ملتقى قبيلة حرب الرسمي

ملتقى قبيلة حرب الرسمي (http://www.m-harb.net/vb/index.php)
-   الـــمـــلـــتـــقـــى الــــــــــعــــــــام (http://www.m-harb.net/vb/forumdisplay.php?f=47)
-   -   تفسير سورة الأحزاب (http://www.m-harb.net/vb/showthread.php?t=154766)

طلق المحيا 02-05-17 12:43 AM

تفسير سورة الأحزاب
 
بسم الله الرحمن الرحيم


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


تفسير سورة الأحزاب

من سلسلة محاسن التأويل

للشيخ صالح المغامسي

طلق المحيا 02-05-17 12:43 AM

غزوة الأحزاب أو الخندق من أعظم الغزوات التي اختبر الله فيها نفوس المسلمين، وامتحن قلوبهم، وميز فيها بين الخبيث والطيب، وقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم فيها المسلمين بالفتوحات العظيمة، وقد حصل ذلك في عهد الخلفاء الراشدين وما بعدهم، فصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

طلق المحيا 02-05-17 12:44 AM

بين يدي سورة الأحزاب


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الإخوة المباركون! هذا اللقاء التاسع عشر الذي كان من المفترض أن نتكلم فيه عن سورة الأنعام، لكن تبين من الدروس التي خلت، واللقاءات التي سلفت أن الحديث عن سورة الأنعام تقريباً استوفيناه؛ لأن القضايا التي بحثتها سورة الأنعام تكلمنا عنها إجمالاً وتفصيلاً، ولله الحمد والفضل والمنة.

فكان حرياً بنا أن ننظر في سورة أخرى تبحث في قضايا أخرى، والقرآن كما تعلمون منه مكي ومنه مدني، وسورة الأنعام سورة مكية بكاملها، والآن من المناسب أن نشرع في سورة مدنية، وما لم نتعرض له في سورة الأنعام فستأتي إن شاء الله له عودة في وقت آخر.

نقول: سورة الأحزاب سورة مدنية باتفاق، وهي السورة التي اخترناها لنتمم بها اللقاءات، وهي غنية جداً بالمواضيع المتنوعة مما تتعلق به حياة المسلمين العامة والخاصة؛ الخاصة: كتنظيم الأسرة، ومسائل الحجاب وأمثالها، وحياة المسلمين العامة: كحديثها عن غزوة الأحزاب، وغزوة بني قريظة، أما آياتها فعددها 73 آية، وهذه السورة المباركة تحدثت عن قضايا عديدة؛ لكنها سميت بسورة الأحزاب؛ لأن الله جل وعلا ذكر فيها لفظ الأحزاب: يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ [الأحزاب:20]، لكن ينبغي أن يعلم: أن لفظ الأحزاب ورد في سور أخرى: كسورة ص، وسورة غافر، وغيرهما من سور القرآن، فقد ورد تقريباً سبع مرات في سور أخرى، لكن الذي يعنينا هنا: أن الله جل وعلا سمى هذه السورة باسم سورة الأحزاب، وهي تحكي قصة أولئك القوم الذين اجتمعوا على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الإنسان الذي كان يحاول نفع الناس؛ فإنه لا تحكمه طريقة تقليدية في كيفية تقديم ما يريد أن ينفع الناس به.

طلق المحيا 02-05-17 12:48 AM

ذكر بعض من أحداث غزوة الأحزاب إجمالاً

وأعتقد أنه من المناسب أن نتحدث في اللقاء الأول عن غزوة الأحزاب عموماً؛ لأن السورة سميت بها، ولأنها الموضوع الرئيس للسورة، ثم في اللقاءات القادمة إن شاء الله تعالى نشرع كالعادة في تفسير الآيات كلمة كلمة على منهجنا المعتاد، لكن اليوم سنخصص الحديث عن غزوة الخندق أو الأحزاب؛ لأن الحديث عنها في اعتقادي يسهم كثيراً بعد ذلك في تفسير سورة الأحزاب.

فنقول: اليهود سبب لكل شر في غالب أمرهم، فقد ذهبوا إلى القرشيين وهم يعلمون أن القرشيين متوترون بسبب من قتل منهم يوم بدر، أما يوم أحد فلم يشف غليلهم، رغم أنهم أصابوا من المسلمين مقتلاً، لكنهم لم يسيطروا على هذا الدين، ولم يحتلوا أرضاً من المدينة، فلما ذهبوا إليهم سأل القرشيون اليهود عن دين محمد؟ فتظاهر اليهود بأنهم لا يعلمون شيئاً وقالوا: صفوا لنا دينكم، وصفوا لنا دين محمد، وهم أهل كتاب، وهذه القضية بالنسبة لهم غير خافية، فلما أخبروهم بالخبر والوهم، قال الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا [النساء:51-52].

ألبت اليهود قريشاً وغطفان وغيرهما من قبائل العرب على أن يأتوا المدينة، وهذا أصل تسميتهم بالأحزاب، فقدموا إلى المدينة لكل قوم زعيمهم، ولم يكن لهم زعيم واحد يمكن أن يصدروا عنه، وهذا أمر تفرضه الحضارة العربية آنذاك، فالعرب لم تكن تعرف حضارة الاجتماع على ملك، ولم يكن هناك أحد في العرب يمكن أن يسمع ويطاع دون غيره، إنما كانت الثقافة ثقافة قبلية، فشيخ القبيلة هو المصدر الذي يصدر الناس عن أمره ويردون إليه، فلا يقبل أحد منهم أن يستمع إلى رجل من قبيلة أخرى، فقريش بقيادة أبي سفيان ، وغطفان بقيادة عيينة بن حصين وقيل غيره، وهكذا سائر القبائل، فقدموا إلى المدينة، والنبي صلى الله عليه وسلم يتعامل مع كل حدث بما يمليه عليه ذلك الحدث.

ولهذا: فمن الخطأ أن يستبق الإنسان الأحداث، أو أن يقعد قواعد لا يريد أن يخرج منها ويزعم أنها مبادئ، هو عليه الصلاة والسلام حارب في بدر على مسافة 140 كم عن المدينة، ثم في أحد أقرب، ثم في الخندق أقرب وأقرب، فاختلاف الطرائق يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلتزم طريقة واحدة في حرب عدوه، بل استشار الناس فأشار عليه سلمان بحفر الخندق، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل في أمور معينة أحداً أن يملي عليه فيها رأيه، وهي ما يتعلق بشئون الدين، أما ما يتعلق بالحضارة المحضة الدنيوية فإن الدين شرع لنا التشاور وأخذ الرأي من الغير، وقد كان الفرس خلاف العرب، فقد سبقوا العرب كثيراً في قضايا الحضارات، ولذلك عرفوا الملك وتوارثوه، وهو أمر لم يكن عند العرب، فأشار سلمان بما تمليه عليه حضارته الفارسية لا لما يملي عليه دينه وإيمانه؛ لأن النبي أعظم منه ديناً وإيماناً، والصحابة كـأبي بكر وعمر ، فأشار على النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، فقبلها النبي صلى الله عليه وسلم لسببين:

أما السبب الأول: فلكي يحقق المقصود في منع قريش وحلفائها من أن يدخلوا المدينة.

والأمر الثاني: أن أي عدو إذا واجهته بشيء غير متوقع كان أنكأ فيه.

فلما جاءت الأحزاب فوجئوا بشيء لم يعرفوه ولم يعهدوه، فقال بعضهم لبعض: إن هذا شيء لم تألفه العرب، ولا تعرفه في حروبها، لكنها فكرة نقلت من حضارة إلى حضارة، والحضارات ليست وقفاً على أحد، تبقى حقاً مشاعاً يستفيد منها كل أحد، فالحكمة ضالة المؤمن، والعاقل لا يمنعه شيء من الاستفادة من غيره، إذا لم يكن هذا الشيء ماساً بثوابته وطبائعه وقيمه، فهذا لا يقبل أن نختار بينه وبين غيره؛ لأن هذا خلاف الدين، لكن الدين أذن لنا بمثل هذا، وهو أن نأخذ بما نستفيده من الحضارات الأخرى، قال عليه الصلاة والسلام كما عند مسلم في الصحيح: (كنت أريد أن أنهى أمتي عن الغيلة فرأيت أن فارس والروم تصنعانها فلا تضرها شيئاً)، فالمرأة وهي حامل لها أن ترضع، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع من قومه من العرب أن هذا يضر بالجنين أو بالرضيع فأراد أن ينهى الأمة عن ذلك شفقة بهم، فلما تبين له بغير الوحي من الاحتكاك والالتماس الحضاري من فارس والروم أنهم يفعلون ذلك لأن هذه أشياء لا تتعلق بمسألة أن الكافر يتضرر والمسلم لا يتضرر، بل هو أمر مفتوح، فقبلها النبي صلى الله عليه وسلم.

موضع الشاهد: أنه عليه الصلاة والسلام حفر الخندق فأضحى الأحزاب في شق والمؤمنون في مأمن وفي شق آخر، لكنها كانت أياماً عصيبة وافقت برداً، ولم تكن الدنيا قد فتحت آنذاك للنبي صلى الله عليه وسلم، بل وافقت تلك الأيام فقراً، وأمما تتكالب، واليهود في جنوب المدينة يخشى منهم، وهم من بيتوا هذا الأمر للمؤمنين، ولم يسبق أن اجتمع الناس على أحد ورموه عن قوس واحدة كما فعل الأحزاب مع النبي صلى الله عليه وسلم، مكث الأمر أياماً وليالي زلزل فيها المسلمون زلزالاً شديداً، وسيأتي تفصيلاً.

طلق المحيا 03-05-17 04:44 AM

أنفس واثقة بنصر الله

ثم حدثت أمور منها: ما يتعلق بالحياة الاجتماعية، ومنها: ما يتعلق بمعجزاته صلى الله عليه وسلم؛ لأن خطباً كهذا يكون مليئاً بالأحداث، والعاقل يستفيد من جميع الأحداث، وقد كان هناك صحابي اسمه جعير بن سراقة أظهر نشاطاً يوم الخندق، وقد غير اسمه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أنت عمرو )، هذا حدث يسير جداً، الصحابة الآن يريدون أي شيء يعينهم على ما هم فيه، وهم ينقلون التراب وجدوا في هذا الحدث اليسير ما يعينهم على العمل والجد والنشاط، فأخذوا يرتجزون ويقولون:

أسماه بعد جعير عمراً .. وكان للبائس يوماً ظهراً

فالبيت لا يحمل معاني كثيرة، إنما يحمل حدثاً يسيراً، لكنهم آنذاك كانوا يتلذذون ويتفكهون به، ويعينهم على ما هم فيه وهم يحملون التراب رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يأبى إلا أن يشاركهم ويقول: عمراً ، ظهراً، يردد آخر الصدر والعجز، ولا يردد البيت كاملاً حتى يكون في منأى عن قول الشعر، ويصدق عليه لفظاً ومعنى ومبنى قول الله جل وعلا: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي [يس:69]، ثم يأتي جابر بالشاة فتكفي الشاة القوم كلهم.

وشاة جابر يوم الحرب معجزة .. نعم النبي ونعم الجيش والشاة

إني أتيتك بالمدح معتذراً .. ومدحك الوحي والسبع القراءات

ثم بعد ذلك: تعترضهم صخرة يضربها صلى الله عليه وسلم، وسيأتي أثر هذا الضرب في قول الله تعالى: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12]، (فيضربها صلى الله عليه وسلم ويكبر ويقول: الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمراء من مكاني هذا، ثم يضرب ثانية ويقول: الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض من مكاني هذا، ثم يضرب الثالثة ويقول: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا)، وهذه الأسماء: المدائن، صنعاء، قصور الشام الحمراء، كانت آنذاك مراكز قرارات وحضارات، والمسلمون آنذاك محاصرون في المدينة، والنبي صلى الله عليه وسلم عندهم وهو عند الله من قبلهم لا ينطق عن الهوى، فيبشرهم بمثل هذه البشارات، وأنت عندما تحمس الجيش فأقل القليل الذي تبثه فيهم: أنهم لن يستأصلوا؛ لأنهم لو استؤصلوا فلن تفتح لهم الشام ولا المدائن ولا أبواب صنعاء، فأقل القليل أنهم يعلمون أن هذه ليست نهاية المطاف، وأن الأحزاب سيكون أمرهم إلى زوال، كيف لا يعلمون ذلك وهو وعد من الله جل علا؛ لأن الصخرة وهذا نوع من البشارة تفتتت واضمحلت لما ضربها النبي صلى الله عليه وسلم، فيقع في أنفسهم أن الصخرة تمثل هؤلاء القوم الذين يحاصروننا، وضرب النبي صلى الله عليه وسلم أشبه بتلاشيها، ثم لا يقف الأمر في أنهم سيذهبون وينصرفون، لكنهم سيفتحون الحضارات وسيملكونها، كأبواب صنعاء، وقد كان لها في ذلك الزمن شيء من الحضارات الممتدة؛ لأنها كانت آنذاك موئلاً كبيراً للحضارة وبقيت موروثاً، يقول جرير :

أقلي اللوم عاذل والعتابا وقولي إن أصبت لقد أصابا

إلى أن قال:

دخلن قصور يثرب معلمات ولم يتركن من صنعاء باباً

قصر المدائن الأبيض فتحه المسلمون في عهد عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وفتحت الشام في عهد الصديق رضي الله تعالى عنه، ثم توالت الفتوحات.

طلق المحيا 03-05-17 04:45 AM

مواقف حدثت أثناء حصار المسلمين في غزوة الخندق

والمقصود: أن كل هذا وقع في أيام الخندق، كذلك النبي صلى الله عليه وسلم أيامها يأتيه أحد أصحابه وكان شاباً، فيأبى إلا أن يشارك النبي عليه الصلاة والسلام ما هو فيه، رغم أنه حديث عهد بعرس، ثم يقول عليه الصلاة والسلام: (خذ سلاحك، فإني أخشى عليك بني قريظة، فيأخذ سلاحه، فيعود الشاب إلى داره فيجد زوجته خارج الدار، فيصيبه الحنق على ما رأى، فيسل سيفه، فتشير له إلى داخل الدار، لم أخرج متبرجة ولا سافرة لكن شيئاً ما اضطرني، هي لم تقلها قولاً، بل قالتها حالاً بالإشارة، فدخل الشاب فوجد حية ملتوية على فراشه فضربها فمات).

قال أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه وأرضاه راوي الحديث كما عند مالك في الموطأ: قال: (فلا يدرى أيهما أسرع موتاً، الشاب أم الحية، فأخبر صلى الله عليه وسلم بهذا فقال: إن في المدينة إخواناً لكم من الجن، فإذا رأيتم مثل هذا فحرجوا عليه ثلاثاً)، هذه كلها أحداث مرت والمسلمون مع نبيهم صلى الله عليه وسلم في الخندق، ثم لم يلبث أن صرف الله جل وعلا عنهم الكيد، فدخل نعيم بن مسعود بمكيدة ما بين قريش واليهود فأوهم اليهود أن قريشاً ستخذلهم وتعود فينفرد بكم محمد -أي: أبو القاسم- ولم يكن يوم ذاك يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي عليه حتى لا يشعرهم بإسلامه، وكان قد أسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال له: (خذل عنا)، وكلمة نحوها، ثم ذهب إلى أبي سفيان وقال: إن يهود تفكر في أن تأخذ منكم رهائن حتى تقدمهم قرابين لمحمد فإنهم يخشون أن تذهبوا -والحرب خدعة- فدب الخلاف وكله بتقدير من الله جل وعلا وتدبير، ومن ينصره الله فلا غالب له، فانصرفت قريش بعد ذلك وتركت النبي صلى الله عليه وسلم لبني قريظة، وحكم فيهم سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه وأرضاه وقال له بعد أن حكم: (لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة)، أي: من فوق سبع سماوات، ثم يموت سعد بعد أن أصيب بسهم في أكحله فيقول النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يدفنه: (إن للقبر ضمة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ -وفي رواية- لنجا منها هذا العبد الصالح).

هذه كلها -أيها المبارك- أحداث مرت ووقعت خلال أيام قلائل أظهر فيها علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه شجاعة نادرة وقتل عمراً بن ود ، مع أن علياً يومها لم يكن طاعناً في السن، وقد كان لـابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه مواقف مشهودة في بدر وأحد، وتممها في يوم الخندق، وهو أحد شجعان المسلمين المعروفين عبر التاريخ كله.

المقصود: أن هذا يظهر الله على يديه معجزة، وهذا يموت من قتله لحية، وهذا يغير اسمه، وهذا ينتصر ويقتل خصماً عنيداً، كلها أحداث تقع ويراد منها بقدر الله تربية مجتمع مسلم، الأمة وأي مجتمع لا تربيه مثل هذه الأحداث وتواليها، يقول الله: وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب:11]، مثل هذه الأحداث ينجم عنها بعد ذلك مجتمع وأمة قادرة على أن تتحمل ما هو أعظم.

