ملتقى قبيلة حرب الرسمي

ملتقى قبيلة حرب الرسمي (http://www.m-harb.net/vb/index.php)
-   الـــمـــلـــتـــقـــى الــــــــــعــــــــام (http://www.m-harb.net/vb/forumdisplay.php?f=47)
-   -   إهداء لأعضاء وزوار الملتقى الإسلامي بملتقى حرب (http://www.m-harb.net/vb/showthread.php?t=154149)

طلق المحيا 23-12-16 02:52 AM

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله ...)
قال الله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ [البقرة:91] أي القرآن. قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا [البقرة:91] أي التوراة. وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ [البقرة:91] أي بما سواه. وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ [البقرة:91] الألف واللام في الحق للجنس، لكن ينبغي أن يفهم أنها تحمل هنا معنى الاشتهار، وأحياناً الألف واللام تتضمن معنى الاشتهار والعرف حتى يصبح كأنه معنى من معاني الحصر،

قال حسان يهجو رجلاً:

وإن سنام المجد من آل هاشم بنو بنت مخزوم ووالدك العبد

لم يقصد أن العبودية محصورة في والد المذموم، لكن قصده أن والدك اشتهر بالعبد فإذا أطلق لفظ العبد ينصرف إليه بصورة أولية، فالله يقول هنا: (وهو الحق) أي أن الحق إذا أطلق اشتهر به الدين والقرآن الذي جاء به محمد، لا حصر الحق فيه؛ لأن الله جل وعلا حق، فقال الله جل وعلا في هذه الآية: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ [البقرة:91] أي بما سواه. وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا [البقرة:91] حال. ويصح أن تقول في غير القرآن: مصدقٌ على أنها خبر، لكنها هنا حال مؤكدة على مذهب سيبويه ، والحال تقع مؤكدة وتقع مؤسسة.

أراد الله أن يجيب عليهم فقال: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:91] معنى الآية من حيث الإجمال أنهم قالوا: قالوا أليس محمد يقول: إن التوراة حق؟ قلنا: بلى. قالوا: إذاً بما أن التوراة حق فيكفينا أن نكون مؤمنين بالتوراة، ولا حاجة لنا بالقرآن، لأننا دخلنا في أصل الإيمان! هذا صنيعهم ودعواهم، قال الله جل وعلا لهم: إن التوراة لا يمكن أن تأمركم بقتل نبي، فإن كنتم تعتقدون أنه يكفيكم الإيمان بالتوراة: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:91] أي أن إيمانكم بالتوراة ليس إيماناً حقيقياً.

طلق المحيا 23-12-16 02:53 AM

تفسير قوله تعالى: (ولقد جاءكم موسى بالبينات ...)
قال الله يذكر اليهود ببعض معايبهم: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ [البقرة:92] لاحظ ما قال: واتخذتم العجل، بل قال: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ [البقرة:92] أي: جاءتكم البينات فتدبرتموها زمناً، وبقيت في أذهانكم أزماناً، وفي قلوبكم شهوراً وأياماً وأعواماً، ثم بعد استقرارها قلباً وعقلاً ويداً وقراءة وتأملاً اتخذتم العجل!

والعرب تقول مثلاً: اتخذ الرجل التدريس مهنة، فمهنة مفعول ثاني لاتخذ، لكن الله هنا لم يقل: ثم اتخذتم العجل إلهاً، بل حذف المفعول الثاني، وليس في القرآن كله ذكر أن اليهود اتخذوا العجل إلهاً، كلمة إله لا تأتي، والسبب في عدم ذكر المفعول هنا التشنيع على من اتخذوه، أي لا يتصور عقلاً ولا نقلاً أن أحداً يترك عبادة الله ويعبد عجلاً، فلما كان أمراً لا يتصور عقلاً ولا نقلاً أعرض القرآن عن ذكره إلا تلميحاً، فيذكر أوله ويترك آخره لشناعته. قال الله: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [البقرة:92].

طلق المحيا 23-12-16 02:54 AM

تفسير قوله تعالى: (وإذا أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور ..)
قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [البقرة:93].

هذه بعض الآيات والآلاء والمواثيق والعهود التي أخذها الله عليهم، وقد مرت معنا بالتفصيل.

وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا [البقرة:93] ماذا قالوا؟ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:93].

هذه استعارة، شبه الله جل وعلا تأصل حب العجل في قلوبهم وعبادتهم له كالمشروب الذي إذا استساغه العبد سرى في أعضائه، وقد قال العلماء: إن هذا لا يكون في الطعام كما يكون في المشروبات، ولهذا عبر الله عنه بقوله: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [البقرة:93].

طلق المحيا 23-12-16 02:55 AM

تفسير قوله تعالى: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس ...)
قال الله جل وعلا: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:94].

هذا رد على مزاعم اليهود، فهم يقولون: أن الجنة سيدخلها اليهود، وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة، فمن كان على ثقة وبرهان عندهم أنه سيدخل الجنة فبدهي أن يتمنى الموت؛ لأنه لا يحول بين من كتب الله له الجنة وبين دخولها إلا أن يموت، فالله يقول لهم: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:94].

وهذه من الآيات التي تضمها إلى أخرى، فقد مر معنا أن أبا لهب عجز أن يقول: آمنت بمحمد، وهذه الآية أختها، فاليهود العلماء وغير العلماء منهم يعلمون قطعاً أن الأجل لا يقدمه أمنية ولا يؤخره خوف منه، الأجل محدود محتوم مكتوب، فسواء تمنيت الموت أو لم تتمنه، فهو حاصل في وقته، هذا أمر متفق عليه بين العقلاء، فالله يقول لهم: تمنوا الموت إن كنتم صادقين. واليهود يعلمون أنهم لو تمنوه لن يقع إلا في وقته، ولو لم يتمنوه لن يقع إلا في وقته، فالتمني وعدم التمني بالنسبة لوقوع الموت واحد، ومع ذلك لم يستطيعوا أن يتمنونه، وإلا لردوا على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له: الله يقول: تمنوا الموت إن كنتم صادقين، وسنثبت لك أننا صادقون، اللهم ارزقنا الموت، لكنهم لم يتمنوه، فالله جل وعلا علم ما في قلوبهم، وقدر على ألسنتهم.

ومثل هذه الآيات تنبيك أن هذا القرآن من عند الله، وتقطع كل وسوسة أو شبهة تأتيك أن القرآن من عند غير الله، فهؤلاء أمة حسدوا النبي وبغضوه وحاربوه وقاتلوه، والله يقول لهم في آيات يسمعونها وهي تقرأ عليهم: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:94]، فعجزوا أن يقولوا: نتمنى الموت مع يقينهم أن تمنيهم للموت لن يعجل به، وعدم تمنيهم له لن يؤخره، هذا يعلمه كل أحد، ومع هذا عجزوا أن يقولوا ذلك حتى تكون رسالة واضحة لكل أحد أن القرآن من عند الله.

طلق المحيا 23-12-16 02:57 AM

تفسير قوله تعالى: (ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم ...)
قال الله: وَلَنْ [البقرة:95] هذه نفي. يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة:95]؛ لأنهم علموا أن مصيرهم الهلاك في الآخرة بسبب أعمالهم، فهم لن يتمنوه.

ويتبادر إلى الذهن أن معنى الآية: لن يتمنوا الموت بسبب خوفهم من الآخرة؛ لأن الباء هنا سببية، فلا يتمنون الموت لأنهم يعلمون أنهم كاذبون في دعواهم أنهم سيدخلون الجنة، وأن مصيرهم إلى النار، وهذا ظاهر جداً، لكنني أقول: ليس هذا هو المعنى، وإنما المعنى: لن يقع منهم التمني حبساً من الله لهم بسبب معاصيهم، يعني أن الله جل وعلا منعهم أن تنطق ألسنتهم بالتمني الذي يردون به على النبي؛ لأن لهم معاصي اجترءوا بها على الله، فخذلهم الله جل وعلا ونكس بهم حتى إنهم لا يقدرون أن يقاوموا نبيه صلى الله عليه وسلم ويجادلوه، وهذا ظاهر.

