روائع شعريه |
روائع الكسرات |
|
||||||||||
الـــمـــلـــتـــقـــى الــــــــــعــــــــام [للنقاش الهادف والبناء والمواضيع الاسلامية والعامه] |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
18-12-16, 08:15 PM | #31 |
الأسلوب القرآني في الحوار والإقناع
دلت الآيات كذلك على أن أسلوب الأخذ والعطاء في إقناع الغير أمر محمود، خاصة في التربية، فمن دونك من الطلاب أو الأبناء، أو من تريد إقناعه والوصول به إلى الغايات الذي تريد إيصالها إليه عن طريق الحوار، والأخذ والعطاء، والتساؤلات والبدء بالأشياء المتفق عليها إلى الأشياء المختلف عليها، هذا أمر محمود في الطريقة. ثم إن إشعار من أمامك بمحبتك وإجلالك له، والانطلاق من أشياء تتفقون عليها؛ من أعظم أسباب قبول ذلك الطرف أو الغير أو المحب الذي تريد أن توصله إلى بر الأمان، فمن أعظم أسباب الوصول إلى قلبه إتباع مثل هذه الطرائق. |
|
18-12-16, 08:18 PM | #32 |
الكلام عن (إذا) الفجائية في قوله تعالى: (فإذا هي حية تسعى)
من المعلوم أن موسى عليه الصلاة والسلام عندما ألقى العصا كان يعلم أنها عصا، ولم يدر في خلده أنها ستنقلب إلى حية، فيقول النحويون: إن هذه هي (إذا) الفجائية وما بعدها حقه عند جماهيريهم أن يرفع، ولهذا قال الله: فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ [الأعراف:108]، بيضاء: خبر، وقال هنا: فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى [طه:20]، بالضم. فالقرآن يدل على المذهب النحوي القائل: إن الأصل فيما يأتي بعد إذا الفجائية أن يكون مرفوعاً، وهذه المسألة تسمى المسألة الزنبورية، وذلك أن سيبويه إمام النحاة خرج من البصرة يؤمل مجداً في بغداد، فدخل على يحيى بن خالد البرمكي وزير هارون الرشيد ، وكانت بغداد آنذاك حاضرة الإسلام، والخلافة فيها موطن الناس، فجاء يؤمل مجداً عظيماً، وكان إمام أهل البصرة بلا منازع، والكسائي إمام أهل الكوفة، فالتقيا - الكسائي وسيبويه - في مجلس يحيى بن خالد البرمكي وعنده ابنه جعفر ، فقال الكسائي لـسيبويه : تسألني أم أسألك، قال: سلني. فذكر الكسائي هذه المسألة وهي ما يقع بعد إذا وأنه يجوز فيها الوجهان: الرفع والنصب، فمنع سيبويه أن تكون العرب تقولها بالنصب، وأنه ليس لها إلا وجهاً واحداً هو الرفع، والقرآن يؤيده، لكن الكسائي أصر على رأيه، فقال يحيى بن خالد : اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما فمن يحكم بينكما؟ فقال له الكسائي : هذه وجوه الأعراب في الباب اسألهم، فقيل: إن المسألة أصلاً كانت سياسية قبل أن تكون علمية للتنازع ما بين الكوفة والبصرة، والتنازع ما بين الكسائي كشخص مقرب من الوالي وبين سيبويه الذي لم يظهر له بعد قربة عند السلطان. فوجوه الأعراب مالت إلى قول الكسائي عمداً تريد أن تنصره على خصمه سيبويه ، فأشاروا إلى أن الصواب مع الكسائي ، فبهت سيبويه ، وزاده حنقاً أن الكسائي أخذ يظهر عطفه عليه ويقول لـيحيى : إنه جاء يأمل منك عطايا فاجبر كسره وارحمه، فجعله ضعيفاً بعد أن كان يعلم أن سيبويه أعظم منه في النحو، فلما قال له ذلك خرج سيبويه من عنده كسيراً من سوء ما لحق به، واستحيا أن يعود إلى البصرة وقد خرج منها إماماً ولحق بفارس ثم مات مغتماً في ريعان شبابه ولم يكن قد جاوز الرابعة والثلاثين من عمره. ومعلوم أن الحق كان مع سيبويه ، لكن السياسة لعبت دورها، والقرآن كله يشهد أن الحق مع سيبويه ، وللعلماء في تخريج قول الكسائي خمسة أوجه، وكلها باطلة، وقد بينها أهل النحو، ولا حاجة للتفصيل فيها. ثم قيض الله للكسائي تلميذاً من تلاميذ سيبويه يقال له: أبو محمد اليزيدي ، هذا اليزيدي دخل على الكسائي في مناظرة في مسألة أخرى، وذلك أنه جاء ببيتين من الشعر قالهما في نفس المجلس أمام الكسائي ، وقال له: هل تجيز هذا فسأتلو عليك البيتين؟ ومعلوم أن العرب ترفع اسم وتنصب خبرها، وهذا شيء متفق عليه، فليست هذه من مسائل العلم الكبار، بل يعرفها كل واحد، فقال اليزيدي للكسائي : ماذا تقول في قول العرب: ما رأينا خرباً ينقر عنه البيض صقر لا يكون العير مهراً لا يكون المهر مهر ومن المعلوم أن ( لا يكون) تكررت مرتين، وهي التي أرادها مزلقاً يقع فيه الكسائي فوقع فيه، فـالكسائي فهمها بأن اليزيدي يقول: لا يكون العير مهراً لا يكون المهر مهراً، وهذا هو أصلها النصب، واليزيدي نطقها: لا يكون المهر مهر، اليزيدي : قصد لا يكون العير -أي: الحمار- لا يكون العير مهراً لا يكون. وهنا انتهى الكلام، ثم قال: المهر مهر، وهما مبتدأ وخبر وكلاهما مرفوع، لكن الكسائي قرأها: لا يكون العير مهراً لا يكون المهر مهراً، فوجدها منصوبة، فرد البيتين وقال: لا يكون المهر مهر، هذا خطأ؛ بل أحقها أن تنصب ولا تجوز إلا لضرورة الشعر، وعبر عنها باصطلاح يسمى: الإسراف عند البعض والإقواء عند البعض، عند العروضيين، ففرح اليزيدي فرحاً أن المزلق وقع فيه الكسائي ، فصار يعيد عليه ويقول له: انظر، والكسائي مصر، مع أن البيت واضح لا يغيب عن رجل مثل الكسائي ، لكن إذا أراد الله شيئاً وقع، فكررها مرتين وثلاثاً وهنا وقع الكسائي في الخطأ، فلما أصر الكسائي على رأيه، وعلم اليزيدي أنه أوقع الكسائي فيما يريد؛ خلع عمامته وقلنسوته وضرب بها الأرض فرحاً، وضرب بيده على صدره وقال: أنا أبو محمد !! يعني: انتصرت، فقال له يحيى بن خالد : والله لخطأ الكسائي مع حسن أدبه أحب إلينا من صوابك مع سوء أدبك، أتتكنى بحضرة أمير المؤمنين وتنزع قلنسوتك من رأسك؟! يعني: أن هذا سوء أدب، لا يفعل أمام أمير المؤمنين، فانقلب الأمر عليه وإن كان منتصراً في الأصل، هذا ما دونه المؤرخون. وأقول -عفا الله عني-: نصر الله الكسائي بالقرآن، فالذي يظهر لي أن الدور العظيم الذي لعبه الكسائي في حفظ القرآن هو الذي نصره في هذين الموضعين، فنصره الله في المرة الأولى على سيبويه مع أن الحق مع سيبويه من جميع أوجهه، وهذه المرة عندما وقع اليزيدي في سوء الأدب فبقي هو على حشمته ووقاره فكان سبباً في نصرته. الذي أريد أن يفهم من هذا الاستطراد أمور من أهمها: لا تبدأ أحداً بالأسئلة، دع خصمك هو الذي يبدأ، فإذا غلبت في الرد على خصمك فوق يقولون: حول الجواب إلى سؤال، فينشغل خصمك بالإجابة وتسلم أنت، هذا إذا كنت تريد موارد أهل الدنيا، أما إذا كنت تريد موارد الآخرة فلا تدخلن مجلساً إلا وأنت تريد أن تصل فيه إلى الحق، وقد كان الشافعي رحمة الله تعالى عليه -لكن أين مثل الشافعي ؟!- كان يقول: ما جادلت أحداً إلا تمنيت أن يظهر الله الحق على لسانه، وحب الشافعي للحق هو الذي أوصله إلى هذه المنزلة العالية من حب المسلمين أو يكاد إجماع المسلمين على حبه. هذا في الأخذ والعطاء، لكن قد يحصل بين الأنداد عموماً التنازع، ولذلك لا يحبذ أن يجتمع أكثر من طالب علم في مجلس صدارة في مكان واحد حتى لا يقع بينهما تنازع. فـمالك رحمه الله على جلالة قدره كان في المدينة مجاوراً لـمحمد بن إسحاق صاحب السيرة، وكل منهما جليل القدر في فنه، عظيم الأثر في علم الأمة، وإن كان مالك نحا إلى علم الحديث وهو أشرف من هذا الوجه. فيقولون: إن مالكاً كان يقول عن محمد بن إسحاق : إنه دجال من الدجاجلة، وذلك لأجل الروايات التي يقولها في التاريخ، ومحمد بن إسحاق كان يقول: ائتون بالموطأ فأنا بيطاره -يعني: طبيبه- أبين لكم أخطاء مالك في الموطأ، ومعلوم أنه لا يقبل قول مالك في محمد بن إسحاق ، ولا يقبل قول محمد بن إسحاق في مالك ، لكن يوجد من أهل العلم من من الله عليه ببغية الحق أينما كان، حتى في تعامله مع أنداده وقرنائه يتقي الله جل وعلا فيهم، ولا يمنعنه كونهم أنداداً له ومعاصرين له أن يترفع عليهم، أو أن يقول فيهم بغير وجه حق، لكن هذه منزلة العالية ليس الكل يؤتاها. |
