روائع شعريه |
روائع الكسرات |
|
||||||||||
الـــمـــلـــتـــقـــى الــــــــــعــــــــام [للنقاش الهادف والبناء والمواضيع الاسلامية والعامه] |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
31-12-16, 05:33 AM | #231 |
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله..)
قال الله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة:170] . الله عظم العقل، والمشركون تركوا عقولهم فلم يستفيدوا منها، فمن لم يستفد من جارحة أعطاه الله إياها فكأنه لم يعطاها، ولهذا وصفهم الله بأنهم صم رغم أنهم يسمعون، ووصفهم بأنهم بكم رغم أنهم يتكلمون، ووصفهم بأنهم عمي رغم أنهم يبصرون؛ لأن تلك الجوارح لم يستفيدوا منها الاستفادة التي أرادها ربهم تبارك وتعالى. هنا يقول الله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا [البقرة:170] أي: النبي صلى الله عليه وسلم مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ [البقرة:170] أي: ما وجدنا عليه آباءنا، قال الله: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة:170] هذا استفهام تعجب. والمعنى: على أي حال يصلون بها إلى أن يدعوا عقولهم بلا عمل فيعرضوا عن دعوة الإسلام، ويبقوا على عبادة الأصنام، ملتزمين هدي من سبقهم ولو كان من سبقهم على ضلالة وعياً وبعداً عن الله جلا وعلا، وهذا يحمل التوبيخ مع الإنكار. قال الله: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة:170] ، اختلف العلماء في معنى (لو) هنا اختلافاً واسعاً، فقال بعض العلماء: هي بمعنى إن التي لا تحتمل معنى الشرط، وقال آخرون بغير ذلك، لكن القول بأنها لا تحتمل معنى الشرط هو الأفضل والأولى التي لا تحتاج إلى جواب. وقال البيضاوي قولاً ليس له فيه سلف، محتجاً ببيت لـرؤبة بن العجاج : قالت بنات العم يا سلمى وإن كان فقيراً معدماً قالت وإن لكن القول الأول -وهو أنها بمعنى إن التي لا تحتمل معنى الشرط- هو الذي عليه أكثر أهل العلم، والعلم عند الله جلا وعلا. |
|
31-12-16, 05:34 AM | #232 |
تفسير قوله تعالى: (مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق..)
قال الله جلا وعلا يبين حال أهل الإشراك: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171] . هذا تشبيه حالة الكافر بحالة راع الضأن ينادي عليها، فهي من حيث سماعها النداء تسمع، لكن من حيث تدبرها لما يقال لها لا تعي، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يدعوهم ويرشدهم فهم حال سماعه كحال الضأن تسمع ما تنادى به، وهم يسمعون القرآن والآيات إلا أنهم لا ينتفعون كما أن الضأن لا تفقه كلام الراعي، هذا تخريج. وبعض العلماء يقول: ليس المقصود هذا، وإنما المقصود حال المشركين مع أصنامهم عندما ينادونها، فإنها لا تسمع منهم شيئاً، ولا تعي ما يقولون صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171] ، لكن هذا بعيد؛ لأن الله قال: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً [البقرة:171] ، فأثبت السمع، ومعلوم قطعاً أن الأصنام لا يمكن لها أن تسمع، فجعل المثل مثلاً لأهل الإشراك -وهو تشبيه تمثيلي- أفضل من جعله مثالاً للأصنام. يعني: حال كونهم هم يسمون النداء ولا يفقهون شيئاً مما يقال لهم أولى من حمل التشبيه على الأصنام وأنها تنادى ولا تعي ما تنادى به؛ لأن الله أثبت هنا السمع والأصنام قطعاً لا تسمع شيئاً مما تنادى به فقال: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171] . هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، وأعان الله جل وعلا على قوله، والله الموفق لكل خير. وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد الله رب العالمين. |
|
01-01-17, 05:38 AM | #233 |
01-01-17, 05:40 AM | #234 |
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم..)
