![]() |
تفسير سورة الأنعام
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته تفسير سورة الأنعام نقلا عن محاسن التأويل للشيخ صالح المغامسي |
مما يعجب المرء له أشد العجب أن يرى الله تبارك وتعالى قد أقام الحجج الدامغة، والبراهين المعجزة، والآيات الباهرة، الشاهدة بألوهيته وربوبيته، ثم يجد بعد ذلك كله من يعدل بالله شريكاً قد لا يسمع ولا يبصر، بل ولا يغني عنه شيئاً، وهذا هو الظلم العظيم، والضلال المبين، فلا إله إلا الله، ولا معبود سواه، ولا مألوه إلا هو سبحانه جل جلاله.
|
الكلام على تفسير قوله تعالى: (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض... ثم الذين كفروا بربهم يعدلون)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. فهذه أوبة حميدة وعودة مباركة بإذن الله لبرنامجنا ولقاءاتنا الموسومة: بمحاسن التأويل، والتي مضت السنة فيها ولله الحمد والفضل والمنة ونحن نتأمل كلام ربنا جل وعلا، ولا مجلس أعظم ولا ملتقى أشد وأكثر بركة وفضيلة من مجلس وملتقى يتأمل فيه كلام رب العالمين جل جلاله، وقد من الله علينا بفضله ورحمته بالشفاء، وهانحن نعود معكم -أيها المباركون- فنسأل الله جل وعلا ألا يكلنا لأنفسنا طرفة عين، وأن يجعلنا من الشاكرين لنعمته، المثنين عليه تبارك وتعالى. ونقول: إننا في هذه الأوبة سنشرع في التأمل في سورة الأنعام، وسنأخذها إن شاء الله تعالى في لقاءات تكون أقل وقتاً مما سبق وجرت العادة عليه، فنقول: قال الله جل وعلا وهو أصدق القائلين مستفتحاً سورة الأنعام: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1]. بداية: سورة الأنعام سورة مكية وقد ذكرنا أن الانطلاقة في الوصول إلى أي غاية تبدأ بالعموم، وعما يقال فيها: إنها سورة مكية تظافرت روايات ليس فيهن رواية لها سند صحيح، لكنها متنوعة الطرائق، ولهذا قبلها المفسرون وهي أن السورة نزلت في مكة جملة واحدة وشيعها سبعون ألف ملك، وهذا لا نجزم به، لكن نقول: أكثر أهل العلم من المفسرين عليه، والصناعة الحديثية لا ينبغي أن تطبق بالكامل في مثل هذا المنحى، ما دمنا لم ننسب ولم نرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولاً. |
ذكر السور التي افتتحت بالحمدلة والتي اختتمت كذلك بالحمدلة
قال أهل العلم: والسورة هذه أصل في الاحتجاج على المشركين، وقد تضمنت أسلوبين: أسلوب التقرير، وأسلوب التلقين، وسيأتي تفاصيل ذلك إن شاء الله تعالى في موضعه، استفتحها ربنا جل وعلا بحمده والثناء على ذاته العلية فقال جل جلاله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [الأنعام:1]، وهنا نقول: إنه من باب الاتفاق لا من باب الإلزام جاءت في القرآن خمس سور استفتحهن الله بحمده، وخمس سور ختمهن الله بحمده، فأما الخمس سور التي استفتحهن الله جل وعلا بحمده فهي: سورة الفاتحة، وسورة الأنعام، وسورة الكهف، وسورة سبأ، وسورة فاطر، فهذه السور الخمس افتتحهن جل وعلا بحمده، قال ربنا في الفاتحة: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، وقال تباركت أسماؤه في الأنعام: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [الأنعام:1]، وقال جل وعلا في الكهف: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [الكهف:1]، وقال تبارك اسمه في سبأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [سبأ:1]، وقال جل وعلا في فاطر: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [فاطر:1]. وختم خمس سور بحمده: قال جل وعلا في الإسراء: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا [الإسراء:111]، وقال جل وعلا في النمل: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ [النمل:93]، وقال جل وعلا في الصافات: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:181-182]، وقال جل وعلا في الزمر: وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزمر:75]، وقال جل وعلا في الجاثية: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ [الجاثية:36]. فهذه خمس سور: الإسراء والنمل والصافات والزمر والجاثية ختمهن الله جل وعلا بحمده تبارك وتعالى. نعود للسورة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [الأنعام:1]، أهل الصناعة النحوية يقولون: إن الألف واللام هنا للجنس، فإذا ابتدئ بها تضمنت معنى الحصر، فتصبح الألف واللام في الحمد هنا على سبيل الحصر أي: لا يستحق الحمد أحد غير الله، فإذا قلنا: معنى الحصر أي: لا يستحق الحمد أحد غير الله تبارك وتعالى، والحمد يمكن تحرير معناه بالقول: أنه ما يصدر من فعل على وجه التعظيم للمنعم، وقولهم: للتعظيم احترازاً من الإهانة؛ لأن الله جل وعلا قال في باب التهكم بمن عصاه: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49]، فهذا ليس فيه حمد ولا إجلال وإنما جرى مجرى التهكم ولهذا قالوا: هو فعل أو قول يصدر على وجه التعظيم للمنعم، ولا يستحق الحمد أحد غير الله، ويمكن صرف الشكر إلى غير الله. |
قال صلى الله عليه وسلم: (من لا يشكر الناس لا يشكر الله).
قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1]، المعنى العام للآية: أن الله تبارك وتعالى يثني على ذاته العلية، ويبين أن من عظيم قدرته وجليل حكمته وسعة رحمته خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ومع هذه القرائن الظاهرة والأدلة الباهرة هناك من يجعل معه غيره، أي: يجعل له نظيراً ومثيلاً ونداً وهو صنيع أهل الإشراك، هذا المعنى العام للآية، لكن جرت العادة أننا لا نتوقف عند هذا، بل نبحر في الآية ونستنبط ما فيها، ونحرر المعنى على الوجه التالي: فهم العلماء من الآية: أن الجمع مقابل الإفراد يدل على فضيلة الفرد، ودليلهم: أن الله جمع الظلمات وأفرد النور، ومما يؤيده في أسلوب القرآن: قول الله جل وعلا في سورة النحل: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ [النحل:48]، أفردها، وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ [النحل:48]، فجمع الشمائل مع الاتفاق على فضل اليمين على الشمال. هذه واحدة. ثم اختلف العلماء هنا في معنى كلمة: يعدل، وهو فعلها الأصلي، عدل -أيها المبارك- تأتي على معنيين إذا قلنا عدل عن الشيء أي: مال عنه وانحرف، وإذا قلنا: عدل به أي: ساواه بغيره، فأي المعنيين أراده الله مبدئياً حتى لا تتحمل ثقلاً على ظهرك وتخشى أن تقع في محظور؟ أي المعنيين اخترت فهو صحيح؛ لأن أهل الإشراك عدلوا عن عبادة الله إلى عبادة غيره، وهذا هو المعنى الأول. وعدلوا مع الله غيره بأن جعلوا له شركاء وأنداداً فكلا الأمرين وقعا من أهل الإشراك، ولا ريب أن الإنسان إذا خشي أن يقع في محظور دفعه هذا إلى التقدم والمجازفة في الكلام؛ لأنه أمن الوقوع في المحظور، لكن تحرير الكلام علمياً يأتي على كلمة بِرَبِّهِمْ [الأنعام:1] فالباء هنا: هل هي للإلصاق أو بمعنى عن؟ فإذا أخذنا أن عدل بمعنى: انحرف ومال، فستصبح بمعنى: ثم الذين كفروا عن ربهم يعدلون. وقد جاء في القرآن وفي كلام العرب: أن الباء تأتي بمعنى عن، قال تعالى: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ [المعارج:1]، والمعنى: سأل سائل عن عذاب واقع، فالباء هنا بمعنى عن، وجاء في لغة العرب قول عنترة الشاعر الجاهلي المعروف: هلا سألت الخيل يا ابنة مالك وهي عبلة محبوبته وابنة عمه. إن كنت جاهلة بما لم تعلم وجاهلة خبر لكان، بما لم تعلم أي: عما لم تعلم، أي بمعنى: عن، وهو الذي نبحث عنه الآن. |
