عن عمرو بن يحي المازني عن أبيه قال شهدت عمرو بن أبي الحسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم: (فدعا بتور من ماء فتوضأ لهم وضوء النبي صلى الله عليه وسلم فأكفأ على يديه من التور فغسل يديه ثلاثا ثم أدخل يده في التور فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثا بثلاث غرفات ثم أدخل يده في التور فغسل وجهه ثلاثا ثم أدخل يده فغسلهما مرتين إلى المرفقين وأدخل يده فمسح بها رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة ثم غسل رجليه). وفي رواية: (بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه). وفي رواية: (أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجنا له ماء في تور من صفر). التور شبه الطست.
هذا الحديث في موضوع الحديث السابق صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن فيه زيادات. وفيه مسائل:
الأولى: في الحديث دليل على جواز الوضوء من الأواني الطاهرة كلها. والأصل في الأواني الإباحة إلا ما دل الشرع على تحريمه كآنية الذهب والفضة لورود النهي عن استعمالهما والتوعد على ذلك. فيحرم التطهر بهما ومن تطهر بهما صح وضوئه مع الإثم على الصحيح من قولي الفقهاء.
الثانية: الحديث يدل على مشروعية المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة. فالسنة للمتوضئ أن يجمع بينهما بغرفة واحدة فيفرق الماء بين فمه وأنفه ويستنثر بشماله فيكون ذلك بثلاث غرفات وهو المحفوظ من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينقل عنه بإسناد صحيح أنه فرق بينهما بالغرفات وما روي في ذلك ضعيف لا يصح. ويجوز أن يفصل بينهما لكل واحدة منهما غرفة فيكون المجموع ست غرفات ولكنه خلاف الأولى.
الثالثة: دل الحديث على جواز مخالفة أعضاء الوضوء بتفضيل بعضها على بعض في العدد فيغسل بعضها مرة وبعضها مرتين وبعضها ثلاثا كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بيانا للجواز والسنة التثليث في غسلها.
الرابعة: وفيه أيضا أن اغتراف المتطهر من إناء الوضوء لا يؤثر على الماء ولا يسلبه الطهورية خلافا لقول بعض الفقهاء سواء أدخل في الإناء واحدة أو اثنتين.
الخامسة: قوله: (ثم أدخل يديه ومسح بهما رأسه) فيه مشروعية أخذ ماء جديد لمسح الرأس كما روى مسلم من حديث عبد الله بن زيد في صفة الوضوء: (ومسح رأسه بماء غير فضل يديه). والسنة مسح الرأس مرة واحدة كما استفاض في الأحاديث ولا يشرع التثليث في مسح الرأس خلافا لبعض الفقهاء الذين قاسوا مسحه على سائر الأعضاء وهذا القول مرجوح مخالف للروايات الصحيحة ولا قياس في مقابل النص الصحيح الصريح.
السادسة: السنة في صفة مسح الرأس أن يبتدأ بيديه فيمسح مقدمة الرأس ثم يذهب بهما إلى آخر الرأس ثم يعود بهما إلى المكان الذي ابتدأ منه. وإن مسح بأي طريقة كانت فقدم أو أخر أو فرق جاز ذلك وأجزأ إذا استوعب المسح جميع الرأس كما حكى ابن عبد البر إجماع الفقهاء على ذلك. ومن كان شعره طويلا وخشي إن رد يديه أفسد هيئة شعره إقتصر على مسحه من الأعلى إلى الأسفل أو الأمام إلى الخلف على حسب تسريحته ولم يلزمه أن يرد يديه إلى المكان الذي بدأ منه وقد ورد في ذلك حديث في السنن. ولا يشرع المسح على العنق لأنه ليس من الرأس ولم يحفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله وما روي في هذا الباب ضعيف شاذ مخالف للأحاديث الصحاح كما قرره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.
السابعة: فرائض الوضوء ستة: 1- غسل الوجه. 2- غسل اليدين مع المرفقين. 3- مسح الرأس كله. 4- غسل الرجلين مع الكعبين. 5- الترتيب. 6- الموالاة في الغسل. فيجب على المتوضئ الإتيان بهذه الفرائض ولا يصح الوضوء إلا بها ومن أخل بشيء منها بطل وضوئه.
الثامنة: دلت السنة على سنن وآداب للوضوء وهي: 1- السواك. 2- التسمية على الصحيح. 3- غسل الكفين ثلاثا في ابتداء الوضوء. 4- البداءة بالمضمضة ثم الاستنشاق. 5- المبالغة فيهما لغير الصائم. 6- تخليل اللحية الكثيفة. 7- تخليل الأصابع. 8- التيامن. 9- الغسلة الثانية والثالثة. 10- ذكر الدعاء الوارد بعد الفراغ منه. فيسن للمتوضئ المواظبة على هذه السنن فإن تركها أو شيئا منها فوضوئه صحيح ولا شيء عليه.
التاسعة: في الحديث إشارة إلى إباحة توضأ المرء من الماء الذي يبذله له الناس ويبيحون انتفاعه به مما يتسامح به في العرف في الأمور اليسيرة ونحوها فلا حرج على المؤمن في قبول ذلك ولا منة فيه وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتحرج أبدا في قبول الماء والطعام والهدية من أهله وأصحابه ومحبيه. وأما تحرج بعض الناس وتشددهم في قبوله من غير سبب معتبر فتكلف لا دليل عليه من الشرع.