تابع تفسير قوله تعالى: (وما جعل أدعيائكم أبنائكم... وهو يهدي السبيل)
ذكر قصة حدثت بين عبد الملك بن مروان وابن حطان
الحمد لله، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، والصلاة والسلام على خير من بعث الله، سيدنا ونبينا محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
وبعد:
أيها المباركون! كنا قد انتهينا في اللقاء الماضي إلى قول الله جل وعلا في سورة الأحزاب: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب:4]، وقلنا: إن هذا تمهيد لما سيكون بعده، والمعنى الذي نفهمه من الآية وقد حررناه تفصيلاً ونعيده إجمالاً: أنه لا يمكن أن يجتمع كفر ونفاق في قلب أحد، ثم رتب الله على ذلك هدم بعض المعتقدات والأعراف الجاهلية التي كانت موجودة ذائعة شائعة عندهم ومنها: الظهار، فأخبر الله جل وعلا أن هذا قول باطل، فقال سبحانه: وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ [الأحزاب:4]، ثم عرج جل وعلا على مسألة التبني، فأبطلها بقوله: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ [الأحزاب:4].
وانتهينا إلى أنه وردت أحاديث في حرمة أن ينتسب الإنسان إلى غير أبيه، ثم ذكرنا أبياتاً توقفنا عندها، ولامنا اللوام ممن شاهد الحلقة الماضية أننا لم نقل الأبيات.
ذكرنا أن الإنسان أحياناً قد يضطر إلى أن يقول أشياء لا تعني التبني، لا يقول: أنا فلان ابن فلان فيدعي لغير أبيه، فهذا لا يجوز، بل سماه النبي صلى الله عليه وسلم كفراً، وإن كنا قد حررنا أنه كفر دون كفر لا يخرج من الملة، لكنه يستطيع أن يواري إذا كان يملك ثقافة، فـعمران بن حطان خارجي ممن خرج على علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وكان ممن يرى استباحة قتله؛ لأنهم يرون أن علياً كفر لأنه قبل التحكيم، وهؤلاء ليسوا أفقه من عمر أو علي ، لكن الهوى يغلب أحياناً.
المقصود: أنه كان ينزل في بوادي العرب، وكلما نزل عند قوم أظهر لهم أنه قريب منهم بحسب أحوالهم، وكانت العرب جذميين رئيسيين، يمنيون وعدنانيون، معد بن عدنان وقحطان بن يعرب ، الشاهد من ذلك: أنه نزل عند روح بن زنباع ، وكان روح هذا جليساً لـعبد الملك بن مروان ، فانتسب له عمران على أنه يمني، لكن الأخبار التي كان يقولها كانت بلغته العدنانية، فكان عبد الملك يتعجب ويقول: إن اللغة عدنانية، ثم في ذات يوم تحاور الناس في مجلس عبد الملك حول أبيات تنسب لـعمران بن حطان دون أن يعرفها من كان مع عبد الملك وهي قول عمران :
وضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضواناً
إني لأذكره يوماً فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزاناً
فهو يرى أن قتل علي من أعظم القربات، فلما عجزوا على أن يعرفوا القائل، قال عبد الملك بن مروان لـروح بن زنباع : اسأل عنها جارك -الذي هو في نظره يمني- وعمران بن حطان عدناني، فلما رجع إليه قال له: إننا جلسنا في مجلس أمير المؤمنين ووقع كذا وكذا، ولم نعرف لمن هذه الأبيات، فقال عمران : هي لـعمران بن حطان يمدح عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي بن أبي طالب ، فذهب روح فبلغ الرسالة لـعبد الملك ، وهنا تبين لـعبد الملك أنه عمران فقال: اذهب إليه فإنه عمران بن حطان وقل له: إن أمير المؤمنين يرغب في رؤياك، وكان عمران فاراً من أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان ، قال لـروح : إنني كنت أريد أن أطلب منك هذا الأمر، لكنني استحييت فاذهب وأنا في أثرك، فذهب روح وسبق عمران إلى أمير المؤمنين، فقال له عبد الملك : إنه لن يأتي وستعود ولن تجده، فلم يأت فرجع روح ولم يجد عمران بن حطان ، ووجد رقعة فيها قوله:
يا روح كم من أخ مثوى نزلت به قد ظن ظنك من لخم وغسان
حتى إذا خفته فارقت منزله من بعد ما قيل عمران بن حطان
حتى أردت بي العظمى فأدركني ما أدرك الناس من خوف ابن مروان
فاعذر أخاك ابن زنباع فإن له في النائبات خطوب ذات ألوان
يوماً يمان إذا لاقيت ذا يمن وإن لقيت معدياً فعدناني
لو كنت مستغفراً يوماً لطاغية كنت المقدم في سر وإعلان
لكن أبت لي آيات مطهرة عند التلاوة في طه وعمران
سأكتفي بهذا عن قضية عمران بن حطان ، لكن هناك قضية مهمة تناسب روح العصر، وقد وقع هذا حتى لبعض المفسرين المعاصرين، ولا أريد أن أسمي أحداً، أحياناً الناس إذا جاءوا ينتقدون فإنه يجب عليهم أن ينتقدوا بآلة شرعية، فهدم الباطل يكون بالحق ولا يكون بالباطل، عمران هنا يقول:
لو كنت مستغفراً يوماً لطاغية كنت المقدم في سر وإعلان
يقول: إن هؤلاء الحكام عبد الملك بن مروان وأمثاله طغاة، فأنا لو كنت أجاملهم في القول وأداهنهم فيما يفعلون: كنت المقدم في سر وإعلان، لكن الذي منعني من أن أستغفر لهم -بمعنى: أن أمدحهم بما ليس فيهم، وأن أتقرب إليهم- أنهم طغاة إلى غير ذلك، لكن كما قال:
لكن أبت لي آيات مطهرة عند التلاوة في طه وعمران
يقصد: أن آيات القرآن تمنعه من مداهنة هؤلاء الطغاة، ونسي أن آيات القرآن تمنعه من الخروج على الحكام، لكن الذي يمشي في خطى العلم يمشي متجرداً، فيجعل القرآن والسنة مهيمنة عليه، حاكمة له في سائر أمره، لا ينتقي منها ما يناسبه ويقوله، ويأتي إلى ما لا يناسبه فيخفيه، وطبعاً هو لا يستطيع أن يرده؛ لأن رده كفر، لكن هو لا يرده وإنما يسكت عنه، والسكوت هنا شاء أم أبى نوع من الردة، ليس الردة عن الإسلام بل الردة له، بمعنى: أن الإنسان العاقل يجعل القرآن حاكماً مهيمناً عليه، ولهذا فهذه الأبيات التي يقرأها إنسان حدث في العلم؛ لأنه قد يشيب الإنسان وهو على الفسق، ثم يمن الله عليه بالالتزام والإيمان، فيبقى حدثاً في العلم صغيراً، ولو كان فوق الأربعين، فيقول:
لو كنت مستغفراً يوماً لطاغية كنت المقدم في سر وإعلان
لكن أبت لي آيات مطهرة حين التلاوة في طه وعمران
هذه الأبيات تغري قائلها، لكن الإنسان إذا فقه أن قائل هذه الأبيات يقول نثراً: إن قتل علي بن أبي طالب لم يبق لـعبد الرحمن بن ملجم من ذنب، فقد خلص من ذنوبه لقتله علياً ، وهذا ليس رداً لقول النبي صلى الله عليه وسلم، بل رد للدين كله؛ لأن الله جل وعلا ترضى على علي وإخوانه من الصحابة، قال الله: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، والله يقول في الآية هذه: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح:18]، ولو لم يقل الله: إنه يعلم ما في قلوبهم لعرف أنه يعلم ما في قلوبهم، لكن الله قال: (فعلم ما في قلوبهم)، وعلي بالإجماع ممن بايع تحت الشجرة، وشهد بدراً، ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (علي في الجنة)، فهل يكون قتل رجل مشهود له بالجنة حاتاً الذنوب! هذا لا يمكن أن يقبل ولا يعقل، لكن النظر الجزئي وتغليب الهوى هو الذي أضر بالكثير من المسلمين عبر التاريخ الإسلامي الممتد قديماً وحديثاً.
أرجو أن يكون في هذا نفع وإن كنت خرجت عن مضمون الآية.
قال تعالى: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ [الأحزاب:4]، ثم قال الله: ذَلِكُمْ [الأحزاب:4]، هنا يعود اسم الإشارة على الثلاث وهو قول الجمهور؛ على مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ، والأزواج، والأدعياء، ولا نقول بهذا؛ لأن الأول عندنا لم يقل به أحد، وإنما أراد الله أن يجعله توطئة، لكن مقصود الله: ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ [الأحزاب:4]، يعود على من ظاهر، وعلى من تبنى، ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ ، والتعبير بالأفواه فيه كناية على أنه لا يلامس الواقع ولا يطابق الحق، ولا يمكن أن يبنى عليه حكم شرعي، قال الله بعدها: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب:4]، هذه إعادة لنفس الأسلوب، الأسلوب الأول: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ تمهيد لما بعده، ثم يوطن الله القلوب لتسمع كلامه فيقول: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ، والآن عندما هدم الله الأعراف القرشية، لابد أن يأتي بالبديل، أما أن تهدم بيتي ثم تقول: لا تسكن هنا، فسيكون السؤال: أين أسكن؟ فالله جل وعلا هدم الأعراف ثم مهد بقوله: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ، وهنا تشرئب أعناق المؤمنين، ما الحق يا ربنا في هذه القضية؟! ما السبيل الواضح في هذه القضية؟ جاءت الآية محكمة بعده: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب:5]، وقد نبهنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية -كما في الصحيحين- قال: (أنت زيد بن حارثة بن شراحيل)، فسماه ونسبه إلى أبيه، قال: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ [الأحزاب:5]، وهذا قد يقع؛ فنادوهم بأخوة الدين: فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ [الأحزاب:5]، والأخوة في الدين أعظم من أخوة النسب.