أثر الإسلام على الشعر العربي
إذا خرجنا عن هذا الشاهد قليلاً من باب السياحة الثقافية نقول: إنك تلحظ في بيت الشعر هنا الشعور بالخصوصية وعنترة يتكلم عن نفسه، ولهذا قال في نفس المعلقة: ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها قيل الفوارس ويك عنتر أقدم وهذه الفردية والأنانية كانت ذائعة عند الجاهليين، فلما جاء الإسلام أثر في الخطاب الشعري عند العرب، ولهذا جاء في أبيات حسان : عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء وقوله: فإما تعرضوا عنا اعتمرنا وكان الفتح وانكشف الغطاء وقوله: وجبريل أمين الله فينا فروح الجماعة والاتحاد والإخاء موجودة في شعر حسان خلافاً لما كان عليه شعر الجاهليين، وهذا من أثر الإسلام على العرب، ونقلهم من حياة الجاهلية الفردية إلى حياة الإخاء والإخوة في الإسلام سياحة ثقافية بعض الشيء. قال عز وجل: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1]، فعدل إذا قلنا: إنها بمعنى: مال وانحرف تصبح الباء بمعنى عن، وإذا قلنا: إنها بمعنى: الإشراك أي: يجعلون مع الله نداً فتبقى الباء على أصلها، وهناك فرقة خرجت عن المألوف الذي عليه أهل الإشراك، فأهل الإشراك وإن كانوا يعبدون مع الله غيره إلا أنهم يعترفون أن الخالق والرازق هو الله، كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، هذا الأصل في أهل الإشراك فشركهم شرك عبادة، وليس شرك ربوبية، لكن ليس هذا حال جميع أهل الكفر، فهناك فرقة تسمى: المانوية، وهي في العراق أكثر ظهوراً، وهؤلاء ينسبون كل خير إلى النور، وينسبون كل شر وأذى إلى الظلمة، ولا يقولون بوجود الله، وأحياناً يرد عليهم، لكن ليس كل من يرد عليهم ينتصر لعقيدته، وإنما بعض الناس يحكي تجاربه: فـالمتنبي يرد عليهم بقوله: وكم لظلام الليل عندك من يد تُخبِّر أن المانوية تكذب هو أراد أن يقول: كم من نعمة حصل عليها في الليل وكان الليل شفيعاً له في النجاة من محظور، فهو بالتجربة يقول: إن هذه التجارب التي عشتها وعاشرتها تخبر أن ادعاء المانوية: أن الظلمة سبب كل شر لا أصل له، فـالمتنبي رد عليهم لكن من منطلق ذاتي وليس من منطلق عقدي، ومشكلة المتنبي أنه يخرج أو يبعث شعره أو يتكلم من مشكاة نفسه لا من مشكاة معتقدات دينية يحملها، وإنما ما تمليه عليه تجاربه أو ما تمليه عليه قراءته فيقولها للناس. |
تأثر العرب والمسلمين بحضارة اليونان وتأثيرها على علومهم
وأنت تعلم -أيها المبارك- أن الترجمة جاء ذكرها في أيام العباسيين لكن العرب عندما ترجموا عن الكتب اليونانية أكثر ما عنوا به: علم المنطق، وما يعنى بالأدب، فلهذا استفاد الأدباء من تجارب اليونان فظهر في شعرهم ذلك وهو في شعر المتنبي أظهر، واستفاد النحاة في تحرير النحو وتقسيمه ونشوئه من علم المنطق الذي أخذوه عن اليونانيين، فارتقى علم النحو وساد وتفرعت مدارسه، وأغفل العرب آنذاك عمداً أو جهلاً علمين في النقل عن اليونانيين كانا شائعين في الحضارة اليونانية: وهما الفن والسياسة، فلم يترجموا شيئاً في السياسة، ولم يترجموا شيئاً في الفن، ولهذا فالحضارة العباسية بقيت ضعيفة في قضية السياسة؛ لأن علم السياسة لم يؤخذ من اليونانيين، ولم يترجم، فما ارتفعت حياة العرب السياسية في عهد العباسيين، ولهذا لما جاء هولاكو لم يجد دولة قائمة على سوقها لا خليفة يأمر وينهى، ولا جيش منظم يدافع، وإنما هي الخيانة؛ وزير ينتمي إلى مذهب الرافضة تضيع دولة بأكملها بسببه، ولو كانت هناك قوة سياسية منظمة لما أمكن لهم ذلك، ومن أسباب عدم الارتقاء السياسي أمران: أولاً: عدم اللجوء إلى الاستفادة من أحداث الصدر الأول وهذا السواد الأعظم. والأمر الثاني: عدم الاستفادة من الحضارة اليونانية في علم السياسة، أما الفن فخيراً فعلوا في أنهم لم ينقلوا ولم يترجموا تقدم اليونانيين فنياً. هذا استطراد دخلنا فيه من باب قول الله جل وعلا: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1]، وذكرنا أن المانوية فرقة تؤمن بأن الظلمة أصل كل شر، وأن النور أصل كل خير. على التعريج بالظلمة والنور أهل الشرع الباحثون في كلام الله -جعلنا الله وإياكم منهم- يقولون: إن الله جل وعلا خلق الليل قبل النهار، واستدلوا بآية يس، قال الله تبارك وتعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ [يس:37]، فأخبر الله جل وعلا أن الليل هو الأصل في النهار، وأن النهار مأخوذ منه، لكن الآية التي بين أيدينا الآن في سورة الأنعام لا تدل على هذا، بل تدل على الاقتران، قال الله تبارك وتعالى: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1]، (ثم) المستقر ذهنياً وفق صناعة النحو أنها: للتراخي، تقول: حضر عبد الرحمن ثم طارق فهذا تراخ زمني، لكن العلماء يقولون هنا: ليس المقصود منه التراخي الزمني؛ لأن هناك بوناً شاسعاً بين خلق السموات والأرض وبين كفر كفار قريش؛ لأن كفار قريش آخر الأمم، والله جل وعلا خلق السموات والأرض قبل أن يخلق أبانا آدم، فجاء على هذا: أن التراخي هنا المقصود به التراخي بين الرتبتين، أي: على طريق الاستبعاد، بمعنى: أن الآيات ظاهرة، والدلائل قائمة، والشواهد واضحة، في أن الله لا ينبغي أن يعبد معه غيره، ثم مع هذا الظهور الجلي الواضح يأتي أهل الإشراك فيعدلون مع الله غيره أو يعدلون عن عبادة ربهم، فالتراخي هنا للتراخي بين رتبتين، وليس للتراخي الزمني، وإن كانت تتضمن التراخي الزمني لزاماً؛ لأن هناك تراخ زمني كبير ما بين خلق السموات والأرض وكفر كفار قريش. |
معنى كلمة (جعل) في القرآن
قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1]، قلنا: إن يعدل هنا تأتي بالمعنيين، وقلنا: إنه لا حرج في اتخاذ أحد هذين المذهبين، كذلك في قوله تبارك وتعالى: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1]، هنا جعل بمعنى: خلق، لكنها ليست دليلاً للمعتزلة في: أن جعل تأتي بمعنى: خلق على الإطلاق، وهذا حررناه في لقاءات سابقة، لأن المعتزلة الفرقة المعروفة تقول: إن جعل في القرآن كله بمعنى: خلق، وهذا مما يحاولون به الوصول إلى أن القرآن مخلوق، والقرآن قطعاً منزل، لكن جعل تأتي أحياناً بمعنى: خلق، وتأتي أحياناً بغير معنى خلق، قال الله تبارك وتعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [الزخرف:19]، فهذه ليست بمعنى خلق اتفاقاً، فلا يمكن لأهل الكفر أن يكونوا خالقين للملائكة، لكنهم اعتقدوا هنا أن الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً، فقول الله جل وعلا: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1] إنما هو تفنن في الخطاب، وإلا فخلق السموات والأرض هو عين خلق الظلمات والنور. هذا ما تحرر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، حول الآية الأولى التي افتتح الله جل وعلا بها سورة الأنعام. سائلاً الله لي ولكم التوفيق،وصلى الله على محمد وعلى آله، لحمد لله رب العالمين. |
يبين الله جل وعلا في هذه الآيات عظم جحود المشركين وكفرهم، ويذكرهم بأصل خلقهم، وأنه التراب، ويذكرهم بالآجال التي يتبعها البعث والنشور، ويذكرهم بعلمه المحيط بالسماوات والأرض، وأنه إله من في السماء وإله من في الأرض، ثم يأبى هؤلاء إلا أن يشكوا في قدرة الله وقوته على البعث والحساب، بل ويشركون معه من لا يسمع ولا يعقل ولا يغني لهم شيئاً.
