ملتقى قبيلة حرب الرسمي

ملتقى قبيلة حرب الرسمي (http://www.m-harb.net/vb/index.php)
-   الـــمـــلـــتـــقـــى الــــــــــعــــــــام (http://www.m-harb.net/vb/forumdisplay.php?f=47)
-   -   إهداء لأعضاء وزوار الملتقى الإسلامي بملتقى حرب (http://www.m-harb.net/vb/showthread.php?t=154149)

طلق المحيا 29-12-16 02:43 AM

تفسير قوله تعالى: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم..)
قال الله تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134] الخطاب هنا لأهل الكتاب عامة وللمسلمين.

أما توجيه الخطاب لليهود فيكون: لأحفادهم وأسباطهم من بني إسرائيل أي: أن قرابتكم بأولئك الأخيار لا تنفعكم إن لم يصحبها عمل، وتوجيه الخطاب إليهم وإلى غيرهم يكون المعنى: إذا كان الله جل وعلا في حق أولئك الأخيار العظيمي الشأن أجرى عليهم ما كسبوا وأجرى عليهم ما اكتسبوا فمن باب أولى من كان غيرهم يكتب له ما كسب ويكتب عليه ما اكتسب، قال الله: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134] .

وإن من آفة العلم أن ينشغل الإنسان في أول أمره بالنقد، والانشغال بالنقد في أول طلب العلم أعظم آفاته.

في زمن العلامة الألباني رحمة الله تعالى عليه ظهر بعض علماء الحديث وهم فتية تتلمذوا على يد شيخ وكلهم أخيار، لكن أولئك الفتية أول ما بدءوا يطلبون علم الحديث لجئوا إلى ما صنفه الألباني وحكم عليه بالصحة فأخذوا يجربون قضية نقده، فكشفوا عن عوار شديد فيهم؛ لأنهم لم يصلوا إلى مرحلة الشيخ، واختطوا طريقاً، واعتلوا هرماً لم يرتقوا درجاته.

فمن جملة ما كتبه الشيخ رحمه الله تعالى آنذاك أنه عاتبهم على هذا الصنيع وعاتب شيخهم وقال: لو أشغلوا أنفسهم في تحرير مسائل علمية تنفع الناس خير لهم من أن يبدءوا الطريق بالنقد.

وتفصيل المسألة حتى ينتفع من يسمع: قد تكون أنت في أول الطلب، فتسمع من شيخ رأياً أنت قد سمعت من شيخ لك آخر رأياً مخالفاً، فلا يلبث أحدنا أن يصنع إذا غلب عليه حماسه دون عقله وعلمه أن يذهب ويحرر في الرد عليه، ولا يمكن أن يرد الإنسان وينتقد إلا إذا بلغ مرحلتين:

أن يعرف أدلة الفريقين تماماً، ثم يملك آلة علمية في الترجيح بينهما، فإذا عرف أدلة الفريقين ثم ملك آلة الترجيح حق له بعد ذلك أن يخاطب ويراسل ويكتب.

وغالب من يكون في أول الطريق يجهل ذلك كله، وقد مر معنا كثيراً أن الإنسان إذا تصدر في شيء لا يحسنه إنما يكشف عن عورته.

قول الله جل وعلا: وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134] فيها تربية ربانية؛ لأن الإنسان إذا انشغل بما لا يسأل عنه معنى ذلك التفريط فيما يسأل عنه، وقد كان سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله تعالى عليه عندنا في المدينة، وكان في الحرم يدرس، ووافقت تلك الأيام موت زعيم عربي مشهور لكنه غير محمود السيرة، وهو شخصية جدلية الناس فيها بين مادح وناقد.

فعندما كان الشيخ في طيات الحديث يقول ما ينفع الناس قام أحد الحاضرين في الحلقة وقال: يا شيخ! مات فلان، ما تعليقكم؟ فسكت الشيخ عله أن يكون في ذلك تأديباً للسائل واستمر في حديثه، فأعاد الطالب أو الحاضر السؤال فسكت الشيخ، فرددها ظناً منه أن الشيخ لم يسمع، فأشار الشيخ بيده هكذا أن اسكت لأن الشيخ لا يبصر في الجهة التي حصل منها الصوت ثم قال: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134] ثم أكمل حديثه.

وهذه منزلة في التربية والعلم؛ لأن الإنسان إذا بلغ مرحلة متقدمة في العلم فتصبح رقاب الناس في ذمته، لا رقبته في ذمة الناس، فهو الموكل بأن يقودهم إلى الخير لا أن يقوده من حوله ممن حضروا أصلاً لينتفعوا منه، فلا يقودوه هم إلى حيث شاءوا، فإذا قادك من هو أدنى منك فلن يقودك إلا إلى السوء، وعلى أهل العلم أن يتصدروا لينفعوا الناس، لأنه إن لم يتصدر أهل العلم ويقودوا الناس بطريقة ربانية وصبغة إلهية إلى ما ينفعهم تصدر من لا يحسن شيئاً فهلك الناس، وقد قيل:

إذا كان الغراب دليل قوم دلهم على جيف الكلاب

طلق المحيا 29-12-16 02:45 AM

تفسير قوله تعالى: (وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا..)
قال الله جل وعلا: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [البقرة:135] يقول اليهود: كونوا هوداً، ويقول النصارى: كونوا نصارى، ولا تقول النصارى: كونوا هوداً، ولا تقول اليهود: كونوا نصارى.

وأحرر كلمة (هوداً) قبل الشروع في القضية.

ذكر اليهود بثلاثة ألفاظ في الكتاب أو في السنة: يهود، اليهود، وهود، يهود، واليهود بالتعريف، وهوداً كالتي بين أيدينا. فما معنى كل واحدة منها؟

إذا فقهت الأصل يسهل عليك فهم القرآن بعد ذلك.

الله هنا يقول: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا [البقرة:135] الأصل في المسألة: أن هؤلاء من ذرية يهوذا بن يعقوب ، فعربت الذال فأصبحت دالاً.

فيهود تطلق على معنيين: تطلق على النسب وعلى الصفة، فإذا قلنا: يهود أو اليهود فتحتمل الأمرين: تحتمل أن تكون مطلقة على الصفة التي هي الدين والملة، أو على النسب أي: إلى الجد الذي ينسبون إليه.

وإذا قلنا: هوداً كما في هذه الآية - وهو التفريع الثالث - فلا تطلق إلا على الملة والصفة ولا يراد بها النسب.

وفقهك لهذا الأمر يعينك بعد توفيق الله على فهم الكثير من الأمور التي جاء فيها ذكر اليهود، وسنبسط القول الآن حتى تتضح المسألة، فالإنسان لا يمكن أن يطالب بتغيير نسبه، لا سبيل له إلى ذلك، النسب لا يغير، فالنبي عليه الصلاة والسلام مثلاً هاشمي ولا يمكن أن نطلب منه أن يكون خزرجياً، وحسان بن ثابت خزرجي ولا يمكن أن يطلب الله أو رسوله من حسان أن يكون هاشمياً أو أن يكون قرشياً أو أن يكون خزاعياً، أو غير ذلك.

فالأنساب لا سبيل إلى تكليف الناس بها؛ لأن النسب لا يختاره الإنسان، هو يولد على نسب معين، يقول حسان :

ولدنا بني العنقاء وابني محرق فأكرم بنا خالاً وأكرم بذا ابنما

إذاً قول الله جل وعلا: وَقَالُوا [البقرة:135] أي: اليهود.

كُونُوا هُودًا [البقرة:135] لا يقصدون: كونوا يهوداً نسباً، وإنما كونوا هوداً أي: ملة، على الصفة التي أرادها اليهود.

فاليهود كانوا يجاورون النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وأول خطواته معهم تاريخياً الموادعة، حيث كتبت الصحيفة التي كانت وبينهم وبين المسلمين كما ذكرها أهل السير، وانتهى المطاف بهم بغزوة خيبر في المحرم من سنة سبع، وغزوة خيبر مرت بأحداث شهيرة عظيمة من أشهرها: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج بعدها من صفية بنت حيي بن أخطب .

الآن نطبق القاعدة، صفية حصل بينها وبين إحدى أمهات المؤمنين ما يحصل بين الضرائر؛ لأنهن يتنافسن على شرف عظيم هو النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت لها إحدى أمهات المؤمنين تعيرها: يا يهودية! وأم المؤمنين قطعاً لا تقصد أنها كافرة يهودية ملة أو دين، فهذا محال؛ لأن هذه مسلمة، لكن قصدت النسب.

مثال آخر: قال عليه الصلاة والسلام كما هو مروي عند أهل السير وذكره البيهقي في الدلائل وابن عساكر في تاريخ دمشق وابن سعد في الطبقات: (المخيريق خير يهود)، ولا يقصد أنه خير يهود نسبة إلى الدين والملة؛ لأنه أسلم، لكنه خير يهود يعني: خير القوم الذين ينتسبون إلى يهود، فهذا خرج في يوم سبت واليهود تعظم يوم السبت وقال: معشر يهود! تعلمون أن نصرتكم للنبي حق، فأبوا واحتجوا بأنه يوم سبت، وهم حتى لو لم يكن يوم سبت لم يخرجوا، لكن يريدون أن يكفوا عن أنفسهم جداله، فخرج في يوم أحد وكان يوم سبت وقتل، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قتله قال: (مخيريق خير يهود) يهود هنا إضافة نسب، لكن الآية هنا لا تحتمل النسب: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:135].

إذا عدنا إلى خيبر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله) فأعطاها علي وهو القائل يومئذ:

أنا الذي سمتني أمي حيدرة أضرب بالسيف رءوس الكفرة

أكيلهم بالصاع كيل السندرة

السندرة شجر عظيم يقطع منه مكاييل كبار عظام، وحيدرة اسم من أسماء علي ، واختلف من أين جيء له بهذا الاسم، وقيل: إنه اسم من أسماء .....، ترون الشيعة في يوم عاشوراء يضربون صدورهم ويحرقون أيديهم ويقولون: حيدر حيدر، يفرون من التأنيث مع أن علياً ارتضاه لنفسه؛ لأن التاء في التأنيث ليست عيباً إذا أطلقت على مذكر، مثل: حمزة، طلحة، معاوية، فيقولون: حيدر حيدر، ويضربون أيديهم وأرجلهم، فينطبق عليهم مثل عند العامة شهير، تقول العامة: من خف عقله تعبت قدماه!

الذي يعنينا أنك ترى أحياناً أشياء أمام عينيك في تاريخك المعاصر حسن ربطها بالقرآن، حسن تنميتك لثقافتك، حسن اطلاعك اطلاع شامل، وهذا يجعلك أهدأ بالاً، وأمكن في العلم، وأكثر ثقة في قيادة الناس.

قال الله: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا [البقرة:135]، النصارى لم يكونوا محيطين بالنبي صلى الله عليه وسلم كإحاطة اليهود به، فالمدينة لم يكن يسكنها أحد من قبائل النصارى، قد يكون فيها أفراد لا يمكن أن نعرج إلى أحداث مرت بهم.

أما اليهود فكانوا قبائل: قينقاع، قريظة، النضير، بني زريق، وغيرهم ممن كانوا مستوطنين المدينة، فتجري أحداث كثيرة، وعندما تكلمنا عند اليهود ليس ذلك لزيادة علم فيهم ونقص علم في النصارى أو لبغض فيهم أقل من بغضنا للنصارى، لكن المسألة مسألة أحداث تاريخية كانت موجودة آنذاك.

وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا [البقرة:135] واقعة في جواب الأمر.

كُونُوا [البقرة:135] هذا أمر.

تَهْتَدُوا [البقرة:135] هذا رأيهم. فرد الله عليهم: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [البقرة:135] .

ومر معنا أن الحنف في اللغة: الميل، والمقصود به: أن الميل عن المعوج اعتدال.

طلق المحيا 29-12-16 02:47 AM

تفسير قوله تعالى: ( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا)
وكلمة (ملة إبراهيم) كلمة عامة، جاء تفصيلها في قوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136] .

من حيث الحياة العملية كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر بهذه الآية وآية آل عمران: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:84] .

في آية البقرة ذكر الله إلى وهي لابتداء الغاية، وفي آية آل عمران ذكر على وهي لانتهاء الغاية، في آية البقرة قال: إِلَى إِبْرَاهِيمَ [البقرة:136] فذكر ابتداء الغاية، وفي آل عمران قال: (على إبراهيم) فذكر انتهاء الغاية.

قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة:136] هذا رأس الدين، ولذلك أفرد وجمع ما بعده.

وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ [البقرة:136] لا تقف على قول الله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا [البقرة:136] ثم تقول: وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ [البقرة:136] فتصبح ما نافية وهي هنا موصولة، والاسم الموصول بما إذا كانت موصولة لا يبدأ بها؛ لأنها تنتقل في المعنى إلى كونها نافية.

وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ [البقرة:136] اختلف من هم الأسباط، والمشهور أنهم أبناء يعقوب، لكن إذا قصد أنهم أبناء يعقوب لصلبه أي: إخوة يوسف فهذه في النفس منها شيء، فكيف يكونون أنبياء وأنزل عليهم بعد الذي وقع منهم، لكن هذا الذي عليه أكثر العلماء.

قال الله: وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:136] خص موسى وعيسى بالذكر لارتباطهما الوثيق بحياة بني إسرائيل.

لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136] أي: فالمنهج الذي تسيرون عليه في التفريق بين أنبياء الله ورسله ليس هو المنهج الرباني، ولهذا قال: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136].

طلق المحيا 29-12-16 02:50 AM

فسير قوله تعالى: (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا..)
قال الله تعالى: فَإِنْ آمَنُوا [البقرة:137] أي: المخاطبون بهذه الآيات من اليهود والنصارى.

بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ [البقرة:137] ليس المقصود حرفية الإيمان بالله؛ لأن الله ليس كمثله شيء، أي: فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به أي: بمثل الطريقة التي تؤمنون بها، بمثل المنهج والهدي والملة والطريقة التي تؤمنون بها.

فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا [البقرة:137] أعرضوا.

فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ [البقرة:137] والشق من الشيء الجانب، والمقصود هنا: أنهم مجادلون مخالفون لا يريدون لأنفسهم ولا لغيرهم خيراً.

فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ [البقرة:137] والمشاق لك مؤذ.

قال الله: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:137] وقد قيل: إن هذه الآية كان يقرؤها عثمان رضي الله عنه وأرضاه حال قتله فسقطت قطرة من دمه على هذه الآية، وذكر بعض المتأخرين ممن دون التاريخ أنهم وجدوا هذا المصحف الذي كان بين يدي عثمان وقد تجمد دم عثمان على هذه الآية، ذكره القرطبي وغيره عن بعض من أدرك هذا المصحف العثماني.

أياً كان الأمر فهذا من حيث العقل قد يكون مقبولاً، ومن حيث النقل لا أظن هناك سنداً صحيحاً نلزم به.

فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:137] وهذا تطمين من الله لنبيه، وهذا أمر متكرر في القرآن: وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا [الفرقان:31] .

طلق المحيا 29-12-16 02:51 AM

تفسير قوله تعالى: (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة..)
قال الله تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [البقرة:138] اليهود جاء في شرعهم المحرف: أن الكاهن إذا أراد أن يتوب يغتسل قبل أن يقدم القربان عن خطاياه وعن خطايا عائلته.

وعند النصارى شيء يسمى التعميد، وأصله أنهم كانوا يقولون: إن يحيى بن زكريا أمرهم أن يغتسلوا من نهر الأردن، وإلى اليوم التعميد موجود عندهم، يضعون الطفل في ماء يظنونه ماءً مقدساً فيغسلونه ويعمدون الصبي فيه حتى ينتفع بدعوة عيسى له فلا يخلد في النار.

فخاطب الله جل وعلا هؤلاء القوم بالمشتهر بينهم، فاختار الله جل وعلا هذا اللفظ ليكون مناسباً للحال التي يصنعها اليهود ويصنعها النصارى، فأنتم تعمدون إلى الاغتسال وهؤلاء يعمدون إلى التعميد وكلاكما على باطل، أين الصواب؟ صِبْغَةَ اللَّهِ [البقرة:138]، صبغة الله أي: فطرته، وملته، وما ارتضاه جل وعلا لعباده، فالمؤمنون من هذه الأمة على فطرة الله، وليست فطرة متكلفة كالتي صنعها اليهود أو النصارى، وكلمة صبغة بتاء التأنيث، وأصلها: صِبْغ على وزن فِعْل، مثل: قِشْر، ذِبْح، فذبح بمعنى مذبوح، وقشر بمعنى: مقشور، لماذا زيد في التاء؟ زيد في التاء لبيان الوحدة، وصبغة الله صبغة واحدة تدل على دين واحد.

صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [البقرة:138] أي: لا أحد أحسن من الله صبغة وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [البقرة:138].

طلق المحيا 29-12-16 02:52 AM

تفسير قوله تعالى: (قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم..)
قال الله تعالى: قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة:139].

المحاجة تكون في الشيء المختلف فيه شيء غير واضح لي ولك، كل منا يدلي بحجته؛ لأن الأمر غير بين.

وهؤلاء اليهود والنصارى تزعم كل طائفة منهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن الله جل وعلا اجتباهم واصطفاهم دون غيرهم، وأنكم -أيها الأميون- لا مقام لكم، فيقول الله جل وعلا لأتباع نبيه: قولوا لهؤلاء: أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم، أي: كيف يمكن عقلاً ونقلاً أن تحاجوننا في شيء واضح جلي بين، وهو أننا نعلم أن الله ربنا كما هو ربكم؟! فليست مسألة أن الله ربنا وأن الله ربكم مسألة خلافية تحتاج إلى محاجة، فالله رب كل شيء، فما دام الله رب لنا وهو رب لكم فلا يوجد سبب يجعله يفضلكم علينا وهو ربنا جميعاً، إلا بما شرع ولهذا قال: وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ [البقرة:139] .

ثم إننا نزيد رتبة عنكم بإخلاصنا لله، وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة:139] أي: لا نشرك به كما أشركتم أنتم، فأينا أحق بالنعيم؟ هو رب للجميع، ولنا أعمال ولكم أعمال، لكن أعمالنا تختلف عن أعمالكم، فنحن لم نشرك بربنا أحداً، ورزقنا الإخلاص، وأنتم -أيها اليهود- قلتم: عزير ابن الله، وأنتم -أيها النصارى- قلتم: المسيح ابن الله، فأينا أحق بالفضل والعطاء من رب العالمين؟! لا ريب نحن أنه نحن أهل الإسلام.

طلق المحيا 29-12-16 02:54 AM

تفسير قوله تعالى: (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل..)
قال الله تعالى: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ [البقرة:140] (أم تقولون إن): كسرت همزة إن؛ لأنها جاءت بعد قول.

أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:140] .

يوجد إشكال عظيم في الآية، والناس يقرءونها دون أن يلحظوا الإشكال، وعدم ملاحظة الإشكال تدل يقيناً على عدم معرفة حله، أين الإشكال؟

الله يقول: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [البقرة:140] والمعنى: أن هؤلاء عندهم علم وحق من الله لكنهم كتموه، لكن يوجد علم واضح بين كتموه، قال الله جل شأنه. قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140] أي: أنكم كاذبون فيما تقولون، وهذا لا يستقيم مع قوله: عنده علم من الله.

الله جل وعلا عاتبهم وقال: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ [البقرة:133] أي: لم تكونوا شهداء عندما حضر يعقوب الموت حتى تزعمون أن يعقوب وأبناءه كانوا يهوداً أو كانوا نصارى، فنفى الله جل وعلا علمهم، ثم قال جل وعلا: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [البقرة:140] فأثبت الله لهم العلم، وقال قبلها: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140] وهذا لا يستقيم بادي الرأي، والجواب عن هذا:

أن قوله جل شأنه: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140] خطاب لعامتهم وهم الجهلة، وقوله جل وعلا: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [البقرة:140] خطاب لخاصتهم وهم العلماء.

أعيد تحرير المسألة. اليهود والنصارى فريقان: علماء وعامة، العلماء الخاصة هؤلاء عندهم علم من الله أن يعقوب والأسباط لم يكونوا يهوداً ولا نصارى، وأن هذه ملل محرفة لكنهم كتموها، وأما الدهماء العامة فهم لا يعلمون عن هذا شيئاً، وفي ظنهم أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى، فرد الله جل وعلا على الجهلة والدهماء والعامة بقوله: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140]، ورد الله على علمائهم بقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:140]، ومن هنا يتحرر لك أن العامة وإن كان يجمعهم الجهل إلا أنهم يختلفون فيما بينهم اختلافاً كبيراً، وبعض الناس يتبنى شيئاً بمجرد انسجامه مع شخصيته بما هو مركب عليه، فيميل إلى هذا الشيء فيصنعه لأنه يجد فيه لذة ويجد فيه شيئاً موافقاً لطبعه، ولا يصنعه ليرجو جنة أو يخاف ناراً، بل ولا يصنعه لأنه شيء يعتقده.

مثال ذلك: أيام الخلاف بين مصعب بن الزبير وعبد الله بن الزبير وعبد الملك بن مروان ، وهو الصراع السياسي المشهور في ذلك العهد ورحمة الله على الجميع.

ففي العراق كان الناس يدينون لـمصعب ، وفي الحجاز يدينون لـعبد الله بن الزبير ، وفي الشام يدينون لـعبد الملك بن مروان ، وكان عبد الملك ينفق الأموال، والعرب تقول:

بالعلم والمال يبني الناس ملكهم لم يبن ملك على جهل وإقلال

فكان يتخذ ما يسمون في زماننا المرتزقة، وفي ذلك الزمان يدعونهم: فتاك، فاتخذ أحد فتاكي العرب وبعث به لقتال مصعب بن الزبير ، وهذا الرجل كان فاسقاً جباراً، فقتل مصعب بن الزبير ثم أخذ رأسه إلى عبد الملك بن مروان .

والشاهد أن ثمة أناس يصنعون شيئاً وهم لا يحملون همه، لكنه يوافق طبعهم، فهذا طبعه الفتك فيحب أن يفتك، فلما قدم رأس مصعب إلى عبد الملك ، خر عبد الملك ساجداً، فلما خر ساجداً أراد هذا الفاتك أن يضربه بالسيف، لكنه تردد قليلاً، فذكر أنه هم أ، يضربه فقال:

فألقيتها في النار بكر بن وائل وألحقت من قد خر شكراً بصاحبه

يعني بصاحبه غريمه، يقول: كنت أردت أن أقتل هذا الذي خر شكراً فألحقه بصاحبي، ثم قال في مجلس له بعد الحادثة: والله وددت لو أني فعلتها فأكون قد قتلت ملكي العرب في يوم واحد! فهو يبحث عن صيت، يريد مدحاً يوافق طبعه.

الشاهد من هذا كله: أن الإنسان حتى في أصفيائه، حتى في جلسائه، حتى في خلطائه، حتى في طلبة العلم الذين يصطفيهم لا بد أن يكون هناك أسس في اصطفاء الناس والتعامل معهم، ولا تقبل بأي أحد يكون همه هوى ومجرد تكثير سواد، ويريد يوماً لك ويوماً ويوم عليك، هذا لا يصلح أن تسأمنه على سر أو تفيء إليه بأحدوثة أو تعتمد عليه بعد الله في شيء.

والمقصود من هذا: أن العامة هم الذين خاطبهم الله جل وعلا بقوله: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140]،

وخاصتهم خاطبهم الله جل وعلا بقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [البقرة:140] .

وقول الله: وَمَنْ أَظْلَمُ [البقرة:140] أي: لا أحد أظلم.

وكتمان الشهادة سيأتي تفصيله في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ [البقرة:159]. ثم قال الله: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:140] ثم كرر الله ما ختم به الموضع الأول من السورة بقوله: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:141] قال القرطبي وغيره من علماء الأمة: إن الله كررها لتكون أبلغ في الردع والزجر حتى يعلم كل أحد أنه إذا كان أنبياء الله جل وعلا يحاسبون فما بالك بمن دونهم، وأن الإنسان إذا أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه كما جاء في الأثر، وأن الإنسان أياً كانت قرابته من أحد ذوي الصلاح فليست القرابة بنافعة له إلا أن يشاء الله إذا قصر في عمل، لكن هذا لا يعني انقطاع الشفاعات يوم القيامة، هذا له مكانه وله موضعه وله مقامه المعروف، قال الله: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:141] ننتهي بهذا من الجزء الأول من سورة البقرة، وسنشرع إن شاء الله تعالى في اللقاء القادم من قول الله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ [البقرة:142]، وهي أول آية في الجزء الثاني من القرآن، ومعلوم لديكم أن القرآن ثلاثون جزءاً، وهذا من توفيق الله جل وعلا أن من علينا بتفسير الجزء الأول من هذه السورة المباركة المسماة بمصداق القرآن لعظيم لما فيها من آيات ودلائل وعظات.

جملة ما مر معنا: أن الله جل وعلا عظم بيته في هذا الربع، وعظم بانيه وهو إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ثم بين ضلال اليهود والنصارى، وهذا مهم لأنه تأسيس سأبدأ به في اللقاء القادم، لماذا عظم الله بيته؟ لماذا عظم الله بانيه؟ لماذا سفه الله آراء المشركين؟ لماذا بين الله ضلال اليهود والنصارى؟ كل ذلك تمهيد وتوطئة لأمر عظيم سيكون بعد ذلك وهو قول الله جل وعلا: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142] .

هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، وأعان العلي الكبير على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

طلق المحيا 30-12-16 03:04 AM

نسخ القِبلة من جهة بيت المقدس إلى الكعبة كان حدثاً عظيماً، وأمراً كبيراً، وقد مهد الله له بكثير من الآيات، وأخبر بما سيقوله السفهاء من الناس، وذكر الحكمة من هذا النسخ، وقد هدى الله المؤمنين فامتثلوا أمر الله وولوا وجوههم حيث أمرهم.

طلق المحيا 30-12-16 03:06 AM

تفسير قوله تعالى: (سيقول السفهاء من الناس..)
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة قامت عليها السموات والأرض، ولأجلها كان الحساب والعرض، هي عماد الإسلام، ومفتاح دار الإسلام، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

ففي هذا اللقاء المبارك نستفتح الحديث عن أول آيات الجزء الثاني من كلام ربنا جل وعلا من كتابه العظيم، قال الله وهو أصدق القائلين: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142] .

الذي ينبغي أن تستصحبه وأن تقرأ هذه الآية أن هذه الآية مقدمة على النسخ، بمعنى: أنه إلى الآن لم يحصل نسخ، ولم يحصل أمر بالتولية عن بيت المقدس إلى الكعبة، وإنما هذه الآية صدرت في الأول، قال أهل العلم كما نص عليه ابن سعدي رحمة الله عليه في تفسيره: وإنما هذا تسلية ومعجزة له صلوات الله وسلامه عليه، أما كونها معجزة فظاهر، فإن الله أخبره بأمر لم يقع بعد، وأما كونها تسلية فإن الإنسان إذا أخبر بما سيتعرض له من أذى قبل أن يتعرض له فهذا يجعله أكثر تمكناً من تحمل ذلك الأمر، وهذا قد يقع إما بالرؤى أو بوصول خبر له بطريق ما، وهذا في حق البشر، أما في حق الأنبياء فيكون ذلك عن طريق الوحي.