والله جل وعلا قادر على أن ينصر رسوله بأقل من ذلك، لكنها أمور تحدث كما قلنا حتى تربى الجماعة المسلمة أو الأمة المسلمة على أعظم الخطب، فالإنسان إذا كان قوياً في ذاته يستطيع أن يسوس الناس وينفعهم، أما إذا كان الإنسان ينطلق من ضعف ووهن فحتى لو صدر ومكن بأي طريقة فإنه لن يستطيع أن ينفع غيره؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وهذا المجتمع المدني الذي يمثل أمثل رعيل وأكمل جيل في المقام الأول أراد الله جل وعلا منهم أن ينقلهم من رعي الشاة إلى رعي الأمم، فكان بعد ذلك منهم وممن نشأ تحت رعايتهم وعهدهم من أبناء الصحابة من ساس الدنيا وحكمها وأثراها بالأخلاق وبالعقيدة في المقام الأول.

هذا كله نجعله مقدمة في هذا اللقاء المبارك بين يدي سورة الأحزاب التي سميت باسم المعركة، وإلا فالسورة المباركة حوت كثيراً من القضايا سيأتي إن شاء الله تفصيلها في اللقاء القادم بعد أن وطدنا وهيأنا الأمر للتلقي قدر الإمكان؛ لأنه لا يمكن أن نغفل الحديث عن معركة الأحزاب أو غزوة الخندق وهي الموضوع الرئيس لهذه السورة المباركة.

في اللقاء القادم نستفتح بقول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [الأحزاب:1-3].

نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يعيننا وإياكم على طاعته، هذا ما تيسير إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

طلق المحيا 04-05-17 12:54 AM

يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآيات البينات بلزوم تقوى الله، وعدم طاعة الكافرين والمنافقين، ويأمره كذلك بالتوكل عليه وحده سبحانه، ثم ينزل عليه تشريعاً يقضي بإبطال قضية التبني الموجودة في زمن الجاهلية الأولى، مع لزوم الأخوة في الدين، الرابطة الأقوى، والعروة الوثقى، والقاعدة العظمى في المجتمع الإسلامي.

طلق المحيا 04-05-17 12:56 AM

تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي اتق الله... وكفى بالله وكيلاً)

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

ما زلنا نتفيأ ظلال سورة الأحزاب، وكنا في اللقاء الماضي قد وطدنا وهيأنا ما نحن فيه الآن بالحديث عن وقفات مع معركة الأحزاب، وتكلمنا عن قضايا عديدة حوتها تلك الأيام والليالي التي أحاط بها الأحزاب في المدينة.

نعود الآن إلى منهجنا المعتاد في تفسير السورة، وهي قراءة الآيات ثم التأمل فيها، قال ربنا وهو أصدق القائلين: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [الأحزاب:1-3].

أهل العلم من الأكابر قبلنا يذهبون إلى أن هناك سبباً اقتضاه هذا الخطاب الإلهي لنبينا عليه الصلاة والسلام في قوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1]، فيذهب بعضهم: إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كلمه اليهود، أو كلمه وفد ثقيف، أو كلمه أهل الإشراك في قضايا تنازل عقدية، فيرون أن هذا مقتضى نزول هذه الآيات، وأنا أذهب -والعلم عند الله- إلى أن هذا بعيد جداً، ولا يمكن أن ينزل القرآن بشأنه؛ لأن الخطاب هنا لا يناسب ما صوروه، وقد يقول قائل: قال الله: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون:1-2]، لكن ليس فيها: اتق الله! وإنما فيها إخبار بمنهجه.

أما تقوى الله جل وعلا فهي أعظم ما أفادته فواتح سورة الأحزاب، وهذا هو المهم، وأعتقد أنه هو المراد من نزول الآية، فإنه لا يمكن لأحدٍ كائناً من كان أن يترفع عن تقوى الله، أحسب أن هذا هو المقصود من إنزال الآية، وأنا أكاد أجزم أن ليس لنزول الآية سبب، وإنما هي استفتاحية على أصلها، وأن المقصود منها: تحصيل الثواب، والأمن من العقاب، وهو معنى التقوى الحقيقي؛ خلافاً لمن قال بغير هذا الرأي، فهو الذي ينبغي أن يصرف إليه الشأن.

والمعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم يخاطبه ربه بقوله: (أيها النبي) أي: المأمون على وحينا، المبلغ عنا، الحبيب إلينا، ولهذا قال: (يا أيها النبي)، ولم يقل: يا محمد! وقد مرت معنا كثيراً قضية أن الله جل وعلا لم يناد، ولم يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم باسمه المجرد كما قال الله: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا [هود:48].. يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة:35].. يا إبراهيم! قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا [الصافات:105].. يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [آل عمران:55].. يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ [الأعراف:144]، بل قال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأحزاب:1] والنبوة أعظم الدرجات على الإطلاق، وأرفع المقامات، قال الله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [النساء:69] فقدم الأنبياء، وهذا لا يحتاج إلى استدلال.

لكني أقول: إن الآية في أصل قصدها تريد أن توضح، أو أن تخاطب المؤمنين عموماً: أنه لا يمكن أن يترفع أحد، أو أن يرى في نفسه أنه غير أهلٍ لأن يقال له: اتق الله! ومتى ما ظن الإنسان أحياناً أن خطاباً ما لا ينبغي أن يقال له، فقد ظن بنفسه ما ليس فيه، وهذا أول طرائق الكبر.

وقد مر معكم أن الحجاج بن يوسف ذكر في قضية أنه أدرك أربعة أفراد، أو سمع بأربعة أفراد فيهم كبر، وسنأخذ واحداً منهم؛ لأنه المناسب لقضيتنا: وهي أن امرأة قالت له في أحد المتكبرين، وهو على أبواب الطرائق: يا عبد الله! أين طريق كذا وكذا، فقال الرجل: ألمثلي يقال: يا عبد الله! لأن الأصل المعتاد: أن عبد الله تقال للشخص الذي لا تعرف اسمه، باعتبار أننا جميعاً عباد لله، فهذا الرجل أصابه الكبر فقال: ألمثلي يقال: يا عبد الله! والله يقول: لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء:172].

فالمراد من هذه الآية فيما أفهم: أنه ينبغي أن يعلم كل أحد أن تحصيل الثواب، والأمن من العقاب مطلب عظيم لكل أحد حتى لأنبياء الله ورسله، وفي مقدمتهم سيدهم وخاتمهم وأشرفهم نبينا صلوات الله وسلامه عليه، ومعلوم أنه لا يقال للجالس: اجلس، لكن معناه: استدم على جلوسك.

كذلك: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1]، فالنبي صلى الله عليه وسلم سيد المتقين، ويقال له: اتق الله. أي: ابق على ما أنت عليه من التقوى، وقد يكون المخاطب: أمته عليه الصلاة والسلام.

قال تعالى: وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الأحزاب:1]، أي: أن هناك من يحاول أن يزعزع شأنك، ويقلل من أمرك، لكن ابق على ما أنت عليه، ثم يطمنه ربه أن النصرة تكون من الله، ومن طرائق نصر الله: اتباع وحيه: وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ [الأحزاب:2]

فمن هنا: فهم العلماء أنه لا اجتهاد مع النص؛ لأن الله قال لنبيه: وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [الأحزاب:2]، فإذا كان النبي مأموراً باتباع الوحي فغيره أولى، وإذا كان اجتهاد النبي ينحى في حالة وجود الوحي، فما بالك باجتهاد غيره؟

قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [الأحزاب:2-3] هذا ينزل السكينة والطمأنينة على قلبه صلوات الله وسلامه عليه، وأنه محفوظ بحفظ الله تبارك وتعالى له.

نبقى في قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1] أكثر من يعبر عن معنى التقوى يأخذ أحد جوانبها، وهي قضية الأمن من العقاب، وهذا لا يكفي، فمن تقوى الله أيضاً: تحصيل الثواب، فإن المؤمن يريد أن ينأى بنفسه عن الشر، وفي ذات الوقت يريد أن يحصل كل خير، ثم إن الإنسان يحصل الثواب بتقوى الله، وباجتناب نواهيه يأمن الإنسان من العقاب.

ولا ينبغي هنا أن يستخدم الإنسان عقله، وإنما اتباع وحي الله كفيل بأن يوصلك إلى ما تطلب، وكذلك في الصوم؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام يقول عنه: جنة. أي: وقاية من النار، فالنار هي القاصم الأكبر والخزي الأعظم.

مع أن الصوم لو تأملته حقاً لوجدت أنه كلما توالت ساعاته، ودنوت من المغرب زمناً، تكون قواك أضعف وأوهن، فجعل الله من هذا الضعف الذي يصيبك قوة لك في الخروج من النار، فانظر كيف أن الإنسان يتقي الشيء بشيء يغلب على الظن أنه لا يقي، لكن الله جل وعلا جعل من هذا الصوم الذي تضعف به قوانا سبباً في أن تكفر الخطايا، وأن تكون في المقام الأول، فلما أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يصف الصوم بصفة قال: (الصوم جنة). أي: وقاية من النار.

هذا مجمل ما يمكن أن نقوله حول الآيات الثلاث الأول التي استفتح الله جل وعلا بها سورة الأحزاب.

طلق المحيا 04-05-17 12:57 AM

تفسير قوله تعالى: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه... وهو يهدي السبيل)

ثم قال ربنا وهو أصدق القائلين: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب:4].

قوله: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب:4] أهل التفسير -عفا الله عنا وعنهم- أغرقوا هنا في محاولة معرفة هذا الرجل، وأنا أقول: محال أن تنزل آية بسبب رجل ما نكرة، بدليل أنهم لم يعرفوه، وكل يقول: هذا فلان الأسدي، وهذا يقول: من بني جمح، وهي حدث لا يتعلق بحياة النبي صلى الله عليه وسلم.

وكون قريش تزعم فيما نقلوا إلينا: أن فلاناً من الناس يحفظ ويعقل، وكأن له قلبين لما يمكن أن ينزل القرآن من أجل هذا؛ لأن هذا لا يمكن أن يترتب عليه شيء مهم، لكن المعنى الذي نفهمه والعلم عند الله، وقد قال به بعض العلماء قبلنا: أن هذه الآية توطئة لما سيأتي بعدها، فمعنى مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب:4]: أنه لا يمكن أن يجتمع كفر وإيمان في قلب أحد، فلا يمكن أن يجتمع في قضية واحدة تصديقك وتكذيبك في آن واحد، ولا يمكن أن تقبل الإسلام وترفضه في آن واحد، هذا المعنى الحقيقي لقول الله جل وعلا: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب:4].

فالآية تمهد بعد ذلك لما فعله أهل الإشراك، وما سيقوله أهل النفاق في غزوة الأحزاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يتقي الله ولا يطيع الكافرين ولا المنافقين، ثم أراد الله بعد ذلك أن يهدم بكتابه المبين، وبما يمليه على نبيه صلى الله عليه سلم عادات وأعراضاً شاعت وذاعت في المجتمع القرشي لا أصل لها ولا يمكن أن تجتمع، فمهد جل وعلا بالشيء الذي يتفق العقلاء على أنه لا يجتمع، ولا يقول به عاقل، وهو أنه لا يمكن أن يجتمع تصديق وتكذيب لخبر واحد في آن واحد، ولا يجتمع في قلب أحد كائناً من كان كفر مع إيمان في وقت واحد؛ فهذان الضدان هما اللذان لا يمكن اجتماعهما في وقت واحد، فإذا ارتفع أحدهما بقي الآخر، فعلى هذا يكون قول الله جل وعلا: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب:4] كأنه يبدأ مع المجتمع المسلم بالاتفاق على شيء متفق عليه.

فالعقلاء كلهم يتفقون على أنه لا يمكن أن يجتمع كفر وإيمان في قلب رجل واحد، فإذا سلم الناس بهذا ويجب أن يسلموا؛ لأن هذا مما تقبله النفوس، بعد ذلك يأتي الإملاء الشرعي في تهذيب المجتمع، فهناك عادات وتقاليد راسخة من أيام الجاهلية، بقيت حتى في بيت النبوة، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم تبنى زيداً بن حارثة رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

فقال الله جل وعلا بعد ذلك: وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ [الأحزاب:4] الله لم يذكر هنا لفظ الظهار، مما يدل على أن هذا اللفظ شائع ذائع لا يحتاج إلى بيان، لكنه يحتاج إلى بيان حكمه فقط؛ فلهذا لم يفصل الله في حقيقة الظهار؛ لأنه كان أمراً مألوفاً، كما تقول في زمانك: هذا رجل لبى، فمعنى لبى أي: قال: لبيك اللهم لبيك، سمعت رجلاً يسبح، أي: يقول: سبحان الله، هذا رجل يكبر، أي: يقول: الله أكبر، فهذه ألفاظ لا تحتاج إلى بيان، فلهذا قال ربنا: وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ [الأحزاب:4].

طلق المحيا 04-05-17 12:58 AM

معنى الظهار في الشريعة وبيان حكمه

والظهار: أن يقول الرجل لزوجته التي أباحها الله له فراشاً: أنت عليّ كظهر أمي، فبدأ بأعظم المحرمات؛ لأن الله لما ذكر في آية التحريم في سورة النساء فقال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء:23]، فبدأ جل وعلا بالأمهات، فالرجل في هذه الحالة يجعل من الزوجة أماً، ويقول: أنت عليّ كظهر أمي، هذا القول لا يترتب عليه شرعاً أي حكم، يعني: لا يلزم منه أن يقع هذا الأمر، ولا يلزم منه أن يترتب عليه أحكام، إنما هو قول تقوله العرب على جهالة منها، وقد سماه الله في سورة المجادلة: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا [المجادلة:2].

هذا الظهار أبطله الله جل وعلا أن يقع؛ لأن العرب في ديدن حياتها، وفي سننها الاجتماعية كانت ترى الظهار طلاقاً، فتحرم عليه زوجته على التأبيد، فأراد الله أن يبطله، لكن الله لما أراد أن يبطله جعل هناك كفارة مترتبة عليه تأديباً للمجتمع المسلم، لكن هذه الكفارة تخص المظاهر تأديباً له؛ حتى لا يعود إلى مثل هذه الألفاظ، لكنه لا يترتب على الظهار أي هدم لبيت الزوجية، فالزوجة تبقى زوجة؛ لأن دعواك وقولك: أنت عليّ كظهر أمي، قول سماه الله: منكراً من القول وزوراً، وما سماه الله منكراً وزوراً لا يمكن أن يترتب عليه بناء، ولا يمكن أن يقوم عليه شيء؛ لأن الله سماه منكراً من القول وزوراً.

هذا الظهار جعل الله جل وعلا له كفارة، بدأها جل وعلا بتحرير رقبة، لكن الإشكال هنا أن الرقبة لم تقيد، بل جاءت مطلقة، بينما قيدها الله جل وعلا في القتل الخطأ في سورة النساء، قال: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92] فكلمة (مؤمنة) في سورة النساء صفة لرقبة، نكرة بنكرة، مؤنث بمؤنث، وهذا يجري مجرى القيد، لكن في آية المجادلة جاءت مطلقة، فهل يحمل المطلق الذي في سورة المجادلة على المقيد؟ بمعنى: أن التقييد ينصرف كذلك، هذه مسألة فيها نزاع بين العلماء في قضية: تعارض المطلق والمقيد، وقد فصلناها فيما سلف، وقلنا: إن لها أربع صور، لكن نأخذ الآن الصورة التي تعنينا، وهي قضية اختلاف السبب واتحاد الحكم.

الحكم: تحرير رقبة، أما السبب في سورة النساء فهو: القتل الخطأ، وفي سورة المجادلة: الظهار، فالسببان اختلفا، والحكم واحد، فمذهب الشافعية والحنابلة وكثير من المالكية حمل المطلق هنا على المقيد، فيصبح حتى عند الظهار لا بد من تحرير رقبة مؤمنة، ولا يجزئ عند هؤلاء تحرير رقبة غير مؤمنة، كرقبة ذمي مثلاً.

هذا أحد الأحوال التي تعنينا في هذا المقام، وهي: أن العلماء بناءً على قول الله جل وعلا في النساء، وفي سورة المجادلة جعلوا التقييد الموجود في سورة النساء، كذلك يحمل على الإطلاق الموجود في سورة المجادلة، هذا ما يتعلق بأحكام الظهار، وأنا لا أريد أن نخوض في قضايا فقهية، وسيأتي إن شاء الله تفسير سورة المجادلة، إن أبقى الله في أعمارنا وأعماركم برحمته.

فالمقصود: نحن نأخذ بعض الصناعات في كل قضية، قال الله: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ [الأحزاب:4]، لماذا لم يجعل الله الأزواج أمهات؟

لأن الأم الحق لا تكون زوجة، بمعنى: أنه لا يمكن أن يعقل أن يجتمع في امرأة أن تكون أماً وزوجاً في آن واحد؛ لتعارض الحقين، فلا يمكن أن يجتمع في امرأة أن تكون أماً وزوجة في آنٍ واحد؛ لتعارض الحقين؛ لأن حق الأم يختلف اختلافاً كثيراً عن حق الزوج.

فالزوجة لك عليها حق القوامة، وهذا لا يصح مع الأم، والأم لها خفض الجناح، وقد لا يكون هذا مستساغاً مع الزوجة؛ لأنك تريد أن تهذبها، تريد أن تكو مسئولاً عنها، وهذا لا يمكن أن يقع مع الأم.