قال الله جل وعلا: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة:95]

هنا نقف وقفة مرت مع جار الله الزمخشري في (لن يتمنوه أبداً) وهي منصوبة، فهو يقول: إن رؤية الله جل وعلا مستحيلة شرعاً وقدراً في الآخرة، وهذه الآية تبين خطأ ما ذهب إليه الزمخشري ؛ لأن الله أثبت أن اليهود لا يتمنون الموت، قال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا [البقرة:95]، وذكر في آية أخرى أن أهل النار يتمنون الموت: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77]، ومعلوم قطعاً أن اليهود من جملة أهل النار، فكونهم يتمنون الموت واقع لا محالة في الآخرة، ومع ذلك نفاه الله هنا، فالنفي هنا نفي في الحياة الدنيا ولا يستمر في الآخرة؛ لأنه يقع منهم تمني الموت في النار، فعلى هذا تبطل حجة الزمخشري بقوله: إن لن للتأبيد تفيد النفي في الدنيا والآخرة، ولو لم يكن هذا قائماً للحجة اللغوية التي قررناها فإنه محجوج بالنصوص والآثار القاطعة برؤية أهل النعيم لربهم تبارك وتعالى والتمتع بالنظر إلى وجهه الكريم.

طلق المحيا 23-12-16 02:59 AM

تفسير قوله تعالى: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ...)
قال الله جل وعلا: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [البقرة:96] نسأل الله العافية.

اللام موطئة للقسم واقعة في جواب القسم، والمعنى: والله لتجدنهم، والنون نون التوكيد الثقيلة.

أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96] نكرت حياة لإرادة التنويع، والمعنى أي حياة.

وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [البقرة:96] أهل الإشراك يختلفون عن اليهود في شيء ظاهر، اليهود يؤمنون بوجود الآخرة وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:111]، وأهل الإشراك لا يؤمنون بوجود الآخرة بل قالوا: مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78]، فإذا كان اليهود يؤمنون بوجود آخرة وأهل الإشراك لا يؤمنون بوجود آخرة فأيهما ينبغي أن يكون أحرص على أن يعيش؟ أهل الإشراك؛ لأن المشرك يعتقد أنه إذا مات انتهى بالكلية، لا بعث ولا نشور، بخلاف من يؤمن بالآخرة فإنه يعلم أن هناك بعثاً ونشوراً سواء كان في الجنة أو كان في النار، لكن أهل الإشراك لا يؤمنون ببعث ولا نشور، فعلى هذا بالعقل والنقل ينبغي أن يكون أهل الإشراك أكثر أهل الأرض تمسكاً بالحياة؛ لأنهم يعتقدون في قلوبهم ضلالة أنه لا حياة بعد هذه الدنيا، مع ذلك يقول الله: هؤلاء اليهود أحرص أهل الأرض على الحياة، بل أحرص من الذين أشركوا الذين لو أنهم كانوا حريصين على الحياة لكان أمراً مستساغاً مع عقيدتهم؛ لأنهم لا يؤمنون بأن هناك بعثاً ولا نشوراً، ومع ذلك هؤلاء اليهود الذين يؤمنون بالبعث والنشور من جهة، ويقولون أنهم أهل جنة، أحرص من أهل الإشراك على الحياة، وهذا يدل على تشبث اليهود بالحياة.

لكن ينبغي أن يعلم أن الحرص على الحياة من حيث الأصل موجود في كل أحد، تقول عائشة : كلنا يكره الموت، لكن المقصود من هذا الحرص هنا الحرص الذي لا طمع فيه مع رحمة الله، ذلك التشبث المبالغ فيه في الحياة الدنيا، وإلا كل إنسان عند نزع الروح يحب أن يبقى، ولذلك لو قدر لكم أن تكشفوا أوراق تحقيق في مسائل الانتحارات لا سيما الذين ينتحرون شنقاً تجد آثاراً تدل على أنه حاول أن يثني نفسه عن الانتحار بعد أن شعر بمنازعة الروح، إذا كان معلقاً في وسط الغرفة لا يظهر هذا، لكن إذا كان بجنب جدار يظهر نوع من ضربات أقدامه أو ظهره في الجدار، مما يدل على أنه كان يحاول قدر الإمكان أن يترك ما عزم عليه، متى يصل إلى هذه المرحلة؟ إذا شعر بمفارقة الروح، فيتشبث بالدنيا أكثر، وهذا من حيث الفطرة عام جبل الناس عليه.

ولو كان لأحد أن يتشبث بالدنيا أكثر مما هو فطري لكان أهل الإشراك؛ لأنهم لا يؤمنون ببعث ولا نشور، لكن يقسم الرب أن اليهود أشد حرصاً، ونحن نؤمن بكلام الله ولو لم يكن مصحوباً بقسم، قال الله: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [البقرة:96].

وهنا نتوقف عند (لو) من حيث الصناعة النحوية: لأهل العلم في معنى (لو) هنا ثلاثة أقوال:

مذهب سيبويه ومن وافقه من نحاة البصرة أن معناها حرف امتناع لامتناع، فإذا قلنا أنها حرف امتناع لامتناع فلابد لها من جواب، والجواب غير مذكور هنا فلابد أن يقدر، ويصبح المعنى: لو أن أحدهم عمر ألف سنة لسر بذلك، فتقدير جواب: لسر بذلك، ومفعول يود محذوف، وجواب لو كذلك محذوف، وقالوا: إن سبب الحذف الدلالة عليه، هذا مذهب سيبويه رحمه الله، وأنا في غالب اختياراتي النحوية أختار قوله إلا هنا.

وقال نحاة الكوفة كـأبي علي الفارسي وأبي البقاء وغيرهم ممن تبعهم سواء كانوا كوفيين أو لا: إن (لو) هنا بمعنى أن المصدرية، فيصبح المعنى عندهم: يود أحدهم تعمير ألف سنة؛ لأن المصدر المؤول يعوض به عن المصدر الصريح، تقول: أحب أن أنجح أي أحب النجاح، فالنجاح مصدر عوضاً عن أن المصدرية وما بعدها، فهم يقولون: إن لو هنا قامت مقام أن المصدرية فيصبح المعنى: يود أحدهم أن يعمر أي: يود أحدهم تعمير ألف سنة، وهي بهذا المعنى لا تحتاج إلى جواب.

ومن قرائنهم أن يود جاءت مقرونة بأن، فجعلوا لو مقام أن؛ لأنه كثر في القرآن ارتباطها بالفعل يود، أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ [البقرة:266] هذا مذهب نحاة الكوفة.

ومال الزمخشري هنا إلى أنها بمعنى التمني، وهذا هو القول الثالث أنها هنا بمعنى التمني، وهذا -والعلم عند الله- من حيث الصناعة النحوية أقرب إلى الإجابة؛ لأن تقدير الجواب الذي قال به سيبويه رحمه الله يحدث زلزلة في المعنى.

قال الله: وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ [البقرة:96] فطول العمر أو نقصانه لا يغير من الأمر شيئاً، وإنما يغير من الأمر العمل الصالح، وهذه مسألة إيمانية طرقناها في وقتها.

وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [البقرة:96] الآية ظاهرة في المعنى، فإن الله جل وعلا يعلم الخفيات، ويدرك ما تحويه كل نفس، تبارك اسمه، وجل سلطانه، وعلا قدره، ولا رب غيره، ولا إله سواه.

هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده حول هذه الآيات المباركة، ويلاحظ من يسمعنا أو يشاهدنا أننا لم نقف كثيراً عند مسائل إيمانية، ونحن نجمع أحياناً بين الطرق الوعظي وبين الطرق العلمي بحسب ما يقتضيه الحال، وإنما يعرف الطرق جملة إذا ضمت الأشباه والنظائر بعضها إلى بعض، فأنا أتكلم في طريقة جزئية منفكة عن غيرها، ونؤسس لدرس منفرد، وهذه الدروس المباركة ينبغي أن يجمع أولها مع آخرها ووسطها، فيتحرر من ذلك معان جليلة أفاء الله جل وعلا بقولها.

هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

طلق المحيا 25-12-16 05:44 PM

اليهود لعنهم الله يعادون جبريل وهو الروح الأمين، وجعلوا من إنزاله الوحي على رسول رب العالمين حجة لهم في الكفر بالإسلام، وتكذيب القرآن، فلما تركوا الحق اتبعوا الباطل، وتعلموا السحر، واشتروا الضلالة بالهدى، فحق عليهم غضب الجبار سبحانه وتعالى.