لا بد أن نستصحب أن الله أثنى على إبراهيم، وأثنى على البيت وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125] ، وبين ضلال اليهود والنصارى وقبل ذلك كله قال: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106] ، وكل ذلك من ذكر النسخ ومدح البيت وتعظيم إبراهيم وبيان ضلال اليهود والنصارى توطئة لما سيقع، وينبغي أن تعلم أن نسخ القبلة هو أول نسخ في القرآن، فالنسخ كان في العهد المدني، وسورة البقرة من حيث الجملة من أوائل ما أنزل في العهد المدني، ولهذا مر معنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: (يا أهل سورة البقرة!)؛ لأن الأنصار كانوا فرحين بها؛ لأنها أول ما نزل في المدينة، وآياتها كثيرة.

فالله جل وعلا يخبر نبيه أن أمراً سيقع بنسخ توجهك من بيت المقدس إلى الكعبة، ثم انظر كيف وطن الله لهذا في نبيه عند الناس، حتى تنقطع الحجج إلا الحجج الداحضة، فالله جل وعلا أثنى على البيت، وأثنى على بانيه؛ حتى إذا أمر الناس بعد ذلك بالتوجه إليه كان هناك ما يمهد لذلك الأمر الرباني.

نبيكم صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى بيت المقدس، ثم هاجر ومكث في المدينة ستة عشر شهراً تقريباً كما في حديث البراء بن عازب ، ثم كان يكثر النظر إلى السماء أدباً مع ربه، لا يصرح ولا يخفي أملاً في أن يوجهه الله إلى الكعبة، فأنزل الله: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ [البقرة:142] والسين للاستقبال، والسفهاء لا يحسن تخصيصها فيدخل فيها المشركون واليهود والمنافقون وكل من اعترض على تحويل القبلة.

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ [البقرة:142] ، لماذا قال الله: مِنَ النَّاسِ [البقرة:142]؟

لأن السفه يكون حتى في غير بني آدم، فنقله الله جل وعلا من مجازه المتسع إلى حقيقته المختصرة، فالسفه يكون حتى في الدواب، يكون حتى في الطير، لكن الله جل وعلا عندما قال: مِنَ النَّاسِ [البقرة:142] نقله من مفهومه الواسع الذي يمكن أن نصطلح عليه أنه توسع الناس فيها مجازاً إلى حقيقته المختصرة المخاطب بها، وهم كل من اعترض على تحويل القبلة.

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ [البقرة:142] وإلى الآن لم يحصل تحول، الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142] ، فأجابهم الله: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة:142] ، والمعنى: أننا نحن متعبدون بأن نعبد الله جل وعلا كما أمر، والله جل وعلا له ملك المشرق وله ملك المغرب، وليس في المشرق والمغرب تفاضل في ذاتها إنما نحن عبيد لله نأتمر بأمره.

طلق المحيا 30-12-16 03:07 AM

تفسير قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً..)
قال الله تعالى: يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142] ، والهداية لا تطلب إلا منه.

ثم قال ربنا: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] الكاف للتشبيه هذا قول، وقال آخرون: إنها مقحمة زائدة، والذي جعلهم يقولون: إنها مقحمة زائدة أنه لم يذكر شيء قبلها حتى يكون هناك تشبيه، لكن لغة العرب تجوز هذا، قال أبو تمام :

كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر

وهذا أول بيت في القصيدة وليس قبله شيء.

فقوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] أي: كما أن لله المشرق والمغرب هذا الملك التام له جل وعلا، فبذلك الملك التام له جعلكم جل وعلا أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] أي: خياراً عدولاً، ولا بد من الجمع بين هاتين الصفتين: خياراً عدولاً، والناس في زماننا أول ما ينطبع في أذهانهم في معنى الوسط الطول، وهذا مكمن الخطأ في القضية، أما الوسط الذي يعرضه عند العرب فهو الذي يكون في العمق، والشيء الذي يكون في وسط المدن لا يناله الأعداء إلا بعد جهد، ولا يصلون إليه إلا بعد مرحلة، ولا بد أن ينتهوا من أطراف البلدة، فهو ممتنع، والوسط في الوادي كمرعى لا يصل إليه الرعاة ولا الدواب إلا بعد الأطراف، فالوسط دائماً ممتلئ عزيز منيع، هذا معنى الوسط، ومعنى قول الله جل وعلا: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] أي: خياراً عدولاً، لكن الناس الآن ينقدح في بالهم الطول، فلا يجدون معنى حقيقياً يتلذذون به في خطاب كلمة وسطاً.

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143] قال الشنقيطي رحمة الله عليه في أضواء البيان -وطريقته تفسير القرآن بالقرآن-: لم يبين هنا متى تكون هذه الشهادة، وبينها في سورة النساء، فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:41-42] إلى آخر الآيات، فهذه الشهادة تكون يوم القيامة، تشهد هذه الأمة لأنبياء الله كما جاء الخبر الصحيح في الشهادة لنوح ويشهد النبي صلى الله عليه وسلم على أمته بنص القرآن،لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143].

ثم قال الله: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [البقرة:143] هذه توطئة للحدث، يقال: فلان انقلب بمعنى عاد إلى المكان الذي كان فيه، وعاد إلى أصله، فالناس قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا كفاراً، قال الله: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة:143] أي: يعود إلى سابق الكفر.

ثم قال الله: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [البقرة:143] ، هنا كبيرة ليست ما بعد الصغيرة، فالله لا يتكلم عن آثام إنما يتكلم عن هذا الأمر، والتشريع فيه شدة ومشقة؟ على النفوس أي: لا تقبله كل نفس.

وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً [البقرة:143] في وقعها إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [البقرة:143] ، ونظيره في القرآن: وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ [الأنعام:35] أي: عظم واشتد، وليست (كبيرة) المجاورة للصغير أو المجاورة للمم، الله لا يتكلم عن ذنوب، وإنما يتكلم عن أمر رباني مشقته على النفوس عظيمة لولا هداية الله.

قال الله: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] هذا جواب لتساؤل وقع، قال أقوام: ما بال من مات وقد صلى إلى بيت المقدس؟ فأجاب الله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] ، فالإيمان هنا المقصود به الصلاة، وهو حجة واضحة لأهل السنة من أن الإيمان قول وعمل؛ لأن الله سمى العمل هنا إيماناً وعبر به عن الصلاة فقال جل شأنه: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143].

طلق المحيا 30-12-16 03:08 AM

تفسير قوله تعالى: (قد ترى تقلب وجهك في السماء..)
ثم ذكر الله آية النسخ: قَدْ نَرَى [البقرة:144] أي: ربما، وهي هنا للتكثير، كذا قال الزمخشري وهذا صحيح.

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [البقرة:144] وهذا من أدب نبينا صلى الله عليه وسلم مع ربه، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ [البقرة:144] أي: فلنيسرن لك ونشرع لك قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144] ، فانتقلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.

فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144] أي: الكعبة، قال بعض العلماء: المسجد الحرام أطلق في القرآن وفي السنة ويراد به أربعة أشياء: يراد به الكعبة، يراد به عين الكعبة، ويراد به المسجد المحيط بالكعبة، ويراد به مكة، ويراد به الحرم مما يشمله حدود الحرم.

الله يقول: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:196] أي: من أهل مكة، لكن إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28] يطلق على حدود الحرم.

قال الله تبارك وتعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144] الخطاب في قوله: (فولوا) للأمة، وفي قوله: (فول) للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذه على غير عادة القرآن؛ لأن عادة القرآن إما أن يخاطب النبي وتكون الأمة تبعاً له، وإما أن يخاطب الأمة ويكون النبي رأساً، لكن لا يأتي خبر في الغالب يذكر مرة لأمته، والجواب أن الله قال قبلها تمهيداً: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً [البقرة:143] ، فلما كان أمراً ذا مشقة أكده الله جل وعلا بهذه الطريقة، وساقه بهذا الأسلوب، فخوطب به النبي وخوطبت به الأمة؛ لأنهم واجهوا عنتاً شديداً في قضية قبوله، فالمشركون يقولون: حن محمد إلى مولده، والمنافقون يقولون: حن محمد إلى مولده، ولما أنزل الله جل وعلا الثناء على البيت وتمجيده وتعظيمه قالوا: إذا كان محمد يمجد هذا البيت كل التمجيد فلم يتوجه إلى بيت المقدس؟ ولهذا قال الله: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ [البقرة:142] ، فهنا خاطب الله نبيه، وخاطب أمته صلوات الله وسلامه عليه، فقال: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة:144] والمعنى: أن أهل الكتاب يعلمون فيما أنزل عليهم أن الله جل وعلا سيطلب من نبيه أن يتحول إلى الكعبة، اليهود والنصارى أهل الكتاب يعلمون أن الله جل وعلا سيأمر نبيه بالتحول إلى الكعبة، وأن آخر الأمر سيكون التوجه لكل من آمن بالله إلى الكعبة.

روى البغوي رحمه الله تعالى في شرح السنة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: الكعبة قبلة من في المسجد الحرام، والمسجد الحرام قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب.

وقد اتفق المسلمون على أن التوجه للقبلة شرط من شروط صحة الصلاة، ويستثنى من هذا حالتان: الحالة الأولى: حال القتال.

الحالة الثانية: حالة من يتنفل على ظهر الدابة حال السفر، فمن يتنفل على ظهر الدابة قبلته حيثما توجهت به دابته، وعند ابن حزم أنه يجوز حتى في داخل المدن، لكن قول الجمهور هو الصحيح، من يتنفل على دابته في سفر قبلته حيثما توجهت به دابته.

والمقاتل لاسيما المسايف قبلته جهة أمنه، أي وجهة يغلب على ظنه أنه يأمن بها تكون هي قبلته ، كما أن الدابة حيثما توجهت هي قبلة من يصلي عليها متنفلاً.

طلق المحيا 30-12-16 03:09 AM

تفسير قوله تعالى: (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب..)
قال الله تعالى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ [البقرة:145] فلا تطمع في أن يتبعوها؛ لأنهم لو اتبعوها تركوا دينهم وما أصبحوا يهوداً ولا نصارى.

وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ [البقرة:145] المعنى: إذا كان هؤلاء الذين على الباطل يأنفون أن يتبعوك فأنت -وأنت على الحق- أشد أنفة من أن تتبعهم.

وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ [البقرة:145]؛ لأن الخلاف بينهم خلاف عقدي وهم قد تتشابك مصالحهم وتلتقي خطوط رضوانهم لكنهم في المسائل العقدية مختلفون، كما قال الله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة:113] .

وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة:145] ليس المقصود النبي صلى الله عليه وسلم، فقد علم الله أن نبيه لن يقع منه هذا الشيء أبداً، لكنه أسلوب تخويف وترهيب لكل من استبان له شيء من الحق ثم أعرض عنه.

طلق المحيا 30-12-16 03:09 AM

تفسير قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه..)
قال الله جل وعلا: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ [البقرة:146] أي: النبي صلى الله عليه وسلم كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146] ، قوله جل وعلا: (أبناءهم) قرينة على أن المقصود معرفة النبي صلى الله عليه وسلم لما شاع من ذكره عليه الصلاة والسلام في الكتب المتقدمة.

وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ [البقرة:146] أي: من أهل الكتاب لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146] الحق من ربك، وظاهر الأمر عندي أن الحق هنا المقصود به أن القبلة التي أمرناك باتباعها هي الحق، والدليل عليها أن الله قال: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [البقرة:147]؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشك في نفسه، وإنما الخطاب هنا زيادة في التأكيد؛ لأن الموضوع كان كبيراً جداً كما بينه الله.

طلق المحيا 30-12-16 03:10 AM

تفسير قوله تعالى: (ولكل وجهة هو موليها..)
قال الله تعالى: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ [البقرة:148] (وجهة) من حيث الصناعة النحوية على غير القياس، أصلها جهة كما يقال في وعد: عدة، وفي وصل: صلة، أما وجهة فهي مأخوذة من وجه، فالأصل أن تكون جهة وتحذف الواو قياساً لكنها أبقيت لتأكيد الأمر والعلم عند الله.

وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [البقرة:148] على ماذا يعود الضمير هو؟ لا يعود على لفظ الجلالة، بل يعود على لفظ (لكل)، والمعنى: لكل أحد وجهة هو موليها نفسه، يعني: اختارها على بينة من نفسه، اليهود توجهوا إلى قبلتهم على قناعات عندهم، والنصارى توجهوا إلى هذا المشرق على قناعات عندهم، وهكذا غيرهم.

ثم أمر الله نبيه وسائر المؤمنين أن ينصرفوا من هذا الخلاف إلى العمل فقال: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148] أي: سارعوا في الطاعات ونافسوا فيها، ثم ذكرهم بيوم الوعيد: أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:148].

ثم عاد وكرر موضوع القبلة فقال: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:149] .

قال صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام حين ذكر الكبائر: (والفساد في البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً) ، فجعل الله هذا البيت قبلة للناس أحياء وأمواتاً.

طلق المحيا 30-12-16 03:11 AM

تفسير قوله تعالى: (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره..)
قال الله تعالى: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة:150] .

يبحث العلماء هنا الاستثناء في قوله جل وعلا: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [البقرة:150] هل هو استثناء منقطع أو استثناء متصل؟ والمعنى من حيث الجملة واحد أي: من لا يبحث عن الحق لا سبيل إلى إقناعه وإرضائه، لكن رجح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الاستثناء هنا استثناء متصل، وتفصيل ذلك أن تعلم التالي: الحجة في القرآن وردت بمعنيين:

المعنى الأول: الحجة بمعنى الحق، وهي الحجة الصحيحة الواضحة البينة، مثل قول الله: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [الأنعام:83] ، ويحمل عليها قول الله أيضاً: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ [الأنعام:149] أي: الواضحة الصحيحة التي لا ريب فيها.

المعنى الثاني: الحجة بمعنى الجدال سواء كان بالحق أو بالباطل، ومنه قول الله جل وعلا في سورة الجاثية مثلاً: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الجاثية:25] ، فالمقصود بأنها حجة باطلة وإن ذكرت على أنها حجة.