|
18-12-16, 08:19 PM | #33 |
طمأنة الله تعالى لموسى عليه السلام
من فوائد هذه القصة أن الله جل وعلا قال لنبيه: خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى [طه:21]، فقول الله جل وعلا: وَلا تَخَفْ ، هذا نوع من الاطمئنان أعطاه الله جل وعلا لموسى قبل أن يأخذ العصا، وهذا يعلمك درساً أن الذين تريد أن تربيهم على الحق لا تقطع أملهم في المكافآت، أو لا تظهر تخليك عنهم تماماً وتقول: أنا أريد أن أربيهم، أنا أريد أن يصل إلى الحق بنفسه، بل يحسن أن يكون هناك شيء يسير من الإعانة، كما أعان الله كليمه موسى بقوله: خُذْهَا وَلا تَخَفْ ، ولو قال له: خذها من غير أن يقول له: ولا تخف، لأخذها موسى؛ لأن موسى أتقى لله من أن يرد قوله، لكن الله قال له: وَلا تَخَفْ ففيه نوع من الاطمئنان، ونوع من الإعانة، ومن التيسير في التكليف، ولهذا جاء في دعاء الصالحين: رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة:286]. ثم إن موسى عليه الصلاة والسلام -كما سيأتي- طلب أن تكون الوزارة لأخيه هارون؛ لأنه -كما ذكرنا-كانت في موسى حبسة، وهارون كان فصيحاً، فكان الناس في حاجة إلى صرامة موسى وحسن سياسته مع قدرة هارون على التعبير وإيضاح الرأي. |
|
18-12-16, 08:23 PM | #34 |
ضرورة التجاء العبد المؤمن إلى الدعاء
وقد ختم الله جل وعلا هذا المقطع بقوله: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه:36]، وهذه الكلمة الإلهية لهذا العبد الصالح من أعظم ما يفرح به، أن يجيب الله جل وعلا دعاءك وإجابة الدعاء من أعظم العطايا؟ ولهذا قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم مقروناً بحرف التحقيق: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه:36]، ثم أخبره أن هذه ليست أول منة عليه. والمراد من هذا أن نقول: إن الدعاء من أعظم ما ينتصر به الإنسان، لكن من المهم أن يكون هذا الدعاء مقروناً بحسن نية، ووالله لن يوجد أحد لديه حسن نية في بغية شيء إلا وأعطاه الله جل وعلا إياه إذا كان يريد بذلك الشيء الذي يبتغيه النصح لله ورسوله، وليس له فيه أو لغيره حظ ولا نصيب. قبل أيام كان عندي أخ فرنسي الأصل والمولد والمنشأ، له سبع سنوات عندنا في المدينة وهو دائماً يحضر الدروس، هذا الأخ الكريم يقول: نشأ في بيت أبواه ملحدان، حتى النصرانية التي هي ذائعة في فرنسا لا يؤمنان بها، ويبغضان الله، ولا يؤمنان أصلاً بوجوده. يقول: لما وصلت إلى الثانية عشرة من العمر كنت أسألهما عن الدين فينهراني، فلما أكثر عليهما طلبا منه أن يبحث بنفسه، يقول: فدخلت كنيسة فأعجبني ما فيها، فتنصرت فأصبحت نصرانياً، وكنت أجيد الرياضة، فاشتركت في ناد رياضي اقترنت مشاركتي بهذا النادي مع مسلمين من أصول عربية، قال: كانوا يلعبون الحركات الرياضية على الموسيقى، فإذا انتهوا صلوا. يقول: فكنت أتعجب من صنيعهم وأنا أبحث عن الحق، ثم تعلمت عنهم الدين فكان ذلك سبباً في إسلامي. هذا كله ليس بعجيب، فهو يتكرر عليكم مئات المرات، لكن الغرابة أن له جدة تعمل في التنجم، فأتاها وهو صبي قبل أن يسلم في أيام المراهقة فقالت له من خلال تنجيمها: أنت ستجد الحق الذي تبحث عنه. يقول: فلما هداني الله إلى الإسلام أتيتها وقلت: ألا تذكرين يوم كذا وكذا؟ قالت: نعم، قال: أبشرك لقد عرفت الحق وأن هناك رباً وديناً اسمه: الإسلام، وأخبرها الخبر، فزاد بغضها له، وأخذت تسبه وتلعنه، وتسب الدين الذي انتسب إليه، ثم تركها وجاء يسألني في قضية كيف يبرها باعتبارها جدة له إذا وصل إلى بلاده؟ موضع الشاهد من هذا كله أن الله يقول: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35]، ومن جملة مشيئة الله في الهداية إلى النور سواء النور العام الذي هو نور الإسلام، أو نور الوصول إلى بعض المعارف والحقائق والغايات أن يكون مرتبطاً بحسن المقصد، ويكون الإنسان همه وبغيته أن يصل بهذا الأمر الذي يبتغيه إلى رضوان الله. وقد يمكن أن من يبتغي بالأمر الذي ينشده غير الله أن يصل إلى الذي يريده، لكن مثل هذا لا يعد إماماً في الدين؛ لأن الله جل وعلا منع الإمامة في الدين للظالمين، ولا ريب أنه ظالم لنفسه، من أراد بالدنيا غير وجه الله، ومن أراد بالعمل الصالح وبعمل غير وجه الله، والله قد قال لعبده وخليله إبراهيم: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]، فقال متلهفاً من أجل ذريته: قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124]، فحكم الحكم العدل فقال لإبراهيم: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]، أي: هذه العطية والعهد والميثاق التي أعطيتك إياها لا ينالها ولا يصيبها ولا يفرح بها ظالم، فلا يسمى إماماً في الدين من ابتغى بعلمه أو بأي أمر آخر أحداً غير الله تعالى. لكن الإمام في الدين الحق هو من ابتغى بعلمه الله جل وعلا وحده، ولم يستشرف ولم يشرئب عنقه لغير عطايا الرب تبارك وتعالى، فما أتاه من الدنيا يتحرز منه، وقد تنقل له رؤى ومنامات تحكى عنه، ويمدح، ويقول الناس فيه ما يقولون، وأن الله كتب له القبول وأمثال ذلك، فليأخذها على حذر خوفاً من أن تكون استدراجاً؛ فإن العبد لا يدري بماذا يختم له. هذا التكليم الذي حدث في سورة طه لموسى جعل بعض العلماء كتسمية اجتهادية لسورة طه يسمونها: سورة الكليم، لكن هذا وقع عند بعض المفسرين، أما الاسم التوقيفي لها فهو: سورة طه. |
|
18-12-16, 08:24 PM | #35 |
الحكمة في الإكثار من ذكر قصة موسى في القرآن
موسى عليه الصلاة والسلام أكثر الله من ذكر قصته في عدة مواطن، والسبب في ذلك: أنه عالج بني إسرائيل أعظم المعالجة، وهذه المعالجة انقلبت نصحاً في حديث الإسراء والمعراج؛ فإنه قال لنبينا صلى الله عليه وسلم: إنني قد بلوت الناس قبلك، وإن أمتك لن يطيقوا ذلك، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم الكريم واجه أمرين: أمراً في عتو من أرسل إليه وهو فرعون، وأمراً في أن من حوله من بني إسرائيل لم يكونوا يعينونه على دعوته إلى ربه، فما أن نجاه الله من فرعون حتى وجد العناء والعنت من قومه، قالوا: إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]. ومع ذلك صبر على طغيان فرعون، وصبر على عنت قومه وشقائهم وعتوهم معه، حتى ختم الله له جل وعلا ومات في أرض التيه، وبقي عبداً صالحاً حتى وهو في قبره، يقول صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أعرج بي وإذا بموسى قائم يصلي في قبره)، وهذه حياة برزخية الله أعلم بها، لكنها تبين لنا أي مقام كريم لهذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. |
|
19-12-16, 12:54 AM | #36 |