طلق المحيا 25-12-16 05:45 PM

تفسير قوله تعالى: (من كان عدواً لله وملائكته ورسله ..)
قال الله تعالى: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:98] هذا تحرير وزيادة تفصيل، وهذا قول الملائكة عام ثم أتى بذكر الخاص فقال: وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة:98] ما دل به على شرف جبريل وميكال عليهما السلام.

فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98] السياق اللغوي يستوجب أن يكون هناك إضمار لكن الله أظهر مبالغة في الشناعة على أولئك القوم، قال الله: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98] ولم يقل: فإن الله عدو لهم.

طلق المحيا 26-12-16 05:43 AM

تفسير قوله تعالى: (ولقد أنزلنا إليك آيات بينات ..)
قال الله جل وعلا: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ [البقرة:99] ما جئت به أيها النبي الخاتم من آيات واضح جداً، فبينات صفة لآيات.

وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [البقرة:99] يعرف علماء اليهود قبل عامتهم أنها حق من الرب تبارك وتعالى، فكفرهم بها ليس لنقص في تلك الآيات لكن لما يحملونه في طياتهم من الفسق والخروج على الطاعة.

طلق المحيا 27-12-16 12:13 AM

تفسير قوله تعالى: (أوكلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم ..)
قال الله تعالى: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:100] والتحرز في الخطاب القرآني وارد في أكثر الآيات، يقول الله: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ [آل عمران:113]، وهنا يقول الله: نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [البقرة:100]، فكلمة فريق لا تعني الكلية، فاليهود كانوا أربع طوائف أشهرهم من كان مؤمناً بالله واليوم الآخر قائماً بالكتاب على أكمل وجه، وهذا سيأتي في قول الله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة:121]، ومنهم علماء يعلمون أنه الحق لكنهم أبوا الإيمان حسداً، ومنهم جهلة يتبعون علماءهم، ورابعهم فسقة متمردون حتى على شريعة موسى.

قال الله: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا [البقرة:100] الهمزة هنا للاستفهام، والواو عاطفة، هذا مذهب سيبويه رحمة الله تعالى عليه، وقد تكرر نظير هذا في القرآن كثيراً.

أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [البقرة:100] النبذ في الأصل لا يكون إلا بعد استلام وقبول، وهم قبلوا التوراة ثم بعد ذلك نبذوها وتركوها، فيكون النبذ إلقاء لشيء تحمله، وقد ذكر الله عز وجل أنه نبذ فرعون في اليم.

نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:100] وكلمة (بل) هنا للإضراب أي: للإنتقال أي أن الحق في صنيعهم أنهم لا يؤمنون.

ثم قال الله تعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:101] كتاب الله المقصود به القرآن، تركوه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، مع أنهم أهل علم، وكأن تفيد التشبيه، فلما لم يعملوا بعلمهم شبههم الله بمن لا علم له أصلاً.

طلق المحيا 27-12-16 04:23 AM

تفسير قوله تعالى: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ...)
لما ذكر الله جل وعلا نبذهم للكتاب ذكر ما الذي تحلوا به، وبالعقل والنقل أن الإنسان حين يترك شيئاً لابد أن يملء يده بشيء آخر، فمن ترك السنة سيمتلئ بالبدعة، ومن ترك التوحيد سيمتلئ بالشرك، فلما ترك هؤلاء الهديين هدي التوراة من قبل وهدي القرآن في العصر الذي هم فيه ذكر الله جل وعلا عنهم أنهم اتبعوا الباطل على حال هم فيها تاركين الحق، تاركين التوراة، قال الله: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [البقرة:102] (تتلوا) هنا بمعنى تقرأ وتملي، لكنها تعدت بحرف الجر (على) والعرب إذا عدت القول بحرف الجر (على) يغلب على سنن كلامها أنها تقصد به التكذيب، تقول: تقول علي فلان ما لم أقله، تقصد التكذيب، فعديته بحرف الجر على.

قال الله: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا [البقرة:102] سليمان بن داود عليه الصلاة والسلام أحد أعظم أنبياء بني إسرائيل، وبنو إسرائيل بعث فيهم يوسف عليه السلام ثم بعث فيهم موسى عليه السلام، وهو الذي خرج بهم من أرض مصر، ثم مكثوا أربعين سنة في التيه، وخلال الأربعين سنة التي قضوها في التيه مات هارون ثم مات موسى، ثم دخل بهم يوشع بن نون عليه السلام الأرض المقدسة، ثم وجد فيهم أنبياء لم يصرح الله بأسمائهم، لكنه ذكر أحدهم دون اسمه رفيقاً لـطالوت ، قال الله جل وعلا: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ [البقرة:248] أي: ملك طالوت وهذا النبي في عهده، وعهد الملك طالوت ظهر داود عليه السلام، قال الله: وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ [البقرة:251] فآل الأمر إلى داود عليه الصلاة والسلام ثم آل الأمر بعد داود إلى سليمان.

والله جل وعلا يمايز بين عباده ويجعلهم مختلفين ولا نقول: متفاوتين؛ لأن الله يقول: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [الملك:3] لكن الله نسب الاختلاف لنفسه، فقال: وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [المؤمنون:80] فالاختلاف لا يعني بالضرورة الذم، ويعطي الله كل أحد بعضاً من المناقب والصفات والخصائص، فأعطى داود حظاً كبيراً من العبادة، أحب الصلاة إلى الله، وأحب الصوم إلى الله، وأعطى سليمان حظاً كبيراً من الملك، وفي كل خير، ولكل أحد منهما مصلحة في زمانه، فربما كان الناس في زمن داود أحوج لملك عابد ونبي عابد يتأسون به، وفي زمن سليمان فتحت الممالك فكانوا أحوج إلى نبي قوي مسخر له وملك حازم فكان سليمان عليه الصلاة والسلام.

ومما أعطيه سليمان أن الله سخر له الجن، يقول الله: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ [سبأ:13] وقطعاً حملت الجن وشياطينهم الكفرة في قلوبهم ما حملوا على سليمان، فلما مات سليمان قامت الشياطين وأخرجت طلاسم كانت قد أخفتها، وزعمت بعد موت سليمان أن سليمان كان يحكمهم بهذه الطلاسم، فأخذوا يقرءون على الناس تلك الطلاسم مؤملين لهم أن يسودوا كما ساد سليمان، والترغيب في أن يسود الناس كما ساد سليمان هو المعبر والممر الذي من أجله قال الشياطين على سليمان ما قالوه، فطمع الإنسان في السيادة ثغرة جعلوها معبراً للقدح في سليمان عليه الصلاة والسلام، والشياطين لم يصرحوا بأن سليمان كان كافراً، وإنما صرحوا بأن سليمان كان ساحراً، والسحر قرين الكفر، ولهذا قال الله: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا [البقرة:102]، فـ(ما) في قوله جل وعلا: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ [البقرة:102] نافية، يريد الله بها تنزيه نبيه سليمان أن يكون قد تلبس بحال أهل السحر أو حال أهل الكفر.

وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ [البقرة:102] كفروا باتباعهم السحر، يعلمون الناس السحر (وما أنزل) وهذه (ما) موصولة، ولا يصح أن يبدأ بها، وقد حررنا هذا من قبل في دروس قد خلت ومضت، وذكرنا أن ما الموصولة لا يبتدأ بها، إذا ابتدئ بها لا يفهم منها إلا النفي؛ لأن الرسم الإملائي واللفظي واحد، فنقول عندما نقرأ: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ [البقرة:102] يصبح المعنى: يعلمون الناس السحر والذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، والذي أنزل سحر لكنه سحر معني فقط على ظاهر القرآن، ولا أجزم به سحر تفريق، أما السحر الأول فهو سحر موروث من قديم؛ لأن السحر كان منذ زمن موسى، والسحر المذكور في زمن موسى لم يذكر الله أنه سحر تفريق وإنما سحر استرهاب وتخييل.

فهؤلاء الشياطين يعلمون الناس السحر الموروث القديم والسحر الذي جاء به هاروت وماروت، قال الله: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [البقرة:102] أي أن هذين الملكين لا يعلمان أحداً طرائق السحر حتى يبينا له جادة الصواب، وأنهما بعثا فتنة للناس، والله جل وعلا مليك مقتدر، والخلق خلقه، والأمر أمره، والعباد عبيده، ومن حقه جل وعلا -ولا ملزم له- أن يبتلي عباده، وهو أعلم بمنافعهم ومصالحهم.

وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [البقرة:102] وهذا دليل ظاهر على أن السحر كفر.

طلق المحيا 27-12-16 04:32 AM

معنى قوله تعالى (فيتعلمون منهما ما يفرقون بيه بين المرء وزوجه ...)
قوله: فَيَتَعَلَّمُونَ [البقرة:102] يعني من يرغب منهم.

مِنْهُمَا [البقرة:102] أي من الملكين. مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [البقرة:102] أي الذي يفرقون به بين المرء وزوجه، وهذا نص ظاهر بأن السحر الذي جاء به هاروت وماروت سحر التفريق.

وقول الله جل وعلا: مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ [البقرة:102] (ما) موصولة، وسمعت من بعض أهل التجربة القائمين على فك السحر من الناس من إخواننا القراء المتقنين، وهذا الباب قد فتح فتحاً واسعاً عياذاً بالله، أن (ما) تحتمل أربعة أشياء: تحتمل في سحر التفريق بغض الرجل لامرأته، وبغض المرأة لزوجها، والثالث عدم القدرة على الجماع، والرابع -وهذا الرابع في النفس من إثباته شيء- عجز المرأة عن الحمل، لكنني أقول إن ( ما ) في اللغة تحتمل هذا وأكثر، فلو ثبت شيء آخر غير الذي حررناه يدخل؛ لأن (ما) في اللغة تفيد العموم.

فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [البقرة:102] ولما كان الرب جل وعلا خالق الأسباب والمسببات فما كان لها أن تمضي إلا بإذنه.

قال الله: وَمَا هُمْ [البقرة:102] أي هؤلاء السحرة. بِضَارِّينَ بِهِ [البقرة:102] أي بالسحر. مِنْ أَحَدٍ [البقرة:102] أي من الناس، و(من) إذا جاءت بعدها نكرة والجملة مسبوقة فهذا من أعظم صيغ العموم.

وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ [البقرة:102] أي: أي أحد. إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102] ولا يمكن أن يقع شيء قدراً إلا بإذن الله.

وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ [البقرة:102] فهم منها أكثر العلماء على أن السحر ضرر محض لا نفع فيه، والقرينة ظاهرة، فإن الله قال: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ [البقرة:102] فلو سكت جل وعلا لفهم أنه قد يكون في السحر بعض المنفعة، لكن قول الله: وَلا يَنفَعُهُمْ [البقرة:102] هذا نفي للمنفعة، فدلت على أن السحر شر وضرر محض خالص، وممن صرح بهذا العلامة ابن سعدي رحمة الله تعالى عليه في تفسيره.

ثم قال الله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:102] أي: لا حظ له ولا نصيب، والاسم النكرة إذا جاء مسبوقاً بحرف الجر من والجملة منفية تعني النفي المطلق، وهذا من أعظم صيغ العموم في النفي، وهنا قال الله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا [البقرة:102] هذا نفي. مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ [البقرة:102] هذا حرف الجر، وخَلاقٍ [البقرة:102] اسم نكرة، فلما قال الله: مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:102] هذا نفي لأي حظ أو نصيب في الآخرة، ولا يقع النفي المطلق للحظ والنصيب في الآخرة إلا للكافر، وعلى هذا لا يتردد في كفر الساحر.

ثم قال الله: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة:102] هذا سياق ذم؛ لأن بئس من أفعال الذم، وهنا نفى الله العلم قال: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة:102]، وقبل قليل قال: وَيَتَعَلَّمُونَ [البقرة:102]، لكن لما كان هذا العلم لا ينفع جعله الله جل وعلا بمنزلة لا شيء من العلوم.

ثم قال الله: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ [البقرة:103] مثوبة هذه أو خير تحتمل معنيين إما مثوبة بمعنى الجزاء فيصبح المعنى: ولو أنهم آمنوا واتقوا كان جزاء الله لهم خير.

وتحتمل معنى العودة والأوبة والرجعة إلى الله، أي أنهم لو آمنوا واتقوا ورجعوا إلى ربهم لكان خيراً لهم. لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة:102].

طلق المحيا 27-12-16 04:33 AM

الكلام عن هاروت وماروت
قبل أن أطوي صفحة الحديث عن السحر يتكلم الناس كثيراً وبما هو موجود في بطون الكتب، ولولا أنه موجود في بطون الكتب لما عرجت عليه، وهو قضية أن هاروت وماروت عصيا الله جل وعلا، وبعض أهل الفضل على جلالة قدرهم يقبلون تلك المرويات فيشيعونها، وأنا في الدرس هنا بين أحد أمرين إن ضربت عنها الذكر صفحاً ولم أقلها لربما شاهدنا مشاهد كريم فقال لأخيه أو لجاره: إن الملكين هاروت وماروت عصيا الله، فإن قال له من بجواره: إن الشيخ لم يقلها ظن أن المسألة إما جهل أو إقرار، فكشف الأمر يكون أفضل في هذا السياق، فنقول: المرويات تنص على ما يأتي إن الناس في زمن إدريس قل عملهم فلم يرفع لهم كثير عمل صالح، ولهذا ورد أن إدريس كان يرفع له عمل صالح بمقدار عمل أهل زمانهم كلهم، فالملائكة في الملأ الأعلى عاتبت بني آدم على هذا، فذكر لهم الرب جل وعلا أن بني آدم طبعوا على الخير والشر، وليسوا مثلكم -أيها الملائكة- غير مطبوعين على الشر، وأنكم لو طبعتم على طبعهم لعصيتم، فاختارت الملائكة ملكين - وهذا حسب الرواية - هما هاروت وماروت، فركب فيهما التركيب البشري وأهبطا إلى الأرض، فلما أهبطا إلى الأرض تعلقا بامرأة يقال لها بالعربية: زهرة، وبالفارسية: مذخيت، فلما تعلقا بها بتركيبهما البشري طلبت منهما الزنا والشرب والقتل ففعل ذلك هاروت وماروت، ثم ندما، فلما ندما علماها كيف تصعد إلى السماء وكيف تنزل، فلما علماها -وفق الرواية- صعدت إلى السماء ثم نسيت، الذكر الذي علمها الملكان، فمسخت في السماء كوكب الزهرة المعروفة، ولهذا عند بعض الأمم كالإغريق يجعلون الزهرة إله الحب ورمز للحب!

أما الملكان فندما وتابا إلى الله وتشفعا بإدريس -وكان حياً- أن يدعو لهما، فقبل الله دعاء إدريس لهما على أنهما يعذبان في الدنيا ولا يعذبان في الآخرة، فوافقا وقبلا، فهما الآن -وفق الرواية- في بئر في بابل تشد شعورهما إلى يوم القيامة.

هذا مجمل الرواية الموجودة في بطون الكتب، وأنا أعرف بعض أهل الفضل من الأحياء -متع الله بهم- يقبل مثل هذه الروايات أو يقول: ليست ببعيد، ونقل عن بعض سلف الأمة ذكرها ولا نقول: قبولها، وأنا أحررها الآن مجملة من عشرات المصادر، فأقول التالي: القصة لم تثبت بسند صحيح أبداً، ومع ذلك نحن من منهجنا أنه لا يشترط السند الصحيح في غير الإخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن القصة كذلك يردها العقل، فإن الرب تبارك وتعالى نزه الملائكة عن مثل هذه الأعمال، والإشارة القرآنية في ذكرهما عليهما السلام يدل على أن شيئاً من ذلك لم يقع، ولو كان وقع منهما فلن وقع ما يعبر عنهما بأنهما ملكان فيقال: وما أنزل على هاروت وماروت، ثم يمكن للناس بعد ذلك أن يخوضوا فيقولوا: إن هاروت وماروت أصلهما ملكان، لكن لما قال الله: وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ [البقرة:102] فالمستقر في أذهاننا وفق القرآن أن الملائكة لا تعصي الله ما أمرها، وتفعل ما تؤمر به، والله وصفهما بأنهما ملكان، ومادام الله قد وصفهما بأنهما ملكان فنحن نجري عليهما أحكام الملائكة حتى يأتينا دليل نذهب به هذا اليقين، ولا خبر ولا دليل ولا حجة يدفع بها هذا اليقين.

طلق المحيا 27-12-16 04:35 AM

تفسير قوله تعالى: (ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير ..)
قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة:103].