|
تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من طين... ثم أنتم تمترون)
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا اللقاء الثاني المخصص لسورة الأنعام: وكنا قد تحدثنا في اللقاء الأول عن فاتحة السورة، وهي قول الله جل وعلا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1]. فالآية الأولى هذه كانت تتحدث عن إثبات الألوهية، ثم انتقلت الآيات الآن إلى إثبات غرض آخر مما يتعلق بعقائد الناس وهو: البعث والنشور، قال الله جل وعلا: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ [الأنعام:2]. وهذا انتقال إلى غرض آخر تريد السورة إثباته وإقامة الحجة به على أهل الإشراك وهو: البعث والنشور. بقي في اللقاء الأول: أن نعرج على كلمة (يعدل)، وقد تحدثنا عنها تفصيلاً لكن ينبغي أن تعلم -أيها المبارك- أن كلمة (يعدل) بمعنى: يوازي ويماثل ويجعله نداً، فإذا كنا نتكلم عن مثيل من نفس الجنس فإنها تكسر فيقال: (عِدل)، ومنه قول مهلهل ربيعة يعير قاتلت أخاه كليباً : على أن ليس عدلاً من كليب أي: لا مثيل لـكليب من جنسه. أما إذا فتحنا العين وقلنا: (عدل)، فلا يقصد بها المثيل من الجنس، وإنما يقصد بها: الفدية، والله جل وعلا ذكر الصيد،وأنه محرم في حال الإحرام، ثم قال: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:95] ففتح العين؛ لأن الصيام ليس من جنس الصيد، وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ [البقرة:48] أي: ولا يؤخذ منها فدية. ثم قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [الأنعام:2]، هنا يمتن الله جل وعلا عليهم وهو يحاورهم في قضية: إنكارهم للبعث والنشور، قال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [الأنعام:2]نأن، والخلق في القرآن على ضربين: إما تذكير بخلق آدم ، وهنا يقول: (خلقكم من طين)، أي: من تراب من صلصال، وأحياناً يتكلم عن الإنسان الناشئ عن أبيه آدم ، فيتكلم الخلق عن ماء أو عن نطفة، فيأتي الله بذكر الخلق عن ماء أو عن نطفة. لكن ما السر في قول الله تعالى هنا :هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [الأنعام:2]نأن. قلنا: إن الغاية من الآية: إثبات البعث والنشور، وأهل الإشراك يستبعدون إذا أصبحوا تراباً أن يبعثوا، فذكرهم ربهم تبارك وتعالى بأن أصل خلقهم من الطين، فهذا الطين أو التراب الذي تزعمون أننا نعجز أن نعيدكم منه نحن خلقناكم منه أصلاً، قال تعالى: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق:15]. وقد حررنا في دروس مضت، وأيام خلت الكثير من قضايا البعث والنشور، مما لا حاجة إلى تكراره، لكن نؤكد هنا على قضية السر في إيراد كلمة (طين). قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [الأنعام:2]، وقد مر معنا: أن آدم عليه السلام مر ثلاث مراحل: خلق من تراب، ثم مزج هذا التراب بالماء فأصبح طيناً، ثم ترك هذا الطين حتى يبس فأصبح فخاراً، وهي: المرحلة الفخارية، فهي ثلاث مراحل مر بها خلق أبينا آدم عليه السلام. قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ [الأنعام:2]، هنا ذكر الله أجلين اختلف العلماء في تحديدهما، وجمهور أهل التفسير على أن الأجل الأول في الآية: هو الموت. والأجل الثاني: هو المدة ما بين الموت إلى البعث والنشور. وقال آخرون: إن المقصود بالأجل الأول: النوم. والأجل الثاني: الموت. وهذا القول حكاه ابن كثير وعقب عليه بقوله: وهذا قول غريب. قال: (ثم قضى أجلاً) أكثر أهل التفسير: يرى أن (قضى) هنا بمعنى: قدر وحكم، واعترض الطاهر بن عاشور رحمة الله تعالى عليه في (التحليل والتنوير) على هذا المفهوم وقال: إن قضى هنا بمعنى: أنهى وأمات، وقوله وأدلته أظهر من قول من سبقه؛ لأن التقدير إن لم يكن مقترناً بالخلق فهو سابق عليه، والآية هنا لا تشعر بهذا؛ لأن الله قال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا [الأنعام:2]. فجعل التقدير -على اعتبار أن قضى بمعنى: قدر- متأخراً عن الخلق، وهذا غير مقبول، فما ذهب إليه ابن عاشور رحمة الله تعالى عليه أقرب إلى الصواب، فجعل قضى هنا بمعنى: أنهى، واستدل بإتيان مثل هذا في القرآن، قال الله جل وعلا: فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ [سبأ:14]، أي: أنهيناه بالموت، والمعنى هنا يستقيم مع الآية: ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ [الأنعام:2]، و(عند) هنا: تفيد الحصر، والضمير عائد على ربنا جل وعلا، والمعنى: أن هذا الأجل الثاني لا يعلمه أحد، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل. مثاله: عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، صحابي جليل، كان سنه عند موته 63عاماً؛ وهذا لا يخفى على أحد، فكلنا نعرف بعد موت عمر أن أجله كان 63عاماً؛ فلهذا لم يقل الله في الأجل الأول: إنه عنده؛ لأنه أصبح ظاهراً للناس، لكننا لا نعلم أجله الثاني، من موته إلى قيام الساعة، فهذا أمر أخفاه الله عنا واستأثر بعلمه، وبهذا يتحرر معنى قوله سبحانه: وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ [الأنعام:2]. ثم انتقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب، وهذا يسمى: التفافاً في الصناعة البلاغية، قال سبحانه: ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ [الأنعام:2]، لكن ينبغي أن تقيد أن قول الله جل وعلا: ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ [الأنعام:2] من الامتراء وهو: الشك، وليست من المماراة: وهي الجدال والمحاورة، والمعنى: أنكم مع خلقي لكم من طين، وجعلي الأجلين لكم، ما زلتم تشكون في مسألة البعث والنشور، وعدم الإيمان بالبعث والنشور من أعظم ما تلبس به أهل الإشراك: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [التغابن:7]. |
تفسير قوله تعالى: (وهو الله في السموات والأرض... ويعلم ما تكسبون)
ثم نأتي إلى آية من متشابه القرآن حيث يقول الله: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [الأنعام:3]، الأصل: أننا نؤمن أن الله جل وعلا له علو ذاتي، وأنه تبارك وتعالى مستو على عرشه، بائن من خلقه، قال العلامة ابن عثيمين رحمة الله تعالى عليه: أجمع السلف على إثبات علو الذات لله، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل. وللعلماء في الآية ثلاثة أقوال: القول الأول: أن معنى الآية: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ [الأنعام:3]، أي: وهو المألوه المعبود في السماء والأرض، أي: يعبده أهل السماء وأهل الأرض، وهذا القول عليه جماهير أهل التفسير، ورجحه العلامة الشنقيطي في أضواء البيان، واختاره من قبله الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن. ومن الآيات التي تؤيد هذا المعنى: قول الله جل وعلا: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف:84]، أي: هو إله من في السماء وإله من في الآرض. القول الثاني -واختاره النحاس النحوي المعروف- يقول: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ [الأنعام:3] أي: في السموات وفي الأرض، فجعلها متعلقة بـ(يعلم)، فيصبح معنى الآية: وهو الله يعلم سركم في السموات وفي الأرض. قال النحاس : وهذا أفضل ما يقال في الآية، لكننا قلنا: إن الجمهور على خلاف ذلك. ومما يؤيد هذا المعنى من القرآن: قول الله جل وعلا: قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الفرقان:6]. القول الثالث -وهذا اختيار إمام المفسرين: ابن جرير رحمة الله تعالى عليه- يقول: إن هناك وقفاً تاماً عند قول الله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ [الأنعام:3]، ثم نستأنف: وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ [الأنعام:3]، يعني: يعلم سركم وجهركم في الأرض، رغم أنه مستو على عرشه في السماء، ومن أدلة هذا القول: قول الله تبارك وتعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ [الملك:16]. نعود فنقول: ذهب الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه إلى القول الأول، لكنه استشهد على صحة الأقوال بما ذكرناه من الآيات، ونحن نقول، إن هذه الطريقة غير صحيحة؛ بصحة ما ذهب إليه هؤلاء الكبار، لكن لا يلزم من صحة المعنى صحة الطريقة، كمن تعطيه مسألة في الرياضيات فيأتيك بالحل، لكنه لم يتخذ الطريقة الصحيحة، فأنت تقر له بأن الحل صحيح، لكنك لا تقر له بصحة الطريقة، فنقول: إن المسلك الذي سلكوه فيه نوع من التكلف، والأصل: بقاء الآية على معناها الظاهر الذي يتبادر أول الأمر، والعجب أن ابن جرير رحمة الله تعالى عليه ممن يأخذ بظواهر الآيات أولاً، ومع ذلك لجأ في هذه المسألة إلى القول بالوقف التام في قوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ [الأنعام:3]. نعود فنقول: إن المعنى الحقيقي للآية في ظننا: أن الله جل وعلا إله من في السماء، وإله من في الأرض، لكن هذا المنحى يدخل على مستوعب التفسير إشكالاً يجب الرد عليه: وهو أننا قلنا في مثل قول الله تعالى في سور كثيرة: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:5-6]: إن ذكر اليسر نكرة مرتين يدل على أن هذا اليسر خلاف اليسر الأول، وأنتم تقولون: إن النكرة إذا تكررت تغايرت، ثم من القواعد المشتهرة -كما قال السيوطي في منظومته- أن النكرة إذا تكررت تغايرت، فعلى هذا المعنى يكون قوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف:84]، دالاً على وجود إلهين وليس إلهاً واحداً؟ فنقول: لا يلزمنا هذا أبداً؛ لوجود الأصل العام أولاً وهو أن الله إله واحد. والأمر الثاني: أن القاعدة تقول: إن هذا تغير في الصفات لا في الذوات،قال ربنا يثني على نفسه: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]. ثم قال: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى [الأعلى:2]. وقال: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:3]، فليست الصفات صفات لغير الله، وإنما هي صفة لله، لكنها صفة أخرى لغير الله، فيحتاط المرء عندما يفهم أن التغاير يكون في الصفات لا في الذوات. قال تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [الأنعام:3]، سركم أي: ما تخفون، وجهركم أي: ما تظهر الجوارح، وما تكسبون، الكسب: هو ما يقع حقيقة من فعل أو قول، وحتى تتضح الصورة يقول الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ [لقمان:34]، ثم قال: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا [لقمان:34]، ولم يقل: وما تدري نفس ماذا تعمل غداً؛ لأن الإنسان يبيت سلفاً ما سيعمله، لكنه يجهل إمكانية وقوع هذا العمل الذي بيته، هذا الذي يجهله الإنسان ولا يعلمه إلا الله، فنحن قبل أن نصل إلى هنا مدركون منذ البارحة أو قبلها بأيام أننا إن شاء الله سنلتقي هاهنا لنؤدي هذه الحلقة المباركة، هذا عمل، لكن حصوله يعد كسباً لا عملاً، فما تضمره السرائر، وتكنه الضمائر يعلمه الله، ويعلم كذلك إن كان هذا الذي أكننته سيقع أم لا؛ ولهذا قال الله جل وعلا: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [الأنعام:3]. وقد مر معنا: أن الله يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون، ويعلم جل وعلا ما لم يكن لو كان كيف يكون. والمقصود من هذا كله: إظهار قدرة الله، أما الآية الأولى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [الأنعام:2] ففيها: إقامة الحجة على أهل الإشراك في قضية البعث والنشور، وقد حررنا أن الله ذكر الطين حتى يذكرهم بأصل خلقتهم. مما يمكن اقتباسه من الآيات: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [الأنعام:2-3]: أن الإنسان كلما ازداد علماً ومعرفة بعظمة ربه جل وعلا كان أقدر على طاعته، وأبعد عن معصيته، وقد حررنا هذا الكلام مراراً في دروس سلفت، وأيام خلت، لكن التأكيد عليه من أعظم اللوازم؛ فليس المقصود من تفسير القرآن: إظهار القدرات، وبيان ما يملكه الإنسان من ملكات، لكن القرآن في المقام الأول واعظ وهاد إلى أعظم سبيل، فأحياناً ينبغي على الإنسان أن يفرق ما بين الشيء نفسه والغاية من الشيء، مثاله: النبي صلى الله عليه وسلم مدحه ربه، ومدحه الخلق، لكن مدح الخلق للنبي صلى الله عليه وسلم ليس بزائد في مدحه صلى الله عليه وسلم شيئاً؛ إذ يكفيه مدح ربه له صلى الله عليه وسلم، لكن ينجم عن هذا: أن هؤلاء الناس الذين مدحوه صلى الله عليه وسلم هم أنفسهم ينتفعون. فالإنسان إذا قدر له أن يعطى علما جماً في علم الآلة ينبغي أن يوظف ذلك العلم في إظهاره للناس، ثم لا ينسى الحقيقة الهامة، والغاية الجليلة من الأمر، وهي: أنه يجب أن تكون تلك الملكات سائقة له -قبل أن يعلم الناس- إلى أن ينتفع بالقرآن. لو كان في العلم غير التقى شرفاً لكان أشرف خلق الله إبليس والله نعى على أهل الكفر: أنهم يعلمون -كاليهود مثلاً- لكنهم لا ينتفعون بعلمهم، نفعنا الله وإياكم بما نقول. هذا ما تحرر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، وصل الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين. |
يذكر الله تعالى نبأ الكفار الذين عميت قلوبهم عن إبصار الحق فأعرضوا عن آياته وكذبوا بالحق لما جاءهم، واقترحوا على رسول الله ما ظنوا أنه معجز له عن الإتيان به، وكل هذا سببه تأصل العناد في قلوبهم، وحيادهم عن طلب الحقيقة بالتجرد إلى الإصرار على الباطل، وقد توعدهم الله تعالى مجازاتهم على صنيعهم مذكراً لهم بحال من سبق من المكذبين وعاقبتهم، وما هؤلاء بأكرم على الله منهم.
