![]() |
تفسير قوله تعالى: (فمن بدله بعدما سمعه ...)
قال الله تعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:181]. ينبغي أن تعلم أن المخاطب بهذه الآية ثلاثة،وهم أولاً: الشهود، فيكون الخطاب لهم بألا يكتموا الشهادة، وثانياً: الوصي القائم على تنفيذ الوصية، ويكون الخطاب له بألا يغيرها ويجور فيها، ثالثاً: الورثة، ويكون الخطاب لهم بألا يحولوا بين المال وبين وصوله لمن أوصى له به صاحب المال. |
تفسير قوله تعالى: (فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً ..)
أما قول الله جل وعلا: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:182]. الجنف: هو الميل والعدول عن الاستواء، والفرق بين الجنف والإثم: أن الجنف هو الخطأ من غير عمد، وأما الإثم: فهو الجور بعمد. ومعنى: (خاف) في قوله جل وعلا: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا [البقرة:182] أي: توقع وغلب على ظنه وعلمه، فمثلاً: تريد أن تخرج الساعة الثانية ظهراً والسماء ملبدة بالغيوم، فقررت أن تخرج الساعة الواحدة والنصف، فسألك بعض من يعرف موعدك: لم بكرت؟ فتقول: أخاف أن تمطر السماء، والمعنى: أتوقع أن تمطر السماء، أو يغلب على ظني أن تمطر السماء فتعيقني، فهذا معنى قول الله: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا [البقرة:182] ويصبح المعنى هنا: أن الوصي أو من كان حاضراً إذا غلب على ظنه أو توقع أن الميت -ونسميه ميتاً باعتبار ما سيكون، وإلا فعند ما يوصي الإنسان فإنه يكون في حالة رشد وقدرة- يريد أن يضر بالورثة، فيوصي بأكثر مما ينبغي، أو أن يكون المال قليلاً لا يحتمل أن يوصي منه، فتدخلت بكلام طيب هين لين تخشى فيه من وقوع هذا الميت في الخطأ إما بعمد أو بغير عمد، فهذا ليس كالأولين الذين خوطبوا بقول الله جل وعلا: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ [البقرة:181]، فقد اختلف الوضع، فالأولون يريدون الإفساد؛ فلذلك حذرهم الله وقال: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:181]، وأما الآخر في الآية الأخرى فقد أراد الإصلاح والذي أشكل على أهل العلم هو أن المصلح يأتي التذييل على أنه يثاب، فلِمَ قال الرب جل وعلا: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:182]؟ ويمكن توجيه الاسمين الكريمين من أسماء الله الحسنى هنا على الأمرين، فيصبح: أن الموصي -وهو الميت- لو أخطأ أو تعمد الخطأ فحذره أو نبهه من هو عنده فرجع عن خطئه، فكأن الله يقول: فإن الله غفور له ما كان منه في الأول؛ لعودته إلى الحق، ورحيم بمن أرشده ودله على أن يعدل عن الخطأ والإثم، فينصرف (غفور) إلى الذي أخطأ ثم آب، و(رحيم) إلى من أرشده ودله على الخير، وبهذا فيما يبدو لنا يستقيم المعنى. |
من فوائد آيات الوصية
نعود للصناعة اللغوية في الآية، يقول الله: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [البقرة:180] أي: إن حضرت مقدمات الموت، وإلا فالموت إذا حضر فلا يمكن لأحد وقته أن يتحدث أو يوصي أو يقول شيئاً، والإنسان عند الموت تغلب عليه جبلّته ويفيء إلى أصل نبتته، فالذي هو ذو غرس جيد، ومعدن محكم، وأصل في الناس، حتى ولو صاحب حياته أخطاء على بعض قراباته ومن حوله، فإنه إذا دنا الموت يشعر بالندم، فيحاول أن يعوض ويتراجع، وأما والعياذ بالله من كان سيء السريرة أصلاً وخبيث النفس، واللؤم فيه متحكم، فإنه حتى لو دنى الموت يزيد الأمر وبالاً. والخير في القرآن ورد كثيراً بمعنى: المال، ومنه قول الله جل وعلا: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8] لكن هنا إِنْ تَرَكَ خَيْرًا [البقرة:180] فيها إشعار لغوي أنه ليس كل مال يوصى منه، إلا ما اجتمع فيه أمران: الأول: الكثرة، ومرد القلة والكثرة إلى العرف. والأمر الثاني: أن يكون مكتسباً من وجوه حسنة مباحة، فالمال إذا كان وفيراً مكتسباً من وجوه حسنة فهو الذي يتأتي فيه الأمر القرآني بأن تكون فيه الوصية، وهذا الذي يفهم من السياق اللغوي لقول الله جل وعلا: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:180] . وقد جاء في أثر عند الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: (أن أحد الصحابة جمع أكبر بنيه وقال له: ادع إخوتك، فدعاهم، فقال لهم: إنني أريد أن أوصي وأبدأ بيتيم في حجري، ولما قال: يتيم، معناه: أن هذا اليتيم ليس ابناً لهذا الموصي، فأوصى له بمائة من الإبل والنياق، وكانت تسمى المطيبة عند العرب، فقال الأبناء وهم يتهامسون: إننا وإن رضينا بهذا في حياة أبينا فلن نقبل به بعد وفاته، فذهب الأخ الأكبر وأخبر أباه، فقال الأب: -وما أسعدهم من جيل لأنهم يحتكمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- بيني وبينكم رسول الله، فحمل أبناءه ومعه اليتيم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له القضية، فلما قال: مائة غضب صلى الله عليه وسلم وتغير وجهه، وقال: (لا .. لا .. لا) ثم قال: (خمسة، عشرة، خمسة عشر) ويرتفع حتى أوصلها صلى الله عليه وسلم كحد أقصى إلى أربعين فقال: (فإن أبيت فأربعون) وهو أراد أن يعطيه مائة، وهذا من دلالة كمال عقله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا يفضي إلى النزاع، ويفضي إلى سوء ظن الأبناء بأبيهم، وقد يفهم منه أنه أراد الفخر والخيلاء؛ إذ حرم من لهم الحق فوزعه في غير مكانه، فقال صلى الله عليه وسلم: (فإن أبيت فأربعون)، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم كأنه أعجب باليتيم؛ إذ معه هراوة يضرب بها الجمال، فقال: (ما أعظمها من هرواة بيد يتيم!). ثم إن الرجل قبل أن يودع النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يا نبي الله إن لي أبناء وإن منهم ذوي لحى -أي: كباراً- وإن أصغرهم هذا وكان اسمه حنظلة وهو غير اليتيم -فادع له، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على جبهته وقال: بارك الله فيك) ثم إن هذا الشاب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤتى له بالرجل الذي فيه ورم، أو بالبهيمة التي في ضرعها ورم ليقرأ عليهما أو على أحدهما فيضع يده، ثم يسمى الله، ثم يتفل فيها، ثم يضع يده على موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهه، ثم يضع على الورم سواء كان في رجل أو في بهيمة فيزول ذلك الورم. |
تفسير قوله تعالى: (يا آيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ...)
قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ.. [البقرة:183-184] إلى آخر الآيات. قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:183] هذا نداء كرامة مر معنا نظائر له من قبل، ومعنى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] أي: فرض. والصيام في اللغة كما تعلمون: الإمساك، سواء كان عن كلام أو عن غيره، ويقال: صامت الريح إذا ركدت وسكنت، ويقال: صامت الخيل، إذا لم تعلف، ومنه قول رؤبة بن العجاج : خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما وأما في الشرع: فهو الإمساك عن المفطرات من وقت مخصوص إلى مثله؛ يقول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ [البقرة:183] أي: فرض عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]. ما وجه الشبه بين صيامنا وصيام من قبلنا؟ هل ذلك في الكيفية؟ أم في الأيام؟ كل ذلك محتمل، لكن لا نستطيع أن نجزم به، بمعنى أن الصيام فرض على الذين من قبلنا لكن هل فرض عليهم رمضان؟ هذا ظاهر القرآن لكن لا نجزم به، فهل كانوا يصومون من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؟ هذا ظاهر القرآن أيضاً لكن لا نستطيع أن نجزم به، وإنما الذي نجزم به أن الصيام عبادة تعبد الله بها من قبلنا. ثم قال تعالى: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184] وقال بعدها بآية: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]، وجمهور المفسرين على أن شهر رمضان في الآية المذكورة والمبدوءة بالمبتدأ هو تفصيل وإزالة إبهام من قوله تعالى: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184]، وعندي أن هذا خلاف الصحيح. والمعنى أن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] أي: في أول الأمر، ثم عقب بقوله: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184] فقد تكون يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، ثم قال سبحانه: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184] يقضي فيها صيام الثلاثة أيام، فليست لها علاقة برمضان. ثم قال سبحانه: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184] أي: يطيقون صيام ثلاثة أيام فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184] بمعنى: أنه مخير وليس بواجب عليه، لكنه لو أفطر يعجل إلى الفدية، ثم قال سبحانه: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ [البقرة:184] إما أن تكون زيادة في الفدية، أو جمع ما بين الصيام والفدية وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:184] والمعنى: أنكم إذا كنتم تقدرون على الفدية، وتقدرون على الصيام فالصيام في حقكم أولى، إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:184]. ثم ارتفع الأمر وارتقى إلى تكليف أكبر، فنسخت الثلاثة الأيام، وحل بدلاً منها شهر رمضان، فليس شهر رمضان هو الأيام المعدودات، ويصعب عندي في لغة العرب أن يقال لشهر لا ينقص عن تسعة وعشرين يوماً: إن أيامه أيام معدودات وقول بعض الوعاظ بهذا هو قول جمهور المفسرين، لكنني لا أستحسنه. |
تفسير قوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ...)
قال الله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ أي: حضره فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185] أي: فليصم الشهر. فهذا النص أوجب صيام رمضان، وليس قوله جل وعلا: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184]؛ لأن الأولى تتكلم عن الثلاثة الأيام لا عن شهر رمضان. ثم قال الله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:185] أي: من حضره الصيام وهو من أهل رمضان وهو في سفر أو كان مريضاً فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:185]، وبهذا يفهم أن التكرار هنا يتكلم عن قضيتين، لكننا لو جعلنا شهر رمضان بدلاً من أيام معدودات يصبح التكرار مرتين، وهذا ينزه عنه كلام الله، لكن الأولى في قول الله جل وعلا: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184] أن تحمل على أن المراد الثلاثة الأيام، وأما قول ربنا في الثانية: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:185] فهو يتكلم عن شهر رمضان؛ لأن الآية عندنا في الأول منسوخة. وقوله تعالى: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ بتقدير فأفطر، فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، ويلاحظ هنا أنه لا ذكر لقضية التخيير، ولا ذكر لقوله جل وعلا: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:184] ولا ذكر كذلك للفدية؛ لأنه لا يوجد إلا صيام وقضاء. ثم قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185]، قوله: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ [البقرة:185] تعليل لأمره جل وعلا بالقضاء في قوله: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، وقوله تبارك وتعالى: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [البقرة:185] هذا عند إكمال العدة. وقوله: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185] أي: على ما أباحه لكم من الفطر حال السفر، أو حال المرض، وبهذا في ظننا تستقيم الآيات، ويمكن تجنب ظن تكرار مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ [البقرة:184]، وهذا خلاف ما عليه جمهور أهل التفسير، فالجمهور على أن شهر رمضان هو نفسه المقصود بأيام معدودات، ويقولون: إن بعض الآيات منسوخة وبعضها غير منسوخ كما هو محرر في كتب الفقهاء. |
.