هنا نقف على قضية الندامة، لأن الله ذكر أنهم لو فعلوا كذا لكان خيراً لهم، ومن الفوائد الاستطرادية أن الندامة تقع على أربعة أحوال: ندامة يوم، وندامة عمر، وندامة سنة، وندامة إلى الأبد.

أما ندامة يوم فيقولون: رجل خرج من بيته ولم يتغد فلا يدري هل يجد أحداً يغديه أو لا.

وندامة سنة رجل ترك الزرع في وقته، فليس له حل إلا العام القادم؛ لأن الزراعة موقوتة.

وندامة عمر شخص تزوج امرأة لا توافقه.

وندامة أبد من ترك أمر الله جل وعلا نسأل الله العافية.

ندامة يوم، ندامة عمر، ندامة سنة، ندامة إلى الأبد، وقاني الله وإياكم الأربعة كلها، وإن كانت الأولى أخفها.

طلق المحيا 27-12-16 04:35 AM

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ..)
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:104].

السحر تمويه وتلاعب يقصد به خداع الناس والضرر بهم، وله حقيقة كما عليه جمهور أهل السنة سلك الله بنا وبكم سبيلهم، وناسب أن يذكر الله بعد السحر المحرم سحراً آخر يشمل نوعاً من التمويه، ولا نقول: سحراً بمعناه الحقيقي، قال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا [البقرة:104].

العلماء رحمهم الله في هذه الآية على طريقين:

طريق تجنبوا مسألة سبب النزول، وإنما رأوا للفظة ونقشوها مع قرائنها من السنة، ففي السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسموا العنب كرماً) وقال: (لا يقل أحدكم: عبدي وليقل: فتاي) فقالوا: هذا النهي من جنسه، النهي عن كلمة راعنا من جنس النهي عن تسمية العنب كرماً، وعن قول السيد لعبده: يا عبدي، وجعلوا كلمة راعنا مجرد كلمة كان يقولها المؤمنون فكرهها الله وأبدلهم غيرها وهي انظرنا، وهذا المسلك اختاره إمام المفسرين ابن جرير الطبري رحمة الله تعالى عليه.

والآخرون من العلماء نظروا للآية مع سبب نزولها وفق ما ثبت عندهم فقالوا: إن كلمة راعنا بمعنى تأن بنا وأعطنا سمعك وأشفق علينا، وهي توافق بالعبرية في لفظها كلمة سيئة عند اليهود، فلما رأت اليهود أن الصحابة يخاطبون النبي بهذا اللفظ صاروا يخاطبونه بها وهم يقصدون معناها في العبرية، وقال بعضهم لبعض: كنا نسب محمداً سراً واليوم نقدر أن نسبه جهراً، فلما أراد الله أن يقطع دابرهم ويسد الذريعة عليهم قال جل وعلا للمؤمنين في مخاطبة نبيه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا [البقرة:104] دفعاً لتوهم يهود، وَقُولُوا انظُرْنَا [البقرة:104] والمعنى في إجماله واحد، نقول للقائم بمصالح الوقف ناظر، والناظر القائم بتدبير مصالح الناس، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم قائم بشئون أمته وشئون أصحابه في المقام الأول، فاللفظ قريب من معنى راعنا بل أفضل منه، فقطع الله جل وعلا بهذا الطريق على اليهود وما يريدونه من تلك اللفظة.

وهذا الذي يترجح عندي لسبب خارج عن النص، والمرجح إن كان من خارج النص يكون أقوى، فالآية التي قبلها والتي بعدها تتكلم عن اليهود كذلك تتكلم عن اليهود آية: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [البقرة:105]، ووضع هذه الآية بين هاتين الآيتين يرجح أن المسألة تتعلق باستعمال اليهود لهذه اللفظة.

لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا [البقرة:104] ولم يحدد الله المفعول، قال العلماء: حتى يعلم أن المؤمن مطالب بأن يسمع كلام الله جل وعلا ويمتثله أياً كان. وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:104].

طلق المحيا 27-12-16 04:37 AM

تفسير قوله تعالى: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين ..)
قال الله تعالى: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:105] يخبر الله عما في بطونهم وفي سرائرهم وما أخفوه من بغض وحقد للمؤمنين، وأن النبوة والرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم، والإتباع للمؤمنين، وهذا فضل عظيم من الله حسدتهم عليه يهود كما سيأتي تفصيله.

ثم قال الله: وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [البقرة:105] الله جل وعلا اختصك أيها النبي بالنبوة والرسالة وختم الأنبياء، واختص هؤلاء المؤمنين باتباعك، وذلك فضل الله جل وعلا يؤتيه من يشاء فكون اليهود أو كفرة أهل الكتاب جملة وكفرة أهل الشرك لا يبتغونه هذا لا يمنع فضل الله جل وعلا عليك.

وهنا مسألة مهمة جداً، وهي أنه من حق نفسك عليك أن ترقى إلى سلم المعالي، ولك في أن ترقى سلم المعالي طرائق من أعظمها ثقتك برحمة الله، وهذا ظاهر تكلمنا عنه كثيراً.

والجانب الآخر أن تكون رفيقاً بنفسك، لا تكن محبطاً لها، فإن وعدك لنفسك بتحقيق المأمول من أعظم ما يساعد على تحقيقه.

والحساد والشمات الذين يكونون حولك أخف عليهم سقطاتك وإخفاقاتك وفشلك؛ حتى لا يزيدوك غماً على غم، مصائب الدهر التي تسمع بها لا تجعلها بين عينيك بكثرة فإنها ستكون سبباً في سقوطك، يقول أبو القاسم الشابي :

ركبت المنى وتركت الحذر

لا تحاول أن تموت قبل أوانك، فالإكثار من الخوف من الموت هو موت قبل حلول الموت الحقيقي.

وإذا هممت فناج نفسك بالمنى وعداً فخيرات الجنان عداة

واجعل رجاءك دون يأسك جنة حتى تزول بهمك الأوقات

واستر عيوبك عن جلسائك فإنما جلساؤك الحساد والشمات

إلى آخر الأبيات، وهي تدعو إلى أن الإنسان يكون عاقلاً لبيباً في طريقه للحياة، وفي طريقه للوصول إلى مجده، ولا يكثر من ذكر طرق الحوادث والإخفاقات حتى لا يصيبه بالإحباط، فالجنة -وهي أعظم مقصود وأجل مطلوب- هي وعد من الله، ومع ذلك اجعل تلك الأمور التي تنشدها وعد في أن تتبوأ مكاناً مرموقاً في أمتك تريد به وجه الله والدار الآخرة وينفع الله جل وعلا بك أقواماً ويضر بك آخرين من أهل الشرك والعصيان، واعلم وأنت في طريقك هذا أن الله جل وعلا وحده يملك الرحمة، وأن كره الحساد والشمات لرحمة الله عليك لا يمنع من وصولها إليك، قال الله: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا [فاطر:2]، ولهذا قال الله في آخر هذه الآيات: وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [البقرة:105]، ولا ريب أن علمك بعظيم فضل الرب تبارك وتعالى يعينك على أن تمشي خطواتك إلى الأمام حتى تصل برحمة الله جل وعلا إلى مقصودك.

وهذه الصفة وهي عدم حب الخير للغير صفة مشتركة لكنها بنسب ما بين أهل الكفر وما بين أهل الفسق والبعض من المؤمنين، وإن كان لا يستوي مؤمن وكافر لكنها أصل متحتم عند اليهود وكفرة أهل الكتاب جملة وعند المشركين، وقد يتلبس بها بعض المؤمنين في حسدهم لإخوانهم إذا رأوا فضل الله جل وعلا عليهم، لكنك لست مطالباً بأن تدفع حسد الناس عنك، لكن لا تجعل من شماتة الأعداء وحسد الحساد ما يعيقك عن طريق المجد الذي ترومه، ولكل هدف آلة، فخذ بالآلة وتوكل على الرب تبارك وتعالى وسر ولن يخلو ذو نعمة من حسد، وما أضر بالناس إلا حسد الحاسدين، فقد يقع شنئان حاسدك عليك من مكره بقدر الله لكن ادفعه بقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.