|
تفسير قوله تعالى: (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين)
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرحمن على العرش استوى. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن على أثارهم اقتفى، وبعد: فهذا هو الدرس الثالث حول سورة الأنعام المباركة التي ذكر المفسرون أنها نزلت جملة واحدة. فنقول مستعينين بالله جل وعلا: قال الله جل وعلا: وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [الأنعام:4-5]. هذا إخبار عن حال أهل الإشراك، والسورة مكية تصور حال أهل مكة، و(ما) في قوله تعالى: َمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ [الأنعام:4] نافية. وذكرت (من) هنا مرتين، حيث قال تعالى: َمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ [الأنعام:4]. وأما (من) الأولى فهي لاستغراق الجنس، أي: للعموم. وأما الثانية فتبعيضية. ومن تلك الآيات انشقاق القمر. وقوله تعالى: إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ [الأنعام:4] أي: إننا أظهرنا لهم الآيات، ومن أعظمها القرآن، ومنها انشقاق القمر، فكانوا عنها معرضين، أي: أعرض أهل مكة عنها، وهذه ظاهرة المعنى. |
تفسير قوله تعالى: (فقد كذبوا بالحق لما جاءهم...)
قال تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ [الأنعام:5] فبصنيعهم هذا ردوا الحق وهو ظاهر بين فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [الأنعام:5]. و(سوف) هنا للتراخي؛ لأنا للمستقبل البعيد، وهذا من وعيد الله لهم بالهلاك في الدنيا والآخرة، أو بالثبور في الدنيا والآخرة، وقد وقع هذا يوم أحد، ووقع يوم الفتح، ويوم بدر، وسيقع أعظم منه وأشد لمن مات كافراً يوم القيامة. والنبأ في اللغة: الخبر المفجع الذي تفزع منه النفس، وجمع الأنباء ليعلموا أن الله جل وعلا أخفى لهم شتى أنواع الهلاك. |
تفسير قوله تعالى: (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن...)
ثم قال الله: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الأنعام:6]. الهمزة هنا للاستفهام اتفاقاً، ولكن اختلفوا في الغرض من الاستفهام هنا. فقال بعضهم: إن الاستفهام هنا إنكاري، وهذا القول ذهب إليه الشوكاني رحمه الله تعالى في فتح القدير، وهو خلاف الصواب. والصواب أن الاستفهام هنا استفهام تقريري من جنس قول الله جل وعلا: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1]؛ لأن الاستفهام إذا دخل على نفي يفيد التقرير، و(لم) نافية بالاتفاق. وقوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا [الأنعام:6] معناه: ألم يعلموا، وليست رأى هنا هي البصرية، ومعلوم أن (رأى) إذا جاءت بمعنى (علم)، فهي من أخوات ظن. وأما إذا جاءت (رأى) بمعنى (أبصر بعيني رأسه) فإنها تتعدى إلى مفعول واحد، وأما الأولى فهي بمعنى (علم)، من أخوات ظن، تدخل على الجملة الاسمية فتنصب المبتدأ والخبر، وكلاهما يسمى مفعولا لها. ولقرينة على أنها علمية وليست بصرية أننا نعلم جميعاً أن الله جل وعلا قال: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ [الأنعام:6]، وأن القرشيين لم يروا بأم أعينهم هلاك الأمم قبلهم، فلما انتفى الثاني وجب صرفها إلى الأول. قال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا [الأنعام:6] (كم) هنا خبرية، وليست استفهامية. و(كم) الاستفهامية تحتاج إلى جواب، وأما (كم) الخبرية فلا تحتاج إلى جواب، وإنما يراد بها الكثرة، قال الفرزدق يهجوا جريراً : كم خالة لك يا جرير وعمة فدعاء قد حلبت علي عشاري قصد بها الكثرة ولم يقصد جواباً من جرير على سؤاله. |
بيان معنى القرن
قال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ [الأنعام:6]. كلمة (قرن)، فيها قولان: الأول: أن المراد بها المدة الزمنية، ومن قالوا بهذا اختلفوا في تحديد هذه المدة، فالأشهر على أنها مائة عام، وقال آخرون: إنها ثمانون، وقال آخرون: إنها ستون. والقول الثاني: أن القرن كل قوم عاشوا في عصر واحد طال أو قصر، فهم كل قوم عاشوا مقترنين مع بعضهم في عصر واحد، طال هذا العصر أو قصر، ومن الأدلة على صحة هذه القول قوله صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرن) يقصد من عاش معه، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعش في عمره كله إلا ثلاثة وستين عاماً، منها ثلاثة وعشرون عاماً كان فيها نبياً ورسولا، فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني). فالله تعالى هنا يقول: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ [الأنعام:6]. والمقصود أهل القرن، وهذا مما يسميه بعض البلاغيين بالمجاز المرسل، ويجعلون له علاقات. |
بيان معنى قوله تعالى (مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم...)
قال تعالى: مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الأنعام:6] أي: تلك القرون مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ [الأنعام:6]، أي: يا أهل مكة، وزيادة على ذلك وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ [الأنعام:6]، أي: على تلك القرون التي أهلكناها مِدْرَارًا [الأنعام:6]. وهذا إيضاح بأن حال تلك القرون كان من حيث المعيشة الظاهرة أفضل من حال أهل مكة؛ لأن مكة بلد شحيح المطر وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ [الأنعام:6] ومكة بلد جبلي. |
بيان إهلاك الله تعالى المكذبين بعد بسط نعمته عليهم
قال تعالى: فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ [الأنعام:6]. أي: بسطنا لهم في الأموال والجاه والأجساد والبنين، فلم يحل ذلك بيننا وبين إهلاكهم فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [الأنعام:6]. أي: أوجدنا وخلقنا قوماً آخرين يعمرون الأرض بعدهم، ولا ريب في أن المسوغ لإهلاك أهل مكة أعظم من المسوغ لإهلاك من سبق، والمسوغ هنا هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل ممن قبله من المرسلين، فإذا كان أولئك القوم كذبوا برسل؛ فقد كذبتم أنتم بأعظم رسول، فالهلاك في حقكم أكبر، ولكن الله جل وعلا أبقاهم؛ لقوله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال:33]. والآيات -وإن دلت على الزجر والوعد والوعيد لأهل الإشراك- قد تضمنت ثناء الله جل وعلا على نفسه، وأعلم أن القرآن دل على أن سبب هلاك الأمم أمران: الأمر الأول: التكذيب بالرسل ومعاندتهم. والأمر الثاني: البطر في المعيشة وغمط الحق، فغمط الحق وبطر المعيشة من أعظم أسباب هلاك الأمم، قال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ [القصص:58]. |
تفسير قوله تعالى: (ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس...)