المراد بقوله تعالى: (أنزل فيه القرآن) هذا الإطلال العام للآية، وأما الإطلال الخاص فإننا نقول قال الله جل وعلا: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185] اختلف العلماء في المقصود بـأُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185] على قولين: القول الأول: أن القرآن نزل كاملاً من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا في شهر رمضان، وهذا قول لـابن عباس رضي الله تعالى عنهما. القول الثاني: -وهو الذي أرجحه-: أن المقصود ابتداء نزول القرآن على نبينا صلى الله عليه وسلم، وكان في شهر رمضان، وقد جاءت آثار تدل على أن كتب الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كالتوراة والإنجيل والزبور كلها أنزلت في شهر رمضان. ثم جاء تكرار في الآية وهو أن الله جل وعلا قال: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وقال بعدها: وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185]. والجواب عن هذا التكرار أن يقال: إن الهدى الأول هو الهدى الذائع العام الذي يكاد يعرفه كل أحد في القرآن، ولهذا قال: هُدًى لِلنَّاسِ [البقرة:185]، وأما الهدى الثاني فهو من غوامض القرآن الذي لا يدرك إلا بالاستنباط، فلا يعرفه إلا العلماء. |
قاعدة: المشقة تجلب التيسير
أخذ العلماء من قول الله جل وعلا -ونحوه في القرآن-: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185] القاعدة التي تقول: إن المشقة تجلب التيسير. وقال بعضهم: قد أسس الفقه على رفع الضرر وأن ما يشق يجلب الوطر والوطر: معناه السعة والتخفيف، هذا مما استنبطه العلماء من قول الله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]. وكذلك يمكن القول في هذه الآيات المباركات جملة ما قاله الإمام الذهبي رحمه الله -ويحسن أن يستشهد بها الخطباء إذا خطبوا عن رمضان-: وعند المؤمنين مقرر أن من أفطر يوماً من رمضان عمداً من غير عذر فهو شر من الزاني ومدمن الخمر، ويظنون به الزندقة والانحلال. وهذه العبارة عندما قرأتها للذهبي عددتها من أفضل ما قرأت للعلماء في الاستنباط من أحكام الشرع، وتقنينه بلغة فقهية وعظية راقية. |
تفسير قوله تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ...)
ثم قال العلي الكبير: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186] . فالله تبارك وتعالى قريب في علوه، وعلي في دنوه، وهذه العبارة قالها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهي من أجمل ما نقل عنه عند الكلام على باب الأسماء والصفات. فما ذكره جل وعلا من علوه وفوقيته لا يتنافى مع ما ذكره جل وعلا من قربه ومعيته. وقال الصحابة رضي الله عنهم -فيما ورد عنهم في سبب نزول هذه الآية-: يا نبي الله! أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله جل وعلا قوله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي [البقرة:186] فأضافهم إليه إضافة تشريف، ولم يقل فقل لهم، وإنما اختصرت الطرائق اللفظية؛ لتبين لك اختصار الطرائق المعنوية، قال الله جل وعلا: فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186] ولم يأت في القرآن جواباً بالسؤال هكذا إلا في هذا الموضع. ثم قال سبحانه: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، وهنا لا بد من تحرير وجه الخلاف في المعنى ما بين الاستجابة والإيمان، فنقول: هما متلازمان، فلا استجابة إلا بإيمان، والإيمان يدل على الاستجابة، لكن من حيث التحرير اللفظي الاستجابة تتعلق بالجوارح، والإيمان يتعلق بالقلوب. ثم قال الله:لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186] ولا ريب أن الاستجابة لأمر الله مع الإيمان به جل وعلا ودعائه هو منتهى الرشد، فلا حصول للرشد الحق إلا بالإيمان به جل وعلا، واستجابة الجوارح لأوامره ونواهيه، مع دعائه تبارك وتعالى. والآية ظاهرة المعنى في فضل الدعاء والثناء على الرب تبارك وتعالى، وهذا قد بسطنا القول فيه كثيراً في أكثر من موضع. |
.
تفسير قوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ..) قال الله جل وعلا بعدها في ختام آيات الصيام: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ.. [البقرة:187] إلى آخر الآية. قوله: أُحِلَّ لَكُمْ [البقرة:187] فيه إشعار أنه كان محرماً وإن كنا لا نملك دليلاً صريحاً على ذلك، لكن قال جمهور المفسرين: كان المسلم آنذاك في عهد الصحابة يحق له إذا أفطر أن يأكل ويشرب ويجامع إلى أن ينام، فإذا نام ثم استيقظ لا يحق له بعد ذلك أن يأتي أهله، هذا المشهور عندهم، وخالف فيه بعض العلماء، لكن لا شك أن قول الله جل وعلا: أُحِلَّ لَكُمْ [البقرة:187] فيه دلالة على أنه كان محرماً. وقوله: الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة:187] الرفث: في الأصل ما قبح من القول وفحش، وهو هنا مقدمات الجماع. وقوله: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة:187] يذكر العلماء هنا لطيفة حسية ولغوية، فقالوا: يفهم منه الالتصاق والقرب، والالتصاق والقرب يصعب معه البعد، فمعنى الآية: إذا كان حالكم مع أزواجكم حال مخالطة والتقاء بشرة ببشرة، فمن الصعب أن تصبروا عنهن، فرحمة بكم أحللنا لكم أن تأتوهن ليلاً في رمضان، فتصبح هذه الآية مبينة لقول الله جل وعلا: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ [البقرة:187] أي: يحصل منكم رغبة في الوصول إلى الزوجات، وربما وقع من بعضكم وصول إلى الزوجة؛ فيكون قد خالف الأمر الشرعي. وقوله: (تختانون) مأخوذ من الخيانة، كما أن الاكتساب مأخوذ من الكسب، يقال: خان الرجل الرجل، إذا غدر به، وخان الرجل العهد إذا نقضه، وخانني الدهر إذا تغير حاله من خير إلى شر، وخان السيف إذا نبا، ومعنى: نبا السيف، أي: لم يقطع، ويقولون: لكل صديق جفوة، ولكل عالم هفوة، ولكل سيف نبوة، ويقولون: خانتني رجلاي فلم أمش عليها، إما لخوف أو لفزع، والأصل أنك تمشي عليها. وكان شوقي -رحمه الله- محباً لـمصطفى كامل ، وهو زعيم مصري سياسي، وبينهما علاقة وطيدة، ولكن شوقي كان يمنعه من بره شعراً أن صديقه خارج على حكومته، ومؤسس لحزب معارض للقصر، وشوقي نشأ في قصر، ولقد ولدت بباب إسماعيل . فلما مات مصطفى كامل توقع شوقي أنه سيرثيه بمرثية قل سماعها؛ لما بينهما من صحبة، ولأنه ينتظر هذا اليوم، ولأن أصحاب القصر لن يعنفوا شوقي على رثاء مصطفى كامل ؛ لأن مصطفى كامل قد أمن شره بموته، فعندما أراد شوقي أن يرثيه لم يرق بمرثيته إلى ما يريد، والمرثية مطلعها: المشرقان عليك ينتحبان قاصيهما في مأتم والداني إلى أن قال: وأنا الذي أرثي الشموس إذا هوت فتعود سيرتها إلى الدورانِ ماذا دهاني يوم مت فعقني فيك القريض وخانني إمكاني وموضع الشاهد قوله: وخانني إمكاني، فقلنا: إن الخيانة أن تؤمل شيئاً فلا يقع كما كنت تؤمله. |
.
أهمية إلجام النفس بلجام التقوى إذا ضعف إيمان العبد -وهذا إذا تأملته في الناس تجدها ظاهراً- وشعر بالنقص في أي مكان ترقب الناس فيه كمالاً ثم وقع منه نقص أو هفوة أو جموح أو عدم وصول إلى مقصود فإنه تضطرب نفسه، فإذا اضطربت نفسه جمحت إما لسيئ الأفعال أو الأقوال، فإن كان تقياً ألجمته التقوى ألا يخرج منه ما ليس محموداً؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في المنافق: (إذا خاصم فجر)؛ لأنه يشعر بالغلبة فتؤزه نفسه إلى أن ينتصر، ولا يوجد لجام من التقوى، فيحصل فجور في الخصومة، فـشوقي -رحمه الله وعفا عنه- عندما قال هذه القصيدة وخانه إمكانه، وعقه قريضه، ولم يستطع أن يقل شيئاً يرقى إلى ما رأد أن يرثي به مصطفى كامل ، جنح إلى الآثام فقال: لو كان في الذكر الحكيم بقية لم تأت بعدُ رُثيت في القرآن مصر الأسيفة ريفها وصعيدها قبر أبر على عظامك حاني أقسمتُ أنك في التراب طهارة ملَك يهاب سؤاله الملكان وهذا فحش من القول وكفر، لكن ما الذي دفع شوقي إليه؟ هو إباء كبره الشعري إلا أن يظهر، وقلت: لا لجام تقوىً حقيقي يمنعه فأطلق لنفسه العناء، وهذا قابل لأن يعترينا جميعاً، ولذلك لا لجام مثل لجام التقوى، ولما مر عمر رضي الله عنه على تلك المرأة فسمعها تقول: تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرقني ألا حبيب ألاعبه فوالله لولا الله لا شيء غيره لحرك من هذا السرير جوانبه مخافة ربي والحياء يكفني وإكرام بعلي أن تنال مراكبه ففي هذه الأبيات أمور غير مقبولة، لكن لما ذكرت مخافة الله قال عمر رضي الله تعالى عنه: نعم اللجام لجام التقوى. فأنت عندما تريد أن تنشئ أحداً تحت عينيك: ابنك أو طالبك فإنك لن تسقيه شيئاً أعظم من لجام التقوى، وأما المعلومات والمعارف فسيصل إليها ذات يوم، لكن أعطه المنهج العام والطرائق التي يصل بها إلى مقصوده، ثم عظم الله جل وعلا في قلبه، وليكن خطابك الدعوي والعلمي مبني على أن تعظم الله جل وعلا في القلوب، وأما المعلومات والمعارف، أو نثر الأحكام، أو رفع الصوت في الوعظ فهذا كله لا يقدم ولا يؤخر إن كان الذي تخاطبه محروماً من معرفة الله جل وعلا؛ إذ أن القضية عنده ليست قضية علم، وإنما هي قضية ألا لجام من التقوى يمنعه من أن يصل إلى المعاصي. |
معنى قوله تعالى: (وابتغوا ما كتب الله لكم ..) الآية
قول الله جل وعلا: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [البقرة:187] هذه آية عامة، لكن أول من تنصرف إليه هو الولد. وقوله سبحانه: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] هذه ظاهرة، وإن كانت أشكلت على بعض الصحابة، لكن المقصود حتى يتبين الفجر الصادق من الفجر الكاذب. ثم قال الله: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187] فالإسلام يرقى بأتباعه في قاعدة تحتمل الجميع، لكن القواعد -كلما علت المنازل- لا تحتمل إلا القليل، حتى تصبح لا تحتمل واحداً. فالصيام منزلة جبرية، بمعنى: أنه فرض علينا جميعاً في حالة الصيام ألا نأتي أهالينا إلا ليلاً، وأما المعتكف فليس له أن يأتي أهله ليلاً، وهي منزلة أضيق، فقال: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ [البقرة:187] وقبل قليل قال: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ [البقرة:187]، ومعلوم لديكم أنه ليس كل الناس عاكفين في المساجد. وظاهر القرآن أن أي مسجد يعتكف فيه، فالاعتكاف من الناحية الفقهية يقع على ثلاثة أوجه: يقع سنة، ويقع مندوباً، ويقع واجباً. فيقع سنة في العشر الأواخر من رمضان، ويقع مندوباً في كل وقت، إلا العيدين؛ لأنه لا صيام فيهما، ويقع واجباً إذا نذر، فألزم نفسه. ثم قال تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة:187] الحمد لله الذي بين لنا آياته، فنسأل الله كما بين لنا آياته أن يرزقنا التقوى والعمل بها، هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، والله المستعان، وعليه البلاغ، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين. |
لقد حذر الله المؤمنين من أن يأكلوا أموالهم بينهم بالباطل، أو أن يستميلوا الحكام إليهم بالمال ليأخذوا مال الغير. وكذلك نبههم الله تعالى إلى أن يسألوا الرسول في الأمور الدينية التي تنفعهم وتقيم دينهم، وعدم السؤال في أمور الدنيا التي تعرف بالتجربة والخبرة. وكذلك حذرهم من أن يلقوا يأيدهم إلى التهلكة، فالتهور ليس بمنقبة كما أن الإحجام في غير وقته ليس بمنقبة، فالإقدام يكون في الوقت المناسب، والإحجام يكون كذلك في الوقت المناسب. ثم أمرهم بالإنفاق في سبيل الله تعالى فإن ذلك طريق من طرق الفلاح والنجاح.