وكانوا يقولون: إن ملكاً كان عنده وزير مقرب يصغي إليه، وكان الوزير من أدبه إذا اقترب من الملك يدنو قليلاً ويخاطبه، فحسده بعض الوزراء، فقدم أحد هؤلاء الوزراء إلى الملك وقال له: إن الوزير أبا فلان يقول عنك إنك أبخر. أي ذو رائحة كريهة في الفم، قال: وما دليل ذلك؟ قال: اطلب منه أن يدنو منك فإنك إن طلبت منه أن يدنو منك -أيها الملك- سيضع يده على فيه وأنفه تقززاً منك، فأضمرها الملك في نفسه، فلما كان من الغد وقبل أن يشرع الوزير في الدخول على الملك استدعاه الوزير الأول صاحب الوشاية، فأطعمه طعاماً كله ثوم، فلما دخل الوزير على الملك أراد الملك أن يختبره فأدناه منه وهو يقول له: اقرب .. اقترب .. ادن مني، فلما شعر أنه لا محالة من الدنو من الملك وضع يده على فيه حتى لا تخرج منه رائحة الثوم، فتحقق الملك من قول الواشي فغضب، وجرت سنة الملك آنذاك أنه إذا أراد أن يعطي عطية يكتبها في قرطاس، وإن كان يريد أن يعاقب يتلفظ به، لكنه في تلك المرة أخطأ فطلب قرطاساً وكتب فيه لأحد ولاته: إذا أتاك فلان فاقتله وابعث لي بجسده، فأعطاه الخطاب وخرج به، ولما خرج به قابله الوزير الواشي وهو يتلهف: ما الذي حصل؟ فلما رأى الخطاب في يده مختوماً قال: ما هذا؟ قال: هذا كتاب أعطاني إياه الملك إلى عامله فلان، فظن أنه عطية، فأخذ يتوسل إليه أن يهبها له، فوافق فأعطاه إياها، فمضى بها إلى العامل الوالي، فلما مضى بها إلى العامل وفك ختمه وقرأه قال: إن الملك يأمرني أن أقتلك، ولابد من فعل أمر الملك، فأخذ يتوسل إلى الوالي أن الخطاب ليس لي لكن الوالي نفذ رأيه وقطع رأسه.

وفي اليوم التالي دخل الوزير كعادته إلى الملك فلما رآه تعجب الملك لأنه ظن أنه قد قتل، قال: ما الذي عاد بك؟! قال: لم أذهب أصلاً، وأخبره القصة وكيف أن الخطاب أخذه فلان، قال: غريب أن تؤتيه إياه وقد قال عنك ما قال! قال: قد كذب، قال: فلم فعلت ذاك؟ قال: أيها الملك! كنت قد أكلت ثوماً عنده.

هذا مجمل القصة، فنجى الله هذا الوزير المقرب من حسد أقرانه بما انطوت عليه سريرته من حب الخير للغير، ومع ذلك نقول: حتى لو كنت حسناً باراً تقياً قد لا تسلم كما لم يسلم يوسف من حسد إخوته لكن العبرة بكمال النهايات، والله يقول وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]

جعلني الله وإياكم من أهل التقوى، ونسأل الله التوفيق لنا ولكم.

سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، والحمد لله رب العالمين.

طلق المحيا 28-12-16 02:49 AM

الله عز وجل ينسخ الشرائع السابقة بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ونسخ كثيراً من أحكام القرآن بحكم كثيرة بينها العلماء. إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو أفضل الأنبياء بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أثنى الله عليه في سورة البقرة، وذكر إمامته ومسارعته في طاعة ربه، وذم من يرغب عند اتباع ملته، وهي الإسلام.

طلق المحيا 28-12-16 02:52 AM

تفسير قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها...)
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

قال الله جل وعلا وهو أصدق القائلين: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة:106-107].

هذه الآية تتكلم عن النسخ، ومناسبتها لما قبلها أن الآيات قبلها كانت تتكلم عن اليهود واعتراضهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما كانت اليهود لا تجيز النسخ أصلاً وتمنعه في الشرع بالكلية ذكره الله جل وعلا هاهنا رداً على مزاعم اليهود وبياناً للأمة، قال الله: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ [البقرة:106] الجملة شرطية، والنسخ في اللغة: النقل، قال الله تعالى في سورة الجاثية: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29] أي: نكتب وننقل، ويأتي بمعنى الإزالة، والمقصود أن الرب تبارك وتعالى: الأمر أمره، والشرع شرعه، وهو جل وعلا وحده دون سواه أعلم بمصالح عباده، فلما كان تبارك وتعالى أعلم بمصالح عباده، وهو المالك أصلاً حق له جل وعلا: أن ينسخ ما يشاء، وهذا من تسليمنا بكمال ربوبيته وألوهيته، وكمال أسمائه وصفاته، ولابد أن يقر به العبد؛ ولهذا النسخ لم يخالف فيه أحد من أهل الإسلام؛ لأن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم ناسخة لما قبلها من الشرائع ومهيمنة عليها، لكن النسخ في القرآن جائز عقلاً وواقع سمعاً بهذه الآية وبقول الله جل وعلا: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ [النحل:101]، هذا كله من دلائل وقوعه مع ما جاء من الأحاديث، وليس هذا موضع سرد أدلة، ولم يخالف في مسألة النسخ في القرآن فيما يعلم من علماء المسلمين إلا عالم واحد هو أبو مسلم الأصفهاني رحمه الله، لكنا إذا استثنيناه فالإجماع منعقد على أن النسخ واقع في القرآن.

ويقسم أهل العلم رحمهم الله النسخ في القرآن على ثلاثة أقسام:

الأول: منسوخ التلاوة والحكم.

الثاني: منسوخ التلاوة دون الحكم.

الثالث: منسوخ الحكم دون التلاوة، وهذا أكثره.

منسوخ التلاوة والحكم، ومنسوخ التلاوة دون الحكم، وهذا يمثلون له بما ورد في البخاري عن عمر رضي الله عنه أنه قال: [كان فيما كان قد أنزل: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم) قال عمر : لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي]، فالرجم واقع بالاتفاق رغم أن الآية منسوخة تلاوة.

أما هو منسوخ الحكم مع بقاء التلاوة فهذا هو المقصود بالنسخ إذا أطلق، فإذا قيل: إن فلاناً يعرف ناسخ القرآن من منسوخه، فالمقصود هذا النوع الثالث.

وقد أجاب العلماء عن سؤال يقع: إذا نسخ الله الحكم كما في أكثر الآيات المنسوخة، لماذا أبقى الله جل وعلا التلاوة؟ وقد أجاب الزركشي رحمه الله في البرهان عن هذا التساؤل بإجابتين:

الإجابة الأولى قال فيها ما معناه: القرآن كما أنزل ليُعمل به أنزل ليتلى ويتقرب إلى الله جل وعلا بتلاوته؛ لأنه كلام الله، فحتى الآيات المنسوخة حكماً هي من كلام الله.

الإجابة الثانية قال: إن غالب النسخ يكون تخفيفاً، فإذا تلا الإنسان الآية المنسوخة التي فيها التثقيل يرى رحمة الله على هذه الأمة حيث رفع عنها المشقة، وقد يكون هناك أجوبة غير التي حررها (صاحب البرهان) رحمه الله، لكن المقصود أننا نتعبد الله جل وعلا بكل أمر أمرنا به تبارك وتعالى.

قال الله: أَوْ نُنسِهَا [البقرة:106] قرئت بالهمز (ننسِئها) والمعنى: التأخير والتأجيل، وقرئت كما هو بين أيديكم: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا [البقرة:106] فالنسيان هنا: ضد الذكر، أي أن الله، ينسي المؤمنين إياها، وهذا يدل عليه قول الله جل وعلا: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [الأعلى:6-7].

ونحن -معشر المسلمين- متفقون على أن القرآن كله كلام الله، وبما أنه كله كلام الله فلا تفاوت فيه من حيث لفظه؛ لأنه جميعاً كلام الرب، فقول الله جل وعلا: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا [البقرة:106] ليس المقصود: أن آية أحكم من آية لفظاً ونظماً، لا، وإنما المقصود خيراً منها بالنسبة للعبد فيما ينفعه؛ لأن الله جل وعلا أعلم بمصالح عباده في العاجل والآجل، فإذا رأينا النسخ فيه نقل الأمة من الأمر الثقيل إلى الأمر الخفيف قلنا: هذا عاجل خير لهم ومنفعة في الدنيا، وإذا رأينا الآية نقلت من خفيف إلى أثقل مثل نقل الناس من صوم يوم عاشوراء إلى صيام رمضان، عرفنا أن فيه خيراً في الآجل، هذه النظرة العامة لقضايا النسخ.