ثم قال جل وعلا: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام:7]. إن الكفر ملة واحدة، ومما توارثه أهل الكفر العناد والاستكبار، وادعا أن ما يقوله الرسل سحر، كما أخبر الله تعالى عن قوم فرعون أنهم قالوا لموسى: مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [الأعراف:132]. فهذا الأمر توارثته الأجيال من عهد نوح، فكل قوم يقولون لرسولهم: سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات:52]. فربنا جل وعلا يقول: إن العناد شيء متأصل، وليست القضية -أيها النبي- أنك لم تحسن عرض الدين عليهم، والدليل -والله يعلم ما سيكون- قوله تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ [الأنعام:7]. والحواس خمس: البصر، والذوق، والسمع، والشم، واللمس، وأقوى الحواس الخمس اللمس؛ لأن الإنسان قد يعتريه ما يضعف قوة شمه، أو يطعم الماء الزلال مراً، أو يُسحر سحر تخييل، أو يلتبس عليه سماع الكلمات لأجل اللغط، فأقوى حواسه ما يلمسه؛ إذ يقل أن يدخل شيء يؤثر على حاسة اللمس، بخلاف الحواس الأخر. فهنا ذكر الله أقوى الحواس، فقال: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ [الأنعام:7]. ولم يقل جل وعلا فرأوه؛ إذ لو رأوه لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر:15]، ولكن قال: فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام:7]. فذكر الله جل وعلا اللمس هنا ليثبت جل وعلا أن هؤلاء القوم تأصل العناد والاستكبار فيهم، فيقول تعالى: لو أنك -يا نبينا- أتيت بكتاب من عندنا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال اللذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين. على أنه ينبغي أن يعلم أن اللمس في القرآن له معنيان: المعنى الأول: اللمس بظاهر البشرة، وهو اللمس المعروف. والثاني: البحث، كما قال الله تعالى عن مؤمني الجن: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا [الجن:8]، والجن لم تمس السماء، وقد قال تعالى: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا [الأنبياء:32]. فالجن لم تلمس السماء، ولكنهم بحثوا في السماء فوجدوا أن السماء مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا [الجن:8]. والقرطاس اسم له نظائر، وهي الطرس والكاغد والورق، فالورق والطرس والكاغد بمعنى واحد، وهو ما يكتب عليه، فإذا كتب عليه سمي قرطاساً، فلا يسمى القرطاس قرطاساً إلا إذا كتب عليه. وتسميته ورقاً وكاغداً وطرساً تسمية فصحى، فجاء الله جل وعلا هنا بأرفع الأربعة فقال: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ [الأنعام:7]. أي: مكتوباً في قرطاس. والقاف في (قرطاس) مثلثة، فيجوز فيها الثلاث الحركات، فتقول: قُرطاس، وقَرطاس، وقِرطاس، وأفصحها بالكسر؛ لأن القرآن جاء بها. فاللغة فيها فصيح وأفصح، وتعرف الفصاحة بأسلوب القرآن، فاختيار القرآن هو الأفصح. |
تفسير قوله تعالى: (وقالوا لولا أنزل عليه ملك...)
ثم ذكر الله اقتراحاً ذكره أهل الكفر فقال تعالى: وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ [الأنعام:8]. فمن الاقتراحات التي اقترحها مشركوا قريش أن ينزل الله جل وعلا ملكاً على نبينا صلى الله عليه وسلم. ولهم اقتراح آخر، وهو أن يكون الرسول نفسه ملكاً. و(لولا) تأتي للحض، فهم يظنون بجهلهم أن هذا أمر معجز، أي: يعجز الله عن أن يبعث ملكاً، ولذلك طلبوا هذه الآية على سبيل التعجيز. والعاقل لا يقبل أن يقع في الفخ الذي نصبه له عدوه، كما أن العاقل لا يسلم نفسه إلى عدوه أيا كان ذلك العدو، فالنبي صلى الله عليه وسلم دخل على حمزة وهو ثمل قبل أن تحرم الخمر يعاتبه على أن نحر ناقتي علي رضي الله عنه، فدخل علي وزيد مع النبي صلى الله عليه وسلم على حمزة وهو في نفر من الأنصار سكارى. فلما عاتب النبي صلى الله عليه وسلم حمزة قال حمزة للنبي صلى الله عليه وسلم وهل أنتم إلا عبيد لأبي؟! ففهم عليه الصلاة السلام من العبارة أن حمزة ثمل، فرجع القهقراء حتى لا يغتر حمزة ، فإذا رأى أظهرهم فقد يصيبه نوع من الإثارة فيؤذيهم، فخرج صلى الله عليه وسلم ووجهه إلى حمزة حتى خرج من الدار. والمقصود أن الإنسان يحتاط لنفسه ولا يسلم نفسه لغيره من أعدائه،مع الفارق بين حمزة رضي الله عنه وغيره. هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده في هذا الدرس المبارك حول سورة الأنعام، وفي الدرس القادم -إن شاء الله- سنعرج على كيفية رد الله جل وعلا في آياته المباركات على اقتراح القرشيين أن ينزل مع النبي صلى الله عليه وسلم ملك. وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين. |
يذكر الله تعالى في سورة الأنعام بعض مقترحات الكافرين على نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن تلك المقترحات نزول ملك ليكون رسولاً أو عاضداً للرسول البشري، ولما كان منشأ هذا الاقتراح هو العناد والمكابرة، وهو الأمر الذي يحزن النبي صلى الله عليه وسلم سلّى الله تعالى نبيه وتوعد المكذبين ببيان عاقبة المستهزئين، أمراً لهم بالسير والنظر في ما بقي من آثار أولئك الظالمين.
|
بيان أسباب ضلال المشركين عن اتباع الحق
الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فقد انتهى بنا المطاف في الدرس السابق إلى قول الله جل وعلا: وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ [الأنعام:8-9]، والآيات من سورة الأنعام. وكنا قد قلنا في فواتح تفسيرها: إن هذه السورة المباركة أثبتت الأصول الثلاثة: الإلهية لله جل وعلا، والرسالة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والإخبار عن البعث والجزاء، وأنها تضمنت أسلوبين هما أسلوب التقرير وأسلوب التلقين. وإن استصحاب السيرة مهم في دراسة القرآن، فالمجتمع القرشي في مكة كان قد طبع على العناد وطبع على الأنفة، إضافة إلى حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وثمة عوامل مجتمعة كلها تدور حول فلك واحد، وهو أن الله جل وعلا لم يكتب لهم الهداية، ولكن أسباب عدم كتابة الهداية لهم كان لها عوامل كثيرة، ومن ذلك اعتراضات كانوا يعترضون بها على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الاعتراضات أنهم اقترحوا أن يضم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ملك، أو قالوا: كان من المفترض أن الله إذا أراد أن يبعث رسولاً أن يبعث ملكاً يصدق ويقبل عند الناس، ولا يبعث رسولاً من الناس. فما جعله الله رحمة طالبوا بنقضه؛ لأن الله جل وعلا من رحمته بعباده أن جعل الرسل منهم، ولهذا قال الله جل وعلا ممتناً على أهل الإيمان: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران:164]. فالنبي صلى الله عليه وسلم من أنفسنا، وهذا من رحمة الله جل وعلا بنا، ولكن أهل الإشراك بما طبعوا عليه من العناد اقترحوا أن يكون مع الرسول ملك، أو أن يكون الرسول ملكاً، فحكى الله تعالى قولهم فقال: وَقَالُوا [الأنعام:8] أي: أهل الإشراك لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ [الأنعام:8]، أي: على محمد، مَلَكٌ [الأنعام:8]، أي: يعضده ويكون معه حتى نصدقه بزعمهم، قال الله جل وعلا: وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ [الأنعام:8]، أي: ثم لا يمهلون. وقول الله جل وعلا: لَقُضِيَ الأَمْرُ [الأنعام:8]، معناه من حيث الحرفية: انتهى الأمر، ومنه قول الله جل وعلا عن يوسف: قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ [يوسف:41]، أي: انتهى الأمر. ولكن ما معنى (قضي الأمر) إذا ارتبط بالملك؟ وما معنى (قضي الأمر) في الرسالة؟ إن لأهل العلم رحمهم الله في تحرير قوله تعالى: (لقضي الأمر) ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن يقال: إن سنة الله جل وعلا في خلقه أن الأمم إذا اقترحت آية ثم لم تؤمن بها جاءهم عذاب استئصال، وقد مضى قدر الله أن هذه الأمة باقية؛ لأنها آخر الأمم، فلو جاء هذا الملك كما اقترحوا ولم يؤمنوا به وقد سبق في علم الله أنهم لن يؤمنوا به فستكون العاقبة تبعاً للسنن التي لا تتبدل ولا تتغير أنهم سيستأصلون. وهذا يتنافى مع ما قدره الله جل وعلا لهذه الأمة، وهو أن تبقى، قال الله جل وعلا: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، وهذه الأمة هي آخر الأمم، فلا يعقل أن تستأصل؛ لأن هذا يعني فناء الناس. وهذا وجه قاله العلماء في معنى قول الله جل وعلا: لَقُضِيَ الأَمْرُ [الأنعام:8]. والوجه الآخر: أن يقال: إن هؤلاء الناس لا تقدر قواهم على رؤية الملائكة، فيصبح قوله: (لقضي الأمر) يعني: بمجرد أنهم يرون الملائكة سيفنون. وهذا القول فيه شيء من الضعف، ولكن ثمة قرائن عند من قال به تؤيده، ومن قرائن ذلك قولهم: إن أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم -وهم الصفوة من الخلق الذين هم في كنف الله جل وعلا وحفظه ورحمته بهم- لما رأوا الملائكة على هيئتهم خافوا وفزعوا. واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أصابته رعدة عندما رأى جبريل على صورته قد سد الأفق، وقال الله عن داود: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ [ص:21-22]، قالوا: لأنهم كانوا ملائكة، فقالوا: إذا كان بعض أنبياء الله لم يقدر على أن يلقى الملك إلا بما آتاه الله فكيف لو مشى الملك بين الناس؟! فتوجيه قول الله جل وعلا: لَقُضِيَ الأَمْرُ [الأنعام:8]، عندهم: أن هؤلاء الناس لا تطيق قواهم رؤية الملائكة، وهذا عندي أضعف التوجيهات. والتوجيه الثالث: التكليف مبني على الاختيار، فرؤية الملائكة آية ملجئة ينتفي معها الاختيار، وإذا انتفى الاختيار انتفى التكليف، وإذا انتفى الاختيار انتفى التكليف. فالملائكة غير مكلفين؛ لأنهم ليس أمامهم إلا الطاعة، كما قال تعالى: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، والتكليف: أن تعرض على المكلف أمرين ويختار أحدهما بعد أن تخبره بعاقبة هذا وعاقبة هذا. فالعلماء يقولون: إن رؤية الملائكة آية ملجئة، فالإنسان إذا رأى الملائكة وقالت له: نحن من عند الله فإنه سيؤمن، ولن يكون أمامه خيار آخر ألا يؤمن، فإذا انتفى الخيار انتفى أس التكليف، والأصل أن الجن والأنس مكلفون. |
تفسير قوله تعالى: (ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً...)