الحمد لله وحده حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقائد الغر المحجلين وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فقد انتهينا في اللقاء الماضي إلى قول الله جل وعلا: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171]، وذكرنا أقوال العلماء فيها. قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:172-173]. مرت معنا آية: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ [البقرة:168]، وهذا النداء عام، والآن خص الله جل وعلا أهل الإيمان بالنداء فذكر المباح، وذكر المحرم، وبدأ بالحلال المباح؛ لأنه أكثر، وأخر المحرم؛ لأنه محصور، واستخدم في حصره إنما وهي تدل على الحصر. قال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172]، ما دمنا معترفين أننا عبيد لله، وأن الله أفاء علينا الخير فإقبالنا على الخير نوع من الاعتراف بعبوديتنا لربنا وعدم إعراضنا عنه. ومن هنا تفقه أن الإنسان كلما كان يظهر فقره لله ومسكنته كان قريباً من الله، جاء في الحديث الصحيح: (أن أيوب عليه الصلاة والسلام بعث الله إليه رجل جراد من ذهب)، رجل جراد تعبير مثل سرب طيور، أي: مجموعة من جراد من ذهب، فأخذ وهو نبي الله المذكور في القرآن المقول عنه: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:30]، (فأخذ يحثو الجراد في ثوبه، فأوحى إليه ربه: يا أيوب ألم أكن قد أغنيتك عما ترى؟! قال: يا رب! لا غني لي عن فضلك). فالله جل وعلا هنا يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172]، يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ [المائدة:4]، يبنى على هذا قواعد فنقول: كل ما أباحه الله وأحله فهو طيب، وكلما حرم الله فهو خبيث، لكن ليس كل خبيث محرماً، قال عليه الصلاة والسلام: (وكسب الحجام خبيث)، مع أنه أعطى الحجام، وسمى البصل والثوم شجرتين خبيثتين مع أن الناس يأكلون منها، وقال جل وعلا: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة:267]، مع أننا نأكله، فالعبارات تختلف، ولذلك يتحرر الإنسان علمياً قبل أن يتفوه بكلمة. قال الله: إِنَّمَا [البقرة:173] أداة حصر، حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [البقرة:173]، الميتة ما مات حتف أنفه أو ذبح بطريقة غير شرعية، ويسمى: يسمى ميتة، وهو أعظم المحرمات وأولها. والثاني: الدم، وهذا الإطلاق قيدته آية: أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [الأنعام:145]، وخصصه الحديث كما خصص الميتة: (أحلت لنا ميتتان السمك والجراد، وأحل لنا دمان الكبد والطحال). فالكبد دم والطحال دم لكنه غير مسفوح، والسمك والجراد خصص من الآية بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سئل عن ماء البحر فقال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته). الثالث: لحم الخنزير والمراد به: الخنزير جملة عند جمهور العلماء. واختلفوا لماذا ذكر الله اللحم، وقد ذهب مالك رحمه الله إلى أن عين الخنزير ليس نجساً أو قال به بعض العلماء، حتى يصبح لقوله: (أو لحم الخنزير) له معنى، وقال جمهور العلماء: بالإطلاق. الرابع: وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ الإهلال رفع الصوت، يقال للوليد إذا استهل صارخاً: أهل، ويقال للحاج: مهل؛ لأنه يرفع صوته بالتلبية. كانت لقريش أصنام يأتون بذبائحهم إليها فيقولون: باسم اللات، باسم العزى، ينحرونها لآلهتهم، فأي شيء أهل به لغير الله لا يقبل حتى لو كانت من صنيع أهل الكتاب، فالأصل في طعام أهل الكتاب أنه حل لنا. لكن لو كان عندهم عيد يهلون به لغير الله وذبحوا فيه لا يجوز لنا أن نأكل منه لآية البقرة، ونبقي آية المائدة على عمومها. قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ [البقرة:173] الباغي في اللغة هو الطالب للشيء إن كان خيراً أو شراً، لكن المقصود هنا: الطالب للشر. وَلا عَادٍ [البقرة:173] أي: ولا متجاوز للحد، واختلف العلماء في معناها: منهم من حصرها بالبغي وهو الخروج على الأئمة، وجعل العاد قطاع الطريق، والحق أن الباغي والعادي ليست مرتبطتين بقطاع الطريق أو بالخارجين على الأئمة، وإنما الباغي هو من يريدها من غير اضطرار، والعادي من يتجاوز الحد في أكلها. ثم قال الله بعدها: فَلا إِثْمَ [البقرة:173] أي: إن كان مضطراً، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:173]. |
|
01-01-17, 05:44 AM | #235 |
تفسير قول الله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب..)
قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [البقرة:174]، هذه عودة لذم أهل الكتاب. وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:174]، وهذا زيادة على العذاب السابق وهو اللعنة المذكورة في الآيات السالفة، مما يدل على أن كتمان العلم شيء عظيم ومنكر فضيع. قال الله: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [البقرة:175]، ثمت شيء في المنازع البلاغية يسمى: تنزيل المحصول المتحقق منزلة الحاصل، فالله جل وعلا -وهو أصدق القائلين- قال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [البقرة:174]، والمؤمن إذا سمع هذا يعلم يقيناً أن هذا سيقع لا محالة؛ لأن المخبر به هو رب العالمين، فنزل هذا منزلة ما وقع فيقول لهؤلاء الكفرة ما أصبركم على النار أي: ما أشد صبركم على النار، وسياقكم إليها رغم علمكم بحرها! هذا لسان المخاطب بالقول، والقائلون هم الناس، وهذا الأمر لم يقع لكن هذا منزع بلاغي، وهو تنزيل المحصول المتحقق منزلة الشيء الحاصل. قوله: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [البقرة:175] هذا قول في تخريج التعجب في ما، فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [البقرة:175]. ويوجد تخريج آخر وهو أن ما هنا ليست تعجبية وإنما استفهامية، ويصبح المعنى: أي شيء أصبرهم على النار؟ أي: ما الذي دفعهم إلى هذا حتى يصار بهم إلى النار؟ ثم قال الله: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [البقرة:176]، هذا جواب لهذا كله والمعنى: أن الله جل وعلا أنزل الكتاب بالحق لينفع به العباد. فلما جاء هؤلاء العلماء وكتموه كان حقاً عليهم أن ينالوا ما أخبر الله جل وعلا عنه قال الله: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة:176]. |
|
01-01-17, 05:46 AM | #236 |
تفسير قوله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم..)
قال الرب تبارك وتعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة:177]، هذا عود على بدء، كان الله جل وعلا قد تحدث في صدر هذا الجزء عن قضية تحويل القبلة فلما أكثر الناس على أهل الإيمان من أهل النفاق والإشراك واليهود والنصارى، وقالوا: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142]؛ قال الله جل وعلا: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة:177]. والبر قرئت بالنصب والرفع، فعلى النصب تكون خبراً متقدماً لليس، واسم ليس المرفوع هو المصدر أَنْ تُوَلُّوا [البقرة:177]. والأصل في المبتدأ والخبر أن يقدم في الترتيب الأقوى، والمصدر أولى من المعرف بأل؛ لأنه إضمار والإضمار من أقوى المعارف، فعلى ذلك جعلت: أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ [البقرة:177] الخبر، لكن الترتيب في التقديم والتأخير هذه مسألة أخرى، وقدم الخبر رداً على أهل الإشراك، وهذا على قراءة: لَيْسَ الْبِرَّ [البقرة:177]، وعلى قراءة: (ليس البر) المسألة واضحة، البر اسم ليس، وأَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ [البقرة:177]، مصدر منسبك من أن وما دخلت عليه في محل نصب خبر لليس. نعود إلى الغاية من الآية وهي منزع إيماني قال الله: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177]، من أراد القرب من الله فليقرأ هذه الآيات. يسأل الناس أين البر؟ أين معالي الأمور؟ أين مدارك الجنة؟ أين النجاة من النار؟ أين طرائق الحق؟ أين معالم الهدى؟ فيجيبهم الرب تبارك وتعالى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ [البقرة:177]، وهذا استدراك عظيم من رب رحيم، وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [البقرة:177]، آمن بأن الله جل وعلا لا رب غيره، ولا إله سواه، في السماء عرشه، في كل مكان رحمته وسلطانه، يحكم ما يشاء، يفعل ما يريد، يقدم من يشاء بفضله، يؤخر من يشاء بعدله، لا يسأله مخلوقاً عن علة فعله، ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله، له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، أنزل الكتب، بعث الرسل، هو