|
تفسير قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ...)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: كنا قد انتهينا في اللقاء الماضي إلى آيات الصيام, ونزدلف اليوم إلى قول الله جل وعلا: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188]. معلوم أن الإنسان -إذا أجرينا الأمور على حقيقتها- له أن يأكل من مال نفسه, لكن قول ربنا جل وعلا: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ [البقرة:188] هذا ما يسمى بإقامة الأخ مقام النفس, فأقام الله هنا الأخ مقام النفس, وفي هذا إشارة إلى أن المجتمع المسلم مجتمع يختلف كثيراً عن غيره من المجتمعات, ذلك أن الإسلام يربي أتباعه على أن يكونوا كالجسد الواحد، وقد تظافرت نصوص القرآن والسنة على هذا. وقوله سبحانه: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188] له من الناحية الفقهية صورتان: الصورة الأولى: صورة ناتجة عن الظلم، كالسرقة والنهب والغصب والاختلاس, فهذه صور تحمل معنى القوة, وتحمل معنى الظلم في الوصول إلى أموال الناس. والصورة الأخرى: صورة لا تحمل معنى الظلم ولا التسلط، وإنما يكتسب من خلالها حراماً، مثل صورة بيع الخمر, أو لعب القمار, وأمثال ذلك من المكاسب المحرمة التي لا تحمل معنى القوة والتسلط, لكنها تحمل معنى الطرائق المحرمة التي لو تمت بالاتفاق لكانت من أكل الأموال بالباطل، كأخذ أموال الناس ربا, فلو تم الربا باتفاق وتراض فإنه كون من أكل الأموال بالباطل؛ لأنه طريق محرم في كسب المال. فقول الرب تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ [البقرة:188] معناه: أن هذه الأموال التي إذا قدر أن جمعتموها بالباطل تكون أشد إثماً وأعظم جرماً مما إذا كنتم تتوصلون بها إلى ميل الحكام وجورهم لأجلكم, والحكام يدخل فيها الحاكم أولاً, ومن ينيبهم من القضاة, والذين لهم حق الفصل بين الناس, ومن جعل الله بيدهم أمراً أو نهياً أو نواصي الخلق. ثم قال تعالى: لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ [البقرة:188] فالمال الذي نتشفع ونتوصل به إلى استهداء الحاكم أن يكون معنا ضد غيرنا ينجم عنه أن الحاكم سيمالئنا ويميل إلينا لو رفعت إليه خصومة نحن أحد طرفيها, وهذا كله بسبب ما قدمناه له من أموال، وتسمى في عرف الشرع: رشوة, وألبسها اليوم الناس لباس الهدايا وغير ذلك من التذكار وأشباهه, فيكون الوصول إلى ما نريد عن طريق إقامة علاقات مالية غير جائزة شرعاً يراد بها أن يغض الطرف عنا. وقد جرت سنة الله في خلقه عموماً إلا من ألجم بالتقوى، أن من أطعمت فمه غضت عنك عينه, ولذلك فالأحرار من الرجال يأنفون أن يكون لأحد عليهم منة؛ حتى لا تدفعهم تلك المنة إلى أن يغضوا طرفاً عما لا يليق, قال البارودي -وهو يعتبر عند أهل الأدب مجدداً للشعر العربي بعد كبوته-: خلقت عيوفاً لا أرى لابن حرة علي يداً أغضي لها حين يغضبُ والمقصود من الآيات: أن الله جل وعلا يريد من المجتمع أن يكون الحق هو السائد فيه, والمهيمن عليه, وأن الناس لا يأكل قويهم ضعيفهم, وطرائق هذا الأمر ألا يكون للحكام ومن ينيبونهم طريق إلى الغير, وهذا الطريق إلى الغير يكون بعدم إعطائهم ما يستدرجون به حتى يكونون في صفنا على غيرنا, هذا مراد الله جل وعلا من الآية, وقد جاءت بعد آيات الصيام التي حذرت من شهوتي الفرج والبطن. ولما كان حب المال متأصلاً في الناس قال الله: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، فحرم الله جل وعلا الباطل في كسبه، واستخدامه فيما هو أشنع منه, كالوصول إلى رضى الحكام الذي ينجم عنه أن تؤكل أموال الناس بالباطل, قال الله: لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188]. |
تفسير قوله تعالى: (يسألونك عن الأهلة ...)
قال ربنا -وهو أصدق القائلين-: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ [البقرة:189] وجاء الجواب القرآني: قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189]. ثمة في أسلوب العرب في كلامها أسلوب يسمى أسلوب الحكيم, وأسلوب الحكيم يمكن إجماله في جملة واحدة وهي: تلقي السائل بخلاف الذي يطلبه, فأنت تجيبه جواباً غير متوقع من لدنه, لكن هذا الجواب أشد فائدة له. ومنه أن جماعة جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم -قيل: إنهم بعض الصحابة, وقيل: إنهم بعض اليهود, ولا يتعلق بمعرفة القوم كبير علم أو خلاف- فسألوه عن الهلال: لماذا يبدو دقيقاً ثم يكتمل ثم يعود كما كان؟ فالله يجيبهم على ما ينبغي أن يكون عليه السؤال، فليس السؤال عن علة كونه يبدو هكذا بأحق من السؤال عن الغاية من كونه على هذه الحالة، فنقلهم الله من السببية إلى الغائية أو الغاية, فبين الله جواب ذلك بقوله: قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189]، وذكر الحج بعد قوله: مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ [البقرة:189] وهو ذكر خاص بعد عام, فالحج يدخل في قول الله جل وعلا: مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ [البقرة:189] ومواقيت: جمع ميقات, كما أن مواعيد جمع ميعاد، والميعاد بمعنى الوعد, والمواقيت بمعنى: الوقت, فهي مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ [البقرة:189]، فالزكاة تعرف بالأهلة إذا حال الحول, والعدد للنساء تعرف بالأهلة, وما يكون بين الناس من مواعيد تضبط عن طريق الأهلة, وجميع مصالح الشرع معلقة بالأهلة. وقد مر معنا أن المصالح الدنيوية المحضة معلقة بالشمس, وأما المصالح الشرعية فهي معلقة بالهلال, والشمس والقمر كلاهما آيتان من آيات الله، ويسميان: القمران. ولماذا أفرد الله الحج؟ جرت عادة العرب في الشيء الذي تملكه وتعرفه من قبل أن تقدم وتؤخر فيه, فالزكاة والصلاة لم يكن للعرب عهد بها, فلهذا لا تملك تغييرهما, وأما الحج فكانت العرب تعرفه قبل الإسلام، كما كانت تعرف الأشهر الحرم كذلك قبل الإسلام, وقد أدخلوا التقديم والتأخير والزيادة والنقصان في الأشهر الحرم, ولهذا قال الله: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37] فحتى لا يحصل لأشهر الحج ما حصل للأشهر الحرم قال الله جل وعلا -مفرداً للحج وحده-: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189]، وهذا نوع من التوطئة والتمهيد لما يأتي بعدها. ثم قال ربنا: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189] . فأي شيء تطلبه على غير وجهه فهو من إتيان البيوت من ظهورها, فإذا طلبته من وجهه كان من إتيان البيوت من أبوابها, فيقول ربنا: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا [البقرة:189] والنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم يسأل عما يتعلق بمصالح الدين والآخرة، وأما ما لا يتعلق بمصالح الدين والآخرة أصلاً فلم يبعث من أجله, فالمسألة إما بر أو شأن دنيوي محض. فكأن الله يقول: الشأن الدنيوي المحض ليس لكم أن تسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنه؛ لأنه لم يبعث لهذا, فكون الهلال يبدأ صغيراً ثم يكبر ثم يعود كما كان وهذا شأن دنيوي محض أنتم -أيها الأخيار من أصحاب محمد- منزهون أن تسألوا نبيكم عن مثل هذا, فلم يبق إلا الشأن الديني الذي تجمعه كلمة بر. والبر: اسم جامع لجميع صفات الخير، وهناك طرائق للبر ينبغي أن يسأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا نهاهم أن يأتوا البيوت من ظهورها، أي: أن يسألوه من غير الوجه اللائق، وإنما إدراك الأشياء يكون باتخاذ الأسباب الموصلة إليها, فلذا قال الله: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189]. لكن القرآن دائماً يجعل التقوى في طيات الأوامر الشرعية كلها؛ لأنها هي المقصود الأسمى من العباد. |
تفسير قوله تعالى: (واقتلوهم حيث ثقفتموهم ...)
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [البقرة:191]. معنى: ثَقِفْتُمُوهُمْ [البقرة:191] أي: ظفرتم بهم وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ [البقرة:191] وقد أخرجوا المسلمين من مكة, وقد وقع هذا للمسلمين بأن فتحوا مكة, فحققوا قول الله: وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:191] فما وقع منهم من فتنتكم في الدين حتى يردوكم عن دينكم إلى الشرك؛ أعظم من كونكم تقاتلونهم لتسفكوا دماءهم. ثم قال تعالى: وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ [البقرة:191] وهذا من إطلاق المسجد الحرام على مكة, وفيه بيان لحرمة مكة عند الله, وفي الحديث: (إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض). وهذا نزدلف به إلى الخلاف القائم بين العلماء: أيهما أفضل مكة أم المدينة؟ جماهير العلماء على أن مكة أفضل من المدينة, ولهم في ذلك دلائل وقرائن من أشهرها: أن الله جل وعلا جعلها موئلاً للخليلين: محمد وإبراهيم عليهما السلام. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف). ولأن الكعبة في مكة وهي بيت الله. ولأن الله جل وعلا أوجب الحج إلى مكة وإلى بيته العتيق لا إلى غيره, وغيرها من القرائن كثير. وذهب الإمام مالك رحمه الله -وهو المشهور عن عمر وابنه عبد الله - وجمهور أتباعه إلى أن المدينة أفضل من مكة؛ لسكنى النبي صلى الله عليه وسلم فيها, ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة). وقال في حديث آخر: (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) فقالوا: إذا كان موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها, فكيف ببلدة فيها روضة من رياض الجنة! وبعض العلماء يفصل فيقول: إن مكة أفضل، ولا يمكن لما فقهه مالك أن يصادم تلك النصوص الشرعية, لكن يقولون: إن المجاورة في المدينة أفضل من المجاورة في مكة. والعلم عند الله. يقول الله: وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة:191]؛ لأن هذا نوع من القصاص كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:191-192]. وقطعاً أن الشرك لا يدخله الغفران, فما معنى قول الله فَإِنِ انتَهَوْا [البقرة:192]؟ أي: انتهوا عن الشرك لا عن القتل، وهذا قيد لا بد لك أن تفقهه؛ لأنهم إن بقوا على شركهم ولم يقاتلونا فلن يغفر لهم. فقوله: فَإِنِ انتَهَوْا [البقرة:192] أي: عن قتالكم وعن الشرك فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:192]. |
تفسير قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ...)
قال الله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة:193]. قوله: حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة:193] قال العلماء: حتى لا يكون تقول ينجم عنه اضطهاد الناس في دينهم, ولما حصلت ولاية ابن الزبير اقتتل الناس كثيراً مع أتباع يزيد ، وجيء لـعبد الله بن عمر الصحابي المعروف, ابن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقيل له: ألا تقاتل والله يقول: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة:193] ؟ فقال رضي الله عنه وعن أبيه: لقد قاتلنا حتى لا تكون فتنة وكان الدين لله -يقصد: أيام النبي صلى الله عليه وسلم-، وأنتم اليوم تقاتلون حتى تكون فتنة, وشتان ما بين القتالين. قوله: وأنتم -يخاطب الخوارج- تقاتلون اليوم حتى تكون فتنة. ومعلوم أن هذا حصل أيام عبد الله بن الزبير ويزيد بن معاوية ، وأيام خروج عبد الله بن الزبير على يزيد ، فقد أرسل يزيد مسلم بن عقبة المري , وأراد أن يرسل أولاً عبيد الله بن زياد , لكن عبيد الله بن زياد باء بمقتل الحسين , فأراد أن يبعثه يزيد إلى مكة، لكنه أخذ درساً من الأولى, فقال -أي: عبيد الله بن زياد -: والله لا أبوء بهما جميعاً, أي: قتل الحسين وغزو مكة، اعفني, فسلم القيادة لرجل اسمه مسلم بن عقبة المري ، وكان شيخاً كبيراً في السن, فبدأ بقتال أهل المدينة, ثم انتقل إلى ابن الزبير ، فقاتل أهل المدينة حتى وقعت موقعة الحرة، فأسماه أهل المدينة مسرفاً بدلاً من مسلم , يقول قائلهم: هم منعوا ذماري يوم جاءت كتائب مسرف وبني اللكيعة وعلى يده استبيحت المدينة، ثم أراد أن يتوجه إلى مكة -وقلنا: إنه خرج وهو شيخ كبير- فمات, فوكلت القيادة إلى غيره, ومات يزيد بعده أو قبله. المهم أنه قبل أن يصل جيش الشام إلى مكة مات يزيد ، وأعلن ابن الزبير رضي الله تعالى عنه الخلافة على الحجاز, وتبوأ الخلافة في الشام معاوية بن يزيد ، ثم مروان بن الحكم ، ولما ولي سب ابن زوجته, وهو شاب نشأ في حجره، فلما سبه وعيره بأمه التي هي زوجته -وهذا الابن من رجل آخر- ذهب الرجل يشتكي مروان بن الحكم عند أمه, فاغتاضت الزوجة وقالت له: إنه لن يسمعك إياها بعد اليوم, يعني: بيتت قتله، فلما قدم إليها قتلته خفية في داره، وذلك أنها اجتمعت عليه هي وخدمها، فلما مات مروان أعلن عبد الملك الخلافة له, فانتقلت الخلافة -كما يقول المؤرخون- من البيت السفياني إلى البيت المرواني نسبة إلى مروان بن الحكم ، فصار الأمويون بعدها يقال لهم: بنو مروان، وهذا معنى قول شوقي : مررت بالمسجد المحزون أسأله هل في المصلى أو المحراب مروانُ فيقصد بالمصلى والمسجد مسجد بني أمية. فلما ولي عبد الملك أمر الحجاج فحاصر ابن الزبير في مكة، وضربها بالمنجنيق حتى احترقت أستارها، وهو لا يريد حرق الكعبة فهذا كفر، لكنه أراد قتال ابن الزبير ، حتى قتل ابن الزبير رضي الله عنه وآل الأمر إلى الحجاج ، وبالتالي إلى عبد الملك بن مروان . |
تفسير قوله تعالى: (الشهر الحرام بالشهر الحرام ...)