بيان معنى قوله تعالى (وللبسنا عليهم ما يلبسون) ثم قال الله: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ [الأنعام:9]. المعنى: أن الرب جل وعلا يقولون: إن حكمتي تقتضي أنني لو أرسلت ملكاً أجعله في هيئة رجل، فيعود هؤلاء الأشرار بدءوا؛ لأن الملك إذا جاءهم في صورة رجل يبقى اللبس والاختلاط عليهم كما هم عليه الآن لماذا؛ لأنهم أرادوا الوصول من غير طريق الحق، فهم الآن يرون نبيهم، ومع نبيهم آيات ظاهرة ومعجزات باهرة أعظمها القرآن فلم يقبلوها ولم يقتنعوا بها ولم يلتمسوا التدبر فيها، فحادوا عن الطريق الذي يصلون به إلى معرفة الله إلى شخص الرسول فطلبوا أن يكون ملكاً. فلو أن الرب أجاب اقتراحهم وجعل الملك في هيئة رجل لعادوا من حيث بدءوا، فلا يدرون هل هو ملك أو هو رجل، فإذا أتاهم بالبينات وقعوا في نفس اللبس الذي وقعوا فيه مع محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا أقوى توجيه للآية. وذكر توجيهان آخران: الأول: أن رؤساء أهل الإشراك يلبسون على الضعفاء دين محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون معنى قول الله جل وعلا: وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ [الأنعام:9]، أي: نعاملهم بالمثل، فنلبس عليهم الدين كما يلبسون الدين على من يتبعهم، وهذا ظاهر. والثاني ذكره بعض العلماء أخذاً بظاهر اللفظ، فقال: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ [الأنعام:9] أي: هؤلاء الملائكة لو قدر أننا بعثناهم فإننا سنبعثهم في هيئة رجال،فسيلبسون ما يلبسه الرجال عادة. |
تفسير قوله تعالى: (ولقد استهزئ برسل من قبلك...)
ثم قال الله جل وعلا: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الأنعام:10-11]. هذا من تسلية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ومن تثبيت قلبه ومن تعليمه سنة الله في الرسل من قبله، فليست -أيها النبي- أول من استهزئ به، والإنسان إذا عرف مصيبة غيره هانت عليه مصيبته، تقول الخنساء في رثاء أخيها صخر : يذكرني طلوع الشمس صخرا وأذكره لكل مغيب شمس ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي ولهذا جاء في الزخرف أن الله جل وعلا يعاقب أهل الكفر في النار بمنعهم من التأسي بمصائب بعضهم، فقال تعالى: وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف:39]. فالمقصود من قول الله جل وعلا: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ [الأنعام:10] تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت جنانه، وهذا من أغراض القرآن ومقاصده الكبرى، وهو إخباره صلى الله عليه وسلم بسنة الله جل وعلا في الأمم قبله. ومن يتتبع مناهج المفسرين يجد أن لهم طرائق في تفسير القرآن، فمن كان منهجه تفسير القرآن بالقرآن يجد في قول الله جل وعلا: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ [الأنعام:10]، طريقاً رحباً؛ لأنه سيعرج على الآيات والسور التي ذكر الله جل وعلا فيها استهزاء الأقوام برسولهم، وهذه طريقة الشنقيطي رحمه الله تعالى في أضواء البيان، ولذلك تجده في آيات لا يبحر، وتجده يترك آيات ويعرض عن تفسيرها؛ لأن كتابه أسماه: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن. ومن الطرائق العلمية في التأليف أن الإنسان إذا وضع قاعدة يسير عليها لا يستطيع أحد أن يلومه. ولذا فإنك إذا أردت أن تقرأ كتاباً فلا تبدأ بشيء قبل مقدمته، فمن مقدمة الكتاب يتضح لك قدرة المؤلف أو طريقته، وسيكون بينك وبين القراءة فصل خطاب، فإما أن تستمر وإما أن تترك؛ لأنك تعرف من المقدمة الذي أراد صاحب الكتاب أن يبلغك إياه. فـالسيوطي رحمه الله تعالى من أئمة العربية الكبار، ومن أئمة العلم الشرعي، فألف كتباً عديدة لا حصر لها من باب المبالغة في نفع الناس، وألف كتاباً أسماه: (همع الهوامع)، وفي هذا الكتاب يعتمد السيوطي على ثقافة من يقرأ الكتاب، فإذا جاء ببعض الأبيات فقد يأتي بها مجزوءة، أو يأتي بأول المثل ويكتفي به، وهو لا يجهله، ولكنه اعتمد على كونه ألف هذا الكتاب لكبار الطلبة، وكبار الطلبة مظنة حفظ هذا. ولما ضعف العلم بعده أخذ من يطلبون العلم يقرءون همع الهوامع فيجدون فيه إشكالاً من طريقين: أولهما أنه قل في الناس من يحفظ ما كان السيوطي يحفظه، وثانيهما أن بعضهم كان يقرؤه وهو لا يعرف منهج السيوطي في التأليف، حتى جاء علامة شنقيطي رحمه الله تعالى اسمه الشيخ محمد الشنقيطي توفي قبل اثنتين وتسعين سنة، فألف كتاباً أسماه: (الضوء اللامع على همع الهوامع) فما جزأه السيوطي رحمه الله تعالى ولم يفصل فيه فصله الشنقيطي رحمه الله في كتابه هذا، وأبان في المقدمة أن السيوطي رحمه الله ألف كتابه لكبار الطلبة. وبعد ذلك الاستطراد أعود فأقول: إن الله جل وعلا أراد أن يعلم نبيه سنته جل وعلا في خلقه وأنبيائه الذين سبقوا، فقال تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [الأنعام:10]. |
تفسير قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض...)
ثم قال الله جل وعلا: قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الأنعام:11]. والسير في الأرض إما بالأبدان، وإما بالقلوب والأبدان. فإذا سار الإنسان في الأرض ببدنه لا بقلبه فقد تقر عينه بما ترى، ولكنه لا ينتفع، وأما إذا سار ببدنه وقلبه انتفع فذوو الأبصار والألباب المحمودون والممدوحون شرعاً يسيرون في الأرض بقلوبهم وأبدانهم، وهذا السير هو المقصود في الخطاب الشرعي هنا، حيث قال تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ [الأنعام:11]، أي: بقلوبكم وأبدانكم ثُمَّ انظُرُوا [الأنعام:11] بأبصاركم كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الأنعام:11]. فإذا نظرتم بأبصاركم وقلوبكم اعتبرتم بما رأيتم، والله تعالى قد قال: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [الحجر:76]، فذكر قوم لوط وأنهم أهلكوا، وقوم صالح وأنهم أهلكوا، ثم بين أن آثارهم ما زالت بطريق مقيم، أي: ما زالت باقية، مع أنه تعالى أذهب آثار بعض الأمم بالكلية ليظهر من ذلك عظيم قدرته، فكم من أمم ذكرها الله في القرآن لا نعلم أين كانت ولا نرى لها أثراً، وكم من أمة في القرآن ذكرها الله جل وعلا ما زالت آثارها باقية، ولهذا قال الله: مِنْهَا قَائِمٌ [هود:100]، يعني: منها ما زال قائماً، كآثار ثمود والبحر الميت الذي كان موضع قرى قوم لوط وَحَصِيدٌ [هود:100] أي: لم يدل عليه أثر. والمقصود من الآيتين: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الأنعام:10-11]، تعليم النبي صلى الله عليه وسلم ذكر العظة والاعتبار وتسليته، وهذه مقاصد شرعية تناولها القرآن واعتنى بها، ومن ذلك تعليم هؤلاء المخاطبين الأولين بالقرآن وهم كفار قريش بنحو قوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الأنعام:11]. |
يان ما يجب على المرء فعله
والعاقل من اتعظ بغيره ممن غلب عليهم الكبر وطغى عليهم العناد وبقي فيهم الشك والريب لأمور تختلف عواملها من شخص إلى آخر يجمعها كلها ما كتبه الله في الأزل وما خطه الله في القدر وما أراده الله من قبل وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ [الأنعام:34]؛ لأن الله جل وعلا كتبهم من أهل الشقاوة، ومصيرهم إلى النار، ومن هنا يعلم العبد أن الهداية بيد الله كما أن الضلالة بيده. فيجب على الإنسان أن يكون في قلبه سريرة حسنة يجدد فيها رغبته فيما عند الله تبارك وتعالى، ولا يغره علمه ولا ثناء الناس عليه، ولا أنه يستطيع أن يصل إلى مقصوده أو أن يمنع من يريد أن يؤذيه، فالمرء في باب الهداية على وجه الخصوص يبقى معلقاً قلبه بالله يتقلب ليل نهار يخشى أن يصرفه عن صراط الله المستقيم، وأحداث الزمان المعاصر والتاريخ الذي شهدناه كان برهاناً على كثير ممن مضوا في هذا الطريق ثم رجعوا، وأقوام بدءوا بداية الله أعلم بها ثم ختم لهم بخير، وقد قال ابن تيمية رحمه الله: ليست العبرة بعثرة البدايات، إنما العبرة بكمال النهايات، وحفظ عن المعصوم صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، هذا ما تحرر إيراده وأعان الله على قوله حول الآيات الأربع من سورة الأنعام. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، والحمد لله رب العالمين. |
يبين الله تعالى في كتابه بأسلوب السؤال والجواب ملكه لجميع ما في السماوات والأرض، ملكاً مطلقاً، كما يبين تعالى عظيم منته على عباده بكتابته الرحمة على نفسه ولا ملزم له تعالى، ومن تمام ملكه لعباده أنه يجمعهم ليوم القيامة ليجازي المحسن بإحسانه والمسيء على إساءته، كما أن من تمام ملكه تعالى أن له ما سكن في الليل والنهار وما تحرك فيهما، وهو الموصوف بالصفات العلا، وله الأسماء الحسنى.
|
تفسير قوله تعالى: (قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله...)