لقد من الله تعالى على عبده ورسوله موسى عليه السلام بمنن كثيرة وعطايا جسيمة، وما ذاك إلا دلالة على المنزلة العظيمة عند الله تعالى، ومن ذلك استجابة لله تعالى لدعائه، وإعطائه ما أراد، وقبل ذلك ما من الله تعالى به عليه حينما كان صبياً في حجر أمه، من إلقائه في اليم، وأخذ فرعون له وعدم مسه بسوء، ثم رجوعه إلى أمه، وبعد أن صار شاباً ووقع ما وقع من الله عليه بأن جعله يفر إلى مدين ويجد فيها الأمن والاطمئنان.. وبعد رجوعه منها أرسله الله تعالى إلى فرعون هو وأخاه هارون كي يدعوا فرعون إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له.
|
|
19-12-16, 12:57 AM | #37 |
دعاء موسى لربه بشرح صدره وتيسير أمره وحل عقدة لسانه
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله، أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو أراد أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فقد توقفنا في الدرس السابق عند قول الله جل وعلا في ذكر ما طلبه موسى عليه الصلاة والسلام من ربه بعد أن كلمه الله جل وعلا وأوحى إليه، قال تعالى: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه:25-32]. هذه السؤالات التي سألها موسى عليه الصلاة والسلام ربه، إنما سأله إياها حتى تعينه على الدعوة إلى الله جل وعلا، فبدأ بقوله: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه:25]؛ لأن الإنسان إذا انشرح صدره للأمر الذي يطلبه كان ذلك أشد عوناً له في قضاء تلك الحاجة التي يرومها. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه:26]، ذلك أن الأمر في الأصل أنه حزن صعب إلا أن ييسره الله، ولذلك جاء في الحديث: (اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً)، قال: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه:27-28]، جاء الفعل (يفقهوا) مجزوماً بحذف النون؛ لأنه واقع في جواب الأمر، فحذفت نونه لأنه من الأفعال الخمسة، والناس في قول الله جل وعلا: (عقدة من لساني) على قولين: والقول الأول: أخذوا بالأثر الموقوف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن سبب تلك العقدة ما كان من اجتراء موسى بين يدي فرعون لما قدم له جمراً وتمراً فأخذ التمر، فقالوا: إن جبريل جاء ونقل يد موسى من التمر إلى الجمر، فحمل موسى الجمر فأثرت في يده كما سيأتي، وأثرت في لسانه، فنجم عن ذلك حبسة جعلت موسى غير فصيح في كلامه؛ ولهذا قال فرعون يسخر من موسى: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52]، وموسى قد اعترف بهذا بين يدي ربه بأنه أقل فصاحة من أخيه هارون، قال: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي [القصص:34]. القول الثاني: قالوا: إن شخصية موسى شخصية انفعالية حادة -وهذا قول أكثر المتأخرين- والشخص إذا انفعل وأصبح حاداً تحدث عنده حبسة ويكون كلامه سريعاً غير واضح وغير ظاهر يتفق مع شخصيته، ونقلوا أن الإمام المفسر كان فيه هذا الأمر، وهذا ملحوظ أحياناً عند بعض الناس أنه إذا انفعل يصبح الكلام عنده سريعاً متتابعاً، لا يكاد يفهم، هذا تخريج بعض المتأخرين للعقدة. وقد حملها: بعضهم على الأثر الموقوف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وبعض العلماء قال برفعه، لكنه بعيد، ورجح ابن كثير رحمه الله تعالى وقفه على ابن عباس ، والأظهر -والعلم عند الله- أن ابن عباس رضي الله عنهما أخذه من مسلمة أهل الكتاب، وعندما نقول: من مسلمة أهل الكتاب، نقصد أولئك الذين آمنوا بالإسلام، آمنوا بالله ودخلوا في الدين من أهل الكتاب من العلماء، ومن أشهر هؤلاء وفي مقدمتهم كعب الأحبار ، كما مر معنا الاستشهاد بأقواله في مواطن عدة. |
|
19-12-16, 12:59 AM | #38 |
سؤال موسى عليه السلام لربه أن يجعل هارون وزيراً له