الرب وحده لا رب غيره، ولا إله سواه، هو الخالق وما سواه مخلوق، وهو الرازق وما سواه مرزوق. ثم جاء بعد ذلك ما يتبع الإيمان بالله ولا يمكن أن ينفك عنه، وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:177] يحشر الله فيه العباد، ويقوم فيه الأشهاد، ويظهر فيه الشهداء، تنصب فيه الموازين، ويكون فيه الصراط، ويقام فيه الحوض، وفيه من الأهوال ما يشيب له الغلمان، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2]. والملائكة خلق من خلق الله خلقهم الله جل وعلا من نور، لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، وفي الحديث: (أطت السماء وحق لها أن تئط، والله ما من موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجئرون إلى الرب تبارك وتعالى). وقد أثنى الله جل وعلا عليهم ثناء عاطراً، وذكر أنهم كِرَامٍ بَرَرَةٍ [عبس:16]. ثم قال جل وعلا: (والكتاب) كتب أنزلها الله جل وعلا فيها الهدى والنور، سمى الله منها التوراة، والإنجيل، والقرآن، والزبور، فيها من المواعظ والرقائق والهداية للخلق ما لا يمكن أن يحيط به أحد. (والنبيين) بشر من الخلق اصطفاهم الله جل وعلا، خصهم بخصائص: تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، ما منهم من أحد إلا ورعى الغنم، يقبرون في المكان الذي يموتون فيه، خصهم الله جل وعلا، بأعظم خصيصه: وهي الوحي ينزل عليهم من السماء، هم دعاة إلى الحق ومعالم على طريق الخير، ورحماء بالخلق، وأكرمهم وأعظمهم نبينا صلوات الله وسلامه عليه، سمى الله منهم في القرآن 25 نبياً، والإيمان بهم جملة من أعظم أركان الدين. وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [البقرة:177]، وكلمة على حبه أي: أن يكون الإنسان صحيحاً شحيحاً يخشى الفقر، ويرجو الغنى، وهي أعظم مواطن العطاء، ومن أعطى وهذه حاله كيف به إذا اغتنى؟! وهذا أمر تعرفه العرب في سنن كلامها، كما ذكره زهير في مدح هرم بن سنان ، والمقصود من هذا أن الإنسان إذا أعطى المال على حبه وقت تعلقه بالمال فكيف به إذا اغتنى؟! يكون عطاؤه أعظم. وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [البقرة:177]، من؟ ذَوِي الْقُرْبَى [البقرة:177]، قدم الله ذوي القربى، وَالْيَتَامَى [البقرة:177] الذين لا كاسب لهم، وهم من مات آباؤهم وهم لم يبلغوا الرشد بعد، وَالْمَسَاكِينَ [البقرة:177] الذين يتعرضون للناس أو يكونوا أخفياء، وَابْنَ السَّبِيلِ [البقرة:177] المنقطع الذي انقطعت به السبل، وَالسَّائِلِينَ [البقرة:177] والسائل غالباً لا يسأل إلا عن حاجة، وَفِي الرِّقَابِ [البقرة:177] أي: المكاتبون. وَأَقَامَ الصَّلاةَ [البقرة:177] أعظم أركان الدين على الإطلاق، وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ [البقرة:177]، وهي منصوبة على الاختصاص أي: وأخص الصابرين، فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ [البقرة:177]، البأساء: الفقر والعوز، والضراء: الأسقام، والأمراض، والبلايا، وحين البأس: أي: وقت القتال وملاقاة العدو، كل هذه الصفات لا يمكن أن تكون إلا في قوم صدقوا، والصدق مع الله جل وعلا أعظم المطالب وأدل البراهين على الانضمام لجند الله الغالبين، قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، وقال الله هنا: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا [البقرة:177] أي: صدقت أفعالهم أقوالهم، وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177]، والتقوى لباس عام وجامع لكل خير، وهي أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، ترجو عقاب الله، ومثل هذه الآيات لا يمكن أن تشرح لغوياً ولا بلاغياً؛ لأنه خلق يتمثله المسلم ويؤمن به، وعقيدة يسلك بها المؤمن، وطريقة إلى ربه تبارك وتعالى، وآداب وقيم وصلوات وعبادات ومعالم يرشد الله بها الأخيار من عباده الطالبين معالي الأمور، وحفظها والعمل بها من أعظم الضروريات للوصول إلى أعالي الجنات. |
|
01-01-17, 05:48 AM | #237 |
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص..)