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فقد انتهينا في الدرس الماضي إلى قول الله تبارك وتعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الأنعام:11]، وقلنا: إن السير يكون سير اعتبار إذا كان بالأبدان والقلوب، ثم قال الله جل وعلا: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:12-13]. قلنا في درس سبق: إن السورة تتبع أسلوب التلقين والتقرير، ومن أساليب التقرير السؤال والجواب، فالله يقول لنبيه: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:12]، أي: سل هؤلاء، والجواب تكفل الله به؛ لأنهم سيجيبون به حتماً، ولكنهم سيمتنعون عن الإجابة حتى لا يقعوا في لوازمها، فقال الله جل وعلا: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:12]، واللام هنا لام الملك المطلق، قال الله تعالى: قُلْ لِلَّهِ [الأنعام:12]، فاللام هذه -وإن كانت جارة في الصناعة النحوية- هي لام الملك. |
.
بيان معنى قوله تعالى (كتب على نفسه الرحمة) ثم قال الله تعالى: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12]. وهذا من رحمة الله بعباده: فاللفظ نفسه مشعر برحمة الله جل وعلا بعباده، فعندما يأتي سؤال قرآني إلهي: لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:12]، ويأتي الجواب الإلهي: قُلْ لِلَّهِ [الأنعام:12] يصيب ذلك القلوب التي تعرف الله بالخوف، فلكي تسكن تلك القلوب وتطمئن يبين الله جل وعلا أن رحمته واسعة، فقد أخبر الله جل وعلا بلازم فضل ألزم به نفسه؛ لأن الله لا ملزم له، فقال: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12]. وهذه الآية جاءت مصدقة بالأحاديث، فقد قال صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة -: (إن الله كتب كتاباً عنده فوق العرش أن رحمتي تسبق غضبي)، أو (أن رحمتي غلبت غضبي)، ومنهج كثير من العلماء المفسرين عند هذه الآية إيراد الآثار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الله جل وعلا غلبت رحمته غضبه، فيوردون حديث المرأة التي رأت رضيعاً في السبي فضمته إلى صدرها، فقال صلى الله عليه وسلم لمن حوله من الصحابة: (أتظنون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟! فقالوا: لا يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعباده من هذه بولدها)، وغيره من الآثار. والمهم بالنسبة لنا نحن -المخاطبين بالقرآن- أن نفهم ونفقه معنى قوله تعالى: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12]، حيث يدفعك قول الله جل وعلا: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12] أول ما يدفعك إلى حسن الظن بالله جل وعلا، ومن حسن الظن بالله: أن تحسن الظن بالناس، فإن الإنسان أحياناً إذا رأى بعض الناس على معصية أساء الظن بهم، والدافع إلى سوء الظن هنا أنه يغلب على ظنه أن الله جل وعلا لن يرحمه، ويأخذ ويتصور ويتخيل هذا العاصي وهو يعذب؛ لأنه غلب على ظنه أن الله لن يرحمه، فيصبح يرى هذا العاصي كالعدو له، وتأتي منه ألفاظ وأفعال وأقوال يشعر منها الإنسان الآخر بالغلظة والجفاء، وهي ناجمة عن حالة نفسية تصورها؛ لأن هذا الرجل في الأصل لا يحسن الظن بربه. فلما رأى من تلبس بالمعصية لم يغلب عليه أنه قد يرحم، وإنما قطع جوانب الرحمة كلها، ولم يبق في ذهنه إلا أن هذا الرجل سيعذب لا محالة، فلما علم في نفسه أن هذا الرجل معذب لا محالة عاداه، وهكذا أحوال يتبع بعضها بعضاً، كالفتاوى المرتبة، حتى يصل إلى ألفاظ وأقوال وأفعال ناجمة في أصلها -لو بحثت فيها- عن سوء الظن بالله جل وعلا، والله يقول: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12]. ولهذا أثر ونقل عن كثير من السلف عبارات تدل على عظيم حسن ظنهم بالله، فقد قيل لـأبي حازم وقد أراد أن يتبع جنازة رجل مدمن خمر: أتتبع جنازة هذا؟! فقال: والله إني أستحي من الله أن أظن أن رحمته عجزت عن ذنب عبد مؤمن. فالله جل وعلا يقول عن نفسه: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12]، وهذا أشبه بالتوطئة لما بعده، فما الذي بعده هو الوعيد، حيث يقول تعالى لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [الأنعام:12]. وإذا كان الله قد كتب على نفسه الرحمة؛ فحري بالعبد أن يرحم نفسه وأن يرحم من حوله. |
.
أثر الرحمة بالناس على قلوبهم تجاه راحمهم والإنسان يكون قريباً من الناس إذا شعر الناس بأنه موئل رحمة، فإذا شعر الناس بأنه موئل رحمة تعلقت قلوبهم به، وإذا شعر الناس بأن زيداً أو عمراً من الناس ليس فيه رحمة تمنوا خلاصه والانفكاك منه، ومما يستظرف في هذا أن الإنسان أحياناً من جهله قد لا يرحم نفسه، فقد ذكر الجاحظ الأديب المعتزلي المعروف في كتاب البخلاء عن رجل اسمه: الثوري -وهو غير سفيان الثوري المعروف- أنه كان فيه بخل شديد، فأصابته حمى هو وأهل بيته وغلمانه، فنجم عن هذه الحمى أن أهل بيته أصبحوا لا يستطيعون الأكل، فما كان مهيئاً مقدراً لأن يأكلوه في أيام لم يأكلوه، فزاد عنده شيء من الدقيق، فوجد أن الحمى قد نجم عنها غنيمة؛ لأن الدقيق قد زاد، فمن عدم رحمته بنفسه أصبح يقول: يا ليت منزلي بسوق الأهواز أو بنطاة خيبر أو في ديار الجحفة! والأهواز: منطقة في إيران حالياً مشهورة بأنها موبوءة كثيرة الحمى، وخيبر بلد حمى، ونطاة خيبر موضع في خيبر أشد خيبر حمى ووباء، والجحفة قد ثبت فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بأن تنتقل الحمى من المدينة إلى الجحفة، فهي أرض موبوءة بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وهي خربة موجودة إلى اليوم، وهي ميقات، ولهذا يحرم الناس من رابغ؛ لأنه لا أحد يستطيع أن يبقى في الجحفة، وإن كان فيها سكان قليلون. فالمقصود أن هذا الرجل لما وجد النفع من الدقيق الذي زاد تمنى أن يكون مسكنه في إحدى هذه الديار الثلاث؛ لأنها ديار حمى، لتكون الحمى فيه وفي أهله طيلة، لينجم عن ذلك زيادة في الطعام. وهذه القصة ذكرها الجاحظ في باب في كتاب دونه أسماه: (البخلاء) دون فيه أحوال أهل عصره، وقد كان من سير الأدباء آن ذاك أنهم يدونون أحوال عصرهم، فدون الجاحظ حال البخلاء ودون حال المعلمين ولكل طريقته في الأدب، وكان الأدب يوم ذاك في حالة تأسيس، وحين يكون الأدب في حالة تأسيس فإنك لا تستطيع أن تضبطه؛ لأنه بعد ذلك يأخذ طرائق ومناهج قددا. والذي يعنينا هنا أن هذا الرجل أتي من أجل رحمته بنفسه، ولكن الإنسان إذا رحم نفسه فأول ما يخط لها توحيد الله؛ لأن توحيد الله جل وعلا أعظم المنجيات، بل لا منجي غيره، فيكون من رحمة الإنسان بنفسه توحيد الله، ثم بعد ذلك ينتقل الإنسان إلى نفع الغير فيكون رحمة، ولهذا لما أراد الله أن ينعت نبيه قال: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]. فمن كان ولياً في بيته -رجلاً كان أو امرأة- أو كان معلماً، أو مسئولاً في إدارة، أو أميراً في مدينته، إن لم ير الناس منه جانب الرحمة تمنوا زواله، ومن كان رحيماً فنه سيموت قطعاً، ولكن الرحيم في الناس إذا مات بكى الناس عليه دماً قبل أن يبكوا عليه دمعاً وذكر بخير. |
.
بيان معنى قوله تعالى (ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه) ثم قال تعالى: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [الأنعام:12]، والذي أقسم هنا هو رب العالمين، وهو -جل وعلا- أصدق القائلين. ويتحرر من هذا أن أصدق القائلين أقسم على أن هناك جمعاً، فمن أعظم اليقينيات الكبرى في حياتنا أن هناك بعثاً ونشوراً، فإن قيل لنا: لماذا؟ قلنا: لأن أصدق القائلين جل جلاله أقسم على أن هناك جمعاً وبعثاً ونشوراً فقال تعالى: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [الأنعام:12]، وهذه اللام هي لام القسم. وهناك لامات أخر، منها لام الجحود، ولام الجحود كائنة في القرآن كثيراً، تأتي في خبر كان المنفية، كقول الله تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى [هود:117]، فـ(كان) سبقت بـ(ما) النافية، فأصبحت (كان) هنا منفية، و(رب) اسمها، والكاف مضاف إليه، و(يهلك) خبرها جملة فعلية، فسبق الفعل باللام، وهذه اللام اصطلح أهل النحو على تسميتها بلام الجحود. وهناك لام أخرى اسمها: اللام المزحلقة، أي: استقر في الذهن أنها تحركت من .. من مكان إلى مكان، فيقولون: إن (إن) التوكيدية التي تنصب اسمها وترفع الخبر إذا جاءت اللام في خبرها فإن الأصل أن هذه اللام كانت موجودة في الاسم، فانتقلت من الاسم إلى الخبر، ولذلك أسموها اللام المزحلقة، وأحياناً لا تعمل (إن)، بل تخفف، فإذا خففت دخلنا في إشكال، وهو أنه يوجد (إن) نافية تعمل عمل (ليس)، فإذا خففت (إن) اشتبهت مع (إن) النافية، فوجب التفريق بينهما، فيأتون باللام في خبر (إن) المهملة، ويسمونها اللام الفارقة، قال الله -وهو أصدق القائلين- في القرآن: وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ [المؤمنون:30]، فـ(إن) هنا ليست نافية، وإنما هي مخففة من (إن)، ولذلك جاءت اللام في خبرها، وأصلها هي اللام المزحلقة، ولكن لما خففت (إن) أصبحت اللام تسمى اللام الفارقة. |
بيان معنى قوله تعالى (الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون)
قال الله تعالى: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [الأنعام:12]، ثم قال: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:12]، ومن جميل ما حرره السعدي هنا في المناسبة بين قول الله جل وعلا: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [الأنعام:12]، وبين قوله: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:12] أنه قال: إن هذا اليوم الذي أقسم الله بوقوعه يؤمن به أهل الطاعة وأهل الإيمان، ويجحده أهل الكفر، ولهذا قال الله بعدها: الذين لا يؤمنون بي هم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ [الأنعام:12]، أما عبارة: خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ [الأنعام:12]، فتحرير خسارة النفس من حيث الإجمال في الدنيا فساد الفطرة، ففساد الفطرة هو أعظم خسران للنفس، وبحسب فساد الفطرة وبلوغ المرء فيه يكون خسران النفس. |
تفسير قوله تعالى: (وله ما سكن في الليل والنهار...)
