أننا نعرج على سور القرآن متوخين أوائل ما نزل منها نبدأ به ذلك حتى يكون التأمل والتفسير والتأويل مطابقاً لمجريات النزول، ولأحداث السيرة العطرة والأيام النضرة لنبينا صلى الله عليه وسلم. وكان قد مر معنا لقاءان حول سورة الكهف بينا فيهما أن سورة الكهف من أوائل ما أنزل، وأن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إنها من العتاق الأول، أي: من أوائل ما أنزل، وأنها من أوائل ما أخذه عن رسولنا صلوات الله وسلامه عليه من القرآن، وانتهينا إلى قول الله جل وعلا: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا [الكهف:23-24]. وبيان المعنى في هذه الآيات على التالي: يخاطب الله جل وعلا نبيه قائلاً له: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ [الكهف:23]، وهي: استغراق في العموم أي: لأي أمر، إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24]. |
|
11-01-17, 11:14 PM | #30 |
سبب نزول الآية
ومناسبة هذا الاستثناء فيما ذكره أكثر أهل التفسير: أن قريشاً لما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الفتية والروح، وعن رجل حكم في أوائل الزمان يعنون: ذا القرنين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً أنه سيحدثهم ويأتيهم بالخبر عن الله، ولم يستثن أي: لم يقل: إن شاء الله، فعاتبه ربه بأن تأخر الوحي القرآني قليلاً عنه صلوات الله وسلامه عليه، ثم جاءه الجواب دون أن يكون الجواب مصدراً بمعاتبة، وإنما قال الله: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا [الكهف:9]، وأخذ جل وعلا يبين لنبيه قصة أصحاب الكهف، ثم بعد أن كادت القصة تنتهي ولم يبق إلا حل الإبهام في قوله جل وعلا: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ [الكهف:25]. والتي بين الله جل وعلا فيها كم لبثوا، فقبل أن يصل الله إلى مدة اللبث ليختم على القصة وينهيها خبراً عاتب نبيه بقوله: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24]. وقبل أن نشرع في بيانها وأوجه التفسير فيها نقول: هذا يسمى من العتاب من الله جل وعلا للحبيب المكرم صلوات الله وسلامه عليه، ويقولون: إن الشخص إذا أراد أن يعاتب حبيبه على بعض أسئلته، أو على طلبه، فإنه يعطيه الطلب ثم بعد ذلك يعقبه بالعتاب، ولا يقدم العتاب على الإجابة أو على الطلب سواءً أجاب أو لم يجب، إنما يؤخر العتاب، فالله جل وعلا أخر المدة الزمنية، ولم يعاتب نبيه، وأخبر نبيه بنبأ أصحاب الكهف: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الكهف:13]. ثم لما قص جل وعلا على نبيه نبأ أصحاب الكهف بالحق، قال له في نهاية الخطاب: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا [الكهف:23]، وهذا الخلق الذي علمه الله جل وعلا نبيه تأدب به صلوات الله وسلامه عليه، فكما عامله ربه جل وعلا عامل صلى الله وعليه وسلم أصحابه بمثله، ويدل على هذا حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه وأرضاه، وهو أحد الصحابة المتأخرين إسلاماً، ولد في جوف الكعبة، وهو ابن أخ لـخديجة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، واسمه حكيم بن حزام بن خويلد الأسدي كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم مالاً فيعطيه قال: سألته فأعطاني، وسألته فأعطاني، وسألته فأعطاني، ثم بعد أن أعطاه ثلاث مرات حتى لا يبين له أن المقصود منعه، وإنما المقصود تربيته قال له: (يا حكيم ! إن هذا المال خضرة حلوة)، ثم أخذ يبين له أن العاقل لا يأخذه باستشراف نفس، فما أتاك منه بغير استشراف فخذه، ونهاه أن يأخذه بطلب وإلحاح، واستشراف نفس، ثم قال له: (واليد العليا خير من اليد السفلى)، فأخذ يبين له الأدب الذي ينبغي أن يكون الكملاء من الرجال، قال حكيم وهو يجيب النبي صلى الله عليه وسلم: والذي بعثك بالحق! لا أسأل أحداً بعدك، ولم يقل: لا أسألك؛ حتى لا يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: فهمت من كلامك أنك تريدني ألا أطلب منك مالاً فقال له: لا أسأل أحداً بعدك، وبقي على سؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حكيم لا يسأل أحداً، فكان عمر يناديه ويقول: (من يعذرني في حكيم أعطيه حقه فيرفضه)؛ لأنه أعطى النبي عهداً ألا يأخذ من أحد غيره. هذا الخلق النبوي تعلمه النبي صلى الله عليه وسلم من تعليم الله له في القرآن: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24]. أما أقوال العلماء في تفسير الآية فيمكن حصرها في تأويلين إذا فسرت مع التي بعدها؛ لأن الله قال: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:23-24] موضع الإشكال: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24] وإلا: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24] فهذه ظاهرة لا تحتاج إلى مزيد إيضاح، لكن الإشكال هل قول الله جل وعلا: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24] مرتبط بما سبق أم أنه استئناف كلام جديد؟ وهذا الذي قلت في مقدمة كلامي أنه للعلماء فيه طريقان: الطريق الأول: أن قول الله جل وعلا: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24] أي: إذا نسيت أن تستثني في أيمانك وطال الفصل فاذكر ذلك الاستثناء ولو بعد أجل، والمعنى: أنك إذا قلت: سأفعل كذا، ونسيت أن تقول: إن شاء الله، ثم تذكرت بعد دهر أنك لم تستثن فقل: إن شاء الله فيصبح معنى الآية: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24] أي: إذا نسيت الاستثناء حال اليمين، أو حال الإخبار بفعل شيء، فلا بأس أن تقوله بعد فصل، هذا الأول. وهذا القول يدل عليه ارتباط الآيات بعضها ببعض. وقول آخر: أن قول الله جل وعلا: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24] لا علاقة له بالأول، وإنما إذا غلب عليك النسيان فمن أسباب تذكر ما قد نسيت أن تذكر الله بتسبيحه وحمده، وتهليله، أن تقول: سبحان الله، الحمد لله، لا إله إلا الله وأمثالها حتى تذكر الشيء الذي نسيته، وحجة هؤلاء ظاهرة وهي: أن الله جل وعلا أخبر في طيات كتابه أن النسيان من الشيطان: قال الله جل وعلا على لسان يوشع بن نون فتى موسى: قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الكهف:63]. وقال جل ذكره: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ [المجادلة:19] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن النسيان من الشيطان، فيطرد ذلك النسيان الذي هو من الشيطان بذكر الرحمن، على هذا القول من التفسير لا علاقة لقول الله جل وعلا: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24] بقول الله جل وعلا من قبل: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24]. لكن ينبغي تحرير المسألة كالتالي: من قال أصلاً بأن: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24] مرتبطة بما سبق يقول: إن الفصل إذا طال لا ينفع فيه الاستثناء، بمعنى: لو أن إنسان أقسم على شيء أن يفعله، ولم يقل: إن شاء الله، ثم قال في غده أو بعده غده: إن شاء الله، فإن هذا الاستثناء المتأخر البعيد الفصل بينه وبين الخطاب الأول لا يمنع من وجوب الكفارة إذا حلف في يمينه، بمعنى: أنه لا تبرأ به الذمة، فلابد من الكفارة إذا حلف في اليمين، لكن أشكل على العلماء أن المشهور من قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الفصل يصح ولو طال، ولو بعد سنين، هكذا فهم ابن عباس الآية في المنقول عنه رضي الله تعالى عنه، ونحن أمام معضلة وهي: إذا قلنا برأي ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقد أطبق العلماء لو أخذنا بهذا الرأي لم يحنث أحد في الدنيا أبداً؛ لأنه إذا كان يحق له أن يقول: إن شاء الله في أي وقت، فإنه قبل أن يقدم، أو قبل أن يحجم يقول: إن شاء الله وتنتهي يمينه، وهذا لا يقول به عاقل، وما دام لا يقول به عاقل من الصعب إسناده إلى ابن عباس فكيف نتهم به رجلاً من أكابر علماء الصحابة إذاً: لابد من تخريج لقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. الصواب -إن شاء الله- أنه قصد بقوله: أن تقول: إن شاء الله ولو طال الفصل لا لتبرأ الذمة بحنثك عن اليمين، وإنما لتشعر نفسك بأنك تداركت الأمر، فلا تصبح كاذباً أو معتمداً في أمورك على غير الله، فإذا نسيت وتذكرت بعد حين فإنك تقول: إن شاء الله، من باب تدارك الأمر، ومن باب الاستغفار، والإخبار أنك نسيت في أول الأمر ومن باب الاعتماد على الرب جل وعلا، والاعتقاد أن الأمور كلها لن تنفذ إلا بمشيئة الله، لكنك لا تقصد بهذا أن ترضى عن نفسك أو تسوغ لنفسك أن تحنث في يمينك فتجعل من قولك: إن شاء الله، التي بعد حين هي نفسها القريبة العهد بنفس الخطاب، وأرجو أن يكون هذا ظاهراً. ومما يستطرف في هذا الشأن أن أبا حنيفة النعمان الفقيه المعروف لم يكن يقول بقول ابن عباس ، فكان أبو جعفر المنصور يأتي الواشون إليه ويقولون له: إن أبا حنيفة لا يقول بقول ابن عباس ، على اعتبار أن ابن عباس جد لـأبي جعفر . فأقدمه بين يديه، وقال له: كيف لا تقول بقول ابن عباس ؟ فأراد أن يخرج من هذا المأزق، وأبو جعفر أمير المؤمنين فكلمه بشيء يحافظ عليه وهو كرسيه، قال له: يا أمير المؤمنين ! إن القول بقول ابن عباس يضر بملكك، فإن الناس يعطونك أيماناً وبيعة، فإذا خرجوا من عندك قالوا: إن شاء الله، ثم يحنثون في يمينهم ويتركون البيعة، فلم يستطع أبو جعفر أن يجد جواباً على أبي حنيفة ، وإنما استحسن قوله وقبله منه. والمقصود من هذا: أن هذا مضمار تجري فيه أقدام العلماء. وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا [الكهف:23-24]. هذه الآية فيها إشعار خفي غير ظاهر، ومعناها: ادع الله أن يدلك على طريق أقرب لهداية الناس بآيات أعظم من آيات قصص أصحاب الكهف، يعني: لا تجعل القضية وقفاً على قصة أصحاب الكهف أن تقنع بها قومك، واسأل الله آيات أقرب رشداً إلى الطريق الحق من قصة أصحاب الكهف، وإن كان أصحاب الكهف من آيات الله ولا ريب أن الله استجاب دعاء نبيه، فأعطاه من الآيات المثبتة لنبوته صلى الله عليه وسلم وصدقه ما الله به عليم إلى أن توفي صلوات الله وسلامه عليه. |
|
|
|