بعد أن بين الله ذلك كله، نشأ مجتمع متدين، فيه هذه المنزلة العالية من الإيمان جاءت الأحكام الشرعية التي لابد من إيضاحها للناس، قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178]. القصاص: هو المماثلة والإتباع، وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ [القصص:11] اتبعي أثره، كما هو ظاهر الآية، وقد ورد قول الله: فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [الكهف:64] أي: يتبعون آثار قد سلفت ومضت، فهذا معنى المماثلة والإتباع في أصل اللغة. يقول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178] أي: فرض، الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى [البقرة:178]، هل صدر الآية منفك عن عجزها أو أن صدر الآية متصل بعجزها؟ هذا مربط الفرس، ومعقد الأمر في فهم العلماء للآية، فمن فهم أن صدر الآية منفك عن عجزها وما بعدها بمعنى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178] شيء مستقل لم ينظر إلى ما بعدها ولا إلى غيرها؛ جعل القصاص في كل قتيل حتى بين الكافر والمسلم؛ لأنه أخذها بالعموم وجعل ما بعدها إنما هو تأكيد، وأجرى الكلام على مجراه وفق سنن العرب. وجمهور العلماء يجعلون صدر الآية مؤسس لما بعدها، فلا يقنعون بأن نقف عند قول الله جل وعلا وننهي الحكم في قولنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178]، فلهذا استثنوا من ذلك أمور. والحق -والعلم عند الله- أن الله قال: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45]، وقال: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا [الإسراء:33]، ولم يحدد فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [الإسراء:33]، فلا يستثنى إلا من استثنته السنة، ومن استثنته السنة اثنان: الأول: الكافر إذا قتله مؤمن، فلا يقتل مؤمن بكافر، إذا لا يقتل ولي الله بعدوه. الثاني: الوالد مع الولد، وكلمة الوالد تشمل الأجداد وإن علوا، فلا يقتل والد بولده، إلا أن مالكاً رحمه الله استثنى من هذه واحدة وهي أن الوالد إذا أخذ ابنه وأضجعه فذبحه بهذه الصورة متعمداً وليس عن حالة غضب ولا عن حالة تأديب وإنما باختياره فإنه يقتل به، وهذا القول تميل إليه النفس؛ لأن الأب في مثل هذه الحالة التي يفعلها جهاراً عامداً تخلى عن أبوته، لكن الجمهور على أنه لا يقتل والد بولده. قول الله جل وعلا: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى [البقرة:178] هذا على سنن العرب في كلامهم فلا يعني ذلك أن الأنثى لا تقتل بالذكر أو أن الذكر لا يقتل بالأنثى، كما أنه لا يعني أن الفرد لا يقتل بالجماعة أو أن الجماعة لا تقتل بالفرد؛ لأن هذا فيه استباحة للدماء، وقد رفع لـعمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن غلاماً من أهل صنعاء قتله سبعة فقتلهم به، وقال رضي الله عنه وأرضاه: لو تمالأ عليه أهل صنعاء كلهم لقتلهم به؛ لأنه لو قلنا: إن الجماعة لا يقتلون بالفرد يأتي إنسان له عدو فيذهب إلى رفقاء له ويتفق معهم على قتل غريمه حتى يستحيل شرعاً قتلهم جميعاً بهم، فتهدر الدماء، وتضيع أموال الناس، لكن يقتل الجماعة بالفرد كما يقتل الفرد لو قتل جماعة من باب أولى. قال الله: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ [البقرة:178] هذه الآية العلماء يستدلون بها على أن أخوة الإيمان لا ينزعها شيء. فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة:178]، والمعنى: أن الإنسان إذا تنازل عن حقه في القصاص فإن له أن يقبل ويعطى الدية، فيكون الأداء من نفس صاحب الجناية بإحسان إليه. والناس في زماننا هذا سلكوا بها مسالك غير محمودة، وأنا وقفت على بعض أمور شرعية أو إدارية لا يحسن نشرها، لكن المبالغة في طلب الفدية أمر غير محمود شرعاً، وصحفنا -للأسف- تعج بأخبار لا تحمد في هذا الشأن، فيقال: مثلاً إن أهل الميت يتنازلون إذا دفع لهم كذا كذا من الأموال، وهذا أمر غير محمود، ولا أؤيد أن يسهم البعض فيه، وقد بينت هذا كثيراً في دروس لنا سلفت؛ لأن هذا فيه نوع من المتاجرة، لا بأس بالشيء المعقول أو أن يطلب الإنسان القصاص الذي هو له، أما أن يأتي أولياء دم ويريدون أن يغتنوا على حساب ميتهم فهذا أمر غير محمود أبداً. |
|
01-01-17, 05:50 AM | #238 |
تفسير قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة..)