بعد ذلك تتفرع أمور كثيرة ليس هذا مجال سردها؛ لأننا لا نريد أن يطغى فن على فن التفسير، وفن التفسير: هو أن يفهم القارئ مراد الرب تبارك وتعالى، هذه الغاية منه، وإذا تحقق للعالم أو للمتكلم أن يفهم الغير مراد الله تحقق المقصود من علم التفسير.

والعلماء جميعاً متفقون على أن القرآن ينسخ بالقرآن، لكن الخلاف هل تنسخ السنة القرآن، وهذا قال به الجمهور، ومنعه الشافعي رحمه الله تعالى.

والقائلون بأن السنة تنسخ القرآن اختلفوا في أمثلتها: فبعضهم يقول: لا يوجد مثال واضح صريح ظاهر، وبعضهم يمثل بقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:180]، وجاء في الحديث: (لا وصية لوارث)، فهل هذا نسخ للآية أو تخصيص لها؟

فمن رأى أنه تخصيص لم يرَ أن الحديث ناسخ للقرآن، ومن رأى أنه نسخ جعل هذا الحديث مثالاً لنسخ القرآن بالسنة، والعلم عند الله.

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:106] هذا خطاب للنبي، والمقصود به النسخ؛ ولهذا جاء بعدها: ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض، وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير، والولي والنصير بينهما خصوص وعموم، فالولي هو القريب، لكنه قد يكون عاجزاً عن أن ينصرك بمعنى: أنه يحب أن ينصرك لكنه عاجز، وأما النصير، فهو القادر على نصرتك، ولا يلزم أن يكون قريباً، قد يكون أجنبياً عنك.

طلق المحيا 28-12-16 02:53 AM

تفسير قوله تعالى: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى...)
قال الله تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [البقرة:108]، السؤال يقع على قسمين:

سؤال استرشاد وتعلم، وهذا نحن مأمورون به شرعاً، قال الله: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [النحل:43].

وسؤال المقصود به: الاعتراض والتعنت، فهذا نحن منهيون عنه شرعاً، قال الله جل وعلا: لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101]، وقال: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ [البقرة:108]. ومن الأسئلة التي طرحها بنو إسرائيل على موسى والتي أرادها الله هنا قولهم: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء:153].

وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [البقرة:108] هذه ظاهرة وقد مرت معنا.

طلق المحيا 28-12-16 02:55 AM

تفسير قوله تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً...)
قال الله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ [البقرة:109]، هذه الآية سبقت في اللقاء الماضي، في تفسير قول الله جل وعلا: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:105]، لكنه صرح هنا بالحسد، والحسد يقع محققاً ويقع مقدراً، فالحسد المقدر هو حسدك من لم تصبهم نعمة بعد، وهو أشنع، والحسد المحقق هو حسدك لمن أصابته النعمة فتحب أن تزول عنك.

ثم قال الله جل وعلا: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا [البقرة:109]، ما أقربها مما قبلها! هذه من الآيات المنسوخة، قوله: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا [البقرة:109] منسوخة بآية السيف في قول الله تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [البقرة:191]، وفي قوله تبارك وتعالى في حق أهل الكتاب: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [التوبة:29] إلى أن قال: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، وقوله: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة:109] يدل على أنها منسوخة، فقد أتى الله بأمره في سورة التوبة.

إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:109] وهذا من تربية القرآن للمسلمين، عندما يعطيهم الأحكام ينبهم أن لا ينشغلوا عن الأعمال الصالحة، فبعد أن بين لهم طرائق أهل الكتاب وبين أن القرآن من عند الله وأن الرب تبارك وتعالى ينسخ ما يشاء ويثبت ما يشاء، قال جل وعلا: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة:110] أي: أن معاقد الفلاح أيها العباد الصالحون محصورة في القيام بالأعمال الصالحة.

طلق المحيا 28-12-16 02:56 AM

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى..)
قال الله تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111]، كل صاحب دعوى يطالب بدليل وبرهان وإلا لا عبرة لدعواه، واليهود تزعم أن الجنة لا يدخلها إلا اليهود والنصارى تزعم أن الجنة لا يدخلها إلا النصارى، فرد الله قولهم، وطالبهم بالبرهان، ولا برهان فأضحوا كاذبين، والله إذا دفع باطلاً أقام الحق مقامه.

قال الله بعدها: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:112] فجمع الله في هذه الآية المباركة شرطي العبادة، أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [البقرة:112] المقصود به: الإخلاص وَهُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:112] أي: المتابعة بالشريعة، أي: عبد الله بما شرع: فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:112].

طلق المحيا 28-12-16 02:57 AM

تفسير قوله تعالى: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء...)
قال الله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة:113] لماذا قال الله: (وهم يتلون الكتاب)؟ لأن التوراة تخبر أن الإنجيل حق، والإنجيل يخبر أن التوراة حق، فكل منهم كاذب في دعواه، كل منهم لم يمتثل بالأمر الذي شرعه الله، قال الله: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ [البقرة:113] من المراد: بالذين لا يعلمون؟ اختلفت أقوال أهل العلم فيهم:

قال ابن جرير الطبراني رحمه الله: هي عامة في كل أحد، ممن قبل اليهود والنصارى، وممن بعدهم، وممن كان بينهم كمشركي العرب، وممن قال ذلك بعدهم من مشركي العرب، فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [البقرة:113].

طلق المحيا 28-12-16 02:58 AM

تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه...)
قال الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:114] معنى الآية: لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وهذا استفهام استنكاري، ومن المقصود به؟ الأولى جعله عاماً، والبعض قصره على بختنصر وما صنعه باليهود، وبعضهم يقولون: هو ما صنعته اليهود في النصارى أيام حكمهم في بيت المقدس، وبعضهم يقول: هو ما أراده أبرهة من هدم الكعبة، وبعضهم يقول: هو ما صنعته قريش يوم الحديبية من ردها للنبي صلى الله عليه وسلم.

والأضبط أن يقال هي في حق كل من سعى في خراب مساجد الله، قال ابن سعدي رحمه الله: الخراب في مساجد الله إما إفساد معنوي، وإما إفساد حسي.

فالإفساد الحسي: بهدمها ونسفها لا مكن الله أحداً من ذلك.

والإفساد المعنوي: بمنع عباد الله من إقامة الصلوات فيها، وهذا صرح الله به في قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ [البقرة:114] فجعل الله جزاءهم أنهم لا يدخلونها إلا خائفين، ولهذا لا يقبل دخول غير المسلم إلى المسجد إلا في حالة أسر أو إذا كان رسولاً من عند ملك، وعليه الذلة، ويعطى أمان مؤقت، قال الله: لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:114].

طلق المحيا 28-12-16 03:00 AM

تفسير قوله تعالى: (ولله المشرق والمغرب...)
قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة:115] خص الله جل وعلا هاتين الجهتين؛ لأنهما يتعلق بهما ما يصدع من أنوار، وهو إظهار لكمال قدرة الله جل وعلا وأنه رب الأشياء كلها.

فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]، هذه الآية: تثبت أن للرب تبارك وتعالى وجهاً على الصفة التي تليق بجلاله وعظمته، وصرح بهذا القرآن من غير نكير ببرهان واضح، قال الله: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]، وقال: وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، وهذا تأصيل لابد منه.

لكن: هل المقصود بقول الله جل وعلا: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115] صفة الوجه المتكلم عنه أو المقصود الجهة كما يقال: فلان بان من هذا الوجه يعني: هذه الجهة؟

بعض العلماء يقول: إن المقصود هنا: وجه الله، ونحن اتفقنا أن لله وجهاً يليق بجلاله وعظمته، لكن بعض العلماء يقول: إن القرائن في الآية لا تدل على أن المراد هنا وجه الله مع إثباتنا صفة الوجه للرب تبارك وتعالى، لكن نقول في هذا السياق: المقصود بلفظة: (وجه) هنا الجهة، ويحتجون بأن الله ذكر قبلها، قوله: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فذكر الجهات قبله، ومال إلى هذا أقوام، ومال إلى هذا أقوام، وكلا الفريقين من أهل السنة ممن قال بأحد هذين القولين متفقون على أن لله جل وعلا وجهاً هو أكرم الوجوه، ولله الاسم الأعظم، والوجه الأكرم، والصفات المثلى.