ثم قال عليه السلام لربه يناجيه ويرجوه: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي [طه:29-30]، كلمة (من أهلي) عامة، ثم خصص وعين فقال: هَارُونَ أَخِي [طه:30]، وقوله: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا [طه:29] كلمة (وزر) في اللغة مادتها الأصلية تعني الثقل، يقول الله جل وعلا: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، والمعنى: لا تتحمل نفس ذنب أخرى ولا ثقلها، فالذنوب وزر؛ لأنها أعظم ما يحمل على الظهر، وفي القديم لم يكن هناك وزراء كثيرون، وإنما الوزير واحد، كما كان هامان وزيراً لفرعون، فكان الوزير في النظام القديم السياسي للدول واحداً للأمير أو للملك أو للسلطان، بحسب مسماه، وهذا الوزير هو الذي يحمل ثقل الإمارة عن الأمير، فلذلك سمي وزيراً، فلا تعارض بين الجذر اللغوي لكلمة (وزر) وبين قول نبي الله: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي [طه:29-31]، يطلب من الله أن يجعل أخاه هذا مما يشد به الأزر، وسيأتي التفصيل في هذا في خاتمة الدعاء. قال: وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه:32]، الهاء في (أشركه) عائدة على هارون، وقوله: (فِي أَمْرِي)، أي: أمر النبوة والرسالة، فقال العلي الكبير لعبده موسى: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه:36]، فأضحى هارون عليه السلام نبياً رسولاً بشفاعة أخيه موسى؛ ولهذا قالوا: إنه لا يعلم أن أخاً أمن على أخيه من منة موسى على هارون، ولهذا قال الله في نعت كليمه موسى: وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69]، أي: له قربى وزلفى وجاه عند الله، ولهذه الوجاهة التي عند الله أضحى هارون نبيناً ورسولاً، وقد مرت عائشة رضي الله عنها وأرضاها على رجلين في الحج يسأل أحدهما الآخر، قال له: هل تعلم أي أخ أعظم منة على أخيه؟ فقال الآخر لا أدري، فقال الذي سأل: أنا أعلم، إنه موسى بمنته على هارون، فبفضل دعاء موسى أضحى هارون نبينا رسولاً، فقالت عائشة رضي الله عنها معلقة: صدق والله: أي: صدق والله فيما قال: والأخوة منها أخوة الإيمان، ومنها أخوة النسب، ومنها أخوة الصداقة والاتفاق في العيش أو في الذكرى، وأعظمها إذا اجتمعت: أخوة إيمان، وأخوة نسب، وأخوة علاقة أو صداقة أو رفقة أو جيرة أو ما شابه ذلك، أو زمالة، والعرب تقول: إن أخاك الحق من كان معك ومن يضر نفسه لينفعك ومن إذا ريب الزمان صدعك شتت فيك شمله ليجمعك والإنسان يحتاج إلى من يكون معه في السراء والضراء، ولا يدخر الإنسان للسراء والضراء أعظم من إخوانه، لكن العرب تقول: إن ذلك الأخ -ويعبرون عنه بالخل الوفي- هو ثالث المستحيلات. والمستحيلات عند العرب ثلاثة: اثنان منها يتعلق بالدواء، فيقولون: الغول يخوفون به، ولا حقيقة له، والعنقاء طائر يخوفون به، ويتحدثون عن شيء كثير من أساطيره ولا حقيقة له، ولكنهم يجمعون إلى ذلك الخل الوفي، فيقولون: إن ثالث المستحيلات الخل الوفي. وقد يكونون أصابوا في الأولى، لكنهم أخطئوا في الثانية، فكم من خل وفي موجود، وهذا لا يحتاج إلى شواهد، وأعظمها أخوة الصديق لنبينا صلوات الله وسلامه عليه. ثم ذكر موسى عليه السلام القضية الأساسية من هذا كله، قال: كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا [طه:33-35]، فذكر الله من أعظم العبادات وأجل الطاعات، قال صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون، قالوا: يا رسول الله! ومن المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات). وبعد أن سأل موسى ذلك قال الله تعالى: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه:36]، وهذه منة من الله على موسى، لكنها ليست بأول منة. |
|
19-12-16, 01:01 AM | #39 |
منن الله تعالى على موسى منذ صغره حتى صار شاباً