قال الله جل وعلا: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [البقرة:150] ، وكونهم ظالمين قد يخشى أذاهم، فحين يخشى أذاهم علق الله أولياءه به فقال جل وعلا: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة:150].

طلق المحيا 30-12-16 03:12 AM

تفسير قوله تعالى: (كما أرسلنا فيكم رسولاً..)
قال الله تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا [البقرة:151] الكاف للتشبيه، واختلف العلماء في متعلق الكاف هنا، فبعضهم جعلها فيما قبل، وبعضهم جعلها فيما بعد، فالذين قالوا: فيما بعد المعنى عندهم: فاذكروني كما أرسلنا فيكم رسولاً، (فاذكروني) هي الآية التي بعدها (كما أرسلنا فيكم رسولاً) وهذا بعيد، والراجح أنها متعلقة بما قبلها أي: ولأتم نعمتي عليكم كما أرسلت فيكم رسولاً.

وتوجد نعم أصلية ونعم متمة للنعم الأصلية، فالنعمة الأصلية أن بعث فيكم رسولاً يهديكم إلى دين الحق، والنعمة المتمة للنعمة الأصلية أن هديتكم إلى أن تتوجهوا إلى الكعبة، فالله يقول: إتمام النعمة التي هي التحول والتوجه إلى الكعبة ليست ببدع من الإنعام والإحسان مني إليكم، فقد سبق مني إحسان من قبل وهو؟ إرسال الرسول.

وبعض العلماء مثل ابن الأنباري وهو ممن يغلب عليه الصنعة النحوية ذكر أنها صفة من مصدر محذوف والمعنى: لعلكم تهتدون اهتداء كما أرسلنا فيكم رسولاً، وهذا من حيث الصناعة النحوية ممكن، لكنه من حيث المعنى -والعلم عند الله- بعيد.

قال الله: يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة:151].

طلق المحيا 30-12-16 03:13 AM

تفسير قوله تعالى: (فاذكروني أذكركم..)
قال الله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152] .

الذكر رأس الشكر، فيكون ذكره هنا وعطف الشكر عليه من باب عطف العام على الخاص.

وقول الله جل وعلا: وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152] قرينة على أن المقصود: كفر النعم؛ لأنه ذكر الشكر بعدها.

طلق المحيا 30-12-16 03:14 AM

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة..)
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153] مر معنا كثيراً أن الصبر والصلاة قرينان في كلام الله. والصبر من أنواعه الصبر على الطاعات، ومن أعظم الطاعات التي تحتاج إلى مشقة؟ الجهاد، فلما ذكر الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153] ذكر مشقة تحتاج إلى صبر وهي القتال في سبيل الله فقال: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ [البقرة:154] .

العاقل لا يفرط في محبوب إلا إذا وجد شيئاً أعظم منه، والحياة محبوبة لكل أحد، فأنت لماذا تأكل العيش؟ لماذا تشرب الدواء؟ لماذا تبني شيئاً يكنك البرد والحر؟ كل ذلك حتى تبقى حياً، وأنت لا تحيا لتأكل وإنما تأكل لتحيا، ومع ذلك يطلب منك شرعاً أن تهب نفسك لله، فتفرط في ذلك المحبوب الذي هو حب الحياة، والذي أنت تكد من أجل بقائك، وتمنع عن نفسك ما يؤذيك، لكن تفريطك في هذا المحبوب الذي هو الحياة لم تصنعه إن كنت مؤمناً إلا لمحبوب أعظم وثواب أجزل وهو ما عند الله الذي أثبته الله بقوله: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ [البقرة:154] ، فهم يفيئون إلى قناديل معلقة في العرش ويشربون من أنهار الجنة، وسيأتي ذكر الشهداء تفصيلاً في سورة آل عمران التي حوت ذكراً كثيراً للقتال.

طلق المحيا 30-12-16 03:15 AM

تفسير قوله تعالى: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع..)
قال الله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة:155]، هذا الابتلاء يكون للأفراد، ويكون للأمم، ويكون للمجتمعات، والله جل وعلا مضت سنته واقتضت حكمته ومضت كلمته أن الناس يبتلون تمحيصاً؛ ليميز الصابر من الجازع، والمؤمن من الكافر، وأنواع البلاء تختلف، وقد وقع الابتلاء حتى في خير القرون، فالنبي عليه الصلاة والسلام حوصر ومن معه، وزلزلوا زلزالاً شديداً، وفي عهد عمر كان الطاعون، وغير ذلك من الابتلاءات التي تمر بالمسلمين على مستوى الأمم، وعلى مستوى الأفراد، يبتلى الإنسان بفقد ماله، بفقد أهله، بفقد ذويه، بفقد قرابته، وهذا أمر مستفيض لا يحتاج إلى بيان، ثم عند تلقي البلاء تعبد الله عباده الصالحين بأن يقولوا: إنا لله وملك له وعبيد له، ولا حول لنا فننتصر، ولسنا برآء فنعتذر، ولا قوة لنا إلا بالله، وهو ربنا يفعل بنا ما يشاء، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156] أي: منقلبنا إليه فيثيبنا إن صبرنا، ويعاقبنا إن جزعنا إلا أن يرحمنا فهذا المعنى الحرفي لقوله: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156] فيه منتهى التسليم لرب البرية جل جلاله، وهذه الكلمة يقال: إن الأنبياء من قبل لم يكونوا يعلمونها، ولو كانت شائعة بينهم لقال يعقوب: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولم يقل: واأسفا على يوسف، وقد ورد في آثار ليس فيها ما نعلمه صحيحاً سنداً، لكن العقل لا يمنعه أنها كلمة اختص الله بها هذه الأمة.

طلق المحيا 30-12-16 03:17 AM

تفسير قوله تعالى: (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة..)
قال الله تعالى: أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:157] ، الصلوات هنا أي: رفع الدرجات، والرحمة أي: غفران الذنوب، وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:157] أي: عرفوا طريق الحق فلزموه، وما كانوا ليهتدوا لولا أن هداهم الله.

هذا كله يبين أن الإنسان في طريقه إلى الله تمر به النوازل، وتمر به الابتلاءات، فينبغي أن يوطن المرء نفسه على التعلق بالله، وكلما عظم في القلب اليقين بأن العبد عبد لله والله ربه يحكم فيه ما يشاء ويفعل ما يريد سهل عليه بعد ذلك أن يتقبل ذلك البلاء.

طلق المحيا 30-12-16 03:18 AM

تفسير قوله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله..)
قال الله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158] الجناح في اللغة: الميل.

قال الله: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا [الأنفال:61] أي: مل إليها، لكن اصطلح على أن يطلق غالباً في الميل إلى الإثم.

والصفا والمروة جبلان، يجمع الصفا على صف، والمروة على مرو، سعت بينهما هاجر أم إسماعيل ثم تعبد الله الناس بذلك، وقبل الإسلام كثر وضع الأصنام عندها، فكان أكثر ما تعبد الأصنام عند الصفاء والمروة، فلما من الله على المسلمين بالإيمان تحرجوا من أن يأتوا إلى مكانين عرفا بأنهما مظنة وجود أصنام، فرفع الله ذلك الحرج بقوله: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158] ، ورفع الحرج هنا لا يتعلق به حكم شرعي، بمعنى: لا يفهم من هذه الآية أن السعي واجب أو ركن أو سنة، إنما الآية جيئت لدفع ذلك الحرج الذي كان يخافه المسلمون من أن يعيدوا شيئاً قد سبق في خلدهم أنه مظنة عبادة أصنام، لكن قول الله جل وعلا: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158] قرينة ظاهرة على أن السعي عبادة لا تؤدى بمفردها نافلة، ويوجد طواف نافلة منفكاً بمفرده عن الحج والعمرة، لكن لا يقع السعي منفكاً عن الحج والعمرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسع حالة انفراد عن حج أو عمرة، وطاف صلى الله عليه وسلم طوافاً منفكاً عن حج وعمرة.

فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ [البقرة:158] أي: زاد خَيْرًا [البقرة:158] أي: من حج أو عمرة.

فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158] من طرائق معرفة شكر الله جل وعلا -والله من أسمائه الشاكر والشكور- أنه جل وعلا يثيب على العمل اليسير بالجزاء العظيم، (ومن تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً)، (ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه) هذا من معاني قوله: فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158].

وقوله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] أي: من أعلام دينه، أشعر الشيء يعني: أعلم، والصفا والمروة من أعلام الدين، وتعظيم شعائر الله قوت للقلوب، قال الله جل وعلا: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].

هذا ما يمكن أن يقال حول قول الله جل وعلا: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158]، وهذان مكانان من الحرم تعبدنا الله بأن نسعى بينهما، على أنه يتعلق بهذا فائدة أخرى وهي أن البدعة نوعان: بدعة ليس لها أصل شرعي، وبدعة لها أصل شرعي، وهي أن توجد عبادة لها أصل شرعي فجيء بها على وجه غير الذي الوجه الذي جاء به الشرع، فتسمى بدعة، هذا تقسيم عام وسنأتي لكلا الحالتين.

لو جاء إنسان فصام مثلاً من منتصف النهار إلى منتصف الليل فنقول: هذه العبادة ليس لها أصل في الشرع، أما الحالة الثانية فمثل الوقوف في عرفة في غير يوم التاسع، فالوقوف في عرفة له أصل في الشرع لكنه جاء في الشرع على وجه مخصوص وهو اليوم التاسع، ففعلك إياه في غير اليوم التاسع يسمى بدعة.

لماذا ذكرنا هذه الأمثلة وقسمنا البدعة؟

لأن الله قال: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158] ، فجعل الله للسعي وجهاً مخصوصاً، وهو أن يكون إما ملتصقاً بحج أو ملتصقاً بعمرة، والسعي له أصل بالشرع، لكن إن لم يكن ملتصقاً بحج أو عمرة فيعد هذا العمل بدعة غير مقبولة.

وقد اختلف العلماء في حكم السعي بين الصفا والمروة، والآية لا تدل لقول أحد، قال بعض العلماء: إنه ركن، وهذا مذهب الشافعي ، وحجته: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا) ، وقال آخرون: بسنيته، وقال آخرون بوجوبه، وتفصيل ذلك في كتب الفقهاء، وهذا درس تفسير، والمستفتي على دين مفتيه.

هذا ما تيسر إيراده، وأعاننا الله جل وعلا على قوله في هذا اللقاء المبارك، بارك الله لنا ولكم فيما نقول ونسمع، ونفعنا الله وإياكم بما علمنا، وعلمنا ما ينفعنا، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

طلق المحيا 31-12-16 05:23 AM

لعن الله الذين يكتمون العلم الذي أنزله في كتابه، ولعن الذين كفروا وماتوا وهم كفار، وأعظم العلم: لا إله إلا الله والكفر بها هو أظلم الظلم وأجهل الجهل، ففي ما خلق الله آيات ودلائل تدل على أنه الإله الحق الواحد، لكن الذين كفروا صم بكم عمي فهم لا يعقلون.

طلق المحيا 31-12-16 05:24 AM

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى..)
الحمد الله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالق الكون بما فيه، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا لقاء مبارك نستكمل ونستأنف فيه ما كنا قد تكلمنا عنه في سورة البقرة، وانتهينا في اللقاء الماضي إلى قول الله جلا وعلا: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158].

أما اليوم فسنبدأ بقول الله جلا وعلا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159] .

قال أهل العلم رحمهم الله في بيان هذا: أصل سبب نزول الآية أن نفراً من الصحابة ذهبوا إلى أحبار يهود يسألونهم عن وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جاء عنه صلوات الله وسلامة عليه في التوراة، وكان أولئك الأحبار يعلمون ذلك جيداً، قال الله جلا وعلا: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]، والضمير عائد على النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن أولئك الأحبار كتموا ذلك العلم الذي علمهم الله جلا وعلا إياه وأبانه لهم جلا وعلا في التوراة فأنزل الله قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ [البقرة:159]، ولذا ذهب بعض العلماء إن المقصود بالكتاب هنا: التوراة، والصواب أن يقال: إن أولها عن التوراة وآخرها في القرآن، وليست الآية محصورة في فرقة بعينها، فكل من كتم علماً دخل في الوعيد الذي تتضمنه الآية، والأصل في ذلك أن الله جلا وعلا أحيا الناس وأحيا قلوبهم بالعلم الشرعي، فإذا أوتي أحد علماً شرعياً فبخل به على الناس وكتمه فإنما تسبب في موت الناس وإفسادهم، وهذا مستحق للعنة.

واللعن عند العرب هو الطرد والإبعاد، لكنه في عرف الشرع الإبعاد عن رحمة الله، وعند العرب كان كل شيء يدعو إلى الوصف بالقبيح يسمى لعناً فكانوا يخاطبون ملوكهم ووجهائهم بقولهم: أبيت اللعن أي: لا تفعلوا فعلاً تستحقوا عليه اللعن، وإنما أنت تفر عن كل سبب موجب لذنبك وقدحك وشينك.

ويوجد فرق بين لعنة الله وبين ما يعير به الناس من باب العرف والتقاليد، فليس ذلك كما يعيرون به من باب الشرع.

كتمان العلم من أعظم الإفساد في الأرض؛ ولهذا أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وهو راوية الإسلام الأول لما كان يكثر من نقل الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ونشأ في عصره جيل لا يعرفونه حق المعرفة وقالوا: أكثر أبو هريرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رضي الله عنه وأرضاه: (تقولون: أكثر أبو هريرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم! الله الموعد -أي: القيامة بيني وبينكم- وايم الله لولا آية في كتاب الله ما حدثت أحداً بشيء أبداً) ثم تلا هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159] .