فتعارض الحقين هنا يمنع منعاً باتاً أن تكون المرأة في آنٍ واحد زوجةً وأماً، هذا يذكرنا بالتوطئة، وهي قول الله: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب:4]، وهذا الأسلوب أصلاً يعلمك وأنت تحاور وتجادل: أن تبدأ مع من تحاوره وتجادله، إذا كنت على يقين ممن تدعو إليه، أن تبدأ بأمور مسلمة متفق عليها، وتؤصل قبل أن تصل أنت وهو إلى مسألة الخلاف والنزاع، لكنك ينبغي وأنت تحاور أن تشترط على من تحاوره ألا تعود إلى ما اتفقتم عليه؛ لأن نقض البناء الأول ينقض الأمر كله، فينبغي أن تذكره كل ما حاورته أن هذا لا يمكن نقضه حتى تبني عليه.

طلق المحيا 04-05-17 12:59 AM

إبطال الإسلام لقضية التبني

ثم قال الله جل وعلا: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ [الأحزاب:4] الدعي: هو من ينسب إلى غير أبيه، ويجمع على: أدعياء باعتبار أنه دعي على فعيل بمعنى: مفعول، يعني: متبنى، وقد ثبت في الصحيحين وفي غيرهما من حديث ابن عمر : (أنا كنا لا ندعو زيد بن حارثة إلا بـزيد بن محمد صلى الله عليه وسلم، فلما أنزل الله جل وعلا ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ [الأحزاب:5] قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم أي: قال لـزيد : أنت زيد بن حارثة بن شراحيل) فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، وسمى زيداً باسمه الحقيقي، فكان عليه الصلاة والسلام -وهو في كل أمر كذلك- أول من امتثل أمر الله في هذه الآية خاصة، قال الله جل وعلا: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ [الأحزاب:4]؛ لأن ما بعدها: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ [الأحزاب:5] وسيأتي هذا.

وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ [الأحزاب:4] فلا يمكن أن يجتمع العارض مع الأصل، ولا يمكن أن يكون الابن ابناً لاثنين، فهو ابن لرجل واحد، وهذا كان مترسماً في الجاهلية، فـالخطاب أبو عمر بن الخطاب تبنى عامراً بن ربيعة ، وحذيفة تبنى سالماً ، ووقع هذا في كثير من البيوت القرشية وغير القرشية، ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيد بن حارثة ، لكن التبني في الغالب يكون ردة فعل لإحسان يقوم به الابن، فلا يعقل أن أحداً يأتي لأحدٍ من الناس فيتبناه، لا بد من شيء وجده في هذا الابن، إما فلاح ظاهر فيتبناه ليستفيد منه، وإما محبة قلبية أو جميل صنعه له فيريد أن يكافئه عليه.

وزيد هذا رضي الله عنه وأرضاه اشتراه حكيم بن حزام ، ومر معنا أن حكيماً بن حزام هذا ابن أخ خديجة بنت خويلد ، وكانت خديجة قد أوصته أن يشتري لها غلاماً ظريفاً، فاشترى زيداً بن حارثة فكان مملوكاً، وكان في طيء وهم أخواله، فأهدته خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما عرف أبوه وعمه أنه في يد محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، والقصة شهيرة، جاءوا إلى مكة فاختار زيد النبي عليه الصلاة والسلام عليهم، ولم يكن يوم ذاك عليه الصلاة والسلام قد بعث ولا نبئ.

فلما رأى النبي عليه الصلاة والسلام أن هذا الفتى يختاره على أبيه وعمه وإخوانه أكبره، فقام خطيباً في الناس وقال: أشهدكم أن زيداً ابني يرثني وأرثه؛ حتى تقر أعين من كان معه من عصبته وأبيه وأعمامه وإخوانه.

فأصبح من ذلك اليوم لا يعرف إلا بـزيد بن محمد ، وقد عوضه الله عن هذا الشرف الذي نزع منه بأن ذكر اسمه في القرآن كما سيأتي في نفس السورة، فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا [الأحزاب:37]، وهذا حررناه مراراً وتكراراً في دروسنا، لكن نعيده؛ لأن المقام يقتضيه.

قال الله تعالى: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ [الأحزاب:4]، وقبل أن نتجاوزها فقد جاء التغليظ الشديد في أن ينتسب الإنسان لغير أبيه؛ حتى جاء فيه التكفير، وإن كان ظاهر الأمر أنه كفر لا يخرج من الملة، مما يقال فيه هنا كفر، لكن أحياناً -وهذا استطراد تاريخي- أحياناً تأتي خطوب على أحد من الناس فيغير؛ فهذا عمران بن حطان الخارجي خرج يبحث عن نفسه، يعني: يبحث عن موطن ومأوى في القرى والبوادي، فكان من ذكائه وفطنته أنه كلما دخل بيتاً، أو نزل على وادٍ أو نزل على قوم، أو عشيرة ينتسب لهم انتساباً من كثرة معرفته بأخبار الناس وأنسابهم لا يعادونه ولا يعرفونه، وهذا يحتاج إلى ثقافة كبيرة جداً، فنزل ذات يومٍ على روح بن زنباع ، وكان روح بن زنباع يمنياً، والعرب تنقسم إلى: قحطانيين يمنيين، وعدنانيين من شمال الجزيرة.

وكان روح بن زنباع يجلس عند عبد الملك بن مروان ، وكان عمران يجلس معه، فانتسب له أنه من اليمن، فكان عبد الملك يأتي بأخبار وآثار فيقولها لـعمران ، وهو لا يدري أنه عمران ، فـعمران ما أن يبدأ روح بالخبر إلا ويزيده، ويأتيه بأصله، ويفصله له فيتعجب، فيعود إلى عبد الملك ويخبره، فيتعجب عبد الملك ، وعبد الملك ليس قليلاً في ثقافته، فيقول له: إن اللغة عدنانية، يعني: أن الذي يخاطبك عدناني وليس يمنياً، ثم إنهم ذات يومٍ في مجلس عبد الملك تحاوروا حول بيت يقول:

يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضواناً

إني لأذكره يوماً فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزاناً

وهي لـعمران ، لكن جلساء عبد الملك لم يعرفوا من القائل، فقال عبد الملك لـروح بن زنباع : سل جليسك عن هذه الأبيات؟ فسأله فقال: هي لـعمران بن حطان يهجو علياً بن أبي طالب ، ويمدح قاتله، فذهب وأخبره الخبر، فلما أخبره الخبر قال له: هو عمران بن حطان ، فاطلبه إليّ، فلما عاد إليه قال له: إن أمير المؤمنين يريد أن يراك، فتظاهر بالموافقة وقال: وأنا كذلك أريد أن أراه، لكني كنت أستحي أن أطلب منك هذا الطلب، فاذهب وأنا وراءك، فذهب روح إلى عبد الملك ، فلما وصل إليه وأخبره الخبر، قال له عبد الملك وكان فطناً: والله! لن يأتي، وستعود ولن تجده، فعاد ولم يجده، ووجد رقعة فيها أبيات لا يتسع وقت البرنامج لإلقائها، لكن لعلنا في اللقاء القادم نبدأ بالقصة، ونذكر الأبيات.

هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

طلق المحيا 07-05-17 04:28 AM

تابع تفسير قوله تعالى: (وما جعل أدعيائكم أبنائكم... وهو يهدي السبيل)

ذكر قصة حدثت بين عبد الملك بن مروان وابن حطان

الحمد لله، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، والصلاة والسلام على خير من بعث الله، سيدنا ونبينا محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن والاه.

وبعد:

أيها المباركون! كنا قد انتهينا في اللقاء الماضي إلى قول الله جل وعلا في سورة الأحزاب: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب:4]، وقلنا: إن هذا تمهيد لما سيكون بعده، والمعنى الذي نفهمه من الآية وقد حررناه تفصيلاً ونعيده إجمالاً: أنه لا يمكن أن يجتمع كفر ونفاق في قلب أحد، ثم رتب الله على ذلك هدم بعض المعتقدات والأعراف الجاهلية التي كانت موجودة ذائعة شائعة عندهم ومنها: الظهار، فأخبر الله جل وعلا أن هذا قول باطل، فقال سبحانه: وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ [الأحزاب:4]، ثم عرج جل وعلا على مسألة التبني، فأبطلها بقوله: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ [الأحزاب:4].

وانتهينا إلى أنه وردت أحاديث في حرمة أن ينتسب الإنسان إلى غير أبيه، ثم ذكرنا أبياتاً توقفنا عندها، ولامنا اللوام ممن شاهد الحلقة الماضية أننا لم نقل الأبيات.

ذكرنا أن الإنسان أحياناً قد يضطر إلى أن يقول أشياء لا تعني التبني، لا يقول: أنا فلان ابن فلان فيدعي لغير أبيه، فهذا لا يجوز، بل سماه النبي صلى الله عليه وسلم كفراً، وإن كنا قد حررنا أنه كفر دون كفر لا يخرج من الملة، لكنه يستطيع أن يواري إذا كان يملك ثقافة، فـعمران بن حطان خارجي ممن خرج على علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وكان ممن يرى استباحة قتله؛ لأنهم يرون أن علياً كفر لأنه قبل التحكيم، وهؤلاء ليسوا أفقه من عمر أو علي ، لكن الهوى يغلب أحياناً.

المقصود: أنه كان ينزل في بوادي العرب، وكلما نزل عند قوم أظهر لهم أنه قريب منهم بحسب أحوالهم، وكانت العرب جذميين رئيسيين، يمنيون وعدنانيون، معد بن عدنان وقحطان بن يعرب ، الشاهد من ذلك: أنه نزل عند روح بن زنباع ، وكان روح هذا جليساً لـعبد الملك بن مروان ، فانتسب له عمران على أنه يمني، لكن الأخبار التي كان يقولها كانت بلغته العدنانية، فكان عبد الملك يتعجب ويقول: إن اللغة عدنانية، ثم في ذات يوم تحاور الناس في مجلس عبد الملك حول أبيات تنسب لـعمران بن حطان دون أن يعرفها من كان مع عبد الملك وهي قول عمران :

وضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضواناً

إني لأذكره يوماً فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزاناً

فهو يرى أن قتل علي من أعظم القربات، فلما عجزوا على أن يعرفوا القائل، قال عبد الملك بن مروان لـروح بن زنباع : اسأل عنها جارك -الذي هو في نظره يمني- وعمران بن حطان عدناني، فلما رجع إليه قال له: إننا جلسنا في مجلس أمير المؤمنين ووقع كذا وكذا، ولم نعرف لمن هذه الأبيات، فقال عمران : هي لـعمران بن حطان يمدح عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي بن أبي طالب ، فذهب روح فبلغ الرسالة لـعبد الملك ، وهنا تبين لـعبد الملك أنه عمران فقال: اذهب إليه فإنه عمران بن حطان وقل له: إن أمير المؤمنين يرغب في رؤياك، وكان عمران فاراً من أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان ، قال لـروح : إنني كنت أريد أن أطلب منك هذا الأمر، لكنني استحييت فاذهب وأنا في أثرك، فذهب روح وسبق عمران إلى أمير المؤمنين، فقال له عبد الملك : إنه لن يأتي وستعود ولن تجده، فلم يأت فرجع روح ولم يجد عمران بن حطان ، ووجد رقعة فيها قوله:

يا روح كم من أخ مثوى نزلت به قد ظن ظنك من لخم وغسان

حتى إذا خفته فارقت منزله من بعد ما قيل عمران بن حطان

حتى أردت بي العظمى فأدركني ما أدرك الناس من خوف ابن مروان

فاعذر أخاك ابن زنباع فإن له في النائبات خطوب ذات ألوان

يوماً يمان إذا لاقيت ذا يمن وإن لقيت معدياً فعدناني

لو كنت مستغفراً يوماً لطاغية كنت المقدم في سر وإعلان

لكن أبت لي آيات مطهرة عند التلاوة في طه وعمران

سأكتفي بهذا عن قضية عمران بن حطان ، لكن هناك قضية مهمة تناسب روح العصر، وقد وقع هذا حتى لبعض المفسرين المعاصرين، ولا أريد أن أسمي أحداً، أحياناً الناس إذا جاءوا ينتقدون فإنه يجب عليهم أن ينتقدوا بآلة شرعية، فهدم الباطل يكون بالحق ولا يكون بالباطل، عمران هنا يقول:

لو كنت مستغفراً يوماً لطاغية كنت المقدم في سر وإعلان

يقول: إن هؤلاء الحكام عبد الملك بن مروان وأمثاله طغاة، فأنا لو كنت أجاملهم في القول وأداهنهم فيما يفعلون: كنت المقدم في سر وإعلان، لكن الذي منعني من أن أستغفر لهم -بمعنى: أن أمدحهم بما ليس فيهم، وأن أتقرب إليهم- أنهم طغاة إلى غير ذلك، لكن كما قال:

لكن أبت لي آيات مطهرة عند التلاوة في طه وعمران

يقصد: أن آيات القرآن تمنعه من مداهنة هؤلاء الطغاة، ونسي أن آيات القرآن تمنعه من الخروج على الحكام، لكن الذي يمشي في خطى العلم يمشي متجرداً، فيجعل القرآن والسنة مهيمنة عليه، حاكمة له في سائر أمره، لا ينتقي منها ما يناسبه ويقوله، ويأتي إلى ما لا يناسبه فيخفيه، وطبعاً هو لا يستطيع أن يرده؛ لأن رده كفر، لكن هو لا يرده وإنما يسكت عنه، والسكوت هنا شاء أم أبى نوع من الردة، ليس الردة عن الإسلام بل الردة له، بمعنى: أن الإنسان العاقل يجعل القرآن حاكماً مهيمناً عليه، ولهذا فهذه الأبيات التي يقرأها إنسان حدث في العلم؛ لأنه قد يشيب الإنسان وهو على الفسق، ثم يمن الله عليه بالالتزام والإيمان، فيبقى حدثاً في العلم صغيراً، ولو كان فوق الأربعين، فيقول:

لو كنت مستغفراً يوماً لطاغية كنت المقدم في سر وإعلان

لكن أبت لي آيات مطهرة حين التلاوة في طه وعمران

هذه الأبيات تغري قائلها، لكن الإنسان إذا فقه أن قائل هذه الأبيات يقول نثراً: إن قتل علي بن أبي طالب لم يبق لـعبد الرحمن بن ملجم من ذنب، فقد خلص من ذنوبه لقتله علياً ، وهذا ليس رداً لقول النبي صلى الله عليه وسلم، بل رد للدين كله؛ لأن الله جل وعلا ترضى على علي وإخوانه من الصحابة، قال الله: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، والله يقول في الآية هذه: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح:18]، ولو لم يقل الله: إنه يعلم ما في قلوبهم لعرف أنه يعلم ما في قلوبهم، لكن الله قال: (فعلم ما في قلوبهم)، وعلي بالإجماع ممن بايع تحت الشجرة، وشهد بدراً، ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (علي في الجنة)، فهل يكون قتل رجل مشهود له بالجنة حاتاً الذنوب! هذا لا يمكن أن يقبل ولا يعقل، لكن النظر الجزئي وتغليب الهوى هو الذي أضر بالكثير من المسلمين عبر التاريخ الإسلامي الممتد قديماً وحديثاً.

أرجو أن يكون في هذا نفع وإن كنت خرجت عن مضمون الآية.

قال تعالى: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ [الأحزاب:4]، ثم قال الله: ذَلِكُمْ [الأحزاب:4]، هنا يعود اسم الإشارة على الثلاث وهو قول الجمهور؛ على مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ، والأزواج، والأدعياء، ولا نقول بهذا؛ لأن الأول عندنا لم يقل به أحد، وإنما أراد الله أن يجعله توطئة، لكن مقصود الله: ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ [الأحزاب:4]، يعود على من ظاهر، وعلى من تبنى، ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ ، والتعبير بالأفواه فيه كناية على أنه لا يلامس الواقع ولا يطابق الحق، ولا يمكن أن يبنى عليه حكم شرعي، قال الله بعدها: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب:4]، هذه إعادة لنفس الأسلوب، الأسلوب الأول: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ تمهيد لما بعده، ثم يوطن الله القلوب لتسمع كلامه فيقول: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ، والآن عندما هدم الله الأعراف القرشية، لابد أن يأتي بالبديل، أما أن تهدم بيتي ثم تقول: لا تسكن هنا، فسيكون السؤال: أين أسكن؟ فالله جل وعلا هدم الأعراف ثم مهد بقوله: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ، وهنا تشرئب أعناق المؤمنين، ما الحق يا ربنا في هذه القضية؟! ما السبيل الواضح في هذه القضية؟ جاءت الآية محكمة بعده: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب:5]، وقد نبهنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية -كما في الصحيحين- قال: (أنت زيد بن حارثة بن شراحيل)، فسماه ونسبه إلى أبيه، قال: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ [الأحزاب:5]، وهذا قد يقع؛ فنادوهم بأخوة الدين: فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ [الأحزاب:5]، والأخوة في الدين أعظم من أخوة النسب.