ثم عدد الله جل وعلا أفضاله ومننه وعطاياه على هذا النبي الكريم، فقال: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى [طه:37] أي: بإجابتنا لدعائك مرة أخرى. وقوله جل وعلا: (مرة أخرى) يدل على أمرين: أولاً: يدل على أن هناك أموراً سابقة، وثانياً: يدل على أن هناك أموراً لاحقة؛ لأنها لو كانت خاتمة المطاف لجاء التعبير القرآني: (ولقد مننا عليك مرة) أخيرة؛ لأن الأخير يعني: الخاتم، لكن الآخر قد يكون بعده آخر غيره، ولكنه خلاف الأول، أما الأخير فهو خاتمة لما سبق. فقول ربنا جل وعلا: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ [طه:37] المخاطب هو موسى مَرَّةً أُخْرَى [طه:37] أي: سبقت منتنا عليك، وستأتي منن أخرى عليك أيها الكليم، ثم عدد الله ما سبق، وأشار إلى ما سيأتي، فقال جل ذكره: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى [طه:37-38]، (إذ) ظرف لما مضى من الزمان، كما أن إذا بالألف وظرف لما يستقبل من الزمان، قال الله جل وعلا: إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى [طه:38]، ولم يذكر الله جل وعلا في آية ما الذي أوحاه إلى أم موسى، فأبهمه حتى يفصله بعد قليل، وتصبح الأنفس مشتاقة لسماعه، ومن أساليب القرآن: التفصيل بعد الإجمال. قال الله جل وعلا: إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ [طه:38-39]، لكن ينبغي أن تعلم أن وحي الله لأم موسى إنما هو إلهام، وليس هو الوحي المعروف الذي هو من خصائص الأنبياء؛ لأن النبوة لا تكون في النساء، وما كانت نبياً قط أنثى. فقوله: إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ، أي: ألهمها الله أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ ، الذي سيقذف هو موسى (في التابوت) أي: في الصندوق، فلم يقل الله لها: أخفيه هنا أو هناك عن أعين حرس فرعون وجنده، وإنما قال الله لها: أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ [طه:39]، ومعلوم أن إلقاء طفل رضيع في اليم لم تمر عليه إلا أيام معدودات مظنة هلاكه، لكنه يصبح عين النجاة إذا كان بأمر الله. وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان فالإنسان يصبح في قمة الأمان إذا كان محاطاً برعاية الله، والصحابة رضي الله عنهم في يوم بدر أنزل الله عليهم النعاس، والنعاس مظنة نصر لهم رضي الله عنهم وأرضاهم، مع نبيهم صلى الله عليه وسلم. فالمقصود: أنه كل من خاف من أحد فر منه، إلا من خاف من الله لجأ إليه، فلا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، وقد قذف الله في قلب أم موسى أن تفعل هذا الصنيع، وإلا ففي العقل أنه لا تقوى امرأة على هذا الصنيع؛ لأنه مهما كان أن يبقى موسى بين يديها في بيتها تحت عينيها خير له من أن تلقيه في البحر. فقذفته في البحر بأمر من الله، وأمر الله البحر كما يدل عليه ظاهر القرآن: أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ [طه:39]، أي: البحر، وهو النيل بالاتفاق، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ [طه:39] جواب للأمر، فجرى ذلك التابوت بقدر الله، حتى أضحى قريباً من بيت فرعون، أو من قصره، حتى آل به الأمر إلى أن تفتحه زوجة فرعون، قال الله: يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ [طه:39]، ما زال الخطاب لموسى، مَحَبَّةً مِنِّي [طه:39]، وحتى يحيا موسى أجرى الله السبب، والسبب أن الله قذف في قلب من يراه المحبة إلا بعض شواذ خلقه، وأول من ألقى في قلبه محبة موسى آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وهذه المرأة من أربع نساء أثنى