قال الله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ [البقرة:194] . الحرمات: جمع حرمة، كما تقول: حجرات جمع حجرة، والحرمة: الشيء الذي ينبغي أن يحفظ ويصان ولا ينتهك, فكلما ينبغي أن يحفظ ويصان ولا ينتهك يسمى حرمة. أما تفسير الآية: فأنت تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر، وكلهن في ذي القعدة, وذو القعدة شهر حرام, والأشهر الحرم ثلاثة سرد وواحد فرد, فالثلاثة السرد ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، وأما الفرد فهو رجب. فالنبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في ذي القعدة، وذو القعدة شهر حرام, وفي ابتداء عمرته في يوم الحديبية ردته قريش, فلما ردته انتهكت ثلاث حرمات: حرمة الشهر الحرام الذي هو ذو القعدة، وحرمة البلد الحرام الذي هو مكة, وحرمة العمرة التي أحرم لها. فرجع النبي صلى الله عليه وسلم وحل من إحرامه, فقريش بهذا انتهكت ثلاث حرمات, لذا قال الله: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ [البقرة:194]، ولاحظ كلمة (قصاص) يعني: مساواة, وقلنا آنفاً: إن قريش انتهكت حرمة الشهر، وحرمة البلد, وحرمة الإحرام, ونظيره في السياسة قول عائشة -لما قتل عثمان : لقد انتهك الخوارج ثلاث حرمات: حرمة الشهر الحرام ذي الحجة، وحرمة البلد وهو المدينة، وهي بلد حرام, وحرمة الخلافة. فأمر الخلافة شرعاً أمر معظم, ولهذا الصحابة رضي الله عنهم قبل أن يدفنوا نبيهم عليه الصلاة والسلام أجمعوا أمرهم على أبي بكر ؛ لعلمهم بحرمة الخلافة ومكانتها, فقتلة عثمان انتهكوا ثلاث حرمات، والذين صدوا النبي صلى الله عليه وسلم انتهكوا ثلاث حرمات كما قدمنا. لكن النبي عليه الصلاة والسلام اعتمر ذلك العام، فعمرة الحديبية كانت عام ستة, وما يسمى بعمرة القضاء كانت عام سبعة، وعمرة الجعرانة كانت عام ثمانية، والرابعة كانت مع حجه عليه الصلاة والسلام في السنة العاشرة. والمقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أخلت قريش مكة له دخلها عليه الصلاة والسلام، ونزحوا إلى الجبال, فهذا معنى قول الله: وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ [البقرة:194]، وكأن الله يقول: ردوك يا نبينا عام ستة فأدخلناك إياها عام سبعة, فكل الثلاث عادت، فأحرم صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة, ودخل البلد الحرام وبقي على إحرامه عليه الصلاة والسلام. وهذه الآية -وهي: قول الله تعالى-: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [البقرة:194] يطنب فيها الفقهاء؛ لأنها تحتمل عدة أشياء, فإنسان أخذ مالك ثم ظفرت بماله أتأخذه أم لا تأخذه؟ فيها أقاويل خلاصتها: لو تسلط أحد ما على مالك ثم وقفت على ماله بقدر الذي أخذ منك جاز لك أن تأخذه, ولا يسمى سرقة ولا نهباً ولا ظلماً؛ لأن الله يقول: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194]. فمثلاً: إذا خدعك شخص ما فأخذ منك عشرين ألفاً, ثم اكتشفت بتعاملك معه أنه أراد خداعك, فقال: أقرضني, ثم أنكر, وأنت وثقت به فأعطيته عشرين ألفاً, فما لبث أن أنكرها وجحدها، ثم لم يلبث أن وقفت على عشرين ألفاً له: إما وجدتها على مكتبة أو في درج سيارته، أو ما أشبه ذلك, واستطعت أن تحصل عليها، فلك أن تأخذها بدلالة الآية. وهناك حالة واحدة لا يجوز أن تأخذ فيها وهي: إذا نسي وأعطاك إياها أمانة, أي: نسي صنيعه الأول وأعطاك إياها أمانة، فليس لك أن تأخذها إذا طلبها؛ لأن النبي قال: (ولا تخن من خانك). إذاً: فإذا كانت على وجه الائتمان فلا ينبغي أن تأخذها وإن قال به بعض العلماء, لكن أحب إلينا ألا تفعل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تخن من خانك). هذا كما في قول الله تعالى: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142] وفي قوله: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ [الأنفال:30] وفي قوله: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً [الأنفال:58] فلم يقل: خنهم, وإنما قال: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنفال:58] أي: بين لهم الأمر على جلاء. |
تفسير قوله تعالى: (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ...)
قال الله تعالى: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]. هذه الآية دائماً تصبح محل نزاع، فيأتي الإنسان المحجم يستدل بظاهر قول الله: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]. ويأتي الباذل المقدام فيفسرها بأثر أبي أيوب عند أن قال: نزلت فينا معشر الأنصار أننا آثرنا الزرع على الجهاد. والحق أن يقال ما يلي: الإنفاق لا يسمى إنفاقاً إلا إذا كان في وجه يسمى إصلاح مال, وأما تضييع المال فلا يسمى إنفاقاً. وينبغي أن تعلم أن الله أمر بالإنفاق وأمر بالجهاد, وبين الإنفاق والجهاد طرفي نقيض, فيقابل الإنفاق إما البخل وإما الإسراف، فقول الله تبارك وتعالى: وَأَحْسِنُوا [البقرة:195] تعود على الإنفاق, والمعنى: لا تنفقوا إنفاقاً يصل إلى حد الإسراف، ولا تكونوا بخلاء. وفي قوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195] أي: لا تقعدوا عن الجهاد، وأيضاً: فلا تلقوا بأنفسكم إلى المهالك على وجه يغلب على الظن أنه الهلاك المحقق, فيصبح الإقدام غير التهور، فتصبح الآية وَأَحْسِنُوا [البقرة:195] ضابطاً لقوله تبارك وتعالى: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195] . فالقعود عن الجهاد إلقاء للنفس في التهلكة؛ لأنك قصرت في واجب شرعي فتهلك بتركه، والتهور في المعركة بإلقاء النفس في التهلكة المحققة على وجه مذموم، منتقد شرعاً. والإنفاق إذا كان إسرافاً فهو إلقاء للمال في التهلكة على وجه مذموم، كما أن القعود عن الإنفاق بخل يلقي النفس في التهلكة؛ لأن البخل لا يورث إلا ذماً. إذاً: فالمعنى: فيما يغلب على الظن أنه هلاك. والعرب كانت تعيب التهور في المعارك ولا تعده شجاعة, ويقولون: إن الأعشى مدح أحد الملوك في زمانه فقال: وإذا تجيء كتيبة ملمومة خرساء قد كره العدو نزالها كنت المقدم غير لابس لمة بالسيف تضرب معلماً أبطالها يقول: إذا جاءت كتيبة خرساء من الحديد الذي عليهم فكأنها صماء، فيتحاشى أحد أن ينازلها، فأنت أيها الملك كنت المقدم غير لابس لمة، أي: غير لابس درع. فعابت العرب الأعشى على هذا البيت الذي قاله في الملك, وقالوا: ما زدت على أن وصفت الملك بالتهور, وهذه ليست بشجاعة. فالضابط القرآني جاء مبيناً لمسالك الناس في الإنفاق: ألا يكون إسرافاً ولا بخلاً، وفي الحروب ألا يكون قعوداً ولا تهوراً. وهذا هو معنى قول الله: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]. |
تفسير قوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله ...)
قال الله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]. اختلف العلماء هنا في معنى الإتمام, فذهب ابن عباس إلى أن المقصود بالإتمام: أن تحج وتعتمر من دويرة أهلك. وأكثر المفسرين على أن المقصود: إذا شرعت في حج وعمرة ولو كانا نفلين فيجب عليك أن تتمهما. فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]. مجمل ما دلت عليه الآيات ما يلي: الإحصار، وهو في اللغة: الحبس والمنع, لكن هل يكون الإحصار بغير العدو، أم لا يسمى إحصاراً إلا بالعدو؟ اختلف العلماء في ذلك: فذهبت طائفة إلى أن الإحصار الذي جاءت به الآية لا يكون إلا بالعدو, ودليلهم قوله تعالى: فَإِذَا أَمِنتُمْ [البقرة:196]، والأمن لا يكون إلا من خوف عدو. وأجمل الأقوال أن يقال: إن الآية جاءت في حصر العدو, لكن كل ما نجم عنه حرج وضيق وحبس عن البيت فيقاس عليه قياساً جلياً لا شبهة فيه, وهذا حتى نخرج من نزاع العلماء. فإن أحصر الإنسان عن الوصول إلى البيت لأي سبب كان فإن الله يقول: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196]، والهدي: هو ما يساق ويقرب ويذبح في مكة من بهيمة الأنعام، فأعلاه بدنه وأدناه شاة. قوله: ... فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196]. اختلف العلماء في المقصود بمحل الهدي: فقال بعضهم في الإحصار: إن دم الإحصار حيثما أحصرت، وقال آخرون: يبعث بالهدي إلى الحرم، فلا يكون منه حج حتى يصل الهدي إلى محله، وذهبوا إلى أن المقصود بأن الحرم هو محل الهدي؛ لقول الله جل وعلا: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95]، وقول الله جل وعلا: ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:33] والمراد مكة. والأصل أن منى هي الأصل في النحر وإن دخلت في مكة, هذا قول. والذين قالوا: إن دم الإحصار يكون في موطن الإحصار استدلوا بقوله تعالى: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196]. |
.