قال الله تعالى: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:13]، واللام: لام الملك. والمقصود منها: أن جميع العالم علويه وسفليه في قدرة الله تبارك وتعالى وتحت مشيئته ونفعه. |
بيان وجه إفراد الساكن بالذكر دون المتحرك
وهنا إشكال، وهو أن المخلوقات قسمان: ساكن ومتحرك، والله نص هنا على أحدهما فقال: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:13]. وتوجيه هذا الإشكال عند العلماء ينقسم -كما حكاه ابن العربي - إلى ثلاثة أوجه: فقال بعضهم: لما كانت المخلوقات الساكنة أكثر من المتحركة اكتفى الله جل وعلا بذكر الساكن، فيندرج هذا التوجيه تحت ما يسمى بباب التغليب. فالذين ذهبوا إلى هذا التوجيه أصحاب صناعة تعتمد على التغليب، ولهم قرائن، ومنها أن التغليب موجود في اللغة. وقال بعضهم: إن الله جل وعلا نص على الساكن لأنه ليس كل ساكن يتحرك، ولكن كل متحرك يسكن، فنص الله على الساكن لأنه سيندرج فيه المتحرك لزاماً، ولهذا جاءت الظرفية في قوله تعالى: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [الأنعام:13]، فما كتب الله له أن يتحرك نهاراً سيسكن ليلاً، وما كتب الله له أن يتحرك ليلاً سيسكن نهاراً، فقالوا: إن هذه الظرفية حلت الإشكال؛ لأن كل ساكن لا يلزم منه أن يتحرك، ولكن كل متحرك سيسكن، فإن لم يسكن ليلاً فسيسكن نهاراً، وهذا التوجيه يحتاج إلى إثبات؛ فنحن لا نعلم أن جميع المخلوقات لا بد من أن تسكن. وقال بعضهم: إن هذا يسمى وفق الصناعة البلاغية اكتفاء، والاكتفاء: أن تقول شيئاً تكتفي به، فلازمه محرر أصلاً لا حاجة إلى التلفظ به، فقالوا: إن الله جل وعلا اكتفى بذكر (ما سكن) اكتفاء بأن كلمة (ومتحرك) ستأتي لا محالة، ومن نظائر هذا في القرآن أن الله قال: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل:81]، ولم يذكر الله البرد، والناس يحتاجون إلى التوقي من البرد أكثر من الحر، فقالوا: هذا من الاكتفاء. فالله ذكر أحد الأمرين واكتفى به ودخول الآخر فيه لازم لا بد منه. وليس المقصود من الآية هذا الذي أطلقناه من باب اللغة والبلاغة، وإنما المقصود من الآية إثبات أن العالم كله تحت مشيئة الله جل وعلا، لا يقع فيه إلا ما أراد الله. |
بيان معنى قوله تعالى (وهو السميع العليم)
ثم قال الله: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:13]، السميع لأقوالهم، العليم بما تكنه ضمائرهم وسرائرهم. وهذا أمر نزدلف به إلى قضية الموعظة العامة، وهي أن الإنسان إذا علم أن كل ما سكن في الليل والنهار لله تبارك وتعالى وحده أذعن لله وأسلم لله جل وعلا قلبه. |
أثر الاستشفاء بقوله تعالى: (وله ما سكن في الليل والنهار)
وهناك علم يسمى العلم التجريبي، يقوم على التجربة، والآيات في القرآن حينما نتعبد الله بها نتعبده تعبداً محضاً لا يدخله التجريب، فنحن محكومون بالشرع ومحكومون بالأثر. ولكن نقول: إن الله تعالى قال: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ [الإسراء:82]، وقد دلت تجارب الناس وأهل الصلاح منهم على وجه الخصوص على أن هذه الآية: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:13]، لها أثر حميد إذا تليت على الشيء الذي يؤذي، كألم الضرس أو أشباهه من آلام الأعصاب التي تتحرك ولا تجعل المرء يرتاح في مقامه، فإذا تلي عليها قول الله جل وعلا: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:13]، يكون في ذلك أثر حميد. قلت: هذا يندرج تحت ما يسمى بالطب، والطب علم تجريبي، فلا يتنافى هذا مع قداسة القرآن، خاصة مع قول الله جل وعلا: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ [الإسراء:82]. هذا ما تيسر إيراده وتحرر إعداده وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين. |
لقد أخبر الله تعالى في كتابه الكريم أن مرد الأمور جميعها إليه، فكشف الضر، وإيصال الخير إلى العباد إنما هو بيده، كما أخبر تعالى بأنه علي على عباده ذاتاً ومكاناً وقهراً وغلبة، وأمر تعالى رسوله وأتباع رسوله شهادة أنه لا إله إلا هو، والبراءة من شرك المشركين، وبين تعالى عظيم الظلم، وهو افتراء الكذب على الله والتكذيب بآياته، وفاعل ذلك خاسر سالك غير سبيل الفلاح.
|
تفسير قوله تعالى: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو...)
الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا هو الدرس السابع حول سورة الأنعام، وكنا قد انتهينا إلى قول الله جل وعلا: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ [الأنعام:16] وحررنا أن الفوز يكون بنيل الثواب والنجاة من العقاب. ثم قال الله جل وعلا بعدها: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18] . والضر يلحق الإنسان من ثلاثة أوجه: ضر في النفس، وضر في البدن، وضر في الحال. فالضر في النفس: كالجهل والحمق وما أشبه ذلك. والضر في البدن: كنقص بعض الأعضاء أو مرضها. والضر في الحال: كقلة الجاه والمال، فهذه الثلاثة يمكن أن يجمع بها أنواع الضر، وقد يكون هناك ضر لا تحويه هذه القاعدة. فالله يقول لنبيه في أسلوب شرط: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [الأنعام:17] فالله جل وعلا هو الولي، فلما كان جل وعلا هو الولي لم ينبغ لأحد أن يلجأ في كشف ضره إلى غير الله؛ لأنه لا يكشف الضر إلا الله، قال تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ [الأنعام:17]. والنبي عليه الصلاة والسلام هو أعظم المصدقين بكلام ربه، فعندما تنزل عليه آية كهذه لن يخشى بعد ذلك ضر أحد من أهل الإشراك. قال تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17] . |
ذكر مناسبة ختم الآية ببيان قدرة الله تعالى
قال العلماء في بيان مناسبة ختم الله الآية بقوله: فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17]: ذلك ليستقر في قلب المؤمن أن الله إذا أراد به خيراً وفضلا لا يقدر أحد على منعه منه، وقد قال تعالى في سورة يونس: فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس:107] والمعنى واحد. والمقصود من هذا كله أن سياق سورة الأنعام يتحدث عن القدرة الإلهية، ولذلك جاء التذييل فيها بذكر ما لله من صفات الجلال والجبروت والكمال، بخلاف غيرها من السور، فقال الله: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17] والمراد والمقصود الأعظم من الآية تربية النفوس على ألا تتعلق بأحد غير الله جل وعلا، وأن الإنسان يرفع إلى الله حاجته ويبث إلى الله شكواه، ويرفع إلى الله نجواه، وهو يعلم أنه لا يقدر على نفعه ولا ضره إلا رب العزة جل جلاله، كما قال صلى الله عليه وسلم لابن عمه ابن عباس : (يا غلام! احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك) ثم قال له: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك فلن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك). |
تفسير قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده...)
ثم قال الله تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18]. وبعض المفسرين يتجنب أن يقول: إن الفوقية مكانية، والحق الذي لا محيد عنه أن الآية يعنى بها تعظيم الله من وجوه ثلاثة، فالله جل وعلا علي في ذاته، علي في مكانه، علي في قهره لعباده؛ لأنه جل وعلا فوق عرشه مستو على عرشه بائن عن خلقه، والعرش فوق السموات، ولا مجال للتردد في نفي الفوقية المكانية عن الله جل وعلا. وقد استدل على ذلك بعض علماء الإسلام إضافة إلى النصوص الظاهرة بما هو في الفطرة؛ فإن الإنسان بفطرته -كما حرره الهمداني رحمه الله تعالى في محاورته لـأبي المعالي الجويني - إذا أراد أن يبث شكواه إلى ربه يرفع بصره إلى السماء، وهذا أمر لا ينبغي أن يكثر النزاع فيه. |
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() الساعة الآن 05:06 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. Designed & TranZ By Almuhajir