عليهن نبينا صلى الله عليه وسلم، وهن: خديجة ومريم وفاطمة وآسية ، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وفضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) ومن أخطائنا في التعبير اليوم أننا نطلق كلمة (سائر) بمعنى كل، وسائر ليست بمعنى كل، إنما المعنى: بقية، فأنت تقول: نجح فلان وفلان وفلان وأخفق سائر الطلاب، أي: باقي الطلاب، وليست بمعنى كل، فالنبي عليه الصلاة والسلام عدد أولاً أربعاً، ثم قال: (وفضل عائشة على سائر النساء) أي: البقية من غير الأربع (كفضل الثريد على سائر الطعام) فالثريد غير داخل في سائر الطعام. المقصود: أن هذه المرأة قذف الله في قلبها محبة موسى، فهرولت إلى فرعون تقول له: قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ [القصص:9]، قيل -والعلم عند الله- أن فرعون قال لها: أما لك فنعم، وأما أنا فليس لي به حاجة، والبلاء موكل بالمنطق، فوقع الذي أراده فرعون، وهذا بيناه في مواطن كثيرة، لكن نقف على آيات السورة. قال الله جل وعلا: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39]، أي: تنشأ وتهيأ على رعاية من الله وحفظ وكلأ من رب العزة والجلال؛ لأن الله ادخرك لأمر عظيم. |
|
19-12-16, 01:03 AM | #40 |
إعادة الله تعالى لموسى إلى أمه
ثم كرر جل وعلا ظرفاً آخر هو إعادته إلى أمه، قال تعالى: إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ [طه:40]، وهذا وقع بعد تحريم المنع، وقد قلنا: إن امتناع موسى من قبول ثدي النساء إنما هو تحريم منع وليس تحريم شرع، قال الله: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ [القصص:12]. واستنبط العلماء رحمهم الله من هذه القضية: أن الإنسان ينبغي عليه أن يأخذ بالأسباب، ووجه هذا الاستنباط: أن الله جل وعلا وعد أم موسى أنه سيرد موسى إليها، فقال لها: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7]، ومع هذا الوعد الإلهي الرباني إلا أن أم موسى قالت لأخته -أي: أخت موسى-: قصيه، أي: تحسسي خبره، فأخذت بالسبب، فتحسست الخبر، قال الله جل وعلا: إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ [طه:40] تخاطب آل فرعون، (على من يكفله)، وكانوا قد بلغت بهم المشقة مبلغاً من الذي يكفله، وقد امتنع عن النساء، قال الله: فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ [طه:40]، وأي حزن سيأتيها وقد أضحى وليدها الذي رمته في اليم بين يديها ترضعه وتأخذ على رضاعته أجراً؟ لأن القضية قضية عناية إلهية لهذا العبد الذي أراد الله أن يكون بعد ذلك كليماً مصطفى ونبياً رسولاً، قال الله جل وعلا يذكر أنه من على هذا الكليم الصالح: فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [القصص:13]، وهذا الوعد هو الذي قاله الله في سورة القصص: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7]. ثم قال: وَقَتَلْتَ نَفْسًا [طه:40]، وهي قصة قتل موسى للرجل القبطي من أهل مصر، وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ [طه:40] أي: الغم الذي أصابك عندما قتلت تلك النفس، وله صورتان: غم: عند شعورك بالذنب، فقد قال الله عنه: قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص:16]. وغم: عندما أخبرت أن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك، فأخرجك الله ممن كان يريد قتلك إلى أرض مدين؛ ولهذا قال الله جل وعلا: وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا [طه:40]، والأظهر عندي في قول الله: وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا أي: وابتليناك ابتلاء بعد ابتلاء |
|
|
|