ثم تأمل سنن الله جلا وعلا في خلقه كيف تتقابل على التالي:

العالم الذي ينشر علمه ويدعو إلى الخير ويعرف الناس بربهم تبارك وتعالى يصلي عليه كل أحد، ويستغفر له حتى الحوت في بحره، ومقابل هذا من أوتي علماً وكتمه ولم يبينه للناس وأوقع الناس في ضلال مبين دون أن يسعى في إخراجهم مما هم فيه فهذا يلعن قال الله جلا وعلا:أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159] ، وكلمة اللاعنون عامة ولم تحدد.

وذكر بعض العلماء كما في طريقة الشنقيطي في التفسير أن ما بعدها أن الله تفسرها قال: أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة:161]، لكن الصواب أن يقال: كل من يتضرر من كتمان العلم هو مندرج في لعن من كتم ذلك العلم، هذا في ظني أصوب ما يمكن أن يقال في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159].

طلق المحيا 31-12-16 05:25 AM

تفسير قوله تعالى: (إلا الذين تابوا وأصلحوا..)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:160] .

هنا ثلاثة أفعال كلها واقع في صلة الموصول: تابوا وأصلحوا وبينوا، تابوا بمعنى: أقلعوا عن الذنب الذي هو هنا الكتمان، وأصلحوا: عزموا على أن لا يعودوا إليه مرة أخرى، وبينوا: أظهروا ما كانوا قد كتموه من العلم.

فإذا فعلوا ذلك فإن الرب جلا جلاله بسعة رحمته وعظيم فضله يقول:فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:160].

طلق المحيا 31-12-16 05:26 AM

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وماتوا..)
قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة:161] ، قول ربنا: وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [البقرة:161] هذا قيد لا ينبغي اطراحه، فاللعنة لا تكون لازمة لأحد ولو كان متلبساً بالكفر حتى يموت على الكفر؛ لأن الله قال في قيده وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [البقرة:161] لكن هذا لا يعني أنه لا يجوز لعنهم وهم أحياء، والفرق بين الأمرين أننا لا نقول: نحن يائسون من إيمانه أو أننا نحكم عليه بأنه مطرود من رحمة الله حتى يموت على الكفر.

أما اللعنة العارضة فقد قال السلف كما روى مالك في الموطأ عن أحدهم: ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان، وقد قال البعض إن هذا من حيث العموم لا من حيث التعيين، وللحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى كلام في الفتح دقيق في هذه المسألة، وهو أن الأصل أن من جاز قتاله جاز لعنه، فلعنه من باب طرده وإبعاده لا بأس به، أما الحكم عليه بأنه في النار من معنى اللعن العام بأن الله قد طرده من رحمته وأقصاه من جنته فهذا لا يحكم به عليه حتى يموت وهو كافر، وهو معنى قول الله جلا وعلا: وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة:161] .

ومما يدل على صحة هذا الرأي قوله بعدها: (خالدين فيها)، فهذا الخلود لا يكون إلا بعد الموت على الكفر، لكن قد تكون هناك لعنة دون اللعنة العامة الكبيرة وهي الطرد من رحمة الله، والنبي صلى الله عليه وسلم غلظ في مسألة اللعن وقال: (لا تصحبنا ناقة ملعونة) ، ولما صلى صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة الاستسقاء ثم حذرهم ووعظهم بعدها أمر النساء أن يتصدقن، وقال لهن: (إنكن أكثر أهل النار! قلن: يا رسول الله! بم ذاك؟! فقال عليه الصلاة والسلام: إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير) ، فقوله عليه الصلاة والسلام تكثرن اللعن: دليل على أن الإكثار من اللعن من أسباب سخط الله جلا وعلا وعذابه أعاذنا وإياكم منه! والعاقل لا يعود نفسه على اللعن.

خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ [البقرة:162] ينظرون هنا: بمعنى يمهلون؛ لأنه دائم، والإمهال كان في الدنيا وقد فات بموتهم على الكفر.

طلق المحيا 31-12-16 05:27 AM

تفسير قوله تعالى: (وإلهكم إله واحد..)
قال الله جلا وعلا: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163] لما حذر الله جلا وعلا من كتمان العلم ذكر الله جلا وعلا أعظم علم ينبغي أن يظهر للناس وهو توحيده جلا جلاله، والتعريف به تبارك وتعالى، فقال معرفاً بذاته العلية مبيناً أعظم علم ينبغي أن ينشر: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، وقد مر معنى تفسير: الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163] في سورة الفاتحة، وقوله: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:163] كلمة من أجلها خلق الله السماوات والأرض، ومن أجلها كان الحساب والعرض، ومن أجلها يحشر العباد، ومن أجلها جرد محمد وأصحابه سيوف الجهاد، ومن أجلها أقيمت الحجج والبراهين، ومن أجلها تنصب الموازين يوم القيامة.

قال عليه الصلاة والسلام: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا اله دخل الجنة)، أولها نفي وآخرها إثبات، أولها جحود وآخرها إقرار، ويروى عن بعض المتصوفة ممن علق به شيء من التصوف كـالشبلي رحمه الله كان يقول: لا أقولها ويقول: الله، ويقول: أخشى أن أبدأ بالجحود فأموت دون أن أصل إلى الإقرار، يعني: أخاف أن أبدأ بالجحود فأقول: لا إله ثم أموت قبل أن أقول: إلا الله، وهذا ورع مذموم، قال القرطبي رحمه الله معلقاً على كلامه هذا: هذا من علومهم الدقيقة التي ليست لها حقيقة؛ لأن الله جلا وعلا تعبدنا بهذه الكلمة، وذكرها مراراً في كتابه العظيم، ووعد عليها الثواب العظيم، والله أرأف وأرحم وأعدل من أن عبداً أراد أن يقول: لا إله إلا الله وهو مؤمن بها قائم بالعمل بها عارف بلوازمها فقال: لا إله وأدركه الموت، فهذا من أهل الجنة قطعاً، فالله جلا وعلا حكم عدل، ورب ذو فضل لكن كما قال القرطبي رحمه الله عنهم: هذا من علومهم الدقيقة التي ليست لها حقيقة، وأي علم تريد أن يثبت نبش عنه، وكثير من الأشياء لا تغرنك بادي الرأي فتزدلف إليها، وأنا أكثرت من القول في الشيعة، فهم يأتون مثلاً لمقتل الحسين بن علي وهو مصيبة ويقولون: أي قلوب قاسية لكم، أنتم تبكون على موت أبنائكم وآبائكم وأمهاتكم، فكيف لا تبكون بموت سبط رسول الله وسيد شباب أهل الجنة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحبه ويضعه على فخذه، ثم يقتل وهو صائم، ويفصل رأسه عن جسده، ثم يقدم قرباناً للسلاطين والأمراء؟! هذا القول من أوله يستعطفك وقد يأسرك، فنقول: إن موت النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من موت الحسين ، ومقتل علي رضي الله عنه وأرضاه والد الحسين أعظم من مقتل الحسين نفسه، لكن الله جلا وعلا ما تعبدنا بمثل هذه الصنائع قرباناً له، ونحن نعلم أن قتلة الحسين فجرة ظلمة فسقة، اقترفوا إثماً عظيماً لكن ليس التعبير العلمي والصنيع الحقيقي أن نصنع كما يصنع الشيعة في كل عام، نظهر المآسي والمآتم والحزن على وفاته رضي الله عنه وأرضاه، وإن كان في وفاته عبر وعظات لكل أحد، فإنه كم من شخص يتلبس بالحق وينادي إليه ويزمجر به على المنابر، وكل الذي يدعو إليه عين الباطل!

فالذي قتل الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر ويقول: الله أكبر وهو يقتل الحسين سبط رسول الله صلوات الله وسلامه عليه! يقول أحد علماء السنة آنذاك:

جاءوا برأسك يا ابن بنت محمد متزملاً بدمائه تزميلا

وكأنما بك يا ابن بنت محمد قتلوا جهاراً عامدين رسولا

قتلوك عطشاناً ولم يترقبوا في قتلك التنزيل والتأويلا

و يكبرون بأن قتلت وإنما قتلوا بك التكبير والتهليلا

من هنا تعلم ما هو العلم؟ هو نور يقذفه الله في القلب، فتكون على بينة من هدي كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتسير به إلى رحمة علام الغيوب، الإنسان تأتيه الشبهات فيجتنبها بالعلم، ويمشي واثق الخطوة، رافع الرأس، ثابت القدم، متوكل على الله، لا تغره الشبهات، ولا تأسره الشهوات، وهذا إذا اجتمع مع علمه إيمان بالرب تبارك وتعالى.

قال الله: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163] جاء في الأثر من حديث أسماء بنت يزيد بن السكن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:1-2])، وقوله جلا وعلا: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163] ، ونحن نعلم أن الآثار دلت على أن لله جلا وعلا اسماً أعظم، لكننا نجهل هذا الاسم، وهذا الاسم إذا دعي به الله أجاب وإذا سئل به أعطي، والله جلا وعلا أخفاه، وبعض العلماء ذهب إلى أنه الحي القيوم، وبعضهم ذهب إلى أنه لفظ الجلالة، وبعضهم ذهب إلى أنه الله الذي لا إله إلا هو، وبعضهم قال: هو الحي مع الله لا إله إلا هو، واستشهد بآية غافر: هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غافر:65]، فاختلفت فيه أقوال العلماء، وكل منهم ضرب بعطن في ناحية بعينها، لكن المقصود أن يعلم الإنسان أن لله اسماً أعظم، ووجهاً أكرم، وعطية جزلى، وحجة بالغة، وقوة لا تقهر، ووعداً لا يخلف، وجنداً لا يهزم، فنسأل الله جلا وعلا بأسمائه وصفاته جملة أن يدخلنا الجنة ويجيرنا من النار.

طلق المحيا 31-12-16 05:29 AM

تفسير قوله تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض..)
في الآية الأولى قال الله: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة:163] إخبار، أما الآية التي بعدها فهي دلائل اعتبار، وذكر تفاصيل ما يدل على عظمة الواحد القهار قال الله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164]، العقل مناط التكليف، وتمر عليه ثلاثة أحوال حال عارضة، وحال مؤقتة، وحال مستديمة.

الحال العارضة: النوم فيرتفع قلم التكليف، والحال المستديمة: الجنون فيرتفع حال التكليف، والحال المؤقتة: الصغر فيرتفع حال التكليف إلى أن يكبر، والعناية بالعقل وجعله مناط التكليف دليل عظيم على عناية الإسلام بهذا العقل.

والعقل مكتشف للدليل، وليس منشئاً له، ففي هذه الآيات ذكر الله دلائل الاعتبار على الزمن على قدرة الله الواحد القهار فقال جل شأنه: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:164] ، وخلق السماوات والأرض من أعظم الأدلة والبراهين على قدرة الله، قال الله في سورة غافر: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57].

(واختلاف الليل والنهار) الله جل وعلا يولج هذا في هذا.

(والفلك) أي: السفن (التي تجري في البحر بما ينفع الناس) تسخير من الله جلا وعلا، والعلماء تكلموا في البحر كثيراً، ومن أشهر من ركبه من الأنبياء نوح وموسى ويونس، وقد فصلنا هذا القول في دروس مضت.

وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ [البقرة:164]، تصريف الرياح تكون أحياناً بينة، وتكون أحياناً عاصفة، وتكون أحياناً حارة، وتكون أحياناً باردة، وتكون أحياناً عذاباً، وتكون أحياناً نصراً، قال عليه الصلاة والسلام: (نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور)، وتكون أحياناً ملقحة، وتكون أحياناً عقيمة، هذا كله تصريف للرياح، ولا يقدر عليه إلا اللهوَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [البقرة:164] ، نحن نعلم قطعاً أن الماء ينزل من السحاب، لكن يوجد قول للعلماء أن المطر ليس من السحاب، وإنما السحاب غربال وأمارة على نزول المطر، والمطر ينزل من السماء ويمر عبر هذا الغربال الذي هو السحاب، ثم ينزل للناس، وهذا القول وإن قال به أفراد قليلون إلا أنه موجود، وقالوا: تجتمع فيه الآية؛ لأن الله قال:وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ [البقرة:164] ، قالوا: لو كان الماء ينزل من السحاب لما كانت هناك حاجة لأن يعيد الله جلا وعلا قوله: وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ [البقرة:164] ، وهذا أظنه منقول عن كعب الأحبار ، لكنه رأي مرجوح جداً جداً، والذي عليه العلماء كافة خاصة في القرون المتأخرة ما دل عليه العلم الحديث أنه من السحاب الذي في السماء، لكنني ذكرته حتى لا تفاجأ به إذا قرأته في كتاب، وأذكر أنني سمعته قبل ثلاثين سنة من أحد العلماء؛ فذهلت بمجرد سماعه، ولو أنه رحمه الله قالها تفصيلاً كما حررنها لكم، وهو لا يجهل هذا، ثم مع الأيام تبين مقصده غفر الله له ورحمه.

قوله تعالى: لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164].

طلق المحيا 31-12-16 05:30 AM

فسير قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله..)
بعد أن ذكر الله أدلة الاعتبار ذكر الله جلا وعلا اختلاف الناس في ربهم، فذكر مسألة محبة الله جلا وعلا وتعظيمه وهي لب الدين، فقال جل ذكره: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ [البقرة:165] .

للعلماء وجهان في تخريج الآية:

التخريج الأول: أن هؤلاء المشركين يحبون أصنامهم كحب المسلمين لربهم.

التخريج الثاني: أن هؤلاء المشركين يحبون ربهم ويحبون أندادهم كحبهم لربهم، وهذا التخريج الثاني تدل عليه آية الشعراء، تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:97-98] .

وأياً كان المقصود بالمعنى فقد قال الله بعدها: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165]، وهؤلاء المؤمنون لما كان محبوبهم وهو الله ليس له مثيل كان حبهم لله لا يعدل حبهم لأي شيء آخر؛ لأن الله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، ومنزلة محبة الله جلا وعلا من أعظم المنازل التي يعطاها العبد؛ لأنها مع الرجاء والخوف هي مدارك الدين كله، ومن رحمة الله جلا وعلا بك أن يجعل قلبك وعاء لحبه تبارك وتعالى، قال الله: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165].