كفارة من فعل محظوراً في الحج قال الله جل وعلا: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ [البقرة:196] فالأصل أن هناك محظورات في الإحرام، فقال الله: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]. فالصيام ثلاثة أيام، والصدقة نصف الصاع، والنسك أصله العبادة, ولكن لما كان النحر من أعظم القربات أطلق على التقرب إلى الله ببهيمة الأنعام, لكن هذا يكون على التخيير، ومما يقع فيه الخطأ في الفتوى بين بعض طلبة العلم: أنهم لا يفرقون بين ترك الواجب وفعل المحظور. فما الذي يترتب على فعل المحظور؟ وما الذي يترتب على ترك الواجب؟ يكون التخيير في كفارة فعل المحظور, فمن فعل محظوراً من محظورات الإحرام وجاءك يستفتيك فقال: حلقت رأسي، أو تطيبت, أو فعل أي محظور من محظورات الإحرام, فهذا تقول له: أنت مخير بين ثلاثة أمور: بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين كل مسكين نصف صاع، أو ذبح شاة؛ لقول الله جل وعلا: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]، فـ (أو) هنا للتخيير. وأما من ترك واجباً فإنه يهرق دماً وليس هناك تخيير، لكنه إن عجز عن الدم ينتقل إلى صيام عشرة أيام, وهذا مما يقع به الخطأ في الفتوى، فلو جاء إنسان وقال: أيها الشيخ المبارك! أو يا طالب العلم! تجاوزت الميقات دون أن أحرم، فنقول له: أنت لم تفعل محظوراً، وإنما تركت واجباً فعليك دم, ولو جاءك من يقول: لم أبت في مزدلفة, فتقول له: تركت واجباً عند جماهير العلماء، فعليك دم. لكن لو قال: حلقت، أو قلمت أظفاري، أو مسست طيباً، أو لبست مخيطاً، فهذا تقول له: أنت مخير بين الثلاثة الأمور في الآية؛ لأنك فعلت محظوراً. قال الله: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] . وهل هو دم جبران أو غير ذلك؟ هذا فيها خلاف بين العلماء, لكن معلوم أن الأنساك ثلاثة: إفراد وتمتع وقران, فعلى قدر ما تأخذ على قدر ما تعطي, والعكس كذلك. فهذا الذي ذهب يحج وأفرد الحج بسفرة لوحدها، ولم يعط زيادة من طاعة وهي العمرة, فلا يؤخذ منه دم، وأما من قرن ما بين الحج والعمرة في سفرة واحدة فعليه دم؛ عوضاً عن الجمع بين الحج والعمرة في سفر واحد. ومن تمتع فقد مكث أياماً يلبس ويتطيب ويأتي النساء، فعوضاً عن هذا التمتع يهرق دماً؛ فلذا قال الله: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:196] أي: إلى أهلكم تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [البقرة:196]، ومعلوم أن الثلاثة والسبعة: عشرة, فلماذا نص الله على ذلك وقال: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [البقرة:196] ؟ اختلف العلماء, والأظهر عندي والعلم عند الله: أن هذه الآمة أمة أمية لا تحسب، وهم المخاطبون الأولون بالقرآن, فبينه الله بياناً جلياً حتى لا يقع منهم خطأ, فقال: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ . |
القول فيما يعود عليه حرف الإشارة
قال الله تعالى: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:196] . ذَلِكَ [البقرة:196] اسم إشارة، فعلى ماذا يعود؟ تأمل الآية، قال تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:196]. فـ: ذَلِكَ [البقرة:196] يعود إلى أحد اثنين: إما للتمتع، أو لما يترتب على التمتع من هدي وصيام, فإذا قلنا: إنه يعود إلى التمتع.. فمعنى قول الله: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:196] أنه ليس لأهل مكة أن يتمتعوا، فيصبحوا مقصورين على نسكين إفراد وقران. وإذا قلنا: إن ذَلِكَ [البقرة:196] عائد على ما يترتب على التمتع من الهدي أو الجزاء الذي هو الصيام بدلاً منه, فيصبح المعنى: أن الجزاء على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، فيكون لهم التمتع وليس عليهم هدي. والمراد بحاضري المسجد الحرام سكان مكة، فإذا كانت هناك عمارة نصفها في الحرم ونصفها خارجه فلا يعقل أن من كانت غرفته في أول الدار ليس عليه هدي، ومن كانت غرفته في آخر الدار عليه هدي، فهذا ينزه عنه كلام الله. ثم قال الله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:196]. هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده حول هذه الآيات المباركات. نسأل الله أن يوفقنا وإياكم إلى ما يحب ويرضى, وأن يلبسنا وإياكم لباس العافية والتقوى, وصلى الله على محمد وعلى آله, والحمد لله رب العالمين. |
إن القرآن الكريم جاء بلسان عربي فصيح، يصعب على من لم يتمعن في معانيه أن يفهمه، ولهذا اهتم جمع كبير من سلف الأمة وعلمائها بتأويل آيات القرآن، وتفسير كلماته، وتوضيح عباراته..
|
تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ...)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فهذا لقاء من لقاءاتنا الموسومة بمحاسن التأويل، وهي تأملات في كلام ربنا رب العزة والجلال جل جلاله، وتذكيراً للإخوة الذين يكتبون معنا نبين ما يلي: كنا في اللقاء الماضي أو الذي قبله نتحدث في سورة الأحزاب، ثم انتقلنا إلى الحديث في سورة البقرة؛ حتى يتيسر لنا الحديث عن آيات الحج التي كنا قد توقفنا عندها في العام الماضي، ومن هذا اللقاء إن شاء الله تعالى إلى أن نختم القرآن سنمضي تدريجياً، أي: أننا وقفنا في اللقاء الماضي عند قول الله جل وعلا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة:204]. وتكلمنا عنها إجمالاً، ولم نفصل بسببين: الأول: ضيق الوقت، والثاني: أنها كانت مرتبطة بآيات الحج فعرجنا عليها بما يتناسب مع ما تبقى. وأما الآن: فنفرد لها الحديث، ونستمر في الشرح إلى ما شاء الله، نسأل الله أن ييسر لنا أن نختم تفسير كتابه. قال ربنا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة:204]. فيما مضى أيها المبارك مر تقسيم الناس إلى قسمين في الحج، فقال الله: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:200] فهذا قسم، ويقابله قسم آخر، يقول الله: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]، فهذان القسمان كان الرب جل وعلا يتكلم عنهما حال كونهما في الحج، ثم إن الآيات التي ستأتي تتحدث عن قسمين آخرين عامين في الحج وفي غير الحج، بل إن الأصل أنهما في غير الحج، فقال ربنا: وَمِنَ النَّاسِ [البقرة:204] (من) هذه تبعيضية والمعنى: بعض الناس، مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة:204]. أكثر المفسرين على أنها نزلت في الأخنس بن شريق ، فقد كان فصيحاً بليغاً يظهر الإيمان ويبطن النفاق، والصواب: أنها -أي: الآية- عامة في كل من هو مبطن كذب أو نفاق أو كفر أو حسد أو غل على أهل الإيمان، هذا الصواب. يقول ربنا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [البقرة:204] الإعجاب: هو استحسان الشيء والميل إليه مع التعظيم، وإذ لم يكن هناك شيء من التعظيم ولو يسير فلا يسمى هذا إعجاباً، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ [البقرة:204]، وهذا يعجبك قوله بسبب جرأته على الله، ومن جرأته على الله أنه يشهد الله على ما في قلبه وهو يعلم أن الله يطلع على غير الذي يقوله، فالذي يقوله شيء يستخدم فيه فصاحته وبلاغته ورونق كلامه، ومع ذلك حتى يقنعك يشهد الله على ما في قلبه، وهذه جرأة على الله؛ لأنه يعلم أن ما يقوله ليس هو الذي يبطنه، ثم يقول الله جل وعلا: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة:204] أي: شديد الخصومة، مع هذا الذي يظهره، وإذا قدر فإنه كما قال الله: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ [البقرة:205]. وسنقف وقفة مع الفعل (سعى) وقفة لغوية في معانيه، قال ربنا: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ [البقرة:205]، فحقيقة السعي المشي الحثيث، ومن هنا: سمي المشي بين الصفا والمروة سعياً؛ لأنه مشي حثيث، ثم إن الفعل (سعى) يستخدم في اللغة بحسب تعبير القرآن وتعبير اللغة في أمور عدة: منها ما يلي: يطلق السعي على كسب الإنسان وعمله، قال ربنا جل جلاله: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا [الإسراء:19] أي: قام بالعمل والكسب الذي يؤدي إلى الآخرة، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا [الإسراء:19]، وهذا دليل على أن السعي يكون بمعنى: الكسب والعمل. كما يأتي السعي بمعنى الإصلاح بين الناس، ورفع الإضرار، قال عمرو بن كلثوم : وأنا منا الساعي كليب ومقصوده بالساعي كليب أن كليباً كان يسعى في الصلح بين الناس، ورفع الإضرار عنهم. كما يأتي السعي بمعنى: العزم على تحصيل الشيء، ومنه قول الله جل وعلا في حق فرعون : ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى [النازعات:22] أي: يعزم على تحقيق مراده. وهنا يقول الله تعالى عن هذا وأضرابه: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ [البقرة:205] الحرث: هو الزرع، وسمي الحرث زرعاً لأنه بعد أن يحصد يحرث من جديد، والنسل يطلق على كل الأولاد سواء أولاد بني آدم، أو أولاد الحيوانات؛ لأنه ينسل من بطن أمه، والمقصود هنا: أولاد الحيوانات في المقام الأول؛ لارتباط أولاد الحيوانات بالحرث، ثم قال الله جل وعلا: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205]. والقرآن في المقام الأول كتاب موعظة وهدى، فينبغي على المؤمن أن يتجنب الفساد؛ لأن الله لا يحبه، ومن الفساد في الأرض: سفك الدماء، ورفع السيف على المسلمين، أو إنشاء قنوات تبث الأذى والشرور، أو تبني التجارة بملابس ينجم عنها الخلق إذهاب القويم في الأمة، فهذه وأضرابها كلها تسمى فساداً في الأرض، والفساد لا يحبه الله، قال الله جل وعلا: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205]. |
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم ...)
وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ [البقرة:206] قرنت كلمة العزة هنا بكلمة الإثم، وهذا يسمى في عرف البلاغيين الاحتراس، فليست العزة على إطلاقها مذمومة، فهناك عزة محمودة، قال الله جل وعلا: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8]، فالعزة المحمودة هي العزة التي ينالها المرء بالدين وباعتصامه بربه، والعزة المذمومة التي تكون مصحوبة بالإثم، فلهذا جعلها الله جل وعلا مصحوبة بالإثم هنا حتى يكون هناك احتراس من أنه ليس كل عزة مذمومة، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ [البقرة:206] أي: هذا الذي يبطن ما لا يظهر، ويظهر ما لا يبطن، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ [البقرة:206] والعزة هنا بمعنى: حمية الجاهلية، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:206]. وهنا ينبغي للمرء أن تتواضع نفسه، ويطمئن قلبه، وتستكين جوارحه إذا قيل له: اتق الله، ولهذا قيل: إن من أبغض الخلق إلى الله رجل يقال له: اتق الله، فيقول: عليك نفسك، ولا ينبغي لأحد أن يستكبر عن هذه الكلمة، وقد قيل: إن الخليفة العباسي هارون الرشيد وقف أحد اليهود عند بابه يريد أن يرفع مظلمة إليه عاماً ويرده الحجاب، وهارون لا يدري، فرصد هذا اليهودي لـهارون في بعض طرقه، فلما قابله على عنفوان هارون المعروف، قال له: يا أمير المؤمنين اتق الله، فنزل هارون من فرسه وأرخى نفسه، أي: تطامن وتواضع وأخذ يسمع لليهودي، فلما فرغ من هذا قيل له: ما هذا يا أمير المؤمنين؟! قال: إنني خفت أن أدخل فيمن قال الله فيهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:206]. (حسبه جهنم) أي: تكفيه جهنم، وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:206] هذا عند العرب أسلوب ذم، فبئس للذم، ويقابلها في المدح نعم، وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:206]، فهذه طائفة من الناس. |
تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ...)