طلق المحيا 09-05-17 02:36 AM

تفسير قوله تعالى: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به... وكان الله غفوراً رحيماً)

ثم قال الله: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الأحزاب:5]، جعلها بعض أهل العلم عائدة إلى نفس القضية فوقعوا في إشكال لا يمكن الخروج منه؛ لأن الخطأ لا يسمى خطأ إلا إذا كان ورد نهي فيه، ومن قبل لم يكن هناك نهي، فلا يستقيم تخريجهم، ولذلك لم يستطيعوا أن يخرجوا من هذا الأمر الذي أوقعوا أنفسهم فيه، والصواب أن يقال: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ هذا تقرير عام، يخبر الله جل وعلا أن الإنسان إذا أخطأ أو جهل أو نسي: كمن نادى أحداً ونسبه إلى غير أبيه من غير قصد فلا إثم عليه، وليس عليه جناح بتعبير القرآن، لكن إذا تعمد فهذا الذي قال الله فيه: وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ، وهذان الوصفان ينطبقان على كل الأحكام الشرعية: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:5] وهذا تمهيد؛ لأنها سياقات تدل على أن الله جل وعلا يأتي أحياناً بالتغليظ، ثم يأتي بهذا الوصف لذاته العلية، حتى يكون هناك فتح لباب التوبة لمن يقرع ويزجر بالقرآن.

بقيت مسألة صرفية قبل أن أنهي اللقاء: وهي قول الله جل وعلا: ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ [الأحزاب:4]، فأفواه: جمع بالرفع لفوه، مثل سوق وأسواق، وهي لغة البصريين، ومفردها: فم، يقول أصحاب الصناعة الصرفية -وأنا أقولها لكم غير مقتنع بها، فالصرفيون بالاستقراء من أشد خلق الله من العلماء تكلفاً عفا الله عنا وعنهم- يقولون: إن كلمة فم أصلها: فوه، يقولون: إن الهاء حذفت لخفائها، يعني: أنها لا تظهر في الخطاب بقوة، جاءت في الأخير فحذفت، فبقيت الفاء والواو، فقالوا: إن الواو حذفها العرب لاعتلالها، فبقينا في الفاء لوحدها، قالوا: فعوضوا عن الهاء المحذوفة لخفائها والواو المحذوفة لاعتلالها عوضت عنها العرب بالميم لقربها من مخرج الفاء، وهي حروف شفهية تخرج من الشفه، هم يقولون: إن هذا أصل، ومعنى كلامهم هذا -وهو الذي جعلنا ننقضه- أن هذا الطور حدث واضح، يعني: أنها في لغة العرب حدثت هكذا، فبدءوا يتكلمون (فوه) ثم حذفوا الهاء فقالوا: (فو) ثم حذفوا الواو، فمروا بأطوار، واللغة تنمو ولها أطوار نوافقهم في هذا، لكن هذا التكلف يحتاج إلى إثبات ولا سبيل إلى إثباته، وقد قامت مدارس وخاصة مما يتعلق بمذهب الظاهرية في الأندلس على النحو جملة وعلى الصرف عامة تنفي أن يكون هذه الأطوار قد مرت بها لغة العرب، وليس هذا مقام تفصيل لكنه كلام أكاديمي محض، لكنني أتكلم بالمقدار الذي يتناسب مع ما نحن فيه من قول الله جل وعلا: ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب:4-5]، أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أي: هو العدل الذي يجب أن تمضوا عليه وتسيروا إليه.

وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ [الأحزاب:5] وجناح: كلمة تعبر في القرآن عن رفع الإثم: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:5].

طلق المحيا 09-05-17 02:37 AM

تفسير قوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم... كان ذلك في الكتاب مسطوراً)

ثم قال الله: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا [الأحزاب:6]، نأخذ صدر الآية بما يتناسب مع الوقت، يقول أهل التفسير: إن زيداً أصابته وحشة، فأنزل الله: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وهذا ممكن أن ندرج قضية زيد فيه، لكن لا أظنه سبباً في النزول، فـزيد عوض بأن ذكر اسمه صريحاً، لكن الآية في مجملها واضح معناها: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، السؤال الذي يفرض هنا: لماذا النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟

لأن نفسك قد تجرك إلى الهلاك وتدعوك إلى ما فيه هلاكك، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن له أن يسوقك إلى ما فيه هلاكك، ولأجل هذا قال الله جل وعلا: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، كما أن الآية من غير هذا السياق الإيماني يؤخذ منها سياق فقهي، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على من مات وعليه دين، ويقول: (صلوا على صاحبكم)، وهذا في أول أيام المجتمع المدني، فلما فتح الله جل وعلا على نبيه بعض الغنائم، كان صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا أولى بالميت المسلم، من كان عليه دين فعلي قضاؤه)، فتصبح الآية يفهم منها ضمناً: أنها نسخت حكماً فقهياً كان موجوداً في أول الإسلام وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام كان لا يصلي على من مات وعليه دين، ثم بعد ذلك في قول الله جل وعلا: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ دينياً ودنيوياً، فدنيوياً يمثله: قضاء ديونهم، ودينياً يمثله: النصح والإرشاد الذي قدمه النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ رسالة ربه لأمته قال: (وأنا آخذ بحجزكم عن النار)، فإنه صلى الله عليه وسلم أولى بنا من أنفسنا، ومن كان أولى بنا من أنفسنا لا يقدم على حقه حق إلا حق الله تبارك وتعالى، ولا تعارض بين حق الله وحق رسوله صلى الله عليه وسلم، وبالجملة: فحق النبي صلى الله عليه وسلم مندرج في حق الله.

قال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، ثم قال الله: وَأَزْوَاجُهُ أي: أمهات المؤمنين: أُمَّهَاتُهُمْ ، هذه الآية قد تحتاج إلى تفصيل أكثر، لكن نقول من حيث الإجمال: إن أمهات المؤمنين أمهات لنا في مسألة أننا نحترمهن ونجلهن، وأنه لا يجوز لأحد أن يتزوج إحدى أمهات المؤمنين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، لكنها في الإرث وفي الحرمة وفي الخلوة كالأجنبيات تماماً، بل إن حقهن أعظم لمقام النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الفقهاء اختلفوا فيمن كانت زوجة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل بها، كالمستعيذة التي قالت: أعوذ بالله منك، فطلقها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لم يدخل بها، فهي زوجته باعتبار أنه عقد عليها ولم يدخل بها، ثم بعد ذلك في أيام عمر تزوجها رجل يقال له الأشعث بن قيس ، فهم عمر -فيما يقولون ويروون- أن يرجمها، فقالت: ولم؟ -تستنكر- فأنا لم يضرب علي حجاب، ولم أسم للمؤمنين أماً، يعني: لم يقل لي: أم المؤمنين، فيقولون -أي: الرواة- إن عمر تركها، وهذا فيما يبدو فقهياً أليق، ولكن الإشكال عند البعض الآخرين: أن قول الله جل وعلا: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ يدخل فيه حتى من طلقها؛ باعتبار العقد، فقد أصبحت زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم والعلم عند الله.

هذا تحرير المسألة ابتداء، وسنكمل إن شاء الله تعالى في اللقاء القادم ما يمكن أن نتأمله في هذه الآيات المباركات.

هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله.

طلق المحيا 10-05-17 05:40 AM

تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم... وأعد للكافرين عذاباً أليماً)


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذه أولى الحلقات التي نسجلها في شهر شوال بعد قضاء شهر رمضان بحمد من الله وفضل، وكنا قد تحدثنا في اللقاءات التي سلفت عن سورة الأحزاب، وانتهينا إلى قول ربنا تبارك وتعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا [الأحزاب:7-8].

الله جل وعلا في هذه الآية عد خمسة من الرسل، رغم أننا نعلم أن الأنبياء والمرسلين جمع غفير، لكن العلماء فهموا من هذه الآية والآية الأخرى التي في سورة الشورى أن هؤلاء الخمسة من الأنبياء الذين نص الله على ذكرهم دون غيرهم جعلوها قرينة على أنهم أولوا العزم من الرسل، فجمهور أهل العلم على أن أولي العزم من الرسل خمسة: نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم حسب ظهورهم الزمني: نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى بن مريم، ثم نبينا صلى الله عليه وسلم.

أما ترتيبهم في القرآن فقد جاء على النحو التالي:

قال الله جل وعلا في السورة التي بين أيدينا: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ -هذا إجمال- ومِنْكَ [الأحزاب:7]، فبدأ بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم عددهم فقال: وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى [الأحزاب:7]، حسب ترتيبهم الزمني.

لكنه في آية سورة الشورى قال جل جلاله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الشورى:13]، فبدأ بنوح، فلماذا قدم نوحاً في آية الشورى، وقدم محمداً صلى الله عليه وسلم في آية الأحزاب؟ والعلم أن يوجد إشكال ثم نحاول أن نجيب عن هذا الإشكال، فنقول: قدم نوحاً في آية الشورى؛ لأن الحديث كان عن العقيدة والدين، والعقيدة والدين من حيث الجملة أولى من الأشخاص، فقدم أول من بعث بالدين وأرسل به وهو نوح عليه الصلاة والسلام، والمعتقد والدين باقيان بخلاف من يحمل الدين من الأنبياء والمرسلين والصالحين فإنهم غير باقين؛ ولهذا قال الله: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144].

أما آية الأحزاب التي نحن بصدد الحديث عنها فليس فيها حديث عن المعتقد والدين، وإنما فيها ما أخذ الله من ميثاق على النبيين، فبدأ الله جل وعلا بنبينا صلى الله عليه وسلم فقال: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب:7].

كذلك اختلف العلماء في ماهية الميثاق: فبعض أهل الفضل من العلماء يحصره في آية آل عمران، في قول الله تبارك وتعالى لما ذكر أنه أخذ على الأنبياء والمرسلين: لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمران:81]، ونحن نعتقد أن هذا الحصر غير صواب؛ لأنه أخرج منه النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يخاطب بنصرة نفسه، لكن المقصود بالميثاق فيما نحسب وعليه أكثر أهل العلم: كل الدين، وجميع ما بعث الله جل وعلا به أنبيائه ورسله من صحة المعتقد وكمال الشرائع، قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [الأحزاب:7]، ووصف الله جل وعلا هذا الميثاق بأنه غليظ؛ لأنه محتوٍ على أعظم ما يتعبد الله جل وعلا به وهو توحيده تبارك وتعالى.

ثم قال الله: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ [الأحزاب:8]، واللام هنا عند النحاة: لام كي؛ أي: لكي يسأل جل وعلا الصادقين عن صدقهم، والصدق مع الله جل وعلا أعظم طرائق القربى منه، قال الله جل وعلا في سورة التوبة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، وقال الله جل وعلا في خاتمة سورة المائدة: قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة:119]، والصدق مع الله جل وعلا أعظم وسائل القربى منه تبارك وتعالى، ليسأل الصادقين عن صدقهم، ولما كان أهل الكفر ليس لهم مع ربهم إلا التكذيب فليس لهم عنده إلا العذاب الأليم، قال الله جل وعلا: وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا [الأحزاب:8]، هذا كله يخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم، ويبين له المواثيق التي أخذها الله جل وعلا عليه.

طلق المحيا 11-05-17 03:09 AM

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم... وتظنون بالله الظنونا)


ثم انتقلت الآيات إلى الحديث عن معركة الأحزاب، وكنا قد بينا في أول دروسنا حول سورة الأحزاب إجمالاً وتاريخياً هذه الغزوة، والآن نذكر التفاصيل:

قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [الأحزاب:9]، مهما بلغ تدبرنا للقرآن ويقيننا به وإيماننا به فلن يبلغ مرحلة ما كان عليه الصحابة من استشعار تلك النعمة؛ لأنهم خاضوها عياناً، ورأوا هول الأمر وشدته وكربته وعظيم الخطب، فعندما ينزل القرآن بعد أن كفى الله المؤمنين القتال، وأجلي الكفار إلى ديارهم، قال الله: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا [الأحزاب:25] كما سيأتي، يجد المؤمنون الفرحة والغبطة والنعمة، فعندما تأتي الآية تقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا -وهذا نداء كرامة- اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [الأحزاب:9]، يكون تذكيرهم بنعمة الله واقعاً في محله؛ لأنهم عاشوا هذا الكرب، وعاشوا كيف أجلاه الله تبارك وتعالى عنهم.

قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ [الأحزاب:9]، هذه ظرفية لا تحدد بزمن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ [الأحزاب:9]، وهم الأحزاب، قريش ومن وافقها في حرب النبي صلى الله عليه وسلم من الأحابيش ومن غطفان ومن بعض أهل نجد وغيرهم من قبائل العرب مع تآمر اليهود، كل أولئك أرادوا محاربة النبي صلى الله عليه وسلم واستئصال الإسلام في المدينة، فقال الله عز وجل للصالحين من عباده، والصحابة في المقام الأول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا [الأحزاب:9]، والجنود الثانية -أيها المبارك- غير الجنود الأولى، فالجنود الأولى: جنود الأحزاب، أما الجنود التي لم تر فهي منصرفة إلى الملائكة في أكثر أقوال أهل العلم، قال الله تبارك وتعالى: إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا [الأحزاب:9].

وقد ذهب مجاهد وهو أحد المفسرين: إلى أن الريح هنا: ريح الصبا، ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور)، ومن حيث الصناعة اللغوية -أيها المبارك- فالصبا ريح تقابلها الدبور، لكن الصبا بالكسر مرحلة من مراحل وأطوار العمر، أما الصبا فهي ريح نصر بها النبي صلى الله عليه وسلم.

وأنت لو تصورت الحال آنذاك لوجدت أن الخندق هو الذي كان يفصل بين النبي صلى الله عليه وسلم والأحزاب، ومع ذلك فهذه الريح التي هي الصبا من كونها معجزة له صلى الله عليه وسلم كانت تضر خصومه ولا تضر أصحابه، رغم أنه وأصحابه قريبون منها عليه الصلاة والسلام، فليس بينهم وبين قريش ومن معها إلا عرض الخندق، ومع ذلك كانت تلك الريح فيها من الإفساد لأهل الإشراك وليس فيها من الضرر لأهل الإيمان، فإن قلبت الطرف أو الفكر في سبب هذا فتذكر قول الله جل وعلا: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ [الكهف:17]، فالله جل وعلا على كل شيء قدير.

فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [الأحزاب:9] قلنا: أجلاء أهل التفسير على أنهم: الملائكة، وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا [الأحزاب:9]، ثم قال الله: إِذْ جَاءُوكُمْ [الأحزاب:10]، (إن) هذه بدل من إذ الأولى، أو تخصيص لها، إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ -أي من فوق الوادي- وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الأحزاب:10] أي: من أسفل الوادي، نجد المدينة من جهة الشرق، ومكة ومن حولها بالنسبة للمدينة يأتونها من الجنوب، لكن يأتونها من جهة الغرب، ففريق الهجرة الآن يتجه غرباً، والذي يعنينا أن قريشاً والأحادبيش ومن معهم كان لهم طريق يأتون منه إلى المدينة، ونجد وعيينة بن حصن وغطفان وغيرهما كان لهم طريق آخر، فاجتمعوا جميعاً في الشمال الغربي للمدينة، لكن قبل ذلك كانت قريش أقرب إلى غرب الوادي، وعيينة بن حصن ومن معه كانوا إلى شمال شرق الوادي أقرب، فلهذا قال الله: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الأحزاب:10]، وهذا كله حول جبل سلع إن كنت قد قدمت المدينة، فالخندق مكانه إلى الشمال الغربي من جبل سلع، والمدينة غنية بالجبال، فجبل سلع لم يرد فيه أثر يحمد فيه أو يذم.

وأما أحد فجبل ورد المدح فيه، قال صلى الله عليه وسلم: (أحد جبل يحبنا ونحبه)وارتقاه صلى الله عليه وسلم، وجبل عير في جنوب المدينة، حد له واشتهر بين العامة أنه جبل من جبال النار، لكن لم يثبت في هذا حديث، والذي يحفظ المدينة بحفظ الله من الشرق والغرب الحرتان المعروفة: باللابتين، وقد ورد معكم في الحديث: (والله ما بين لابتيها) أي: حرتيها، الشرقية والغربية.

والحرة الشرقية إذا استقبلتها وجعلت الغرب وراءك تستقبل طلوع الشمس، هنا أستطرد قليلاً، موقعة الحرة التي وقعت في زمن يزيد بن معاوية كانت المدينة محصنة، وكان سكان آل المدينة آنذاك تحصنوا حتى لا يقتحم جيش مسلم المري عليهم، فبقيت ثغرة جهة الشرق، فجاء رجل مسلط غير موفق فسلط جيش يزيد جيش مسلم بن عقبة المري على هذه الثغرة من جهة الشرق، وقال له: ائت أهل المدينة مع طلوع الشمس، فإذا بالجيش جاء أهل المدينة من جهة الشرق، فسيصبح على أهل المدينة حتى يواجهوه أن يستقبلوا الشمس، فإذا استقبلوا الشمس حال طلوعها أثرت في أعينهم، فلا يستطيعون أن يروا العدو، وإنما يرون الرماح والسيوف تتلألأ في أيديهم، فيزدادون رعباً وخوفاً؛ لأن الشمس تظهر السيف أشد مما هو فيه، وتظهر الرمح أشد حداً مما هو عليه، وفي نفس الوقت لا يبصرون العدو ولا يميزونه؛ لأن الشمس في أعينهم، كحالك الآن لو جلست في مكاني ونظرت في هذا المصباح، ولو تأملت النظر فيه وأدمنت النظر فيه لتعطلت منافعك بعينيك، فكذلك أهل المدينة في موقعة الحرة كانوا يستقبلون الشمس، في حين أن خصومهم كانت الشمس وراء ظهرهم لا تبغيهم؛ لأنهم ما داموا قد أتوا من جهة المشرق فسيستقبلون المغرب، ومعلوم أنه تكون في المغرب شمس؛ لأنها خلف أظهرهم، هذا المقصود من المكر والخديعة في الحروب.