قال الله: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179]. شرع الله القصاص حفظاً للدماء، والناس إنما يحتكمون في ثلاثة أمور: في الفروج، والدماء، والأموال، ولا ريب أن المقصود من الآية أن الإنسان إذا علم أنه إذا قتل يقتل خاف على نفسه فامتنع عن القتل فحفظ نفسه ونفس غيره، قال الله جل وعلا: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، والتاريخ العربي الأدبي والسياسي مليء بقضايا عفو عند القصاص وأخبار من ثبتوا عند الموت، أو قضايا طلب القصاص، منها: أن رجلاً قتل رجلاً وكلاهما من أهل المدينة، فلما كانت ولاية معاوية رضي الله عنه وأرضاه كان ورثة الميت قد بلغوا سن الرشد. فذهبوا إلى معاوية فأقدم القاتل بين يديه فلما سأله معاوية ليعترف قال: يا أمير المؤمنين! تريد أن أعترف شعراً، أم نثراً؟ قال: بل شعراً، فاعترف شعراً، فلما اعترف شعراً سلمه معاوية إلى ورثة القتيل ليقتلوه على ما جرت به عادة الناس يوم ذاك؛ لأن هذا أمر مفوض للسلطان. فأخذه أولياء الدم فلما خرجوا به إلى ساحة القصاص جاءت زوجة القاتل المحكوم عليه بالقتل تودعه وودعته أنها لن تتزوج بعده، وكان فيها لمحة من جمال، فقال: والله ما هذا وجه من تريد أن تحرم من الرجال بعدي، فالمسكينة علبت على أمرها آمنت بقوله فذهبت وجدعت أنفها، فلما رآها قال: نعم، الآن اطمأنت نفسي؛ لأن مثلها لا ينظر إليها، وحضر أمير المدينة آنذاك القصاص، فجيء بالسياف الذي هو من الورثة، وجاء الأمير، فرفع القاتل بصره إلى السماء وقال: أذا العرش إني عائذ بك مؤمن مقر بزلاتي إليك فقير وإني وإن قالوا أمير مسلط وحجاب أبواب لهن صرير لأعلم أن الأمر أمرك أن تدن فرب وإن ترحم فأنت غفور ثم نادى صاحبه وقال: كيف تضربني؟ فأخبره قال: ليس هكذا، فإنني ضربت أباك ضربة لم يتحرك منها، وعلمه كيف يقتله يعني: أين يكون حد السيف، فقال من شهدوه: فضرب وهو ثابت لم يتحرك منه عضو ومات، وهذه يذكرها المؤرخون إما في العقد أو في الكامل أو في غيرهما، هذا من المحفوظ القديم والشاهد منها الثبات عند الموت. وقدم رجل للموت وكان فصيحاً بليغاً فإذا به بين كفن وجلاد وسيف وقبور محفورة فارتج عليه، فقال له الناس: أين فصاحتك؟ قال: من أين الفصاحة؟ قبر محفور، وكفن منشور، وسيف مشهور، من أين تأتي الفصاحة؟! وهو معذور. وقد مر معنا في دروس عدة أن أحد وجهاء العرب وفصحائها كان من الخارجين على المعتصم ، فقدمه المعتصم للموت، فأراد المعتصم أن يعلم أين جنانه من لسانه، وإذا بالنطع والجلاد فقال: يا أمير المؤمنين! قبح الذنب، وكبرت الجريرة، والظن بك أن تعفو ثم قال: أرى الموت بين السيف والنطع كامن يلاحظني من حيث ما أتلفت وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي وأي امرئ مما قضى الله يفلت يعز على الأوس بن تغلب موقف يسل علي السيف فيه وأسكت وما جزعي من أن أموت وإنني لأعلم أن الموت شيء مؤقت ولكن خلفي صبية قد تركتهم وأكبادهم من حسرة تتفتت كأني أراهم حين أنعى إليهم وقد خمشوا تلك الوجوه وصوتوا فإن عشت عاشوا سالمين بغبطة أذود الردى عنهم وإن مت موتوا فقال المعتصم : تركتك لله ثم للصبية وعفا عنه. أقول: التاريخ العربي والمعاصر مليء بأحداث مثل هذه تبين أن الرجال يتفاوتون في هذه المواقف، موقف أن يرى الموت عياناً، وقتل الميت عياناً يسمى في اللغة: قتل الصبر، والنبي صلى الله عليه وسلم قتل أحد خصومه صبراً في وادي الصفراء وهو عائد من غزوة بدر، كان يغلظ عليه ويسبه أيام دعوته الأولى فقتله، وينسبون أشعاراً إلى أخته تعتذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن في نسبة تلك الأشعار إليها شيء من الضعف في السند. وجريمة القتل يتعلق بها ثلاثة حقوق: حق لله، وحق للورثة، وحق للميت، وحق الله يسقط بالتوبة أو بمغفرة من الله بمشيئته؛ لأنه مندرج في قول الله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وحق الورثة يخيرون بين القصاص أو الدية أو العفو، وحق الميت لا سبيل لنا إلى معرفته، وهو يكون يوم القيامة، حتى لو قتل القاتل عمداً واقتص منه لا يسقط حق الميت؛ لأن الميت في قبره لم يستفد شيئاً من القصاص، وإنما استفاد الورثة، وكذلك إن أخذوا الدية، فيبقى حق الميت قائماً فإذا كان يوم القيامة يسوقه إلى ربه ويقول: يا رب سل عبدك هذا فيم قتلني؟ فإن كان الله قد تاب على هذا القاتل سيوجد مخرج لهذا القاتل ويرضي الله المقتول، وهذا لا يمكن أن يقع إلا بين يدي الله وحده، وهو المتكفل أن يرضيك ويرضي خصمك، أما عند الناس لا يمكن أن يقع شيء من هذا أبداً. والقتل على وجه الإجمال له ثلاثة أحكام: قتل العمد، وقتل شبه عمد، وقتل خطأ، وقد نص الله في القرآن على اثنين: العمد، والخطأ، أما شبه العمد فلم يتعرض الله له في القرآن، فلذلك أنكره مالك ، ولكن جمهور العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة على أن القتل ثلاثة: عمد، وشبه عمد، وخطأ، وقالوا: العمد: قتله بآلة يغلب على الظن أنها تقتل، وشبه العمد: ضربه بآلة يغلب على الظن أنها لا تقتل فقتله، والخطأ: ألا يتعمد قتله أصلاً. ومن شبه العمد الذي لم ينص الله عليه في القرآن لكن ألمح الله إليه قتل موسى للغلام القبطي، قال الله: فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ [القصص:15]، فإن موسى تعمد ضرب القبطي ولم يتعمد قتله، فهذا يسمى قتل شبه عمد، ولا يسمى قتل خطأ. وينجم عن جريمة القتل ثلاثة أمور بالنسبة للقاتل: أولاً: الإثم، وهذا أعظم الأشياء، وقتل النفس المحرمة من أعظم الذنوب. ثانياً: أنه يحرم من الميراث إن كان ممن يرث من مقتوله. ثالثاً: أنه ينفذ فيه القصاص إن طالب به ورثة القتيل أو الدية أو العفو عنه، فهذه الثلاثة تتعلق بالقاتل عمداً، أما قتل شبه العمد فيسقط القصاص لكن يبقى الإثم وتكون الدية مغلظة. أما قتل الخطأ فلا يوجد إثم، لكن توجد دية مخففة يتحملها عصبة القاتل، ولا يوجد إثم لكن على القاتل الكفارة إما عتق رقبة أو صيام شهرين. وبعض العلماء في المدينة جاءه رجل لم يكن مشهوراً بالصلاح وذكر أنه قتل أحداً خطأ بسيارة فقال: ما علي؟ والشيخ تفرس في هذا، وعتق رقبة غير موجود، فقال: صم شهرين متتابعين، قال: فقط؟ فاستغلها الشيخ وقال: لا، بزيادة، قال: ما الزيادة؟ قال: أن تفطر في الحرم، فذهب الحرم وكان يسمع فيه قرآن، ودروس؛ فتغير حاله بالكلية، وهذا جواب يقبل إذا كان الشيخ على يقين أنه ممكن أن يبين بطريقته للرجل تعديل الحال لو تبين له أنه عاجز أو تسبب في أنه أفطر، وهذه أمور تربوية يلجأ إليها أحياناً. والمقصود من هذا أن الله جل وعلا حرم الدماء، وقول الله جل وعلا: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ [البقرة:178]، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة:179]، كل ذلك حتى يسود في المجتمع الأمن، وتعم فيه الحياة، وأن يأنف الناس من أن يقتل بعضهم بعضاً؛ لأن في إبقاء حياتهم نفع لأنفسهم وطاعة لربهم. هذا ما تيسر إعداده، وأعان الله على قوله. نسأل الله لنا ولكم التوفيق، ونعتذر إليكم عن التقصير، وصل اللهم على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين. |
|
02-01-17, 05:54 AM | #239 |
الوصية مشروعة للأقربين من غير الورثة، فلا وصية لوارث، وللوصية أحكام بينها العلماء، وهذه وصية مخلوق لمخلوق، ثم أعقبها الله بوصية لعباده. وقد فرض الله الصوم عليهم؛ لتحقيق التقوى، وهو من أركان الإسلام، فيجب عل كل مسلم بالغ عاقل أن يصوم شهر رمضان، وإن عجز عن صيامه لكبر أو مرض مزمن فعليه كفارة طعام مسكين عن كل يوم، والمسافر والمريض يفطران ويقضيان.