ثم قال:وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [البقرة:165] في الدنيا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ [البقرة:165] أي في الآخرة أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ [ البقرة:165].

تفسير قوله تعالى: (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا..)
قاله الله تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:166-167] .

معناها ظاهر ولا تحتاج إلى شرح، رؤساء لهم أتباع فيوم القيامة يتبرأ الرؤساء من الأتباع، لكن نقف عند قوله: (لو) و(لولا) إذا كان يوم القيامة يرى المؤمن مقعده من النار الذي نجاه الله منه وهو في الجنة قال الله عنهم: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43] لاحظ (لولا) تقترن بأهل الإيمان، أما الكفار تقترن بهم (لو) ما الفرق؟

لولا: حرف امتناع لوجود، أما لو: حرف امتناع لامتناع، كيف أطبق هذا على هذه الآية وسائر الآيات؟

المؤمن وهو في الجنة إذا رأى مقعده من النار الذي نجاه الله منه يقول: وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43]، السؤال: هل حصلت هداية الله؟ نعم حصلت، فامتنع بحصولها وجود المقعد الذي في النار، فهذا معنى قولنا: حرف امتناع لوجود، الموجود حصول الهداية والرحمة من الله، فهذه الرحمة والهداية من الله لك منعت أن تكون في ذلك المقعد الذي هو في النار.

على النقيض من ذلك يرى أهل النار مقعدهم في الجنة الذين حرموا منه، فيقولون: لو، وقال الله عنهم: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الزمر:57] ، وهنا يقول الله: لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا [البقرة:167]، ولا توجد كرة.

إذا رأى الكافر مقعده من الجنة يقول: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي [الزمر:57] ، هل هداه الله؟ لم يهده الله، فامتنع الأول، فامتنع جواب الشرط، امتنع تحقق أن ينال ذلك المنزل الذي يراه في الجنة، وهذا كافي بأن تتعظ به القلوب، هل تكون ممن يقول: لولا أن هداني الله، أو تقول: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الزمر:57] هذا هو الفرق بين لو ولولا، لولا: حرف امتناع لوجود، ولو: حرف امتناع لامتناع.

والمقصود من ذلك: أن من أراد الله له الرحمة في الآخرة سيرحمه في الدنيا بتوفيقه للأسباب المعينة على طاعة الله، ومن لم يرد الله له الرحمة في الآخرة لن يوفق للهداية في الدنيا حتى يصل إليها.

قال الله: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [البقرة:166] ، يجب أن يخلد في قلوبنا أن كل سبب يوم القيامة منقطع إلا سبباً واحداً وهو ما كان بين العبد وربه، وهو سبب العبودية المحضة، هذا هو السبب الواحد الذي يبقى يوم القيامة.

قال الله: وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ [البقرة:167] معنى (يريهم الله أعمالهم): يريهم الله الأعمال التي تكون سبباً في نجاتهم لو أنهم سمعوها وفعلوها وآتوها، فإذا رأوها ماثلة أمام أعينهم يوم القيامة تحسروا على أنهم لم يفعلوها؛ لأنهم لو فعلوها لنجوا مما هم فيهم.

كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ [البقرة:167] ، ولو كانت تلك الحسرة إلى أمد تنتهي ويقضى الأمر لهان لكن الله قال بعد ذلك يذكر خلودهم وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167] .

طلق المحيا 31-12-16 05:31 AM

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض..)
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا [البقرة:168] ، سمي الحلال حلالاً من حِلال عقدة الحاضر عنه يعني: عقدة المنع، وكلمة (حلالاً) بيان للحكم الشرعي، وكلمة (طيباً) إظهار لعلة الحكم الشرعي.

وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168]، عدو مبين بمعنى: عدو ظاهر، فمبين اسم فاعل لكنها من أبان اللازمة غير المتعدية.

والفعل أبان يأتي لازماً لا يحتاج إلى مفعول، ويكون بمعنى ظهر، وتأتي أبان بمعنى أظهر فتقول أبنته لك تعدى إلى مفعولين، أما أن تظهر أنت فتقول: بان فلان على الشاشة أي: ظهر، وهنا الفعل اللازم وليس من المتعدي؛ لأن الشيطان لن يظهر عداوته لنا، وإنما يتلبس ويوسوس، لكن كيف عرفنا أنه عدو؟ لأن الله جلا وعلا فضحه وأظهر عداوته، فالشيطان عدو لكنه لا يظهر لنا عداوته، وإنما يأتينا متلبساً عن طريق الوسوسة مقرباً لنا مقاسما إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21] ، هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [طه:120] إلى غير ذلك.

لكن الله جلا وعلا فضحه وكشف عداوته لنا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208].

طلق المحيا 31-12-16 05:32 AM

تفسير قوله تعالى: (إنما يأمركم بالسوء والفحشاء..)
قال الله تعالى: إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ [البقرة:169] أسلوب حصر بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ [ البقرة:169] ، فلا يأمر الشيطان بشيء فيه نفع لنا البتة.

ولهذا قال الله: إِنَّمَا [البقرة:169] أسلوب حصر إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:169] ، ولم يذكر الله هنا ما القول على الله بلا علم الذي دعانا إليه الشيطان، لكن جاء بيانها في آيات أخر أعظمها أن الشيطان دعاهم إلى أن يفتروا ويزعموا الله الولد، وأن يحرموا ما أحل الله لهم من الطيبات كما قالوا: خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا [الأنعام:139] إلى غير ذلك مما حرموه، ونسبوه إلى الله جلا وعلا افتراء عليه، ذلك الذي لقنهم الشيطان إياه فهو مندرج في بيان قول الله جلا وعلا: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:169].

طلق المحيا 31-12-16 05:33 AM

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله..)
قال الله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة:170] .

الله عظم العقل، والمشركون تركوا عقولهم فلم يستفيدوا منها، فمن لم يستفد من جارحة أعطاه الله إياها فكأنه لم يعطاها، ولهذا وصفهم الله بأنهم صم رغم أنهم يسمعون، ووصفهم بأنهم بكم رغم أنهم يتكلمون، ووصفهم بأنهم عمي رغم أنهم يبصرون؛ لأن تلك الجوارح لم يستفيدوا منها الاستفادة التي أرادها ربهم تبارك وتعالى.

هنا يقول الله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا [البقرة:170] أي: النبي صلى الله عليه وسلم مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ [البقرة:170] أي: ما وجدنا عليه آباءنا، قال الله: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة:170] هذا استفهام تعجب.

والمعنى: على أي حال يصلون بها إلى أن يدعوا عقولهم بلا عمل فيعرضوا عن دعوة الإسلام، ويبقوا على عبادة الأصنام، ملتزمين هدي من سبقهم ولو كان من سبقهم على ضلالة وعياً وبعداً عن الله جلا وعلا، وهذا يحمل التوبيخ مع الإنكار.

قال الله: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة:170] ، اختلف العلماء في معنى (لو) هنا اختلافاً واسعاً، فقال بعض العلماء: هي بمعنى إن التي لا تحتمل معنى الشرط، وقال آخرون بغير ذلك، لكن القول بأنها لا تحتمل معنى الشرط هو الأفضل والأولى التي لا تحتاج إلى جواب.

وقال البيضاوي قولاً ليس له فيه سلف، محتجاً ببيت لـرؤبة بن العجاج :

قالت بنات العم يا سلمى وإن كان فقيراً معدماً قالت وإن

لكن القول الأول -وهو أنها بمعنى إن التي لا تحتمل معنى الشرط- هو الذي عليه أكثر أهل العلم، والعلم عند الله جلا وعلا.

طلق المحيا 31-12-16 05:34 AM

تفسير قوله تعالى: (مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق..)
قال الله جلا وعلا يبين حال أهل الإشراك: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171] .

هذا تشبيه حالة الكافر بحالة راع الضأن ينادي عليها، فهي من حيث سماعها النداء تسمع، لكن من حيث تدبرها لما يقال لها لا تعي، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يدعوهم ويرشدهم فهم حال سماعه كحال الضأن تسمع ما تنادى به، وهم يسمعون القرآن والآيات إلا أنهم لا ينتفعون كما أن الضأن لا تفقه كلام الراعي، هذا تخريج.

وبعض العلماء يقول: ليس المقصود هذا، وإنما المقصود حال المشركين مع أصنامهم عندما ينادونها، فإنها لا تسمع منهم شيئاً، ولا تعي ما يقولون صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171] ، لكن هذا بعيد؛ لأن الله قال: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً [البقرة:171] ، فأثبت السمع، ومعلوم قطعاً أن الأصنام لا يمكن لها أن تسمع، فجعل المثل مثلاً لأهل الإشراك -وهو تشبيه تمثيلي- أفضل من جعله مثالاً للأصنام.

يعني: حال كونهم هم يسمون النداء ولا يفقهون شيئاً مما يقال لهم أولى من حمل التشبيه على الأصنام وأنها تنادى ولا تعي ما تنادى به؛ لأن الله أثبت هنا السمع والأصنام قطعاً لا تسمع شيئاً مما تنادى به فقال: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171] .

هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، وأعان الله جل وعلا على قوله، والله الموفق لكل خير.

وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد الله رب العالمين.

طلق المحيا 01-01-17 05:38 AM

أمر الله المؤمنين بالأكل من الطيبات وشكره عليها، وتوعد الذين يكتمون ما أنزل الله، وبين أن البر هو بالإيمان والعمل الصالح، وشرع لعباده القصاص في القتلى، وفي ذلك حياة لهم.

طلق المحيا 01-01-17 05:40 AM

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم..)
الحمد لله وحده حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقائد الغر المحجلين وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد انتهينا في اللقاء الماضي إلى قول الله جل وعلا: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171]، وذكرنا أقوال العلماء فيها.

قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:172-173].

مرت معنا آية: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ [البقرة:168]، وهذا النداء عام، والآن خص الله جل وعلا أهل الإيمان بالنداء فذكر المباح، وذكر المحرم، وبدأ بالحلال المباح؛ لأنه أكثر، وأخر المحرم؛ لأنه محصور، واستخدم في حصره إنما وهي تدل على الحصر.

قال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172]، ما دمنا معترفين أننا عبيد لله، وأن الله أفاء علينا الخير فإقبالنا على الخير نوع من الاعتراف بعبوديتنا لربنا وعدم إعراضنا عنه.

ومن هنا تفقه أن الإنسان كلما كان يظهر فقره لله ومسكنته كان قريباً من الله، جاء في الحديث الصحيح: (أن أيوب عليه الصلاة والسلام بعث الله إليه رجل جراد من ذهب)، رجل جراد تعبير مثل سرب طيور، أي: مجموعة من جراد من ذهب، فأخذ وهو نبي الله المذكور في القرآن المقول عنه: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:30]، (فأخذ يحثو الجراد في ثوبه، فأوحى إليه ربه: يا أيوب ألم أكن قد أغنيتك عما ترى؟! قال: يا رب! لا غني لي عن فضلك).

فالله جل وعلا هنا يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172]، يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ [المائدة:4]، يبنى على هذا قواعد فنقول: كل ما أباحه الله وأحله فهو طيب، وكلما حرم الله فهو خبيث، لكن ليس كل خبيث محرماً، قال عليه الصلاة والسلام: (وكسب الحجام خبيث)، مع أنه أعطى الحجام، وسمى البصل والثوم شجرتين خبيثتين مع أن الناس يأكلون منها، وقال جل وعلا: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة:267]، مع أننا نأكله، فالعبارات تختلف، ولذلك يتحرر الإنسان علمياً قبل أن يتفوه بكلمة.

قال الله: إِنَّمَا [البقرة:173] أداة حصر، حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [البقرة:173]، الميتة ما مات حتف أنفه أو ذبح بطريقة غير شرعية، ويسمى: يسمى ميتة، وهو أعظم المحرمات وأولها.

والثاني: الدم، وهذا الإطلاق قيدته آية: أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [الأنعام:145]، وخصصه الحديث كما خصص الميتة: (أحلت لنا ميتتان السمك والجراد، وأحل لنا دمان الكبد والطحال).

فالكبد دم والطحال دم لكنه غير مسفوح، والسمك والجراد خصص من الآية بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سئل عن ماء البحر فقال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته).

الثالث: لحم الخنزير والمراد به: الخنزير جملة عند جمهور العلماء.

واختلفوا لماذا ذكر الله اللحم، وقد ذهب مالك رحمه الله إلى أن عين الخنزير ليس نجساً أو قال به بعض العلماء، حتى يصبح لقوله: (أو لحم الخنزير) له معنى، وقال جمهور العلماء: بالإطلاق.

الرابع: وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ الإهلال رفع الصوت، يقال للوليد إذا استهل صارخاً: أهل، ويقال للحاج: مهل؛ لأنه يرفع صوته بالتلبية.

كانت لقريش أصنام يأتون بذبائحهم إليها فيقولون: باسم اللات، باسم العزى، ينحرونها لآلهتهم، فأي شيء أهل به لغير الله لا يقبل حتى لو كانت من صنيع أهل الكتاب، فالأصل في طعام أهل الكتاب أنه حل لنا.

لكن لو كان عندهم عيد يهلون به لغير الله وذبحوا فيه لا يجوز لنا أن نأكل منه لآية البقرة، ونبقي آية المائدة على عمومها.

قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ [البقرة:173] الباغي في اللغة هو الطالب للشيء إن كان خيراً أو شراً، لكن المقصود هنا: الطالب للشر.

وَلا عَادٍ [البقرة:173] أي: ولا متجاوز للحد، واختلف العلماء في معناها: منهم من حصرها بالبغي وهو الخروج على الأئمة، وجعل العاد قطاع الطريق، والحق أن الباغي والعادي ليست مرتبطتين بقطاع الطريق أو بالخارجين على الأئمة، وإنما الباغي هو من يريدها من غير اضطرار، والعادي من يتجاوز الحد في أكلها.