أما هنا في موقعة الأحزاب فلم يكن للقرشيين ولا من معهم أن يأتوا من جهة اللابتين، فقد كانت محصنة، فما بقيت إلا ثغرة في جهة الشمال الغربي وهي التي حفر النبي صلى الله عليه وسلم فيها الخندق، قال الله تعالى: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب:10]، فالله جل وعلا هنا يصور هول الأمر، في أن الأبصار أصبحت لا ترى إلا العدو، فقد مالت عن كل شيء إلا عدوها، ومعلوم أن القلب لا يمكن أن يتحرك من مكانه ويصل إلى الحلق، فطبياً هو مكانه جسدياً، لكنها كناية عن شدة الهلع والخوف.

ثم قال الله جل وعلا: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب:10]، ويتساءل المرء ما هي الظنون التي ظنت؟ الناس -يا بني- حسب إيمانهم يكون ظنهم، فأهل النفاق وضعفاء الإيمان كان ظنهم بالله ظن السوء، وأما أهل الإيمان والتقوى فكان ظنهم بالله ظناً حسناً، لكن لا يمنع أن يأتي إنسان من أهل الإيمان فيخاف على نفسه من معصية كانت فيه أن يخذله الله بتلك المعصية؛ لأن الله لا ملزم عليه، يعني: لا يمانع أن يكون هناك مؤمن ويخشى من معصية أن يخذله الله جل وعلا ويحاسبه بتلك المعصية، هذا ظن زيادة على ظن أهل النفاق بالسوء وظن أهل الإيمان القوي بالتقوى، بنصرة الله لهم، وقد يأتي ظن الرابع: وهو أن المؤمنين الذين على يقين وإيمان ربما ظنوا أن الله جل وعلا أجل نصرهم، وابتلاهم بأن يقتلوا، وليس هذا ببعيد، فإنه ليس لزاماً أن ينصر نفس الجيل، فهذه كلها ظنون مجتمعة، أحياناً بحسب التقسيم العام، وأحياناً بحسب تقسيم الأفراد، فكلها كانت موجودة حال غزوة الأحزاب وتآمرهم على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

طلق المحيا 13-05-17 12:10 AM

تفسير قوله تعالى: (هنالك ابتلي المؤمنون... ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً)

قال الله جل وعلا بعد ذلك: هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب:11]، وحسبك بزلزال يقول عنه رب العالمين أنه ابتلاء وأنه زلزال شديد، حتى تعلم أن الأصحاب رضي الله عنهم وأرضاهم وجدوا عظيم المشقة في تبليغ دين الله، وصبروا على ما لم يصبر عليه إلا ما لا يصبر عليه إلا أمثالهم من أقوياء الإيمان، وأنهم نقلوا الدين بعد أن فدوا الإيمان بالمهج وبالمال، ونصروا الله جل وعلا ورسوله صلى الله عليه وسلم أيما نصر.

ثم قال الله جل وعلا يبين أحوال الناس في تلك الحالة التي أحاطت بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12]، الواو في قوله جل وعلا: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا [الأحزاب:12]، واو عطف، ومن قواعد اللغة: أن العطف يقتضي المغايرة، بمعنى: أن المعطوف غير المعطوف عليه، فعندما نقول: العطف يقتضي المغايرة بمعنى أن الأصل أن المعطوف غير المعطوف عليه.

الله يقول: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الأحزاب:12]، السؤال هنا: هل المغايرة هنا في الذوات أم في الصفة؟

إذا قلنا: إن الواو هنا تقتضي المغايرة في الذوات يصبح معنا فريقان: منافقون وفي قلوبهم مرض، فالمنافقون هم من أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، ومن في قلوبهم مرض: هم من في قلوبهم شك وريب وحسد، وغيرها من أمراض القلوب، لكن لم يصلوا إلى مرحلة النفاق، لكنهم مهيئون لأن يصلوا إليه، هذا التغاير تغاير في في الذوات.

الحالة الثانية: أن يكون التغاير في الصفات، فيصبح الله جل وعلا يتكلم عن طائفة واحدة، في هذه الطائفة اجتمعت صفتان، صفة النفاق، وصفة مرض القلوب، فتصبح الواو واو عطف بالاتفاق، والعطف للمغايرة، لكن المقصود هنا: التغاير بالصفات لا التغاير في الذوات، وبكل قال العلماء، والآيات تحتمل الوجهين.

وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ -ماذا قولوا:- مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12]، يقال: إن الذي قال هذا رجل يقال له: أوس بن قيضي ، ومن العجب أن هذا الرجل أنجب ابناً حتى تعلم أن الله يقول: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الأنعام:95]، أنجب ابناً بعد ذلك اسمه عرابة ، وعرابة هذا بلغ شأواً بعيداً في المجد والكرم والفضل ونفع الناس، بخلاف أبيه، حتى قال فيه الشاعر:

رأيت عرابة الأوسي يسعى إلى الخيرات منقطع القرين

إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين

المقصود: أن هذا الرجل الذي قال: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12]، أنجب ابناً بلغ في المجد شأواً بعيداً، ومن هنا يعلم أنه أحياناً يجتهد الأب والوالد في تربية ابنه فيكون الابن بخلاف ما يريده أبوه، وقد يكون أب لا يعطي ابنه من الرعاية والعناية والتأديب شيئاً فيأتي الولد بخلاف ما ظن أبوه، فيصبح من المسابقين في الخيرات، المنافسين في الطاعات، وقد -وهو الغالب- يحرص الأب على تربية ابنه وتعهده ورعايته فيقر الله عيني الأب بصلاح الابن، وقد يقع أن أباً يهمل ابنه ولا يرعاه ولا يتعهده فيقع الابن ضائعاً؛ لأنه لم يجد أحداً يتعهده، وقد قيل:

وليس النبت ينبت في جنان كمثل النبت ينبت في ثلاث

وهل يرجى لأطفال كمال إذا ارتضعوا ثدي الناقصات

الآن النبت الذي في الشوارع، أو في الصحاري الذي لا يتعاهده أحد لا يمكن أن يكون كالنبت الذي يعنى به ويهذب ويشذب ويسقى حيناً بعد حين، هذا معنى قول الشاعر :

وليس النبت ينبت في جنان ( أي في حدائق) كمثل النبت ينبت في ثلاث

وهل يرجى لأطفال كمال إذا ارتضعوا ثدي الناقصات

نقول: نعم يرجى؛ لأن الله جل وعلا أخرج من ظهر آزر وهو من أكفر الكفرة إبراهيم، وأخرج من ظهر نوح وهو شيخ المرسلين ابنه كنعان وهو من أكفر الكافرين، لكن التوفيق بيد الله تبارك وتعالى، قال الله تعالى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12]، الغرور: إظهار المكروه بصورة الشيء المحبوب، والذي دفعهم إلى هذه المقولة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يداهم الكفار المدينة أخذ صخرة فكان صلى الله عليه وسلم بعد أن يضربها ثلاث ضربات يكبر، ويقول: (الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، وأعطيت مفاتيح أبواب صنعاء، وقصور الشام)، فأخبر بها صلى الله عليه وسلم كلها.

فهذا الوعد منه صلى الله عليه وسلم زرع التفاؤل في قلوب أصحابه، فلما داهمهم الأحزاب وضاق عليهم الأمر، ولم يستطع أحدهم أن يذهب ليقضي حاجته قال المنافقون والذين في قلوبهم مرض: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12].

طلق المحيا 13-05-17 12:11 AM

معجزة شاهدة على صدق نبينا صلى الله عليه وسلم تكتشف في عصرنا الحاضر


فإذا ذكرنا استطراداً قضية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر قصور صنعاء من مكاني هذا).

فإن مما أثبته العلم الحديث حالياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في كثير من الآثار بعث رجلاً إلى اليمن وقال له: (اذهب إلى أصل حديقة غمدان) وأخبره عن القبلة فقال صلى الله عليه وسلم: (فاستقبل بها جبل ضين) سمى له جبلاً، وضع كذا عن يسارك صخرة وصخرة كذا عن يمينك، فذهب الرجل -وهذا في زمن النبوة- ووصل إلى صنعاء وأتى إلى الحديقة التي في أصل جبل غمدان، وجاء إلى الجبل الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم واستقبله وأتى للصخرات من جهة يمينه وشماله وهو واقف يستقبل القبلة وحددها وبنى المسجد، فإلى الآن والأمر لا جديد فيه، في هذا العصر الحديث، في عصر الإعجاز العلمي ظهر ما يعرف بالأقمار الاصطناعية التي تصور، وظهرت شبكات الإنترنت، وظهرت المواقع التي تصور الحدود والأماكن، ومعلوم أن هذه الآلة ليس لها علاقة بالمعتقد، وإنما مبرمج فيها حسب الأقمار الصناعية، وحسب تحريك الأصابع، فلو حركها مؤمن أو حركها ملحد فالنتيجة واحدة؛ لأنه لا علاقة لها بالمعتقد، وجيء إلى هذا المسجد -وهذا صنعه الشيخ عبد المجيد الزنداني - وأخرج سهماً من قبلته ثم حسب البرمجة العالمية وفق خطوط الطول والعرض، ولم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أحد يعرف خطوط الطول والعرض، أخرج هذا السهم ليبرر علمياً أين ينتهي السهم؟ فخرج السهم مستقيماً من ذلك المسجد الذي بني في عهد النبوة حتى اخترق الجبل هذا الذي استقبله الصحابي بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني: مر من بينه حتى وصل إلى مكة، ثم مضى بالسهم والناس تنظر في حفل أقيم في الكويت، والسهم هذا تلقائي، ثم أتى المسجد الحرام فاخترقه، ثم أتى الكعبة وانتهى السهم إلى ما بين الركنين، ما بين الحجر الأسود والركن اليماني، وهذه معجزة نصر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم في هذا الزمان، ونحن نعلم يقيناً أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق، لكن بلا شك أن مثل هذا وظهوره في هذا الزمن يزيدنا إيماناً ويقيناً على الإيمان بنبينا صلى الله عليه وسلم، فنقول: كما قال الله كما سيأتي: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22]، فنحن لو كنا نتأمل حق اليقين فيما حولنا كل يوم ازددنا إيماناً، وكل ما حولنا يزيدنا قناعة وإيماناً، سواء كانت أحداثاً تجري، أو معالم ورواسي ثابتة أو قرآناً نتلوه، أو سنة نقرؤها، كل ذلك يدل على أن لا رب غير الله، ولا إله سواه، وأن نبينا صلى الله عليه وسلم صادق فيما يقول، مصدوق فيما يقال له صلوات الله وسلامه عليه، هؤلاء المنافقون الذين ذكرهم الله جل وعلا هنا وقعوا في أول ابتلاء وامتحان فارتدوا عن دينهم؛ لأن الإيمان أصلاً لم يدخل قلوبهم، قال الله جل وعلا: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12]، وقلنا: إن الذي دفعهم إلى هذا القول: أن النبي صلى الله عليه وسلم مناهم بفتح فارس أو الشام واليمن، ثم عجز أحدهم أن يذهب ليقضي حاجته؛ لأنهم كانوا ينظرون إلى أن المسألة مسألة وقتية، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لهم: إني في معركتي هذه، أو في أيامي هذه ستفتح لكم الشام وفارس وصنعاء، بل هو أمر تركه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحدده، ثم ما لبث الله جل وعلا أن أفاء عليهم في خلافة الصديق وخلافة الفاروق بأن دخلوا أكثر مدن فارس وأكثر مدن الروم، بل صارت اليمن كلها في حوزة المسلمين وفي خلافتهم، كما وعد الله ووعد رسوله صلى الله عليه وسلم.

هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله.

وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

الحب الباقي 16-05-17 10:50 AM


جزاك الله خير الجزاء
الله يـعـطـيـك الـعـافيـــــــــــة
بيض الله وجهك

ابن عباس اليوبي 24-05-17 06:02 PM


جزاك الله خير
على مجهودك الرائع والمميز
وجعلك من أهل جناته وبارك الله في جهودك
تحـــــــــــياتي وتقديري

طلق المحيا 26-05-17 01:57 AM

بارك الله فيكم

طلق المحيا 27-05-17 01:46 AM

يصف الله في هذه الآيات البينات حال المنافقين ومرضى النفوس حيال حصار المشركين لمدينة رسول الله يوم الأحزاب، وكيف أنهم لم يثقوا بنصر الله لرسوله، بل وصفوا وعد النبي لهم بالفتوحات والنصر بأنه غرور لا طائل تحته، ولهذا فضحهم الله وكشف زيف الإيمان في قلوبهم، وأظهر خوف أنفسهم، وما يبطنونه من الكفر والنفاق، وتوعدهم بعظيم عقابه، وأليم عذابه سبحانه.

طلق المحيا 27-05-17 01:47 AM

تفسير قوله تعالى:(وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب .... وكان عهد الله مسئولاً)

الحمد لله الذي به تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرض والسماوات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فكنا قد انتهينا في اللقاء الماضي إلى قول الله جل وعلا: وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا [الأحزاب:13].

الحديث ما زال موصولاً عن حال المنافقين والذين في قلوبهم مرض أيام غزوة الأحزاب، وقد مر معنا قولهم الذي حكاه الله عنهم: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12] ثم حكى الله قولاً آخر لهم: وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ [الأحزاب:13] و(منهم) عائدة على قوله: (وإذ قالت طائفة منهم) أي: من أهل النفاق والذين في قلوبهم مرض، (يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا) وقد بينا هذا إجمالاً في لقاء ماضٍ، و(يثرب) اسم للمدينة قبل الإسلام، وهو اسم ممنوع من الصرف على لغة النحويين لسببين: اتفقوا على السبب الأول وهو: العلمية، والسبب الثاني: متشعب، فمن الممكن أن تكون (يثرب) ممنوعة من الصرف للعلمية ووزن الفعل. وممكن أن تكون العلة: العلمية والتأنيث.

ومعنى ممنوع من الصرف، أي: لا ينون ولا يجر بالكسرة، لا ينون مع أن التنوين من خصائص الأسماء، قال ابن مالك :

بالجر والتنوين والنداء وأل ومسند للاسم تمييز حصل

فالمقصود هنا: أن يثرب هذه كان اسمها على اسم أحد العماليق في أشهر أقوال أهل التاريخ قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فالذين يريدون أن يتكلموا بخطاب دنيوي محض لا يقولون المدينة، بل يقولون: يثرب، ومنه قول جرير في قصيدته الشهيرة التي مطلعها:

أقل اللوم عاذل والعتابا وقولي إن أصبت لقد أصابا

قال يمدح شعره:

دخلن-يعني: قصائده- قصور يثرب معلمات ولم يتركن من صنعاء باباً

فلما أراد أن يتكلم عن حاجة دنيوية محضة قال: يثرب، ولم يقل: المدينة، وهنا هؤلاء المنافقون يريدون أن يعيدوها جاهلية كما كانت، فيردون قومهم إلى ما كانوا عليه من عدم نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الله عن بعضهم أنهم كانوا يقولون: وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ [الأحزاب:13] ولم يقل: يا أهل المدينة فهو لا يريد أن يوقظ الحس الإسلامي الذي في قلوبهم، أراد أن يعيدها جاهلية كما كانت إسلامية: (يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا).

الآن المسلمون مع النبي صلى الله عليه وسلم يحفرون الخندق ويرابطون، وهذه الطائفة تريد من أكثر الناس أن يعودوا، فقوله: (لا مقام لكم فارجعوا) تحتمل وجهين:

الأول: لا مقام لكم في دين الإسلام فارجعوا إلى الكفر، وهذا يصح لأنه من مقاصدهم، لكن الآية والجو العام لا يساعد عليه.

الثاني: لا مقام لكم في المرابطة مع النبي صلى الله عليه وسلم فارجعوا إلى يثرب، (لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم) قيل: إنهم بنو حارثة، وبنو حارثة هؤلاء سبق لهم أن خذلوا النبي صلى الله عليه وسلم في أحد، (ويستأذن فريق منهم النبي يقولون) أي: سبب استئذانهم (إن بيوتنا عورة) معنى إن بيوتنا عورة أي: مكشوفة، معرضة للسرقة، لا يوجد بها رجال، والعورة كل مكان فيه خلل، والعورة تطلق على المكان المتوسط بين الجبال، قال لبيد :

وأجن عورات الجبال ظلامها

الذي يعنينا هنا قولهم: (إن بيوتنا عورة) فهل صدقهم الله أم كذبهم؟ كذبهم، قال الله جل وعلا: وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ [الأحزاب:13] فلما رد الله جل وعلا زعمهم الذي أظهروه، أخبر الله بزعمهم الذي أخفوه، فقال: (إن يريدون إلا فراراً) أي: استئذانهم منك لا يقصدون منه -كما زعموا- أن يحموا بيوتهم، وإنما أرادوا الفرار من ملاقاة العدو، (إن يريدون إلا فراراً) ثم قال الله: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا [الأحزاب:14].