|
|
02-01-17, 06:20 AM | #240 |
تفسير قوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم ...)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. وبعد. فهذا لقاء متجدد ضمن تأملاتنا في كلام ربنا جل وعلا، وكنا قد انتهينا في اللقاء السابق إلى قول الله جل وعلا: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179]. واليوم نزدلف إلى قول الرب جل شأنه: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:180-182]. هذه الآيات الثلاث تلوناها جميعاً لارتباط أحكامها ببعضها، وهذه الآية صدرها مما أشكل على كثير من المفسرين، واختلفت فيه كلمة الفقهاء، وربما وصل إليك بعض علم عن هذا كله، وسنشرع في بيان الآية فقهياً ولغوياً، واسترشادياً من حيث الجملة. أوجب الله جل وعلا الوصية هنا بقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [البقرة:180]، والوصية: هي القول المبين لما يراد العمل به، وهي هنا مخصوصة بما بعد الموت؛ فمعنى قولنا: أوصى فلان، أي: ذكر قولاً يبين ما يطلب من غيره أن يفعله بعد موته، هذا معنى الوصية. والتعبير القرآني باللفظ (كتب) يدل على الفرض، والذين طلب الله أن نوصي لهم بنص القرآن هنا هما الوالدان والأقربون. والإشكال أن الله جل وعلا ذكر حق الوالدين وحق الأقربين في آيات المواريث، فمن هنا جاء الإشكال عند أهل العلم، وهل هذه الآية محكمة أم منسوخة؟ سلك الشافعي وكثير من العلماء المسلك التالي في فهم الآية: فقالوا: إن الله جل وعلا كتب وفرض الوصية هنا للوالدين والأقربين بآية الوصية، وفرض حقا للوالدين والأقربين في آية المواريث، قالوا: فنحن بين آيتين إما أن نجمع بينهما فنعطي الوالدين ما فرضه الله لهما في آية المواريث، ويحق لنا أن نوصي لهما، بل يجب علينا أن نوصي لهما، أو أن ننسخ المتقدم بالمتأخر، فلما احترنا بينهما عمدنا إلى مرجح خارج عن محل النزاع؛ فوجدنا في السنة حديثاً اتفق الناس على نقله نقلاً متواتراً وإن كان في أصله حديث آحاد، لكنه لا اختلاف حول متنه، فجعلناه هو المرجح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا وصية لوارث) فحكمنا به على آية الوصية أنها منسوخة، وهذا القول اختاره جمع من العلماء، ومن أشهرهم من المفسرين ابن كثير رحمه الله. وسلك آخرون مسلكاً آخر فقالوا: لا نقول: إن آية الوصية منسوخة، ولكن نقول: إن آية الميراث مخصصة لآية الوصية، فنأتي لمن فرض الله لهم في آية المواريث فنخرجهم من الوصية، ونبقي الوصية للقرابة، ولمن لم تخرجهم الوصية، ولمن لم تخرجهم آية المواريث، وآية المواريث لا يمكن أن تخرج الوالدين إلا في حالة واحدة: إذا كان كلاهما أو أحدهما كافراً، فإذا كان أحدهما كافراً أو كلاهما استطعنا أن نجمع ما بين إعمال آية المواريث وإعمال آية الوصية؛ فجعلوها مخصصة لآية الوصية. و القاسمي -رحمه الله- صاحب كتاب (محاسن التأويل)، نقل ما ذكره العلماء كما صنع غيره من المفسرين، ثم كتب في كتيب عنده خاص أسماه (الموارد والسوانح العلمية)، وهو ما يطرأ عليه بعد التأليف، فكتب رأياً آخر لم يدونه في محاسن التأويل، وقد اطلع عليه الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي رحمة الله تعالى عليه وأدخله في متن التفسير عندما أخرج تفسير القاسمي (محاسن التأويل) للناس، وهذا الرأي يقول فيه: إن الوصية هنا للشيء المعهود، ولا تنازع ما بين آية المواريث وآية الوصية، فليست الوصية هنا بمعنى أن الله يلزمنا أن نكتب لفلان كذا، وفلان كذا، وإنما معنى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:180] أي: فليتق الله وليعمل بما أوصى الله به في آية المواريث، فيعطي كل ذي حق حقه، ولا يأتي بطرائق أو سبل يحيد بها عن التقسيم الشرعي الذي نص الله عليه في آية المواريث. وقال القاسمي رحمه الله -في معرض ما قال-: ولا أدري إن كان أحد قبلي ذكر هذا أم لم يذكره. وأنا على اطلاعي لم أقف على أحد قاله قبل القاسمي ، وقد يكون -كما قال القاسمي- قد قاله غيره، والذي يعنينا أن هذه تخريجات العلماء من حيث الجملة. وقال آخرون -وهو في ظني رأي بعيد جداً-: يعمل بكلتا الآيتين، وأن كلتيهما محكمة، فجمعوا ما بين آية المواريث وآية الوصية، وهذا وإن اختاره قلة لكنه موجود، وإن كنت أراه بعيداً في الترجيح. |
|
|
|