ويقابل هذه الطائفة قول الله جل وعلا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ [البقرة:207] ويشري هنا: بمعنى: يبيع، والأظهر: أن الفعل يشري في القرآن لم يرد إلا بمعنى يبيع، قال الله جل وعلا في خبر نبيه يوسف : وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ [يوسف:20] أي: وباعوه بثمن بخس، فهنا قول الله جل وعلا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي [البقرة:207] أي: من يبيع نفسه، وهذه الآية اختلف فيمن هو المراد فيها، وأكثر أهل العلم على أنها تنصرف أول ما تنصرف إلى صهيب بن سنان المعروف بـصهيب الرومي ، وكنيته أبو يحيى رضي الله عنه وأرضاه، وقد كان في أول أمره أسيراً، ثم نشأ صعلوكاً في مكة، وصعلوك بمعنى: فقير قليل الحال رث المال، ثم ما لبث أن اغتنى، فلما جاء الإسلام كان صهيب من السابقين الأولين، فلما أراد الهجرة منعته قريش، ومما احتجت به في منعه أن يخرج أنهم قالوا له: إنك أتيتنا صعلوكاً لا مال لك، فوالله لن تخرج وقد جمعت المال، فتنازل عن أمواله مع الاختلاف كيف تنازل عن أمواله: هل دلهم على أماكنها، أو أعطاهم إياها، وهذا كله ليس له علاقة في تحقيق المناط في القضية، لكن المقصود: أنه أراد أن يبيع ذلك كله من أجل أن يفوز برضوان الله، وهذا من أعلا المقامات، وأرفع الدرجات، قال الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:207]. والرأفة: أرق الرحمة وألطفها، وصهيب رضي الله عنه كان في زمن ما عبداً لقريش، فلما باع نفسه لله رأف به الرءوف الرحيم رب العباد جل جلاله، وقد ذكر الله هنا اسمه رءوف دون أسمائه الحسنى الأخرى، وكل أسماء الله حسنى، ومن مظاهر رأفته جل وعلا بعباده أمور نذكر منها اثنتين، ثم نذكر الثالثة المتعلقة بـصهيب ، فغير المتعلقة بـصهيب من مظاهر رأفة الله التي هي أرق الرحمة وألطفها: أنه يضاعف الحسنات ولا يضاعف السيئات. ومن مظاهر رأفة الله: أنه لو قدر أن أحداً أذنب وكفر مائة عام أو أقل أو أكثر، ثم تاب وصدق مع ربه أسقط الله عنه كل ما مضى، فهذان اثنان غير مرتبطين ارتباطاً مباشراً بموضوع صهيب ، لكن موضوع صهيب يتعلق بالمظهر الثالث، وقد قلنا: إن صهيباً أخبر الله عنه، وهذا قلنا إنه ينطبق على صهيب وعلى غير صهيب ، هذا على القول إنها نازلة في صهيب ؛ أن أخبر الله عن هذه الطائفة التي يمثلها صهيب هنا بقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ [البقرة:207] أي: يبيع نفسه (ابتغاء مرضات الله) فعندما يبيع المرء نفسه فإن المشتري هو الله، والثمن هو الجنة، فهذه النفس وهذا المال الذي ضحى به صاحبه في أصله هو ملك لله، وهذه الجنة التي يدخلها الله من باع نفسه من أجله هي ملك لله، فمن مظاهر رأفة الله: أنه يشتري ملكه بملكه؛ رأفة ورحمة بعباده، والله جل وعلا يقول: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111]، فالمشتري الله، والمشترى: النفس والمال، والثمن: الجنة، وينطبق هذا على حال صهيب هنا، لكننا نلحظ ونعلم يقيناً أن النفس والمال والجنة كلها خلق لله، وملك لله، فمن مظاهر رأفته جل جلاله وعظم خيره: أنه يشتري ملكه بملكه؛ رحمة بعباده، ورأفة بهم، وهذا من أعظم مظاهر رأفة الله، ولهذا فهذه الآية التي صدرت بقول الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ [البقرة:207] ذيلت بقول الله: وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:207]. |
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ...)
ثم قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:209]. السلم هنا بمعنى: الإسلام والمسالمة، وأهل العلم رحمة الله تعالى عليهم اختلفوا في المخاطب أصلاً بهذه الآية، فقال بعضهم: إن المخاطب بها المنافقون، فهذه دعوة لهم في أن يدخلوا في جميع شرائع الدين، وهذا عندي أضعف الأقوال؛ لأن الآية صدرت بقول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:208]. القول الثاني: أن المخاطب بالآية أولاً هم أولئك الذين اسلموا من اليهود كـعبد الله بن سلام وأضرابه، فنقل بعضهم -ولا أعلم لهذا دليلاً قوياً سنداً-: أن عبد الله بن سلام وغيره ممن أسلم من اليهود شق عليهم في الدين أمران: الرضاء بعدم محبة يوم السبت؛ لأن اليهود تعظم السبت، فشق عليهم ألا يعظموا يوم السبت، وشق عليهم أن يحبوا الإبل، ويأكلوا من لحومها؛ لأن الإبل محرمة في ملة بني إسرائيل، قال الله جل وعلا: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ [آل عمران:93] وإسرائيل هو يعقوب، والذي حرمه إسرائيل على نفسه هو لحوم الإبل وألبانها، فاليهود لا تأكل لحوم الإبل، ولا تشرب ألبانها، وهذا القول في ظني ضعيف أن يقال: إن عبد الله بن سلام كان يعظم يوم السبت، وكان لا يحب الإبل؛ إبقاءً على شيء من اليهودية، هذا لا يتفق مع ما جاء في سيرته العامة رضوان الله تعالى عليه، خاصة إذا حملنا آية: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ [الأحقاف:10] أن المقصود به: عبد الله بن سلام . والصواب والعلم عند الله: أن هذا خطاب لكل مؤمن أن يقبل شرائع الدين كلها، ولا يفرق بين شيء منها، (كافة) أي: في الإسلام جميعاً في الإسلام كله، هذا هو معنى قول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208]. وَلا تَتَّبِعُوا [البقرة:208] (لا) ناهية، والقرينة على أنها ناهية حذف النون، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208]، وهذا يسوقنا إلى مسألة وهي: أن من قواعد الترجيح أنه إذا اختلف النحاة في شيء فينظر إلى رسم القرآن، فيكون رسم القرآن مرجحاً إن وافق قول أحدهما، والمثال على هذا قول الله جل وعلا: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى [الأعلى:6]، فـ (لا) هنا اختلف فيها هل هي ناهية أو نافية، والفرق بين (لا) الناهية و(لا) النافية من حيث الأثر: أن (لا) الناهية تجزم، و(لا) النافية لا تجزم ولا تنصب فليس لها أثر نحوي على الفعل، في حين أن (لا) الناهية تجزم، قال بعض العلماء: إن (لا) هنا: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى [الأعلى:6] إنها ناهية، بمعنى: أن الله جل وعلا يقول لنبيه: أنا سأقرئك القرآن ويجب عليك ألا تنسى، فنهاه عن النسيان. وقال آخرون: إن (لا) هنا نافية، والمعنى: أن الله جل وعلا تكفل بإقرائه لك، وتكفل بألا تنساه، إذاً: تنازع النحويون هنا: هل هي (لا) الناهية، أو (لا) النافية، ومن المتفق عليه: أن تنسى جاءت مختومة بالألف المقصورة، فوجود الألف المقصورة يدل على أن (لا) ليست ناهية؛ لأنها لو كانت ناهية لما وجدت هذه الألف، فيصبح مجزوماً بحذف حرف العلة، فبقاء حرف العلة في رسم المصحف دليل على أن (لا) هذه نافية وليست ناهية، وهذا من قواعد الترجيح أن ينظر إلى رسم المصحف إذا اختلف النحاة. والكلام هنا على قول الله جل وعلا: وَلا تَتَّبِعُوا [البقرة:208]، لكنني جعلت منها طريقاً لتبيين مسألة مهمة وهي معرفة بعض قواعد الترجيح، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208]. هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، ونكمل في اللقاء القادم بعون الله تعالى الآية هذه والتي تليها: (فإن زللتم من بعدما جاءتكم البينات) وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين. |
قصد بيت الله عز وجل للتعظيم بشرط وجود الزاد والراحلة المعبر عنه بالاستطاعة: هو الحج، وقد بين الله في سورة البقرة بعضاً من الأحكام المتعلقة بالحج لمن أراد أن يتفقه في دين الله تعالى.
|
تفسير قوله تعالى: (الحج أشهر معلومات.... ولا جدال في الحج)
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: قال الله جل وعلا وهو أصدق القائلين: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]. وقبل أن نشرع في تسير هذه الآية نبين أن الآية التي قبلها تقول: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ [البقرة:189] فجاء الجواب القرآني: قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189]، فأشعر قول الله: إن الأهلة مواقيت للناس والحج، على أن أشهر الحج طوال العام؛ لأن كلمة: قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189] عائدة على الأهلة، والأهلة طوال العام، فأشعرت أن جميع أشهر السنة أشهر حج، وهذا غير صحيح، فهذا الإشعار الذي يظهر لك بادي الرأي أنه عام هذه الآية أشبه بالموضحة له، وبعض أهل العلم يراها مخصصة لذلك التعميم الذي قال الله فيه: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189]، فهنا لم يحدد أن أشهر الحج محددة، لكنه هنا قال: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] ومعنى الآية: وقت الحج أشهر معلومات، ومن المهم: أن تفقه مراد الله: أن الله جل وعلا هنا لم يذكر لنا ما هي أشهر الحج، واكتفى بقوله جل شأنه: (أشهر معلومات) جمع معلومة، أي: معروفة لا يكاد يجهلها أحد، في حين أن الله جل وعلا لما ذكر الصيام قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] ثم قال بعدها بآيات: شَهْرُ رَمَضَانَ [البقرة:185] فلماذا عين؟ هنا لم يقل: شهر شوال، شهر ذي القعدة، شهر ذي الحجة؛ لأن رمضان لم يكن معروفاً آنذاك بأنه شهر صيام، فالعرب لا تعرف صيام رمضان في الجاهلية، لكن العرب في الجاهلية تعرف الحج، فقد كانت تحج وتعتمر، لكن كانت لهم شركيات مع أصل حجهم الذي أخذوه إرثاً عن إبراهيم عليه السلام، فقول الله جل وعلا: أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] يحيل إلى شيء معروف في الذهن، والتعبير بقوله جل وعلا: أَشْهُرٌ [البقرة:197] هذا جمع قلة، والعرب إذا جمعت جمع قلة من ثلاث إلى تسع تأتي على وزن أفعل، تقول: نجم، وتجمعها جمع قلة فتقول: أنجم، وشهر جمعها جمع قلة: أشهر، أما نجم فجمعها جمع كثرة: نجوم، قال تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ [الواقعة:75]. والشهر جمعها جمع كثرة: شهور، قال ربنا: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا [التوبة:36] فلما قال: اثنا عشر شهراً قال: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ [التوبة:36] ولم يقل: إن عدة الأشهر، وهذا الكلام يسمى تحت باب الصناعة الصرفية: الصناعة الصرفية؛ لأننا قلنا: إن الكلام في الكلمة نفسها يسمى: صناعة صرفية، أما الكلام في الكلمة وسط الجملة فيسمى: صناعة نحوية، أما الكلام عن أحرف الكلمة وأوزانها في ذاتها فيسمى: صرفية، قال ربنا: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] ومع ذلك اختلف فقهاء الملة رحمهم الله في تحديد الأشهر المعلومات على أقوال ثلاثة: القول الأول يقول: إن أشهر الحج هي: شوال، وذو القعدة، ومن الأول إلى التاسع من ذي الحجة، وهذا مذهب الشافعي رحمه الله، وحجة هؤلاء ظاهرة، فهم يقولون: إن الحج يفوت بفوات يوم عرفة بالاتفاق بين المسلمين، فالمسلم إذا فاته الوقوف بعرفة فقد فاته الحج، قالوا: فلا معنى إذاً أن نقول: إن من يوم عشرة إلى يوم ثلاثين من أشهر الحج، وصاحبها إن لم يقف بعرفة فاته الحج،فجعلوا أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وإلى التاسع من ذي الحجة. القول الثاني: إن أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وإلى العاشر من ذي الحجة، وحجة هؤلاء: أن الله سمى العاشر من ذي الحجة بيوم الحج الأكبر؛ لأن فيه من شعائر الحج ما ليس في غيره، ففي العاشر من ذي الحجة: رمي جمرة العقبة، والنحر، والحلق، وطواف الإفاضة، وهذه الأربع لا تجتمع إلى في عاشر ذي الحجة، فقال أصحاب هذا القول: ليس معقولاً أن نقول: إن عاشر ذي الحجة ليس من أشهر الحج، وهذه الأعمال كلها فيه. القول الثالث والأخير يقول: بل أشهر الحج شوال، وذو القعدة، وذو الحجة بكامله، وحجتهم: أن أقل الحج في كلمة: (أشهر) ثلاثة. ونلحظ من هذه الاختلافات: أنهم متفقون على أن شوال، وذو القعدة من أشهر الحج، فلو أن إنساناً أحرم بالعمرة في رمضان، ولم يرجع إلى بلده، ثم بدا له أن يحج هل نلزمه بالتمتع أم لا؟ لا يلزم؛ لأن عمرته لم تكن في أشهر الحج، لكنه لو اعتمر في يوم العيد وبقي في مكة ثم أهل بالحج فهو متمتع، ما لم يرجع إلى دويرة أهله، أو إلى إحرامه الحقيقي؛ لأن دويرة أهله المقصود بها هنا: إحرامه الحقيقي، وليست على إطلاقها، نأتي بمثال: رجل من أهل مصر يسكن الرياض أو يسكن المدينة، ثم إنه أحرم في شهر شوال بالعمرة، فاعتمر ورجع إلى مقر عمله في الرياض أو في المدينة، فهذا يعتبر قد رجع إلى دويرة أهله؛ لأن عمله وميقاته الأصلي هو الرياض أو المدينة، ولا علاقة لنا ببلده الأصلي وهو مصر مثلاً، على هذا قال الله جل وعلا: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197]، الحج في اللغة هو: القصد، لكنه هنا: قصد مكان من أجل التعظيم، ولا يسمى حجاً إلا إذا كان قصد ذلك المكان للتعظيم، والمكان هنا: هو بيت الله الكعبة، قال الله: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، وهذا ظاهر. |