هذه الآية اختلف العلماء فيها اختلافاً كثيراً لكن أحاول أن أجمع لك شتاتها، (دخل) في القرآن تأتي كثيراً في وصف ذلك الغازي والفاتح، قال الله جل وعلا: لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ [الإسراء:7] وقال الله جل وعلا لبني إسرائيل: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21].

وقال الله على لسان الرجلين الموفقين: قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ [المائدة:23] فالكل يتكلم عن غزو وفتح، فالله جل وعلا هنا يقول: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا [الأحزاب:14] القطر: الناحية، والمقصود: أقطار المدينة أي: نواحي المدينة، وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا [الأحزاب:14].

وأكثر أهل العلم على أن المراد بالفتنة هنا: الشرك.

فيصبح معنى الآية: أن هؤلاء القوم الذين خذلوك ويريدون الفرار، لو طلب منهم الشرك لوافقوا عليه جبلةً غير متباطئين؛ لأن الإسلام أصلاً لم يدخل إلى قلوبهم، هذا قول، وعليه أكثر العلماء.

وقال الضحاك رحمة الله تعالى عليه من المفسرين: إن المعنى وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا [الأحزاب:14] أي: أنهم -وهذا قول قوي- ما خذلوك وفروا لأنهم جبناء، وإنما خذلوك وفروا لأنهم لا يريدون أن ينصروك، فالمعنى: لو كانت القضية قضية عصبية لما تلبثوا بها إلا يسيراً أي: لحاربوا ودافعوا، فالمراد بالفتنة في قول الضحاك : القتال من أجل العصبية.

قال تعالى: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا [الأحزاب:14] لكن أكثر أهل التفسير على أن المراد بالفتنة هنا: الشرك، ويؤيده قول الله جل وعلا: حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [الأنفال:39].

قلنا: إن بني حارثة سبق لهم أن فروا يوم أحد، فذكرهم الله جل وعلا بالعهد الذي قطعوه على أنفسهم من قبل، فقال الله: وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا [الأحزاب:15].

طلق المحيا 28-05-17 01:27 AM

تفسير قوله سبحانه: (قل لن ينفعكم الفرار ..... من دون الله ولياً ولا نصيراً)

وفي هذا تعظيم للعهد الذي بين العبد وبين ربه، وأن الإنسان إذا قطع على نفسه عهداً أو وعداً وجب عليه أن يلتزم به، ثم قال الله: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:16].

العقل يقول: إن الإنسان ينجو إذا فر، لكن إذا أراد الله الحياة لهذا فسينفعه الفرار، لكن إذا كان الله جل وعلا لم يرد له حياة فلن ينفعه فراره، كما أن المتقدم في الجيش والقادم في أول الصف إذا أراد الله له أن يقتل فسيقتل، لكن إن لم يكن الله يريد له أن يقتل حتى لو تقدم الصفوف فلن يقتل، إن لم يكن الله جل وعلا قد كتب عليه حياته.

ثم قال الله جل وعلا لهم: هب أنكم فررتم ونجوتم من القتل في الخندق، هل يعني ذلك أنكم ستحيون حياة أبدية؟! محال؛ ولهذا قال الله بعدها: وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:16].

يقولون: إن عبد الملك بن مروان المؤسس الثاني لدولة بني أمية، وبخلافته انتقلت الخلافة من الفرع السفياني إلى الفرع المرواني، قال شوقي :

مررت بالمسجد المحزون أسأله هل في المصلى والمحراب مروان

وبلاد الشام معروفة بمرض الطاعون، وقد مات كثير من الصحابة والتابعين بسبب طاعونها، فحل بها الطاعون أيام عبد الملك بن مروان ففر، فلما فر أخذ معه عبداً من عبيده يخدمه، والمستوى العقلي والفكري بين غلام خادم وما بين أمير المؤمنين مختلف اختلافاً كبيراً، والحديث لا يمكن أن يكون متلائماً للفرق الفكري، لكن عبد الملك لم يكن معه إلا هذا الغلام، ولابد من الحديث خاصة أن الخائف والهارب من الطاعون يريد من أحد أن يسليه، وهما في الطريق لم يبعدوا عن دمشق كثيراً قال عبد الملك لغلامه: قل لي ما تقول أنت وأقرانك؟ قال: يا أمير المؤمنين! بلغني فيما بلغني أن أسداً أجار ثعلباً، فقال له الثعلب: أنا أصطاد لك على أن تجيرني من كل أحد، فوافق الأسد، فأصبح الثعلب يختال في مشيته لأنه في حمى الأسد، فجاء طير كبير الحجم جداً يريد أن يخطف الثعلب ويحمله معه، فخاف الثعلب وارتعد، فارتقى على ظهر الأسد يريد منه أن يحميه، فجاء الطائر وتناول الثعلب وحمله، فقال الثعلب يستنجد بالأسد، لماذا لم تحمن يا أبا الحارث، وأبو الحارث كنية الأسد، فقال الأسد: لقد وعدتك أن أحميك من دواب الأرض أما ما يأتي من السماء فلا طاقة لي به، ففهمها عبد الملك ولوى عنق الدابة وقال: والله لقد وعظتني يا غلام أيما وعظ، ثم تلا: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:16] وعاد إلى دمشق ونجاه الله من الطاعون فلم يهلك.

فثمة أمور يعجز المرء أن يتخذ فيها حيلة، فليس له إلا أن يسلم أمره إلى الله، ثم إنك أحياناً قد يرحمك الله بمشورة أو برأي من هو أقل منك فهماً أو عقلاً أو علماً، وإذا أنت صدقت مع الله في سريرتك، وأحسنت نيتك فإن الله يسخر لك خلقه يدلونك ويهدونك ويحمونك ولو كانوا ضعفاء؛ لأنهم إنما هم سخرهم العلي الكبير لك.

قال الله: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:16] معنى الآية: إن نجوتم إذاً لا تمتعون إلا قليلاً، فإذاً لا تمتعون إلا قليلاً جواب لشرط محذوف، وهذا قالوا: إنه موجود في لسان العرب، قال قائلهم:

لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل ابن شيبان

إذاً لقام بنصري معشر خشن عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا

معنى الكلام أنه يقول: لو كنت من قبيلة بني مازن لما استطاع أحد أن يتجرأ على إبلي، ثم قال:

إذاً لرده ذو معشر خشن يقصد: أنه لو سلبت إبلي لردها أولئك الأخيار، وهو لم يذكر كلمة: إن سلبت إبلي، كذلك في الآية لم يذكر النجاح، ولكن قول الله جل وعلا: وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:16] دل على أنها جواب شرط لفعل شرط محذوف.

ثم قال الله جل وعلا: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [الأحزاب:17] والآية في معناها العام تهدف إلى بيان أن الله جل وعلا وحده من يحفظ، ووحده من يكلأ عباده، ووحده من ينصر، ووحده من يعصم، لا رب غيره، ولا إله سواه.

طلق المحيا 29-05-17 04:36 AM

تفسير قوله تعالى: (قد يعلم المعوقين .... وكان ذلك على الله يسيرا)

ثم قال الله جل وعلا: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:18].

والبأس: الحرب والقتال، (قد يعلم الله) قد هنا ليست للتقليل وإنما للتحقيق، (قد يعلم الله المعوقين) المعوقين: اسم فاعل من عوق، والتشديد في عوق يراد به التكفير، ومنه قول الله جل وعلا: وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ [يوسف:23] أي: أحكمت غلقها.

وكذلك قول الله جل وعلا: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ [الأحزاب:18] أي: يكثرون من تثبيطكم، قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ [الأحزاب:18] اتفقنا على أن هناك أقواماً يثبطون غيرهم عن الجهاد في سبيل الله كما في معركة الأحزاب على وجه الخصوص، السؤال هنا: من القائل ومن المقول له؟ أكثر أهل العلم على أنهم طائفة من المنافقين تقول لبعض مرضى القلوب، وهذا الذي عليه أكثر أهل العلم.

وقال آخرون: إن القائلين هم اليهود لإخوانهم من أهل النفاق.

لكن نرجح الأول لقرينة هي أن الله قال: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ [الأحزاب:18] أي: ممن ينتسبون إلى الإسلام، واليهود لم يكونوا ينتسبون للإسلام.

قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [الأحزاب:18] أي: تعالوا إلينا، ثم قال الله: وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:18]لم تكن هناك حرب وقت الخندق، بل كانت المرابطة موجودة على الجهة في الخندق التي تقابل جهة الكفار.

الآن اترك هذا كله جانباً حتى تفهم الآية نفياً وإثباتاً، الله يقول: (لا يأتون البأس) هذا نفي، أي: لا يأتون مواضع القتال، ثم قال: (إلا قليلاً) وهذا إثبات، فاجتمع نفي وإثبات، فلا بد من تخريجها، الله هنا يصف كيف تعامل المنافقون مع المرابطين حتى انطبق عليهم قول الله: (ولا يأتون البأس إلا قليلاً) أنا إذا ضربت الأمثال أحاول أن أخرج بك عن آيات القرآن، فإذا فهمت المثل خارج القرآن فإنك تستطيع أن تفهمه في القرآن، أنتم ثلة أصدقاء، والصداقة فيها حقوق، هب أن أحدكم يريد أن يتزوج، نفرض أن رجلاً يريد أن يتزوج، فلما أراد أن يتزوج وقعت عليكم مسئولية إعانته في الزواج، أي: الحضور والقيام بالواجب، وهناك من لا يريد أن يفزع لكنه في نفس الوقت يخشى من لوم الآخرين، فهو يريد أن يأتي ولا يريد أن يأتي في آن واحد، نفرض أن الحفل ست ساعات، ففي الساعة الأولى عند استقبال الضيوف وتوزيع المهام يحضر فيراه والد الرجل وأخوه وأصدقاؤه ويرون أن فلاناً أتى، فإذا بدأ العمل انصرف، وذهب يقضي مصالحه، فإذا جاء وقت تقديم الضيافة للناس جاء ووقف ليراه كل الحضور، فالناس يمشون ويقولون: ما أعجب صداقة فلان كان واقفاً مع صديقه وقت فرحه، وهو لم يفعل شيئاً، ثم إذا جاء الناس يغادرون جاء، فلو حسبت مدة لبثه لم تتجاوز الدقائق، فهو في الحقيقة لم يأت ولم يقدم أي خدمة، لكنه أقنع الناس بأنه أتى.

تعال لهؤلاء المنافقين، هذا الخندق احتاج النبي صلى الله عليه وسلم زمناً حتى يحفره، واحتاج إلى أقوام يرابطون على الثغور ليرون هل هناك أحد من أهل الإشراك تجاوز الخندق ووصل إلى المؤمنين؟ هل هناك فجوة أو حفرة أو ردم انهار أو يحتاج إلى زيادة حفر؟ مسألة تحتاج إلى مرابطة، فإذا علم أن هناك اجتماعاً عقده النبي صلى الله عليه وسلم جاءوا، فيراهم الناس، فإذا بدأ العمل تواروا ورجعوا إلى بيوتهم، فإذا علموا أنه بعد يومين أو ثلاثة يقيم النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من وليمة أو طعام أو ما أشبه ذلك حتى يخفف عن أصحابه جاءوا، هذا صنيعهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولهذا قال الله: (ولا يأتون البأس إلا قليلاً) قلة حضورهم تعني قطعاً: أنهم لا يريدون أن ينصروا الله ورسوله، لكنهم خافوا من الملامة وأن يورثهم النبي صلى الله عليه وسلم عقاباً، فلجئوا إلى التحايل في تعاملهم مع نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم.

المؤمن إذا فقه كيف يفهم القرآن وطبقه على واقعه وقاس الأشباه والنظائر يكون أقدر من غيره على أن يوصل مقصود مراد الله إلى غيره من الناس، قال الله: (ولا يأتون البأس إلا قليلاً أشحة عليكم) الشح: البخل بما في الوسع مما ينفع الناس، شيء تملكه بوسعك أن تعطيه غيرك فينفعه، فإذا ضننت به على غيرك فهذا هو الشح.

الله جل وعلا يقول: (أشحة عليكم) هؤلاء المنافقون بخلوا بجهدهم وبقوتهم البدنية بمالهم بحضورهم على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذا قول الجمهور.

وآخرون من العلماء -وهذا قال به الزمخشري - وله في الشعر العربي ما يؤيده، لكن الآية كلها لا تساعده، قال: معنى (أشحة عليكم) أي: أنهم يظهرون أنهم شحيحون عليكم بمعنى: حريصون عليكم، يريدون منكم بقولهم: عودوا إلى المدينة أن يحافظوا على أرواحكم.

فالآية في قوله تبارك وتعالى: (أشحة عليكم) تحتمل المعنيين، لكن الجمهور على ما حررناه أولاً.

قال الله جل وعلا: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ [الأحزاب:19]أي: مظنة الخوف وهو القتال، رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [الأحزاب:19].

العرب دائماً تقول القول بالدوران في الشيء المخيف، كما عبر عنه عنترة في شعره، فإذا ذهب الخوف (سلقوكم) هنا معنى (سلقوكم) أي: تجرءوا عليكم، وإلا السليقة تطلق على عدة أمور: فتطلق على الأرض المطمئنة، وعلى الفطرة، وهنا على الجرأة في الخطاب، قال: سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [الأحزاب:19]، فأحبط الله أعمالهم؛ لأنهم منافقون، لكن قال الله: وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [الأحزاب:19] (ذلك) عائدة على ماذا؟ تحتمل معنيين: قال: (كان ذلك على الله يسيراً) أي: إحباط الله لأعمالهم يسير هين عليه، وهذا أوجه وأرجح، فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك الإحباط على الله يسيراً، هذا الأول.

الأمر الثاني: أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [الأحزاب:19] أي: عدم إيمانهم أمر هين على الله، لا يعبأ الله به؛ لأن الله لا تضره معصية عاص، ولا تنفعه طاعة طائع.

يتحرر من هذا أن الآية والآيات ما زالت تتحدث عن حال المنافقين يوم الأحزاب، وهي حال أنبأت عما يبطنونه من الكفر، وعما جبلوا عليه من الجبن والهلع، وعدم نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، بعد ذلك بآية أو آيتين يأتي بيان موقف أهل الإيمان الذي قال الله فيه: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22].

هذا ما تحرر إيراده، وتيسر إعداده، وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

طلق المحيا 29-05-17 04:58 PM

لما ذكر الله تعالى حال المنافقين والكفار في غزوة الأحزاب ذكر حال المؤمنين الأخيار، وكيف أنهم رضوا بالله رباً، واكتفوا به نصيراً، وازدادوا مع إيمانهم إيماناً، وصدقوا الله ورسوله يقيناً واعتماداً، وصبروا ورابطوا، فنصروا واستبشروا، ومن النار نجوا، ومن الجنة اقتربوا، وأولئك هم المؤمنون حقاً، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، فالمقصد واحد، والغاية أسمى، والله ولي المؤمنين.

طلق المحيا 29-05-17 04:58 PM

تفسير قوله تعالى: (يحسبون الأحزاب لم يذهبوا... وذكر الله كثيراً)
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.

أما بعد:

فما زلنا نتفيأ الآيات المباركات من سورة الأحزاب، وكنا قد انتهينا في الحديث عن حال المنافقين في تلك المعركة التي جعلها الله تبارك وتعالى ابتلاءً لعباده المتقين، وانتهينا إلى قول ربنا جل وعلا: يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:20].

قوله: (يحسبون الأحزاب لم يذهبوا) أي: ما زال أولئك المنافقون على ما في قلوبهم من هلع، وعلى ما في أنفسهم من جزع يظنون أن الأحزاب لم يذهبوا لما رأوه وعاينوه من عظم البلاء وشدة الخطب، ثم قال الله: (وإن يأت الأحزاب) إن هنا: شرطية، (ويأتي) فعل الشرط، وفعل الشرط -أيها المبارك- إذا جاء بعد أداة شرط جازمة يجزم، ثم إن جزمه أو علامة جزمه تكون بحسب حاله، فإذا كان معتل الآخر كما هو الحال هنا، فإن حرف العلة يحذف.

قال الله: (وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب) من يسكن الأعراب أصالةً أو البادية أصالةً يسمى: أعرابياً، ومن يتردد عليها ولا يسكنها بالأصالة يسمى: بادياً.

فهؤلاء لفرط جزعهم يتمنون ويودون وفق تعبير القرآن، لو أنهم بادون في الأعراب، (يسألون عن أنبائكم) أنباء المؤمنين؛ لأنهم يبغضون الدين وأهله فيتساءلون قائلين: أهلك محمد وأصحابه؟ أي: انتصر أبو سفيان وأحزابه، هذا تساؤلهم، ثم قال الله: (ولو كانوا فيكم) لو قدر وفرضنا أنهم كانوا فيكم (ما قاتلوا إلا قليلاً) فعبر الله جل وعلا بنفي القتل وأثبته بعد الاستثناء بقوله: (قليلاً).