ثم قال الله بعدها: فَلا إِثْمَ [البقرة:173] أي: إن كان مضطراً، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:173].

طلق المحيا 01-01-17 05:44 AM

تفسير قول الله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب..)
قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [البقرة:174]، هذه عودة لذم أهل الكتاب.

وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:174]، وهذا زيادة على العذاب السابق وهو اللعنة المذكورة في الآيات السالفة، مما يدل على أن كتمان العلم شيء عظيم ومنكر فضيع.

قال الله: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [البقرة:175]، ثمت شيء في المنازع البلاغية يسمى: تنزيل المحصول المتحقق منزلة الحاصل، فالله جل وعلا -وهو أصدق القائلين- قال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [البقرة:174]، والمؤمن إذا سمع هذا يعلم يقيناً أن هذا سيقع لا محالة؛ لأن المخبر به هو رب العالمين، فنزل هذا منزلة ما وقع فيقول لهؤلاء الكفرة ما أصبركم على النار أي: ما أشد صبركم على النار، وسياقكم إليها رغم علمكم بحرها!

هذا لسان المخاطب بالقول، والقائلون هم الناس، وهذا الأمر لم يقع لكن هذا منزع بلاغي، وهو تنزيل المحصول المتحقق منزلة الشيء الحاصل.

قوله: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [البقرة:175] هذا قول في تخريج التعجب في ما، فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [البقرة:175].

ويوجد تخريج آخر وهو أن ما هنا ليست تعجبية وإنما استفهامية، ويصبح المعنى: أي شيء أصبرهم على النار؟ أي: ما الذي دفعهم إلى هذا حتى يصار بهم إلى النار؟

ثم قال الله: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [البقرة:176]، هذا جواب لهذا كله والمعنى: أن الله جل وعلا أنزل الكتاب بالحق لينفع به العباد.

فلما جاء هؤلاء العلماء وكتموه كان حقاً عليهم أن ينالوا ما أخبر الله جل وعلا عنه قال الله: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة:176].

طلق المحيا 01-01-17 05:46 AM

تفسير قوله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم..)
قال الرب تبارك وتعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة:177]، هذا عود على بدء، كان الله جل وعلا قد تحدث في صدر هذا الجزء عن قضية تحويل القبلة فلما أكثر الناس على أهل الإيمان من أهل النفاق والإشراك واليهود والنصارى، وقالوا: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142]؛ قال الله جل وعلا: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة:177].

والبر قرئت بالنصب والرفع، فعلى النصب تكون خبراً متقدماً لليس، واسم ليس المرفوع هو المصدر أَنْ تُوَلُّوا [البقرة:177].

والأصل في المبتدأ والخبر أن يقدم في الترتيب الأقوى، والمصدر أولى من المعرف بأل؛ لأنه إضمار والإضمار من أقوى المعارف، فعلى ذلك جعلت: أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ [البقرة:177] الخبر، لكن الترتيب في التقديم والتأخير هذه مسألة أخرى، وقدم الخبر رداً على أهل الإشراك، وهذا على قراءة: لَيْسَ الْبِرَّ [البقرة:177]، وعلى قراءة: (ليس البر) المسألة واضحة، البر اسم ليس، وأَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ [البقرة:177]، مصدر منسبك من أن وما دخلت عليه في محل نصب خبر لليس.

نعود إلى الغاية من الآية وهي منزع إيماني قال الله: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177]، من أراد القرب من الله فليقرأ هذه الآيات.

يسأل الناس أين البر؟ أين معالي الأمور؟ أين مدارك الجنة؟ أين النجاة من النار؟ أين طرائق الحق؟ أين معالم الهدى؟ فيجيبهم الرب تبارك وتعالى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ [البقرة:177]، وهذا استدراك عظيم من رب رحيم، وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [البقرة:177]، آمن بأن الله جل وعلا لا رب غيره، ولا إله سواه، في السماء عرشه، في كل مكان رحمته وسلطانه، يحكم ما يشاء، يفعل ما يريد، يقدم من يشاء بفضله، يؤخر من يشاء بعدله، لا يسأله مخلوقاً عن علة فعله، ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله، له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، أنزل الكتب، بعث الرسل، هو الرب وحده لا رب غيره، ولا إله سواه، هو الخالق وما سواه مخلوق، وهو الرازق وما سواه مرزوق.

ثم جاء بعد ذلك ما يتبع الإيمان بالله ولا يمكن أن ينفك عنه، وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:177] يحشر الله فيه العباد، ويقوم فيه الأشهاد، ويظهر فيه الشهداء، تنصب فيه الموازين، ويكون فيه الصراط، ويقام فيه الحوض، وفيه من الأهوال ما يشيب له الغلمان، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2].

والملائكة خلق من خلق الله خلقهم الله جل وعلا من نور، لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، وفي الحديث: (أطت السماء وحق لها أن تئط، والله ما من موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجئرون إلى الرب تبارك وتعالى).

وقد أثنى الله جل وعلا عليهم ثناء عاطراً، وذكر أنهم كِرَامٍ بَرَرَةٍ [عبس:16].

ثم قال جل وعلا: (والكتاب) كتب أنزلها الله جل وعلا فيها الهدى والنور، سمى الله منها التوراة، والإنجيل، والقرآن، والزبور، فيها من المواعظ والرقائق والهداية للخلق ما لا يمكن أن يحيط به أحد.

(والنبيين) بشر من الخلق اصطفاهم الله جل وعلا، خصهم بخصائص: تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، ما منهم من أحد إلا ورعى الغنم، يقبرون في المكان الذي يموتون فيه، خصهم الله جل وعلا، بأعظم خصيصه: وهي الوحي ينزل عليهم من السماء، هم دعاة إلى الحق ومعالم على طريق الخير، ورحماء بالخلق، وأكرمهم وأعظمهم نبينا صلوات الله وسلامه عليه، سمى الله منهم في القرآن 25 نبياً، والإيمان بهم جملة من أعظم أركان الدين.

وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [البقرة:177]، وكلمة على حبه أي: أن يكون الإنسان صحيحاً شحيحاً يخشى الفقر، ويرجو الغنى، وهي أعظم مواطن العطاء، ومن أعطى وهذه حاله كيف به إذا اغتنى؟! وهذا أمر تعرفه العرب في سنن كلامها، كما ذكره زهير في مدح هرم بن سنان ، والمقصود من هذا أن الإنسان إذا أعطى المال على حبه وقت تعلقه بالمال فكيف به إذا اغتنى؟! يكون عطاؤه أعظم.

وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [البقرة:177]، من؟ ذَوِي الْقُرْبَى [البقرة:177]، قدم الله ذوي القربى، وَالْيَتَامَى [البقرة:177] الذين لا كاسب لهم، وهم من مات آباؤهم وهم لم يبلغوا الرشد بعد، وَالْمَسَاكِينَ [البقرة:177] الذين يتعرضون للناس أو يكونوا أخفياء، وَابْنَ السَّبِيلِ [البقرة:177] المنقطع الذي انقطعت به السبل، وَالسَّائِلِينَ [البقرة:177] والسائل غالباً لا يسأل إلا عن حاجة، وَفِي الرِّقَابِ [البقرة:177] أي: المكاتبون.

وَأَقَامَ الصَّلاةَ [البقرة:177] أعظم أركان الدين على الإطلاق، وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ [البقرة:177]، وهي منصوبة على الاختصاص أي: وأخص الصابرين، فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ [البقرة:177]، البأساء: الفقر والعوز، والضراء: الأسقام، والأمراض، والبلايا، وحين البأس: أي: وقت القتال وملاقاة العدو، كل هذه الصفات لا يمكن أن تكون إلا في قوم صدقوا، والصدق مع الله جل وعلا أعظم المطالب وأدل البراهين على الانضمام لجند الله الغالبين، قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، وقال الله هنا: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا [البقرة:177] أي: صدقت أفعالهم أقوالهم، وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177]، والتقوى لباس عام وجامع لكل خير، وهي أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، ترجو عقاب الله، ومثل هذه الآيات لا يمكن أن تشرح لغوياً ولا بلاغياً؛ لأنه خلق يتمثله المسلم ويؤمن به، وعقيدة يسلك بها المؤمن، وطريقة إلى ربه تبارك وتعالى، وآداب وقيم وصلوات وعبادات ومعالم يرشد الله بها الأخيار من عباده الطالبين معالي الأمور، وحفظها والعمل بها من أعظم الضروريات للوصول إلى أعالي الجنات.

طلق المحيا 01-01-17 05:48 AM

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص..)
بعد أن بين الله ذلك كله، نشأ مجتمع متدين، فيه هذه المنزلة العالية من الإيمان جاءت الأحكام الشرعية التي لابد من إيضاحها للناس، قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178].

القصاص: هو المماثلة والإتباع، وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ [القصص:11] اتبعي أثره، كما هو ظاهر الآية، وقد ورد قول الله: فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [الكهف:64] أي: يتبعون آثار قد سلفت ومضت، فهذا معنى المماثلة والإتباع في أصل اللغة.

يقول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178] أي: فرض، الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى [البقرة:178]، هل صدر الآية منفك عن عجزها أو أن صدر الآية متصل بعجزها؟ هذا مربط الفرس، ومعقد الأمر في فهم العلماء للآية، فمن فهم أن صدر الآية منفك عن عجزها وما بعدها بمعنى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178] شيء مستقل لم ينظر إلى ما بعدها ولا إلى غيرها؛ جعل القصاص في كل قتيل حتى بين الكافر والمسلم؛ لأنه أخذها بالعموم وجعل ما بعدها إنما هو تأكيد، وأجرى الكلام على مجراه وفق سنن العرب.

وجمهور العلماء يجعلون صدر الآية مؤسس لما بعدها، فلا يقنعون بأن نقف عند قول الله جل وعلا وننهي الحكم في قولنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178]، فلهذا استثنوا من ذلك أمور.

والحق -والعلم عند الله- أن الله قال: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45]، وقال: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا [الإسراء:33]، ولم يحدد فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [الإسراء:33]، فلا يستثنى إلا من استثنته السنة، ومن استثنته السنة اثنان:

الأول: الكافر إذا قتله مؤمن، فلا يقتل مؤمن بكافر، إذا لا يقتل ولي الله بعدوه.

الثاني: الوالد مع الولد، وكلمة الوالد تشمل الأجداد وإن علوا، فلا يقتل والد بولده، إلا أن مالكاً رحمه الله استثنى من هذه واحدة وهي أن الوالد إذا أخذ ابنه وأضجعه فذبحه بهذه الصورة متعمداً وليس عن حالة غضب ولا عن حالة تأديب وإنما باختياره فإنه يقتل به، وهذا القول تميل إليه النفس؛ لأن الأب في مثل هذه الحالة التي يفعلها جهاراً عامداً تخلى عن أبوته، لكن الجمهور على أنه لا يقتل والد بولده.

قول الله جل وعلا: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى [البقرة:178] هذا على سنن العرب في كلامهم فلا يعني ذلك أن الأنثى لا تقتل بالذكر أو أن الذكر لا يقتل بالأنثى، كما أنه لا يعني أن الفرد لا يقتل بالجماعة أو أن الجماعة لا تقتل بالفرد؛ لأن هذا فيه استباحة للدماء، وقد رفع لـعمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن غلاماً من أهل صنعاء قتله سبعة فقتلهم به، وقال رضي الله عنه وأرضاه: لو تمالأ عليه أهل صنعاء كلهم لقتلهم به؛ لأنه لو قلنا: إن الجماعة لا يقتلون بالفرد يأتي إنسان له عدو فيذهب إلى رفقاء له ويتفق معهم على قتل غريمه حتى يستحيل شرعاً قتلهم جميعاً بهم، فتهدر الدماء، وتضيع أموال الناس، لكن يقتل الجماعة بالفرد كما يقتل الفرد لو قتل جماعة من باب أولى.

قال الله: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ [البقرة:178] هذه الآية العلماء يستدلون بها على أن أخوة الإيمان لا ينزعها شيء.

فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة:178]، والمعنى: أن الإنسان إذا تنازل عن حقه في القصاص فإن له أن يقبل ويعطى الدية، فيكون الأداء من نفس صاحب الجناية بإحسان إليه.

والناس في زماننا هذا سلكوا بها مسالك غير محمودة، وأنا وقفت على بعض أمور شرعية أو إدارية لا يحسن نشرها، لكن المبالغة في طلب الفدية أمر غير محمود شرعاً، وصحفنا -للأسف- تعج بأخبار لا تحمد في هذا الشأن، فيقال: مثلاً إن أهل الميت يتنازلون إذا دفع لهم كذا كذا من الأموال، وهذا أمر غير محمود، ولا أؤيد أن يسهم البعض فيه، وقد بينت هذا كثيراً في دروس لنا سلفت؛ لأن هذا فيه نوع من المتاجرة، لا بأس بالشيء المعقول أو أن يطلب الإنسان القصاص الذي هو له، أما أن يأتي أولياء دم ويريدون أن يغتنوا على حساب ميتهم فهذا أمر غير محمود أبداً.

طلق المحيا 01-01-17 05:50 AM

تفسير قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة..)
قال الله: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179].

شرع الله القصاص حفظاً للدماء، والناس إنما يحتكمون في ثلاثة أمور: في الفروج، والدماء، والأموال، ولا ريب أن المقصود من الآية أن الإنسان إذا علم أنه إذا قتل يقتل خاف على نفسه فامتنع عن القتل فحفظ نفسه ونفس غيره، قال الله جل وعلا: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، والتاريخ العربي الأدبي والسياسي مليء بقضايا عفو عند القصاص وأخبار من ثبتوا عند الموت، أو قضايا طلب القصاص، منها: أن رجلاً قتل رجلاً وكلاهما من أهل المدينة، فلما كانت ولاية معاوية رضي الله عنه وأرضاه كان ورثة الميت قد بلغوا سن الرشد.

