فسير قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله..)
بعد أن ذكر الله أدلة الاعتبار ذكر الله جلا وعلا اختلاف الناس في ربهم، فذكر مسألة محبة الله جلا وعلا وتعظيمه وهي لب الدين، فقال جل ذكره: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ [البقرة:165] .
للعلماء وجهان في تخريج الآية:
التخريج الأول: أن هؤلاء المشركين يحبون أصنامهم كحب المسلمين لربهم.
التخريج الثاني: أن هؤلاء المشركين يحبون ربهم ويحبون أندادهم كحبهم لربهم، وهذا التخريج الثاني تدل عليه آية الشعراء، تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:97-98] .
وأياً كان المقصود بالمعنى فقد قال الله بعدها: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165]، وهؤلاء المؤمنون لما كان محبوبهم وهو الله ليس له مثيل كان حبهم لله لا يعدل حبهم لأي شيء آخر؛ لأن الله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، ومنزلة محبة الله جلا وعلا من أعظم المنازل التي يعطاها العبد؛ لأنها مع الرجاء والخوف هي مدارك الدين كله، ومن رحمة الله جلا وعلا بك أن يجعل قلبك وعاء لحبه تبارك وتعالى، قال الله: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165].
ثم قال:وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [البقرة:165] في الدنيا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ [البقرة:165] أي في الآخرة أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ [ البقرة:165].
تفسير قوله تعالى: (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا..)
قاله الله تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:166-167] .
معناها ظاهر ولا تحتاج إلى شرح، رؤساء لهم أتباع فيوم القيامة يتبرأ الرؤساء من الأتباع، لكن نقف عند قوله: (لو) و(لولا) إذا كان يوم القيامة يرى المؤمن مقعده من النار الذي نجاه الله منه وهو في الجنة قال الله عنهم: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43] لاحظ (لولا) تقترن بأهل الإيمان، أما الكفار تقترن بهم (لو) ما الفرق؟
لولا: حرف امتناع لوجود، أما لو: حرف امتناع لامتناع، كيف أطبق هذا على هذه الآية وسائر الآيات؟
المؤمن وهو في الجنة إذا رأى مقعده من النار الذي نجاه الله منه يقول: وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43]، السؤال: هل حصلت هداية الله؟ نعم حصلت، فامتنع بحصولها وجود المقعد الذي في النار، فهذا معنى قولنا: حرف امتناع لوجود، الموجود حصول الهداية والرحمة من الله، فهذه الرحمة والهداية من الله لك منعت أن تكون في ذلك المقعد الذي هو في النار.
على النقيض من ذلك يرى أهل النار مقعدهم في الجنة الذين حرموا منه، فيقولون: لو، وقال الله عنهم: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الزمر:57] ، وهنا يقول الله: لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا [البقرة:167]، ولا توجد كرة.
إذا رأى الكافر مقعده من الجنة يقول: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي [الزمر:57] ، هل هداه الله؟ لم يهده الله، فامتنع الأول، فامتنع جواب الشرط، امتنع تحقق أن ينال ذلك المنزل الذي يراه في الجنة، وهذا كافي بأن تتعظ به القلوب، هل تكون ممن يقول: لولا أن هداني الله، أو تقول: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الزمر:57] هذا هو الفرق بين لو ولولا، لولا: حرف امتناع لوجود، ولو: حرف امتناع لامتناع.
والمقصود من ذلك: أن من أراد الله له الرحمة في الآخرة سيرحمه في الدنيا بتوفيقه للأسباب المعينة على طاعة الله، ومن لم يرد الله له الرحمة في الآخرة لن يوفق للهداية في الدنيا حتى يصل إليها.
قال الله: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [البقرة:166] ، يجب أن يخلد في قلوبنا أن كل سبب يوم القيامة منقطع إلا سبباً واحداً وهو ما كان بين العبد وربه، وهو سبب العبودية المحضة، هذا هو السبب الواحد الذي يبقى يوم القيامة.
قال الله: وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ [البقرة:167] معنى (يريهم الله أعمالهم): يريهم الله الأعمال التي تكون سبباً في نجاتهم لو أنهم سمعوها وفعلوها وآتوها، فإذا رأوها ماثلة أمام أعينهم يوم القيامة تحسروا على أنهم لم يفعلوها؛ لأنهم لو فعلوها لنجوا مما هم فيهم.
كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ [البقرة:167] ، ولو كانت تلك الحسرة إلى أمد تنتهي ويقضى الأمر لهان لكن الله قال بعد ذلك يذكر خلودهم وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167] .