ذكر بعض من شروط الحج
قال ربنا: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] قلنا: التقدير هنا أي: وقت الحج أشهر معلومات، حتى يأتي الذي بعدها، فقال ربنا بعدها: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ [البقرة:197] أي: في هذا الوقت، فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ [البقرة:197] أي: ألزم نفسه بالحج، والحج خامس أركان الإسلام كما هو معروف، وهو ثابت ركناً في الكتاب والسنة، قال الله تعالى: وَلِلَّهِ [آل عمران:97] وفي هذا دلالة إيجاب، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]. فالاستطاعة: شرط في إلزام المرء بالحج، إضافة إلى الشروط التي تكون غالباً في جميع العبادات من الإسلام والعقل والبلوغ، لكن الاستطاعة في الوصول إلى البيت شرط في إلزام العبد بالحج، وهذه الاستطاعة فسرت: بالزاد والراحلة، وفسرت بغيرها، والصواب: أن تفسر بكل ما يمكن أن يبلغ بالمرء بيت الله الحرام على إطلاقه؛ لأن هذه القضايا مثلاً: الزاد في عصرنا قد لا يحتاج إليه المرء كثيراً؛ لأنه يوجد كثير من الصدقات، لكن لا يلزم المرء بالصدقات، وسنأتي بلطيفة هنا في التفسير قبل أن نشرع في معنى قول الله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ [البقرة:197] في قضية الاستطاعة، فلو أنك سئلت عن إنسان من الناس لا يملك مالاً حتى يحج، والحج الآن يكون عن طريق الشركات، فيأتي إنسان لا يملك مالاً حتى يحج، فالحج ركن لكن هذا الرجل لا نستطيع أن نلزمه بالحج؛ لأنه لا يملك المال، أي: أنه عاجز، عاجز مالياً لا بدنياً، فلو جاء إنسان من الناس وقال له: كم يكلف الحج؟ فقلنا: إن الشركات المتوسطة تأخذ مثلاً أربعة آلاف فقال: هذه سبعة آلاف، وما عليك إلا أن تحج، السؤال هنا: هل يصبح الحج في حقه واجباً؟ الجواب: لا، فليس شرطاً أن يقبل إلا في حالة واحدة: إذا كان المعطي هو ابنك، وهذا على قول الشافعي لا على قول الجمهور؛ العطية الأولى فيها شيء من المنة، وأنت حر تقبل أو لا تقبل، أما ابنك إذا أعطاك فليس فيها منة؛ لأن ابنك من كسبك ومالك: قبول ما يهدى إليك سنة والترك أولى إن رأيت المنة أي: إن غلب على ظنك أنها منة فلا تقبلها. وقول الشافعي هنا فيما يغلب على ظني قوي جداً، ولذلك أحد السفيانين -وكلاهما حجة حافظ مجتهد مجمع على جلالته- كان يقول: أقبل هدايا السلطان، ولا أقبل هدايا الإخوان، فقيل له: لماذا؟ قال: لأن الأخ يمن، والسلطان لا يمن. يعني: أخوك إذا أعطاك فإنه كل أسبوع أو أسبوعين يذكرك بها، لكن السلطان يعطيك ويعطي غيرك، بل ولا يدري أنه أعطاك، ولا يمن عليك بها، والناس يختلفون في هذا، فلا توجد قاعدة مطردة، والإنسان بحسب حالته، فلا نقول لمن يقبل: إنه لا يجوز لك أن تقبل، ولا يقول لمن يرفض: إنه لا يجوز لك أن ترفض، فأحوال الناس ووضعهم في المجتمع يختلف، ومن يعطى خفية غير الذي يعطى علناً، ولا يوجد لها ضابط. نعود للآية قال ربنا: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ [البقرة:197] أي: في هذه الأشهر، ولا هذه عند النحويين: نافية للجنس، تعمل عمل إن وأخواتها، فتنصب الاسم وترفع الخبر، فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]. الرفث: الجماع ومقدماته، ومن الصناعة الفقهية: إنه لا يوجد شيء يفسد الحج إلا الجماع. (ولا فسوق)، الفسوق: العصيان، وأصله: كلمة معناها: الخروج عن طاعة الله: وَلا جِدَالَ [البقرة:197] أي: لا مماراة ولا نزاع في الحج: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]. ولا ريب أن من أراد أن يقدم على بيت الله ينبغي عليه أن يقدم قدوم الخائف الوجل المشغول بذنبه، الراجي عفو ربه، المؤمن من الله جل وعلا بالقبول، ليس المشغول بمن حوله، ومن يطلق النكات هاهنا وهناك، ومن ينازع الناس في الدينار والدرهم، أو أن يتخذ شركة ينجم من خلالها جمع أموال الناس، وأكلها بالباطل، أو أن يبحث عن صدارة وشهرة، فيتكلم في كل وقت وحين، يرجو أن يشار إليه بالبنان، أمور كثيرة تحدث وأغاليط، لكن الإنسان يتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ويخلص لله جل وعلا نيته: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] والرفث إذا وقع -وهو الجماع- يفسد الحج، أما الفسوق أو المعصية ما لم تكن شركاً والجدال فهذا لا يفسد الحج، لكن يقلل من أجره، ثم قال الله جل وعلا: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [البقرة:197] وما هنا: شرطية، وفعل الشرط: تفعلوا، وجوابه: يعلمه، ولذلك جاءت (يعلم) مجزومة. |
تفسير قوله تعالى: (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى)
ثم قال الله جل وعلا: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:197] أول ما يتبادر إلى الذهن -والإنسان قد فرض على نفسه الحج- الزاد الذي يحتاج، فلما كان الحج سفراً إلى مجمع عظيم هو يوم عرفة، ذكر الله جل وعلا بالسفر الحقيقي إلى يوم لقائه، إلى يوم العرض الأكبر، فنبه إلى الزاد الحقيقي الذي يعين في ذلك اليوم، وهو تقوى الله جل وعلا فقال سبحانه: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:197]. |
تفسير قوله تعالى: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا ... من عرفات)
ثم قال ربنا: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ [البقرة:198] قلنا: الجناح: الإثم، لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198] وسبب النزول: أن العرب كانت تتحرج من التجارة في الحج، فبين الله جل وعلا أن لا حرج في ذلك فقال جل شأنه وهو المشرع: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [البقرة:198] وعرفات: بقعة، وقد اختلف في سبب تسميتها بذلك إلى عدة أقوال من أشهرها: أن آدم التقى بـحواء فيها فعرفها. وقال آخرون: إن جبريل عليه السلام عرف إبراهيم المناسك في عرفات. واختار ابن عطية رحمه الله: أنه اسم وضعي لا سبب له. والتنوين في عرفات من حيث الصناعة النحوية: تنوين مقابلة، لا تنوين تمكين، ومعنى تنوين مقابلة أي: هذا التنوين يقابل شيئاً آخر، وهو النون في جمع المذكر. مثاله: مسلمون جمع مذكر سالم، يقابل نونه التنوين الذي في كلمة: عرفات، وقلنا: إنه تنوين مقابلة؛ تنوين التمكين لا يلحق الأسماء غير المنصرفة، وعرفات: اسم غير منصرف في الأصل لسببين: العلمية والتأنيث. |
تفسير قوله تعالى: (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام
قال تعالى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198] المشاعر: منى، وقد انتهينا من مكة نفسها، فمنى ومزدلفة مشعر، وفي نفس الوقت حرم، وعرفة مشعر لكنها حل بخلاف منى، وبخلاف مزدلفة، ووادي المحسر حرم لكنه ليس بمشعر، قال الله تعالى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ [البقرة:198] وخير من وقف بعرفة نبينا صلى الله عليه وسلم، وجابر رضي الله عنه وأرضاه في حديث في صحيح مسلم قص علينا حجته صلى الله عليه وسلم وهي طويلة ليس هذا موضع سردها، لكن قلت مراراً: هناك ثلاث مواطن: نمرة، وعرنة، وعرفة، والنبي صلى الله عليه وسلم نزل في نمرة، وخطب وصلى في عرنة، ووقف في عرفة، ونمرة: قرية شرق عرفات، وعرنة: واد يمر من بطن عرفة، قال جابر : فوجد القبة قد ضربت له بنمرة صلى الله عليه وسلم، ثم قال جابر : ثم أتى بطن الوادي فخطب الناس وصلى، أي: وادي عرنة، قال: ثم أتى الموقف، أي: عرفة، وقال: وقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف، وهنا يقول الله: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]. هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله. والحمد لله رب العالمين. |
في هذه الآيات ذكر الله تعالى بعض الآيات التي فيها بعض أحكام الحج كذكر الله عند المشعر الحرام، والإفاضة من حيث أفاض الناس، وذكر الله تعالى في أيام معدودات. ثم ذكر صنفاً من الناس ممن ينمق كلامه ويحسنه وهو في ذلك كاذب يخالف ظاهره باطنه، فإذا تمكن سعى في الأرض فساداً وإفساداً، وأهلك الحرث والنسل، وإذا نُصح أخذته حمية الجاهلية، ولم يقبل النصح واستمر في طغيانه وإفساده، ثم توعده الله تعالى بجهنم وبئس المهاد.
|
فسير قوله تعالى: (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام...)
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فقبل أن أشرع في اللقاء أذكر أنني حولت من الحديث في سورة الأحزاب إلى الحديث في سورة البقرة، وأننا منذ اللقاء الماضي تحدثنا بدءاً من قول الله جل وعلا: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] وانتهينا إلى قول ربنا جل جلاله: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ [البقرة:198]، وحررنا ما يمكن الحديث عنه من عرفات، وقلنا هناك ثلاثة مواطن: نمرة، وعرنة، وعرفة، وبينا أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل بنمرة، وخطب وصلى بعرنة، ووقف بعرفة، هذا ما انتهينا إليه. ثم قال الله جل وعلا: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198] المشعر الحرام في أصله جبل في مزدلفة، ويطلق أحياناً ويراد به مزدلفة كلها. |
حكم من نفر من مزدلفة قبل الغروب
وتصور المسألة على النحو الثاني: الوقوف بعرفة الجمهور يرون أنه يبدأ بعد زوال الشمس، لكن اختلفوا فيمن نفر من عرفة إلى مزدلفة قبل الغروب، ومسألة النفرة من عرفة قبل الزوال فيها ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه لا حج له، وهذا أضعف الأقوال، وهو قول مالك رحمه الله تعالى: أن من نفر من عرفة قبل مغيب الشمس فلا حج له. قال ابن عبد البر : ولا أعلم أحداً وافق مالكاً في هذا. القول الثاني: وهو قول الجمهور: إنه يجب الوقوف بعرفة إلى مغيب الشمس، وحجتهم فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فيجمع بين النهار والليل؛ لأنه لو جلس لحظة بعد الغروب فقد جمع بين النهار والليل، فينفر بعد مغيب الشمس تماماً، فإن نفر قبل الغروب -عند الجمهور- فحجه صحيح وعليه دم؛ لأنهم يرون أنه ترك واجباً، وأما لو ترك ركناً بطل الحج، لكنهم يرون أنه ترك واجباً، والواجب عندهم ليس هو الوقوف بعرفة، فالوقوف بعرفة ركن باتفاق، لكن الجمع بين النهار والليل هو الركن عندهم، أو أن لا بد أن يقف فيها ليلاً؛ لأنهم يقولون: لا يحتاج إلى دم لو مكث في الليل فقط. ثالث الأقوال: أن من نفر قبل الغروب فحجه صحيح ولا شيء عليه، وإنما خالف الأولى، وهذا القول مال إليه الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه في (أضواء البيان)؛ لحديث عروة بن مضرس الطائي الذي رواه أبو داود بسند صحيح. فـعروة بن مضرس صحابي جاء من جبلي طي -في حايل- فقابله النبي صلى الله عليه وسلم في مزدلفة، فقال: يا رسول الله! إني أكللت راحلتي وأتعبت نفسي فما تركت جبلاً إلا ارتقيت عليه، فهل لي من حج؟ وأنت عندما يأتيك إنسان أوراقه مبعثرة لمها وأعطه المفيد، ولا تخاطبه في كل صفحة، فقال له صلى الله عليه وسلم: (من شهد معنا صلاتنا هذه -أي: الفجر في مزدلفة- وكان قد وقف في عرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه)، فقالوا: قوله عليه الصلاة والسلام: (ساعة من ليل أو من نهار) فيه دلالة على أنه لا يلزم الجمع بين الليل والنهار. وأجاب الجمهور عن هذا: أن هذا مبين للإجزاء، لكن لا يلزم منه أنه يجب عليه أن يقف، وقالوا: لا نقول إن حجه باطل لحديث عروة ، لكن نلزمه بالدم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف إلى أن غابت الشمس، ثم قال في جملة أحاديث: (خذوا عني مناسككم). قال الله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198] فالنبي عليه الصلاة والسلام أتى مزدلفة ولم يأت المشعر، وقال: (وقفت هاهنا وجمع كلها موقف)، ثم صلى المغرب والعشاء جمع تأخير، ثم اضطجع، ثم صلى الفجر في أول وقته، أي: بعد دخول الوقت لكن في الأول، ثم أتى المشعر الحرام، وهو الجبل الذي عنده الآن مسجد، وأظنه الآن في طريق ستة وأنت داخل إن كنت لم أنسَ، وفي المشعر الحرام مسجد لا يوجد مسجد وعلم غيره، وهذا المسجد هو المشعر الحرام الذي وقف عنده النبي صلى الله عليه وسلم. وقد كان وقوفه بعد صلاة الفجر، ووقف يدعو كثيراً ويذكر الله مستقبلاً القبلة؛ عملاً بالآية، فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ، ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن ذكر الله عند المشعر الحرام ركن من أركان الحج، وبعضهم يقول: لا أقول بالركنية وإنما أقول بالوجوب، وهذه خلافات فقهية ليس لها علاقة بالآية، لكن هذا معنى قول الله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ . ثم قال ربنا: كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [البقرة:198] (كما هداكم)، أي: لهدايته لكم. |
تفسير قوله تعالى: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس...)
