تفسير قوله تعالى: (قل لا أ جد فيما أوحي إلي محرما...)
يقول الله جل وعلا: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:145].
من هذه الآية يمكن تقسيم الحيوانات من حيث أكلها حلاً وحرمة إلى ثلاثة أقسام:
الأول: قسم حلال طيب حياً وميتاً، وهو طعام البحر والجراد.
والثاني: قسم حرام، سواء ذكي أو لم يذك، وهو كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير على قول الأكثرين من أهل العلم احتياطاً؛ لأنه ليس على ذلك إجماع.
الثالث: قسم حلال إذا ذكي تذكية شرعية، وهو بهيمة الأنعام وما سواها من الحيوانات من غير الخبائث والمتفق على فسقها وتحريمها.
يقول تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [الأنعام:145].
ذكر الله جل وعلا هنا الدم وقيده بأنه مسفوح، أي: دم مهراق، ونقول: وردت كلمة الدم في اصطلاح الفقهاء، ويعبرون بها عن الذبح، فيقولون فيمن ترك واجباً في الحج: عليه دم.
ويمكن تقسيم ما يؤكل من الدماء في الحج وما لا يؤكل منها إلى قسمين:
أولاً: دماء يجوز -بل يستحب- الأكل منها، ومثال ذلك هدي القرآن وهدي التمتع.
وإذا كان ما أوجبه الله من هدي كالقران والتمتع يجوز الأكل منه، فمن باب أولى أن يجوز الأكل من هدي التطوع.
ثانياً: الدماء التي لا يجوز الأكل منها، وهي دم ترك الواجب، ودم فعل المحظور، والعلة في ذلك أنها تجري مجرى الكفارات.
والفرق بين دم ترك الواجب ودم فعل المحظور: أن دم ترك الواجب لا يجوز الانتقال منه إلى غيره إلا إذا لم تجد، أما دم فعل المحظور فأنت مكلف به على التخيير لا على الوجوب.
ومثال ذلك: أن أحرم من غير ذي الحليفة وأنا مدني، فتجاوزت الميقات عمداً أو نسياناً ولم أستطع أن أعود إليه، فأنا تركت واجباً، أي: أنني لم أحرم من ميقاتي، فترك الواجب هنا يترتب عليه دم، وهذا الدم لا خيار لي عنه، فإن عجزت لقلة مال انتقلت إلى صيام عشرة أيام.
ومثال فعل المحظور أن أحرم من ذي الحليفة، فأنا لم أترك واجباً، ولكنني في الطريق اشتكيت من صداع في رأسي، فوضعت على رأسي الغطاء، فغطاء الرأس محظور من محظورات الإحرام، فهنا لا يقال: إنه يجب عليك لزاماً دم، وإنما يقال: إن الدم واحد من خيارات ثلاثة:
الخيار الأول: الدم.
والخيار الثاني: صيام ثلاثة أيام.
والخيار الثالث: إطعام ستة مساكين.
فهناك فرق جلي بين الدم الذي ينجم عن ترك واجب والدم الذي ينجم عن فعل محظور.
يقول تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ [الأنعام:145] أي: آكل يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [الأنعام:145].
والميتة ما مات حتف أنفه، ويدخل فيها: المنخنقة والموقوذة والنطيحة، وقد حرمها الله تعالى.
قال الله: أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [الأنعام:145] وهذه تسمية للخنزير ببعض أجزائه، والمقصود الخنزير كله لحماً وشحماً وعظماً وغير ذلك، والخنزير حيوان معروف حرمه الله جل وعلا، وإن كان شائعاً أكله في بعض البلدان عياذاً بالله.
والخنزير الصغير يسمى خِنَّوصاً، وقد كان بين جرير والأخطل ما يسمى بشعر النقائض، فـالأخطل كان شاعراً نصرانياً تغلبي القبيلة، وكانت بينه وبين جرير نقائض، أي: شعر يهدم كل منهما به ما قاله الآخر، فكانت الثغرة في شخصية الأخطل هي أنه نصراني، فكان جرير يتعمد قدحه بدينه، أي: بالنصرانية، وله عجز بيت يقول:
لحم الخنانيص يغلي فوقه السُكَرُ
يعني: أنتم تعيشون على لحم صغار الخنازير، وهذا تعيير يقول:
ما كان يرضى رسول الله فعلهم والطيبان أبو بكر ولا عمر
يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرضيه هو وأبو بكر وعمر صنيع تغلب، وإقحام أبي بكر وعمر من أجل القافية، فمن يعرف الصناعة الشعرية يجد أن جريراً دفعه إلى ذكرهما القافية.
والذي يعنينا أن الخِنَّوص ولد الخنزير، وكان النصارى يعيرون به، وقد جاء في الحديث أن عيسى ابن مريم عندما ينزل يكسر الصليب ويقتل الخنزير.
قال الله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام:145] أي: أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي: لم يذبح لله، أو لم يذكر عليه اسم الله.
ثم قال ربنا: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:145].
هذا من رحمة الله بعباده، حيث إن مواقف الاضطرار لا تجري عليها أحكام مواقف الاختيار، فحالات الضرورة لها أحكامها، والضرورات تبيح المحظورات، كما أن الواجب يسقط مع العجز، وهذا كله من رحمة الله جل وعلا بعباده.
جعلنا الله وإياكم من أوليائه.
هذا ما تحرر إيراده وتهيأ إعداده حول قول الله تعالى في سورة الأنعام: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [الأنعام:145].
وصلى الله على محمد، وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.