فذهبوا إلى معاوية فأقدم القاتل بين يديه فلما سأله معاوية ليعترف قال: يا أمير المؤمنين! تريد أن أعترف شعراً، أم نثراً؟ قال: بل شعراً، فاعترف شعراً، فلما اعترف شعراً سلمه معاوية إلى ورثة القتيل ليقتلوه على ما جرت به عادة الناس يوم ذاك؛ لأن هذا أمر مفوض للسلطان.

فأخذه أولياء الدم فلما خرجوا به إلى ساحة القصاص جاءت زوجة القاتل المحكوم عليه بالقتل تودعه وودعته أنها لن تتزوج بعده، وكان فيها لمحة من جمال، فقال: والله ما هذا وجه من تريد أن تحرم من الرجال بعدي، فالمسكينة علبت على أمرها آمنت بقوله فذهبت وجدعت أنفها، فلما رآها قال: نعم، الآن اطمأنت نفسي؛ لأن مثلها لا ينظر إليها، وحضر أمير المدينة آنذاك القصاص، فجيء بالسياف الذي هو من الورثة، وجاء الأمير، فرفع القاتل بصره إلى السماء وقال:

أذا العرش إني عائذ بك مؤمن مقر بزلاتي إليك فقير

وإني وإن قالوا أمير مسلط وحجاب أبواب لهن صرير

لأعلم أن الأمر أمرك أن تدن فرب وإن ترحم فأنت غفور

ثم نادى صاحبه وقال: كيف تضربني؟ فأخبره قال: ليس هكذا، فإنني ضربت أباك ضربة لم يتحرك منها، وعلمه كيف يقتله يعني: أين يكون حد السيف، فقال من شهدوه: فضرب وهو ثابت لم يتحرك منه عضو ومات، وهذه يذكرها المؤرخون إما في العقد أو في الكامل أو في غيرهما، هذا من المحفوظ القديم والشاهد منها الثبات عند الموت.

وقدم رجل للموت وكان فصيحاً بليغاً فإذا به بين كفن وجلاد وسيف وقبور محفورة فارتج عليه، فقال له الناس: أين فصاحتك؟ قال: من أين الفصاحة؟ قبر محفور، وكفن منشور، وسيف مشهور، من أين تأتي الفصاحة؟! وهو معذور.

وقد مر معنا في دروس عدة أن أحد وجهاء العرب وفصحائها كان من الخارجين على المعتصم ، فقدمه المعتصم للموت، فأراد المعتصم أن يعلم أين جنانه من لسانه، وإذا بالنطع والجلاد فقال: يا أمير المؤمنين! قبح الذنب، وكبرت الجريرة، والظن بك أن تعفو ثم قال:

أرى الموت بين السيف والنطع كامن يلاحظني من حيث ما أتلفت

وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي وأي امرئ مما قضى الله يفلت

يعز على الأوس بن تغلب موقف يسل علي السيف فيه وأسكت

وما جزعي من أن أموت وإنني لأعلم أن الموت شيء مؤقت

ولكن خلفي صبية قد تركتهم وأكبادهم من حسرة تتفتت

كأني أراهم حين أنعى إليهم وقد خمشوا تلك الوجوه وصوتوا

فإن عشت عاشوا سالمين بغبطة أذود الردى عنهم وإن مت موتوا

فقال المعتصم : تركتك لله ثم للصبية وعفا عنه.

أقول: التاريخ العربي والمعاصر مليء بأحداث مثل هذه تبين أن الرجال يتفاوتون في هذه المواقف، موقف أن يرى الموت عياناً، وقتل الميت عياناً يسمى في اللغة: قتل الصبر، والنبي صلى الله عليه وسلم قتل أحد خصومه صبراً في وادي الصفراء وهو عائد من غزوة بدر، كان يغلظ عليه ويسبه أيام دعوته الأولى فقتله، وينسبون أشعاراً إلى أخته تعتذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن في نسبة تلك الأشعار إليها شيء من الضعف في السند.

وجريمة القتل يتعلق بها ثلاثة حقوق: حق لله، وحق للورثة، وحق للميت، وحق الله يسقط بالتوبة أو بمغفرة من الله بمشيئته؛ لأنه مندرج في قول الله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وحق الورثة يخيرون بين القصاص أو الدية أو العفو، وحق الميت لا سبيل لنا إلى معرفته، وهو يكون يوم القيامة، حتى لو قتل القاتل عمداً واقتص منه لا يسقط حق الميت؛ لأن الميت في قبره لم يستفد شيئاً من القصاص، وإنما استفاد الورثة، وكذلك إن أخذوا الدية، فيبقى حق الميت قائماً فإذا كان يوم القيامة يسوقه إلى ربه ويقول: يا رب سل عبدك هذا فيم قتلني؟ فإن كان الله قد تاب على هذا القاتل سيوجد مخرج لهذا القاتل ويرضي الله المقتول، وهذا لا يمكن أن يقع إلا بين يدي الله وحده، وهو المتكفل أن يرضيك ويرضي خصمك، أما عند الناس لا يمكن أن يقع شيء من هذا أبداً. والقتل على وجه الإجمال له ثلاثة أحكام: قتل العمد، وقتل شبه عمد، وقتل خطأ، وقد نص الله في القرآن على اثنين: العمد، والخطأ، أما شبه العمد فلم يتعرض الله له في القرآن، فلذلك أنكره مالك ، ولكن جمهور العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة على أن القتل ثلاثة: عمد، وشبه عمد، وخطأ، وقالوا: العمد: قتله بآلة يغلب على الظن أنها تقتل، وشبه العمد: ضربه بآلة يغلب على الظن أنها لا تقتل فقتله، والخطأ: ألا يتعمد قتله أصلاً.

ومن شبه العمد الذي لم ينص الله عليه في القرآن لكن ألمح الله إليه قتل موسى للغلام القبطي، قال الله: فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ [القصص:15]، فإن موسى تعمد ضرب القبطي ولم يتعمد قتله، فهذا يسمى قتل شبه عمد، ولا يسمى قتل خطأ.

وينجم عن جريمة القتل ثلاثة أمور بالنسبة للقاتل:

أولاً: الإثم، وهذا أعظم الأشياء، وقتل النفس المحرمة من أعظم الذنوب.

ثانياً: أنه يحرم من الميراث إن كان ممن يرث من مقتوله.

ثالثاً: أنه ينفذ فيه القصاص إن طالب به ورثة القتيل أو الدية أو العفو عنه، فهذه الثلاثة تتعلق بالقاتل عمداً، أما قتل شبه العمد فيسقط القصاص لكن يبقى الإثم وتكون الدية مغلظة.

أما قتل الخطأ فلا يوجد إثم، لكن توجد دية مخففة يتحملها عصبة القاتل، ولا يوجد إثم لكن على القاتل الكفارة إما عتق رقبة أو صيام شهرين.

وبعض العلماء في المدينة جاءه رجل لم يكن مشهوراً بالصلاح وذكر أنه قتل أحداً خطأ بسيارة فقال: ما علي؟ والشيخ تفرس في هذا، وعتق رقبة غير موجود، فقال: صم شهرين متتابعين، قال: فقط؟ فاستغلها الشيخ وقال: لا، بزيادة، قال: ما الزيادة؟ قال: أن تفطر في الحرم، فذهب الحرم وكان يسمع فيه قرآن، ودروس؛ فتغير حاله بالكلية، وهذا جواب يقبل إذا كان الشيخ على يقين أنه ممكن أن يبين بطريقته للرجل تعديل الحال لو تبين له أنه عاجز أو تسبب في أنه أفطر، وهذه أمور تربوية يلجأ إليها أحياناً.

والمقصود من هذا أن الله جل وعلا حرم الدماء، وقول الله جل وعلا: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ [البقرة:178]، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة:179]، كل ذلك حتى يسود في المجتمع الأمن، وتعم فيه الحياة، وأن يأنف الناس من أن يقتل بعضهم بعضاً؛ لأن في إبقاء حياتهم نفع لأنفسهم وطاعة لربهم.

هذا ما تيسر إعداده، وأعان الله على قوله.

نسأل الله لنا ولكم التوفيق، ونعتذر إليكم عن التقصير، وصل اللهم على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

طلق المحيا 02-01-17 05:54 AM

الوصية مشروعة للأقربين من غير الورثة، فلا وصية لوارث، وللوصية أحكام بينها العلماء، وهذه وصية مخلوق لمخلوق، ثم أعقبها الله بوصية لعباده. وقد فرض الله الصوم عليهم؛ لتحقيق التقوى، وهو من أركان الإسلام، فيجب عل كل مسلم بالغ عاقل أن يصوم شهر رمضان، وإن عجز عن صيامه لكبر أو مرض مزمن فعليه كفارة طعام مسكين عن كل يوم، والمسافر والمريض يفطران ويقضيان.

طلق المحيا 02-01-17 06:20 AM

تفسير قوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم ...)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. وبعد.

فهذا لقاء متجدد ضمن تأملاتنا في كلام ربنا جل وعلا، وكنا قد انتهينا في اللقاء السابق إلى قول الله جل وعلا: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179].

واليوم نزدلف إلى قول الرب جل شأنه: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:180-182].

هذه الآيات الثلاث تلوناها جميعاً لارتباط أحكامها ببعضها، وهذه الآية صدرها مما أشكل على كثير من المفسرين، واختلفت فيه كلمة الفقهاء، وربما وصل إليك بعض علم عن هذا كله، وسنشرع في بيان الآية فقهياً ولغوياً، واسترشادياً من حيث الجملة.

أوجب الله جل وعلا الوصية هنا بقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [البقرة:180]، والوصية: هي القول المبين لما يراد العمل به، وهي هنا مخصوصة بما بعد الموت؛ فمعنى قولنا: أوصى فلان، أي: ذكر قولاً يبين ما يطلب من غيره أن يفعله بعد موته، هذا معنى الوصية.

والتعبير القرآني باللفظ (كتب) يدل على الفرض، والذين طلب الله أن نوصي لهم بنص القرآن هنا هما الوالدان والأقربون.

والإشكال أن الله جل وعلا ذكر حق الوالدين وحق الأقربين في آيات المواريث، فمن هنا جاء الإشكال عند أهل العلم، وهل هذه الآية محكمة أم منسوخة؟

سلك الشافعي وكثير من العلماء المسلك التالي في فهم الآية: فقالوا: إن الله جل وعلا كتب وفرض الوصية هنا للوالدين والأقربين بآية الوصية، وفرض حقا للوالدين والأقربين في آية المواريث، قالوا: فنحن بين آيتين إما أن نجمع بينهما فنعطي الوالدين ما فرضه الله لهما في آية المواريث، ويحق لنا أن نوصي لهما، بل يجب علينا أن نوصي لهما، أو أن ننسخ المتقدم بالمتأخر، فلما احترنا بينهما عمدنا إلى مرجح خارج عن محل النزاع؛ فوجدنا في السنة حديثاً اتفق الناس على نقله نقلاً متواتراً وإن كان في أصله حديث آحاد، لكنه لا اختلاف حول متنه، فجعلناه هو المرجح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا وصية لوارث) فحكمنا به على آية الوصية أنها منسوخة، وهذا القول اختاره جمع من العلماء، ومن أشهرهم من المفسرين ابن كثير رحمه الله.

وسلك آخرون مسلكاً آخر فقالوا: لا نقول: إن آية الوصية منسوخة، ولكن نقول: إن آية الميراث مخصصة لآية الوصية، فنأتي لمن فرض الله لهم في آية المواريث فنخرجهم من الوصية، ونبقي الوصية للقرابة، ولمن لم تخرجهم الوصية، ولمن لم تخرجهم آية المواريث، وآية المواريث لا يمكن أن تخرج الوالدين إلا في حالة واحدة: إذا كان كلاهما أو أحدهما كافراً، فإذا كان أحدهما كافراً أو كلاهما استطعنا أن نجمع ما بين إعمال آية المواريث وإعمال آية الوصية؛ فجعلوها مخصصة لآية الوصية.

و القاسمي -رحمه الله- صاحب كتاب (محاسن التأويل)، نقل ما ذكره العلماء كما صنع غيره من المفسرين، ثم كتب في كتيب عنده خاص أسماه (الموارد والسوانح العلمية)، وهو ما يطرأ عليه بعد التأليف، فكتب رأياً آخر لم يدونه في محاسن التأويل، وقد اطلع عليه الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي رحمة الله تعالى عليه وأدخله في متن التفسير عندما أخرج تفسير القاسمي (محاسن التأويل) للناس، وهذا الرأي يقول فيه: إن الوصية هنا للشيء المعهود، ولا تنازع ما بين آية المواريث وآية الوصية، فليست الوصية هنا بمعنى أن الله يلزمنا أن نكتب لفلان كذا، وفلان كذا، وإنما معنى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:180] أي: فليتق الله وليعمل بما أوصى الله به في آية المواريث، فيعطي كل ذي حق حقه، ولا يأتي بطرائق أو سبل يحيد بها عن التقسيم الشرعي الذي نص الله عليه في آية المواريث.

وقال القاسمي رحمه الله -في معرض ما قال-: ولا أدري إن كان أحد قبلي ذكر هذا أم لم يذكره. وأنا على اطلاعي لم أقف على أحد قاله قبل القاسمي ، وقد يكون -كما قال القاسمي- قد قاله غيره، والذي يعنينا أن هذه تخريجات العلماء من حيث الجملة.

وقال آخرون -وهو في ظني رأي بعيد جداً-: يعمل بكلتا الآيتين، وأن كلتيهما محكمة، فجمعوا ما بين آية المواريث وآية الوصية، وهذا وإن اختاره قلة لكنه موجود، وإن كنت أراه بعيداً في الترجيح.



الساعة الآن 02:20 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. Designed & TranZ By Almuhajir

Ads Management Version 3.0.1 by Saeed Al-Atwi