حذاق المفسرين وهذا من الفهم -وهو ما قاله القرطبي في الجامع- فهموا أن كلمة قليلاً: على أن قتالهم شيء يسير كالرمي بالحجارة والنبل وهذا واضح، لكن تدل على شيء آخر خفي؛ ولذلك قلت: إنه من حذاق المفسرين، وهو أن صنيعهم هذا يكون رياءً وسمعة، قالوا: لو لم يكن رياءً أو سمعة لما سماه الله قليلاً؛ لأن القليل إذا كان مقروناً بالإخلاص وابتغاء وجه الله فلا يقال له: قليل؛ فإن العمل يعظم بالنية.

ولا ريب أن القرطبي رحمة الله تعالى عليه على بعض أخطاء وقع فيها في تفسيره، ولا يسلم من ذلك أحد:

فإنا لم نوق النقص حتى نطالب بالكمال الآخرين

لكنه من حذاق المفسرين حقاً، وله باب عظيم أو قدرة كبيرة في الصناعة الفقهية على وجه الأخص، وهو مالكي المذهب، فوبخ الله صنيع أهل النفاق بأن مدح نبيه عليه الصلاة والسلام، والنبي عليه الصلاة والسلام كان أول المرابطين وأول من وقف يحفر الخندق مع أصحابه، فقال الله جل وعلا لأولئك المنافقين -على فرض أن الآية مخاطب بها أهل النفاق- وآخرون يقولون: إن قول الله جل وعلا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] مخاطب بها المؤمنون، وأياً كان الأمر فإن الآية تحتمل الاثنين، فيكون الخطاب بالآية للمنافقين من باب التوبيخ، وللمؤمنين من باب الحث والثبات على ما هم فيه، أو على ما هم عليه.

قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، هنا نأتي إلى مسألة علمية يجب أن تحرر، هل كونه صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة على باب الإيجاب أم الاستحباب؟

للعلماء فيها ثلاثة أقوال:

فقال بعضهم: إنها على سبيل الإيجاب ما لم يدل دليل على الاستحباب، فهؤلاء جعلوا الإيجاب أصلاً.

وقال بعضهم -وهو بدهي-: بل الأصل الاستحباب ما لم يدل دليل على الإيجاب.

والقول الثالث -وهو الذي نختاره والعلم عند الله-: أنها للإيجاب في أمور الدين، وعلى الاستحباب في أمور الدنيا.

هذا من حيث الأصل ثم ينظر في كل مسألة بحسب قرينتها، قال الله جل وعلا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21] ولا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم أسوة وأي أسوة، وقدوة وأي قدوة، بل لا أسوة بحق غيره صلى الله عليه وسلم؛ لأن العصمة لم تكن إلا له ولإخوانه الأنبياء من قبل، وهو الذي بعث إلينا.

ونلاحظ أن الله جل وعلا عندما ذكر الأنبياء قال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90] ولم يقل: فبهم اقتده، وهذه مسألة تبحث في علم الرسول، لكني لا أريد أن أوسع شيئاً ليس هذا مقامه.

قال جل وعلا: (لقد كان لكم في رسول الله) أي: كله عليه الصلاة والسلام في أمور الدين والدنيا، (لقد كان لكم في رسول الله) صلى الله عليه وسلم (أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) ولا يمكن أن يقبل عمل ويرفع إلا إذا كان العبد يرجو به الله واليوم الآخر، (لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً).

من حيث الصناعة النحوية -وسندخل كما اتفقنا معكم قبل اللقاء بعض الإعرابات في الدرس حتى يتدرب طالب العلم على ألا يلحن نحوياً- قال الله: كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] (كان) فعل ماض ناقص، فأما قولنا: إنها فعل فلأنها ليست اسماً ولا حرفاً، وأما عن قولنا: (ماض) فلأنها في الزمن الماضي، وأما قولنا: ناقص فلأنها لا تكتفي بمرفوعها، بل تحتاج إلى اسم وخبر، ولا تحتاج إلى فاعل، فإذا جاءت في حالة تحتاج فيها إلى فاعل سميت تامة.

ونظيره في القرآن قول الله جل وعلا: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280] هنا تامة، وهذا معنى: فعل ماض ناقص، (لكم) اللام: حرف جر، والكاف: ضمير متصل مبني على الضم في محل جر بحرف الجر، والجار والمجرور -اللام وما بعدها- خبر لكان مقدم، فكان تحتاج إلى اسم وخبر، قال الله جل وعلا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ [الأحزاب:21] إلى الآن لم يظهر اسم كان؛ ففي: حرف جر، ورسول: اسم مجرور وهو مضاف، ولفظ الجلالة: مضاف إليه متعلق بما بعده.

كلمة (أسوة) هي: اسم كان، وأصل الكلام: لقد كان أسوة حسنة لكم، لقد كان أسوة حسنة في رسول الله لكم، فأسوة: اسم كان مرفوع وعلامة رفعه الضمة، أما (حسنة) فجاءت مرفوعة مثل (أسوة) فدل على أنها من التوابع، فهي صفة.

والتابع يأخذ حكم المتبوع في الإعراب، فالصفة تأخذ حكم الموصوف، والبدل يأخذ حكم المبدل منه، والمعطوف يأخذ حكم المعطوف عليه.

هذه صناعة نحوية أطنبت فيها قليلاً وقلت: هذا من باب التغيير في الدرس.

طلق المحيا 30-05-17 02:45 AM

فسير قوله تعالى: (ولما رأى المؤمنون الأحزاب... إلى قوله: وما بدلوا تبديلاً)

ثم قال الله جل وعلا: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22].

من حيث الصناعة العقدية: هذه من أعظم الأدلة لمذهب أهل السنة -سلك الله بنا وبكم سبيلهم- على أن الإيمان يزيد وينقص، فهو يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية؛ لأن الله قال: (وما زادهم إلا إيماناً) وليس بعد كلام الله كلام، فأثبت الله جل وعلا بمقتضى هذه الآية لنا: أن الإيمان يزيد وينقص، وهناك آيات أخر بنفس السياق، لكن نحن الآن في الآية التي بين أيدينا.

وهنا سؤال: الله يقول: ولما رأى المؤمنون الأحزاب، أما معنى: رأى المؤمنون الأحزاب هذه ظاهرة، فقد رأى المؤمنون الأحزاب بأعينهم، لكن قوله: (هذا ما وعدنا الله ورسوله) ما الذي وعدهم الله ورسوله؟ للعلماء -أيها المبارك- فيها قولان:

قول يقول: إن المقصود بالآية: أن هذه الأحزاب ابتلاء من الله، فهذا وعد الله وهذا يردهم إلى القرآن، قال الله جل وعلا: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]؛ لأن نهاية البقرة من أوائل ما أنزل، فيصبح المعنى: أن هؤلاء المؤمنين لما رأوا الأحزاب تذكروا الابتلاءات التي أخبر الله بها، فقالوا: هذا الذي نراه الآن مما وعدنا الله به ورسوله، هذا قول.

وآخرون قالوا: إن المقصود بقول الله جل وعلا: (لما رأى المؤمنون الأحزاب هذا ما وعدنا الله ورسوله) على ما قلنا في اللقاء الماضي: أن النبي صلى الله عليه وسلم وعدهم في معركة الخندق وهو يحفر: أنه ستفتح لهم فارس والروم وأبواب صنعاء.

والآية تحتمل المعنيين ولا يوجد تعارض بينهما، قالوا: وهذا ما وعدنا الله ورسوله، (وصدق الله ورسوله)، وقد بينا فضيلة الصدق في اللقاء الماضي، (وما زادهم) أي: هؤلاء المؤمنين (إلا إيماناً وتسليماً).

ثم قال الله جل وعلا: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23]، من أوائل من يدخل في هذا المدح الرباني والتبشير الإلهي: أنس بن النضر رضي الله تعالى عنه وأرضاه عم أنس بن مالك ، وكان الناس -كما هو الحال في زماننا- أحياناً يسمون أبناءهم بأسماء قراباتهم، فسمي أنس بن مالك باسم عمه، أي: أن مالكاً هذا أراد أن يبر أخاه أنساً فسمى ابنه باسم أخيه.

وأنس بن النضر رضي الله عنه وأرضاه لم يكتب له أن يشهد بدراً، فأخذ يعاتب نفسه ويقول: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيب عنه لئن شهد النبي صلى الله عليه وسلم مشهداً آخر ليرين الله ما أفعل، ثم خاف أن يزيد عليها، حتى لا يقع منه ألا يبر ما نطق به، فلما كان يوم أحد قابله سعد بن مالك رضي الله عنه في ساحة المعركة، فقال: واهاً يا أبا عمرو ! إلى أين؟ قال: إني أجد ريح الجنة دون أحد، وأحد الجبل الذي كانت في أسفله أو دونه أو بجواره المعركة، فـأنس رضي الله عنه علم الله منه صدقه، قال: إني أجد ريح الجنة دون أحد، وقد يقولها منافق، ولكن هذا الصحابي الجليل المبارك رضي الله عنه وأرضاه استشهد يوم أحد، ووجد وفيه أكثر من بضع وثمانين جرحاً ما بين ضربة أو طعنة أو رمية، وهذا يدل على أنه أبلى بلاءً شديداً رضي الله عنه وأرضاه.

فمن أوائل من يدخل في هذه الآية المباركة: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب:23]: أنس بن النضر ومصعب بن عمير وأجلاء الصحابة ممن استشهد يوم أحد أو بعده أو قبله.

ثم قال الله جل وعلا: (فمنهم) أي: من هؤلاء (الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه من قضى نحبه)، والنحب -أيها المبارك- ما التزم الإنسان الوفاء به، فلما كان النحب ما التزم الإنسان الوفاء به وكان الموت مما لابد منه، سمي من لاقى الموت: قاضياً نحبه.

وعلى ذكر الموت فقد أدركنا أجلاء في المدينة كبار السنة يربون أبناءهم على حقائق ويقينيات منذ الصغر، حتى ينشأ صلباً في وجه ما يعتريه أكثر من غيره، وكانوا يربون أطفالهم على حقيقتين: لا نجاة من الموت، ولا سلامة من الناس.

يقول حسان :

وإن امرأً يمسي ويصبح سالماً من الناس إلا ما جنى لسعيد

يعني: إذا كان الناس لا يقولون فيك إلا ما هو فيك فأنت تعتبر سعيداً، لكن محال ألا يقول الناس فيك إلا ما هو فيك، بل تجد منهم من يبالغ في مدحك ومن يبالغ في ذمك، وقلما سمعت قولاً صادقاً يحكم فيك بما هو فيك.

قال: (فمنهم من قضى نحبه ومنهم) رضي الله عنهم وأرضاهم (من ينتظر) أي: ما زال على هذا الطريق العظيم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، هؤلاء الذين قيل فيهم (ومنهم من ينتظر) يدخل فيهم طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وأرضاه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال عنه يوم أحد: أوجب طلحة ، وقيل: إنه ممن قضى نحبه ولكنه كان يمشي على الأرض رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فقد أبلى طلحة بلاءً عظيماً يوم أحد في الثبات والدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم قال الله يمدح أولئك الأخيار الذين كانوا شامة في جبين الأيام، وتاجاً في مفرق الأعوام، قال عنهم: (وما بدلوا تبديلاً) وفي هذا تعريض بحال المنافقين، والذين قال الله فيهم كبعض بني حارثة: وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا [الأحزاب:15].

من حيث الصناعة النحوية: (ما): نافية، (وبدلوا) فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة، وواو الجماعة هذه ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل، و(تبديلاً): مفعول مطلق، وهناك من الفضلاء من ليس بصاحب صنعة نحوية، وهذه الأشياء قد يراها مفاجئة، لكن ثق تماماً أنه مع الدربة ومع الأيام ستصبح جزءاً من شخصيتك، أنت ما هو كيانك الجسدي؟ كيانك الجسدي بناؤه من الغذاء الذي تأكله مع الأيام، ما هو بناءك الثقافي؟ هو العلم الذي تسمعه مع الأيام، فلا يمكن أن تقول: إن الغذاء هذا أو ذاك هو الذي شكل تلك الجزئية من جسدك، لكن مع بعضها البعض، شكلت هذا الجسم المكون بقدر الله.

وكذلك العلم، فما تسمعه يصبح جزءاً من شخصيتك، والذي يتكلم وينطق ويحاضر ويخطب إنما يقول ما استقر في ذهنه من علوم ومعارف سمعها أو وعاها عبر سنين وأيام وشهور، فكلما طال بياته وجمعه للعلم ثبت ورسخ إذا تكلم، أما إذا رأيته طار قبل أن يريش وحاول أن يستوي على سوقه قبل أن يتم تمامه فإنه لن يلبث حتى يسقط عافاني الله وإياكم من السقوط.

طلق المحيا 31-05-17 03:41 AM

.

تفسير قوله تعالى: (ليجزي الله الصادقين بصدقهم... إلى قوله: إن الله كان غفوراً رحيماً)
قال الله تعالى: وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:23-24].

هنا إشكال، وقد قلت في اللقاء الماضي وفي لقاءات سبقت: إن وجود الإشكال دافع للتعلم والبحث.

يقول ربنا وكلنا يعلم ذلك: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، والمنافق كافر، والكافر لا يدخل تحت المشيئة؛ لأن الله يقول: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف:50]، إنما المؤمن هو الذي إذا عصى الله دخل تحت مشيئته، لكن المنافق كافر لا يدخل تحت المشيئة.

هذا الأصل يحدث عندك إشكالاً لأن الله قال: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:24]، دائماً في المناقشات العلمية حاول أن تستريح، وخذ الأصل المخيف وأبعده من رأسك، فأنت معك أصل قاطع أن المنافق مخلد في النار، إذاً: هذه الآية لا تتحدث عن الآخرة؛ لأن المنافق في الآخرة مخلد في النار، يعني: من لقي الله يوم القيامة وهو منافق فهو في النار، ولا يوجد شيء اسمه مشيئة هنا؛ لأن الله يقول: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48].

إذاً: أول طريقة تأخذها في السياق العلمي هنا أن تقول لمن سألك: كيف يقول الله: (ويعذب المنافقين إن شاء)؟ فتقول: هذه الآية لا تتكلم عن الآخرة، بل تتكلم عن الدنيا، وهذا الجواب يريحك كثيراً قبل أن تبحث في المسألة، فهناك درجتان تقابلهما ثمرتان:

الدرجة الأولى: النفاق، ويقابلها العذاب.

الدرجة الثانية: التوبة تقابلها الرحمة.

فالذي حصل هنا: أنه اختار إحدى الدرجتين وإحدى الثمرتين، وأخفى إحدى الدرجتين وإحدى الثمرتين، قال الله تعالى: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [الأحزاب:24]، فالعذاب ثمرة ودرجته: الاستدامة في النفاق، فيصبح معنى قول الله تعالى: (ويعذب المنافقين إن شاء) أي: يبقيهم على نفاقهم؛ لأن العذاب ثمرة لدرجة هي الاستدامة على النفاق.

فالله هنا ذكر الثمرة ولم يذكر الدرجة، لكننا فهمنا الدرجة من الثمرة، فهمنا، ثم قال جل جلاله: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [الأحزاب:24] وهنا لم يذكر الله الثمرة، وذكر الدرجة وهي التوبة من النفاق، والرحمة ثمرتها.

فيصبح معنى الآية إجمالاً: أن الصادقين سيجزيهم الله بصدقهم في الدنيا والآخرة، أما المنافقين فربنا يقول: أنا قادر على أن أبقيهم على نفاقهم فيكونوا أهلاً للعذاب، وقادر على أن أتوب عليهم فيتركوا النفاق فيكونون أهلاً للرحمة.

هذا معنى قول الله جل وعلا: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [الأحزاب:24]، ولما كان ربنا غلبت رحمته غضبه لين الآية جل شأنه بقوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:24] وفي هذا إقامة حجة عليهم، ودعوتهم إلى التوبة.

ابوفهد الحربي 02-06-17 04:41 PM

جزاك الله خير الجزاء ورحم الله والدينا ووالديك


ولكم أجمل تحياتي وتقديري

طلق المحيا 03-06-17 04:08 AM

بارك الله فيك

طلق المحيا 03-06-17 04:11 AM

تفسير قوله تعالى: (ورد الله الذين كفروا بغيظهم... وكان الله قوياً عزيزاً)

قال تعالى: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [الأحزاب:24-25].

هذه الآية لها ارتباط بالسياقات القادمة، لكني أحاول أن أتكلم عنها سريعاً لأجل الوقت، (ورد الله الذين كفروا بغيظهم) (الغيظ): الحنق والغضب، (ورد الله الذين كفروا) يدخل فيها عموم أهل الأحزاب، (بغيظهم لم ينالوا خيراً) أي: لم يحصلوا على ما يبتغونه، (وكفى الله المؤمنين القتال) (كفى) هنا بمعنى: أغنى وأراح، (وكفى الله المؤمنين القتال) لم يكن في يوم الخندق قتال إلا يسير كقتال علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه لـعمرو بن ود ، قال: (وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً) وهذا التذييل مناسب لما قبله، وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [الأحزاب:25].