قال تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199]، وهذه فيها إشكالات كبرى، لكن جملة ما يقال: ما المقصود بالناس هنا؟ بعض أهل العلم يرى: أن الناس معهود ذهني والمقصود خليل الله إبراهيم وابنه إسماعيل، أي: اصنعوا صنيعهما، قالوا: ويبعد أن يأمر الله المؤمنين بتتبع أحوال قريش في جاهليتها، يعني: لو قلنا: إن الناس المقصود بها العرب غير قريش؛ لأن الناس أصلاً لا يذهبون إلى عرفة، فهذا بعيد، فيحمل الناس على إبراهيم وابنه. ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199] وفي قوله جل وعلا (واستغفروا الله) دلالة إيمانية على أن الإنسان لا يركن إلى عمله، وأنه يبقى مقصراً على كل حال، قال الله عن قوم سبأ: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ:15]، لكن ليس معنى ذلك أنهم خالين من القصور؛ لذلك قال بعدها: (ورب غفور)؛ ليشعر أن هؤلاء وإن مدحوا بأنهم بلدة طيبة إلا أنه يقع منهم الذنوب والخطايا. وهنا قال الله: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199]، وقد جرت سنة الله في شرعه أن كثيراً من عظائم العبادات تتبع بالاستغفار، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته قال: (أستغفر الله ثلاثاً). |
تفسير قوله تعالى: (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله...)
ثم قال ربنا: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200] وهذا سيأتي تكراره في منى، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200] وفيها إشعار إلى أن الأصل أن الإنسان يكثر من ذكر آبائه، والمخاطب الأول بهذه الآيات كفار قريش، أو المخاطب بها المؤمنون الذي كانوا إلى عهد قريب كفاراً من قريش، والمجتمع الجاهلي قديماً كانت فيه هذه المفاخر، فكانت لا تقوم الأسواق ويقول الشعراء أشعارهم إلا ليذكرون مفاخرهم ومفاخر آبائهم. لنا حاضر بادٍ وماض كأنه شماريخ رضوى عزة وتكرما ولدنا بني العنقاء وابني محرق فأكرم بنا خالاً وأكرم بذا ابنما و عنترة يقول: ألفيت خيراً من معم مخول. فهذه القضايا كانت مما تتعلق بحياتهم، فقال الله جل وعلا: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200]. |
أحوال الناس في الدنيا
ثم بين الله جل وعلا أحوال العباد في الدنيا فقال: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا [البقرة:200] فلا همّ له عياذاً بالله إلا البغية الدنيوية المحضة؛ ولهذا رتب الله على ذلك جزاءً عظيماً فقال: وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:200] أي: لا حظ له ولا نصيب ولا مقامة ولا مكانة، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ [هود:16]، جعلنا الله وإياكم من أهل الفريق الآخر. ثم قال: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]، وهذا من أعظم جوامع الدعاء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من أن يقوله ويختم به دعاءه. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]. قال الله: أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة:202] (أولئك) عائدة على الآخرين. |
تفسير قوله تعالى: (واذكروا الله في أيام معدودات...)
ثم قال الله جل وعلا: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203] والذي مضى هي الأشهر المعلومات، وأما الأيام المعدودات فالراجح أنها أيام التشريق، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيام منى أيام أكل وشرب وذكر لله)، وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203] ومن القرائن كذلك ما بعدها، وأيام التشريق تكون في منى بالاتفاق، والمبيت في منى واجب ليومين لمن تعجل، وثلاثة أيام لمن لم يتعجل، ومنى مشعر عظيم من أعظم المشاعر، ولا يمكث الحجاج في مشعر أكثر من مكوثهم في منى. وقد مر معكم في دروس سبقت أن في منى مسجد الخيف، والخيف في اللغة: ما انحدر من الجبل ولم يلامس الوادي، فإذا جعلت جمرة العقبة خلفك ستصبح مكة خلفك، وسيكون عن يمينك جبل وعن شمالك جبل، فالجبل الذي على يمينك الذي في سفحه مسجد الخيف هو جبل ثبير الأثبرة، وهناك خمسة جبال في مكة اسمها ثبير، فمن أجل هذا قلنا ثبير الأثبرة، فالجبل المقابل لثبير يسمى الصابح، وهو مواجه له، وفي سفح جبل ثبير الأثبرة هذا قبل أن ينحدر إلى الوادي يوجد مسجد الخيف، قال صلى الله عليه وسلم: (صلى في مسجد الخيف سبعون نبياً)، وكفى بك شرفاً ومن الله فضلاً ونعمة عليك أن تصلي في مسجد صلى فيه قبلك سبعون نبياً آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى جميع صلواته في منى في مسجد الخيف في أيام التشريق، وأيام التشريق التي قال الله فيها: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203] ومع الذكر يكون رمي الجمار، وما وجد رمي الجمار إلا ليذكر الله. ثم قال ربنا: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203] إذاً: أين المناط يا ربنا؟ قال الله: لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203] فالعبرة بتقوى القلب، فمن كان تقياً وتعجل خير ممن لم يتعجل ولم يرزق تقوىً؛ ولهذا قال الله: (لمن اتقى)، ومن جمع التقوى مع عدم التعجل فهو أفضل لسببين: السبب الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعجل. والسبب الثاني قطعاً: أن زيادة يوم تعني زيادة عمل، وزيادة العمل تعني زيادة الأجر إذا قُرن العمل بالإخلاص، فمن تعجل فلا إثم عليه بنص كلام الله، ونحن لا نتكلم في أن عليه إثم لكن نتكلم في أيهما أرفع درجة، وقطعاً من لم يتعجل أعلى أجراً. قال ربنا: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203] فالعبرة بتقوى القلوب، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إلا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)، وقال في حديث آخر: (التقوى ههنا ويشير إلى صدره)، صلوات الله وسلامه عليه. وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203]؛ لأن ضمة الجمع في أيام الحج تذكر بالحشر الأكبر، فالإنسان إذا لم يلن قلبه في تلك المواطن فربما يلين في غيرها، فلا نحجب التوبة عن أحد، لكن يكون أبعد في أن يلين في موطن آخر؛ لأن هذه المواطن تذكر بجمع الناس؛ ولهذا قرنها الله جل وعلا بقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203]، ومن علم أن إلى الله جل وعلا المحشر، وإلى الله جل وعلا المآب، وإلى الله المرجع خف تعلقه بالدنيا وزهد فيها، اللهم إلا أعمالاً يغلب على ظنه أنها ينفع الله بها البلاد والعباد، فهذه لا حرج أن يسابق فيها؛ لأن إيصال الخير للمسلمين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونفع الناس مادياً ومعنوياً إذا قرن بالإخلاص فهو مما ترفع به الدرجات، ولئن يتمكن أهل الفضل والصلاح خير من أن يتمكن أهل الفساد والشر. قال الله: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203] قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعجل، فرمى الجمار فبدأ بالصغرى، ثم بالوسطى، ثم بالكبرى. |
هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يرمي ثم يصلي الظهر أو العكس؟
والسؤال: قلنا: إن النبي عليه الصلاة والسلام صلى في مسجد الخيف، فهل كان يرمي ثم يصلي، أو يصلي الظهر ثم يرمي؟ والجواب: أنه كان ينتظر حتى تزول الشمس فيرمي ثم يعود إلى المسجد فيصلي بالناس، وخيمته بجوار مسجد الخيف، فيخرج ثم يرمى الجمرة الأولى الصغرى التي تلي مسجد الخيف، ثم يأخذ ذات اليمين فيقف يدعو بعد أن يتقدم قليلاً، ثم يأتي الجمرة الوسطى فيرميها، فيأخذ ذات الشمال ويتقدم ويدعو طويلاً، ثم يأتي جمرة العقبة التي هي حد منى من تلك الجهة، ثم لا يدعو ولا يقف صلوات الله وسلامه عليه، ويعود إلى المسجد ليصلي بالناس، فالرمي يقع وقتاً بعد الزوال وقبل صلاة الظهر، هذا إذا أردت أن توافق السنة، لكن لا يعني أنه لا يقبل إلا في هذا الوقت، فمن كان لوحده ليس كمن معه رفقة، ومن كانت رفقته رجالاً ليس كمن رفقته نساء، ومن رفقته نساء ضعيفات ليس كمن رفقته نساء نشيطات، فيختلف الوضع، والإنسان على نفسه بصيرة. وفي ثالث الأيام انتهى صلى الله عليه وسلم من الرمي وذلك يوافق الثالث عشر، فرمى الجمرة الصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى كما بينا، ثم لم يعد إلى مسجد الخيف وإنما مضى لسبيله، وأتى خيف بني كنانة، وخيف بني كنانة مكان اجتمعت فيه قريش لما تآمرت على النبي صلى الله عليه وسلم على أن يحبسوه في شعب أبي طالب ؛ في الشعب الذي جمع فيه بنو هاشم ، وقد قال قبلها: (إنا نازلون غداً في خيف بني كنانة)، واختلف العلماء في نزوله صلى الله عليه وسلم هذا، فذهبت عائشة وأظنه قول ابن عباس أنه شيء في طريقه صلى الله عليه وسلم، وذهب بعض العلماء إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم تعمد هذا، والذي يعنينا أنه لم يقل أحد بوجوبه، لكن قيل بسنيته، وهو الذي يظهر لي، فيأتي الإنسان هناك فيصلي الظهر في وقته ركعتين، والعصر في وقته ركعتين، والمغرب في وقته ثلاثاً، والعشاء في وقته ركعتين، هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رقد رقدة خفيفة واستيقظ قبل طلوع الفجر، وذهب إلى المسجد الحرام، وطاف بالبيت صلوات الله وسلامه عليه طواف الوداع قبل أن يصلي الفجر، ثم صلى بالناس الفجر إماماً، ثم رجع إلى المدينة صلوات الله وسلامه عليه، ونحن هنا بما أننا نفسر القرآن ولا يفسر القرآن بأعظم من السنة ذكرنا شيئاً من حجته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يتناسب في مقامنا هذا قبل دخول الناس في مناسك الحج، وهذا أفقه للناس وأنصح لهم؛ وحتى يعان المرء علمياً على كيفية الحج إلى بيت الله. أظن خيف بني كنانة الآن منطقة المعابدة في مكة، وهي أقرب المناطق التي تحويها ما يسمى قديماً بخيف بني كنانة، وكان يسمى بالمحصب، وفي الحديث: (أن النبي عليه الصلاة والسلام رقد رقدة بالمحصب)، وبينا خلاف العلماء في هذه الرقدة هل كان طريقاً مر به صلى الله عليه وسلم لا أكثر من ذلك ولا أقل، أو أنه تعمد صلى الله على وسلم فيه، ورجحنا أن النبي عليه الصلاة والسلام تعمد فيه. قال ربنا: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203]، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أيام منى أيام أكل وشرب وذكر لله جل وعلا). فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203]. |
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() الساعة الآن 07:00 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. Designed & TranZ By Almuhajir