أما ما بعدها من آيات فهي متصلة المعنى، نتأملها ونفسرها إن شاء الله تعالى في اللقاء القادم، هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

طلق المحيا 04-06-17 04:27 AM

إن قدرة الله على أعدائه، ونصره لأوليائه أمر يجاوز كل الاحتمالات والتصورات، فإنه يعلم جنوده سبحانه إلا هو. وقد جاء نصره للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعد أن ضاقت عليهم الدنيا بما رحبت، وبلغت القلوب منهم الحناجر، وهكذا تأييد الله لأوليائه في كل زمان ومكان.

طلق المحيا 04-06-17 04:29 AM

تفسير قوله تعالى: (ورد الله الذين كفروا بغيظهم...)

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فقال الله جل وعلا: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [الأحزاب:25].

بعد أن سلط الله جل وعلا على أهل الكفر ريحاً وجنوداً لم يرها المؤمنون ولا الكافرون، وكفى الله جل وعلا المؤمنين القتال كما عبر القرآن، عاد صلى الله عليه وسلم إلى حجراته، فجاءه جبريل وأخبره أن الله يأمره أن يأتي بني قريظة، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم رهطاً من أصحابه قائلاً لهم: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة).

والمفهوم من هذا بادئ الرأي وأول الأمر وهو الحق، أن هذا البعث كان بعد صلاة الظهر، فبعد الفراغ من صلاة الظهر قال النبي صلى الله عليه وسلم لرهط من أصحابه: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة)، وبنو قريظة كانوا يسكنون في الجنوب الشرقي من المدينة، وهم إحدى قبائل ثلاث من اليهود كانت تسكن المدينة، وهي قبائل بني النضير، وبني قريظة، وبني قينقاع.

فبنو قريظة كان عليهم سيد يقال له: كعب بن أسد ، فحاول حيي بن أخطب أن يقنعه بأن يكون مع الأحزاب، رغم أن كعباً هذا سيد بني قريظة لم يكن موافقاً، وكان يقول لـحيي : إنك رجل مشئوم، لكن حيياً زين له الأمر، وما زال يفتل له في الذروة والغارب؛ حتى أوقعه فيما أوقعه فيه، فمالت بنو قريظة إلى الأحزاب، وائتمروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رد الله جل وعلا أهل الكفر، ورد الأحزاب لم يناولوا خيراً -كما عبر القرآن- أمر الله نبيه بوحي جبريل إليه أن يأتي بني قريظة.

طلق المحيا 05-06-17 04:31 AM

تفسير قوله تعالى: (وأنزل الذين ظاهروهم...

يقول الله جل وعلا: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [الأحزاب:26] ومعنى: ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [الأحزاب:26]. أي: ظاهروا الأحزاب، وهم بنو قريظة، وكلمة (أنزل) تدل على إهباط من مكانٍ عالٍ، وكانت لبني قريظة حصون، تحصنوا بها، فالله جل وعلا أنزل أولئك من حصونهم، فقال الله: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ [الأحزاب:26].

و(صياصي) بمعنى: حصون، مفردها صيصة، ويقال لقرني البقر صياصي؛ لأن البقر بقرنيه يدافع عن نفسه.

ثم قال الله: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الأحزاب:26] القذف في اللغة: الإلقاء السريع.

ومما آتى الله النبي صلى الله عليه وسلم أنه نصر بالرعب.

ثم قال تعالى: فَرِيقًا تَقْتُلُونَ [الأحزاب:26] أي: من أهل بني قريظة.

وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا [الأحزاب:26]، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم في بني قريظة سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وسعد بن معاذ سيد الأوس، وهو صحابي جليل معروف، ولما مات فرح أهل السماوات بصعود روحه.

قال ابن القيم معلقاً: فإذا كان هذا فرحهم بصعود روح سعد وهو خير من خير الأصحاب، فكيف فرح أهل السماوات بصعود روح رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فـسعد رضي الله عنه لما حكم قدم به -وكان مريضاً، أصابه سهم- إلى الأنصار، وفيهم النبي صلى الله عليه وسلم وبنو قريظة ينظرون، فقال عليه الصلاة والسلام للأنصار: (قوموا لسيدكم) فلما طلب منه أن يحكم وكان رجلاً عاقلاً، مع أنه لم يتجاوز السادسة والثلاثين، أي: أنه كان صغيراً، لكنه كان جسيماً رضي الله عنه وأرضاه، رجلاً طوالاً، فقال: هل ينفذ حكمي على هؤلاء؟ يقصد بني قريظة، قيل له: نعم، فتأدباً مع النبي صلى الله عليه وسلم قال: وعلى هؤلاء. ولم يشر بوجهه إلى النبي عليه الصلاة والسلام أدباً. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم.

ومن هنا يفهم: أنك لا تقبل أن تكون حكماً حتى يرضى بك الطرفان، فإن لم يرض بك الطرفان فلا تقبل أن تحكم أو تقضي، فإن رضيا بك فخذ منهم ميثاقاً على أن يرضوا بحكمك؛ حتى لا يذهب قولك هدراً، وحتى تقيم الحجة عليهم، فلما قيل له ذلك رضي الله عنه وأرضاه، قال: لقد حكمت فيهم بأن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذريتهم ونساءهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: (لقد حكمت فيهم بحكم الله يا سعد !) وجاء الحديث بعدة روايات.

والنبي عليه الصلاة والسلام لما قبل حكم سعد في بني قريظة، وكان من السبي فتىً لم يبلغ الحلم بعد، يقال له: كعب القرظي ، وكعب كبر وأسلم، وجاء بولدٍ اسمه محمد وأصبح اسمه محمد بن كعب القرظي ، وهو من أئمة أهل التفسير، وإذا من الله على الإنسان بالاستمرار في هذا الفن من العلوم وهو فن التفسير، فسيمر عليه كثيراً اسم محمد بن كعب القرظي ؛ لكونه أحد أئمة التفسير رحمة الله تعالى عليه، رغم أنه من أصل يهودي. لكن فضل الله جل وعلا يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

الذي يعنينا هنا قول الله: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا [الأحزاب:26] وهذا بناء على حكم سعد .

طلق المحيا 06-06-17 04:27 AM

تفسير قول الله تعالى: (وأورثكم أرضهم...)

ثم قال الله: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ [الأحزاب:27]، وهذا واضح، فمنازل بني قريظة ومزارعهم بما كان فيها من مواشي من ثاغية وراغية، كانت للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

ثم قال الله: وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا [الأحزاب:27]. أي: وأورثكم أرضاً لم تطئوها.

كلمة (أورثكم) تدل على أنه حصل، وكلمة (لم تطئوها) تدل على أنه لم يحصل بعد، مثل قول الله جل وعلا: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ [النحل:1] ثم قال الله بعده: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1] وهذا يدل على أنه لم يأت؛ لأن الأمر إذا أتى وانقضى لا يقال له: فلا تستعجلوه.

فقول الله جل وعلا: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ [الأحزاب:27] وتعقيبه جل شأنه بقوله: لَمْ تَطَئُوهَا [الأحزاب:27] يدل على أن الأرض لم يحتلها أو لم يملكها المسلمون بعد؛ لأن الله قال: لَمْ تَطَئُوهَا [الأحزاب:27].

وقد اختلف العلماء فيما هي هذه الأرض، أي: أي أرضٍ عناها الله جل وعلا بقوله: وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا [الأحزاب:27]؟ فقيل: هي مكة، وهذا مروي عن قتادة ، وقيل: هي أرض فارس والروم، وقيل: هي كل أرض فتحها المسلمون إلى يوم القيامة، وهذا قول عكرمة واختاره أبو حيان ، فهذه ثلاثة أقوال، والذي يترجح عندي هو القول الرابع ولم أقله، وهو أنها أرض خيبر؛ لقرينتين:

القرينة الأولى: لقرب معركة خيبر من معركة الخندق زمناً، وهذه القرينة ليست هي القرينة القوية.

القرينة الثانية والأقوى: أن الله يتحدث عن أرضٍ كان يسكنها اليهود، وخيبر أرض كان يسكنها اليهود.

فهذا الذي جعلنا نرجح -والعلم عند الله- أن المقصود بقول الله جل شأنه: وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا [الأحزاب:27] أرض خيبر، وقد حكيت لك أقوال أهل العلم رحمهم الله.

ثم قال تعالى: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [الأحزاب:27] إلى هنا انتهى الحديث عن سياق معركة الأحزاب.

وأفاء الله جل وعلا على نبيه صلى الله عليه وسلم من بني قريظة الشيء الكثير، ومن هنا فهم بعض أجلاء أهل التفسير أن أمهات المؤمنين لما رأين النبي عليه الصلاة والسلام قد أفاء الله جل وعلا عليه ما أفاء من بني قريظة، أصبحن يسألنه النفقة والتوسع فيها بكثرة.

فجاء في الصحيح أن أبا بكر استأذن فلم يؤذن له، واستأذن عمر فلم يؤذن له، ثم أذن لهما، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حينها صامتاً، فأراد عمر أن يدخل السرور على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (لأضحكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله! لو رأيت ابنة خارجة -يقصد زوجته- وهي تسألني النفقة فوجأت عنقها، فضحك صلى الله عليه وسلم، فقال: هن حولي -أي: نساؤه- يسألنني النفقة)، فاعتزلهن النبي صلى الله عليه وسلم في مشربة له شهراً، وكان ذاك الشهر تسعة وعشرين يوماً.

طلق المحيا 07-06-17 07:35 AM

تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك...)

ثم أنزل الله جل وعلا عليه قوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:28-29] وهذه الآيات تسمى آيات التخيير.

وقول الله: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] تسمى آية الكرسي.

وقول الله: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ [المجادلة:1] تسمى آية المجادلة.

وقول الله: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ [آل عمران:61] تسمى آية المباهلة.

وقول الله: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة:5] تسمى آية السيف.

وقول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [البقرة:282] تسمى آية المداينة، أو آية الدين.

فهذه الآيات تسمى آيات التخيير، وهي قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [الأحزاب:28].

النبي صلى الله عليه وسلم من كمال بشريته أنه شخص واضح جداً في حياته، فقد اختار عليه الصلاة والسلام أن يعيش مسكيناً، وأن يكون عبداً، ولم يختر أن يعيش نبياً ملكاً، فهنا لم يجبر نساءه على حياته، وإنما عمد بأمر له إلى التخيير، وكلما كان الإنسان واضحاً مع الناس كان أقدر على أن يسير معهم، ولا ينبغي أن يلوم أحدٌ أحداً على وضوحه.

فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم في التخيير بـعائشة ، فقال: (يا عائشة ! إني سأعرض عليك أمراً فلا تعجلي علي حتى تستأمري أبويك، فقالت: يا رسول الله! أفيك أستأمر أبوي)، ثم أخبرها، فاختارت رضي الله عنها وأرضاها البقاء معه صلى الله عليه وسلم، على الحال التي هو فيها، واختارها لأن يعيشها عليه الصلاة والسلام.

قال بعض العلماء: لماذا طلب النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة أن تستأمر أبويها مع أن الأصل في مثل هذه المسائل أن ليس للأبوين فيها علاقة؟ قالوا: وهي لطيفة جيدة: إن النبي عليه الصلاة والسلام كان يحب عائشة ، فخاف أن يغلب عليها فرط الشباب، فتختار الاختيار الثاني، فأرشدها إلى أن تستأمر أبويها لعلمه أن أبويها سيرشدانها إلى أن تبقى مع النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وأرضاها لم تحتج إلى أن تستأمر أبويها، وكانت تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً عظيماً؛ فلم تستأمرهما، وإنما أجابت سريعاً، وهي ذكية من أذكى النساء، فقالت: (يا رسول الله! -والمرأة تبقى امرأة ولو كانت أم المؤمنين- لا تخبر زوجاتك بما أنا أجبتك)، يعني: لا تقل لهن: إنني خيرت عائشة وبدأت بها فاختارتني، فربما هي تريد أن تقل النساء مع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تحضى لوحدها به صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لم يبعثني متعنتاً ولا معنتاً، وإنما بعثني معلماً ميسراً، فمن سألتني عنك أخبرتها)، وهذا جواب في منتهى البلاغة والأدب، وحسبك أن ترى محاضرة ما بين خير الخلق وسيد الأمة وإمام الملة صلى الله عليه وسلم وامرأة في مقام عائشة ، فتخرج بفوائد لا حصر لها، لا يكذب أحدهما، وإنما كلاً منهما بأدب جم وعبارة ذكية، ولطف في الخطاب يصل إلى مراده.

فخير النبي صلى الله عليه وسلم نساءه فاخترن جميعاً البقاء معه، والسؤال هنا تأريخياً: من هن المخيرات؟ أولاً: كم كان عددهن؟ الجواب: تسع: خمس قرشيات، وأربع غير قرشيات.

الآن ندخل في سياحة تأريخية، أولى القرشيات عائشة ، وأبوها أبو بكر من بني تيم، رغم أن بني تيم لم يكن لهم صيت في قريش.

ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود

لكن أخرج الله منهم هذا الصديق ، فوزن الأمة كلها، لا قريش وحدها رضي الله عنه وأرضاه.

إذاً: فـعائشة قرشية من بني تيم؛ لأن المرأة تنسب لأبيها، وأبوها رضي الله عنه من بني تيم.

القرشية الثانية: حفصة بنت عمر ، وعمر من بني عدي .

القرشية الثالثة: رملة ، أم حبيبة بنت أبي سفيان ، وهذه قرشية من بني أمية.

القرشية الرابعة: أم سلمة من بني مخزوم، واسمها هند ، رضي الله عنها وأرضاها، وبنو مخزومٍ من قريش، ومن مشاهيرهم: الوليد بن المغيرة ، وخالد بن الوليد ، وأبو جهل ، فهؤلاء أربع قرشيات، والخامسة سنؤخر ذكرها.

نأتي لغير القرشيات، الأولى: جويرية بنت الحارث ، فهذه خزاعية من بني المصطلق.

والثانية: ميمونة بنت الحارث ، وهي هلالية من بني هلال، وليست من قريش.

والثالثة: صفية بنت حيي لها نسبان، فهي صفية بنت حيي بن أخطب النغيرية الهارونية ، تنسب إلى هارون بن عمران، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنك ابنة هارون)، فهي نغيرية هارونية.

فالآن مضى معنا من غير القرشيات: جويرية ، وميمونة ، وصفية .

والرابعة: زينب بنت جحش ، وهي غير قرشية بل أسدية.

دخل النبي صلى الله عليه وسلم على إحدى عشرة امرأة، اثنتان ماتتا في حياته، وهما خديجة وزينب بنت خزيمة الهلالية ، ومكث مع الأخيرة ثمانية أشهر، فالباقي تسع، وهن اللاتي خيرن، واللاتي توفي النبي صلى الله عليه وسلم عنهن.

أما الخامسة من القرشيات فهي سودة بنت زمعة رضي الله عنها، وهي عامرية قرشية وقد أخرنا الكلام عنها حتى نتفرغ للحديث عنها.

فـسودة رضي الله عنها كانت بدينة جداً، وهي التي تنازلت عن ليلتها لـعائشة ، فلما أنزل الله: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33] بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لم تخرج، لا لمسجد، ولا لحج، ولا لعمرة، وإنما من بيتها إلى قبرها في خلافة عمر ، فلما سئلت كانت تقول رضي الله تعالى عنها وأرضاها: إنا أمرنا بأن نقر في بيوتنا، قال الله: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33].

إذاً: فهؤلاء اللاتي خيرن من نساء النبي صلى الله عليه وسلم التسع، وقلنا: إن زينب بنت خزيمة لم تلحق التخيير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمكث معها إلا ثمانية أشهر، وخديجة من أول نسائه موتاً رضي الله عنها وأرضاها.

طلق المحيا 07-06-17 07:35 AM

إعراب قوله تعالى (يا أيها النبي قل لأزواجك...)
أما من حيث إعراب قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [الأحزاب:28].

فالحياة إعرابها مفعول به للفعل تردن، والدنيا صفة للحياة.

قوله تعالى: فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ [الأحزاب:28]؛ جزم الفعل في قوله تعالى: أُمَتِّعْكُنَّ؛ لأن قبله (فتعالين) وهو فعل أمر، فأمتعكن جزمت؛ لأنها وقعت في جواب الطلب، أي: الأمر، والفعل من أحوال جزمه أن يقع في جواب الطلب، أو في جواب الأمر؛ لذلك جزم: أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [الأحزاب:28].

و(سراحاً) مفعول مطلق للفعل أسرح، و(جميلاً) صفة لسراح، فإذا جاء المفعول المطلق بعده صفة فيصبح هذا من المفعول المطلق مبين للنوع؛ لأن المفعول المطلق له ثلاثة أحوال، إما أن يأتي مؤكداً أو مبيناً للعدد، أو مبيناً للنوع، فالمؤكد مثل: أسرحكن سراحاً، فيصبح تأكيداً، ومنه قول الله جل وعلا: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] فتكليماً: مفعول مطلق مؤكد للفعل كلم.

أما إذا قلت لأخيك: ضربتك ضربتين، فهذا مفعول مطلق مبين للعدد، وأما في قول الله جل وعلا الذي بين أيدينا: وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [الأحزاب:28] فجميلاً كما قلنا: إنها صفة لسراح، لكن أصبح المفعول المطلق مبيناً للنوع.

هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، والعلم عند الله.

وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.



الساعة الآن 04:46 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. Designed & TranZ By Almuhajir

Ads Management Version 3.0.1 by Saeed Al-Atwi