طلق المحيا 28-12-16 03:01 AM

تفسير قوله تعالى: (وقالوا اتخذ الله ولداً...)
ثم قال الله حكاية وتشنيعاً على بعض أهل الكفر: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا [البقرة:116]، وهذا حررناه من قبل: فاليهود قالت: عزير ابن الله، والنصارى قالت: المسيح ابن الله، ومشركو العرب قالوا: الملائكة بنات الله.

سُبْحَانَهُ [البقرة:116] هذا تنزيه مر معنا كثيراً.

بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:116] لام الملك المطلق.

كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [البقرة:116] القنوت يقع على ضربين:

الضرب الأول: قنوت خضوع وذلة، وهذا يشترك الخلق جميعاً فيه وهو المراد بالآية.

الضرب الثاني: قنوت عبادة وطاعة، وهذا من خصائص عباد الله الصالحين، قال الله: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238].

ثم قال الله بعدها: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:117] أي: خلقهما على غير مثال سبق، بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أي: منشؤهما وخالقهما على غير مثال سبق، وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [البقرة:117].

طلق المحيا 28-12-16 03:02 AM

تفسير قوله تعالى: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله...)
قال الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:118] أي: من جهلة أهل الكتاب، والمشركين، والمنافقين، ومن كان على دربهم، لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ [البقرة:118] هذا يدل على الكبر من جهتين:

أنهم يقولون: نحن لا حاجة إلى أن يبعث إلينا رسولاً يكلمنا أنك رسول، فلما عجزوا عن هذه لجئوا إلى الثانية، فقالوا: أقل القليل أن نكون نحن وأنت سواء، فكما تأتيك الآيات تأتينا نحن الآيات، فإن اعترفت أن الله يكلمنا فلا أقل من أن نكون نداً لك.

أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ [البقرة:118] من الأمم السابقة.

تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة:118]؛ لأن التشابه فيما يصدر من الإنسان يدل على التشابه فيما تكنه القلوب -عياذاً بالله- قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [البقرة:118].

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ [البقرة:119] هذه ظاهرة أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بالدين الحق، مبشراً بالجنان محذراً من النار، ولا يسأل عن أصحاب الجحيم أي: ليس عليك شيء لعدم إيمانهم، وإنما أنت مبلغ كما قال الله: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:22].

طلق المحيا 28-12-16 03:03 AM

تفسير قوله تعالى: (ولن ترض عنك اليهود ولا النصارى...)
قال الله تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] هذا قطع بكل علائق أحد أن ترضى عنه اليهود أو النصارى.

حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] حتى تكون يهودياً مع اليهود ونصرانياً مع النصارى، ومن صنع ذلك خرج من ربقة الإسلام.

قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة:120]، هذا ضرب مثال فقط، وإن الله جل وعلا يعلم أن نبيه لم يصنع هذا، فالله يقول: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124] لكن المقصود منها: بيان أنه لا علاقة بين الله وبين أحد من خلقه إلا بالإيمان والعمل الصالح.

طلق المحيا 28-12-16 03:05 AM

تفسير قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته...)
قال الله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ [البقرة:121] لما مررنا على قول الله جل وعلا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [البقرة:100] قسمنا أهل الكتاب إلى أربعة أقسام، وقلنا: منهم المؤمنون به وهم المقصودون هنا، الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة:121] أي: الذين يستحقون أن يطلق عليهم أصلاً أنهم مؤمنون بالكتاب هم العاملون به التالون له.

وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة:121] ثم ذكر الله آيتين هما مثل السابعة والأربعين والثامنة والأربعين اللتان مرتا من قبل، وقد تكلمنا عنها.

طلق المحيا 28-12-16 03:07 AM

تفسير قوله تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن...)
قال الله تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]، الآن نحاول أن نفقه شيئاً من تعامل هذا العبد الصالح مع ربه، ابتلاه الله بكلمات لم تحدد، لكنها بلا شك أعمال عظام، ومهام جسام، قام بها على الوجه الأكمل، وقدم هنا المفعول على الفاعل وإن كان حقه التأخير لأمور نحوية وأمور بلاغية، أمور نحوية لقضية الضمير وعودته، وأمور بلاغية للتشويق.

وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة:124] أي: قام بهن على الوجه الأكمل، فكافأه الله، قال: إني: الأمور بيدي، أنا خالق الخلق، أنا باسط الرزق، أنا الرب وأنتم العبيد، جَاعِلُكَ يعني: إبراهيم لِلنَّاسِ إِمَامًا ، قال أهل العلم: هذه أعلى المقامات وأجل العطاء، فمن سيأتي بعدك فأنت الإمام له في السير إلينا، حتى قال الله لنبيه عليه السلام: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [النحل:123].

إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124] فأدركته عاطفة الأبوة قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ما فيهم؟ أجابه الله: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124] لا تشمل هذه العطية من ظلم من ذريتك؛ لأن الإيمان لابد أن يكون متحلٍ بحلية الإمامة وهي الصبر واليقين، ومن كان ظالماً لم يكن صابراً ولا تقياً فلا يستحق أن يكون قدوة في الخير: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124].

لكن هذا الرد الرباني الآن سترى أثره بعد قليل، قال الله بعدها: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ [البقرة:125] أي: الكعبة مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125] (مثابة) يقضون منه وطراً، يحنون إليه، (وأمناً) شرعاً وقدراً، الوحوش، الجمادات، الشجر، كله آمن في مكة:

إني وإن نظر الأنام لمهجتي كظباء مكة صيدهن حرام

يحسبن من لين الكلام فواحش ويصدهن عن الخنا الإسلام

موضع الشاهد: كظباء مكة صيدهن حرام

المقصود: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125] حتى قريش على كفرها كان الموتور منهم يرى واتره في الحرم ولا يقربه!

وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] المقام هو الصخرة التي ارتقى عليها إبراهيم حتى يبني البيت لما علا الارتفاع وظهرت مواضع قدميه على الصخرة، فإبراهيم لما ألان لله قلبه ألان الله الصخرة تحت قدميه، وجعل الله هذا المقام آية عظيمة، وذكره في كتابه: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:97] أي: أولها مقام إبراهيم.

طلق المحيا 28-12-16 03:11 AM

.

معنى قوله تعالى (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)
قال الله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] في صحيح البخاري أن عمر أخبر أنه وافق ربه في أمور منها هذه الآية، وعند أبي نعيم في الحلية زيادة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أخذ بيده، وقال: يا عمر ! هذا مقام إبراهيم، فقال عمر : لو جعلته مصلى، فأنزل الله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125])، وهذا فيه تشريف عظيم لهذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه.

واختلف الناس في موضع المقام الآن على أقوال: قال أقوام: إن المقام موضعه الآن هو موضعه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما في إحدى السنين جاء السيل فحركه من مكانه بعيداً، ثم رد إلى موقعه.

وقال آخرون: إنه كان ملتصقاً بالكعبة وأخره عمر إلى موضعه الذي هو عليه الآن.

وقال آخرون: إنه أخر في بعض عهد السلاطين، وقالوا أشياء أخرى، لكن ما عليه عمل الناس اليوم أمر متفق عليه أنه مقام إبراهيم.

(واتخذوا) جعله الله جل وعلا مكاناً للصلاة حتى النبي عليه الصلاة والسلام لما طاف أتى عند المقام وصلى خلف المقام، وقرأ في الركعتين اللتين ركعهما بعد الطواف بـ قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد كما في حديث جابر في صحيح مسلم.

نريد أن نصل إلى قضية حساسة جداً، وهي أن العرب كانت تعظم الأصنام مثل هبل واللات والعزى ومناة وغيرهم ثلاثمائة وستين صنماً، فانظر كيف صرفهم الله فما عبدوا الصخرة التي عليها مقام إبراهيم ولا عبدوا الحجر! علم الله من الأزل: أن هذين سيعظمان في الإسلام، فلو عظمتهما قريش في الجاهلية وعبدتهما لقال الناس: أبقى محمد عليه الصلاة والسلام من الوثنية شيء، فسد الله هذا الطريق فصرف قريشاً مئات الأعوام مع ولائها وشغفها بالحجارة عن أن تعبد المقام وهو مشهور عندهم كما يقول أبو طالب في لاميته المشهورة: وموضع إبراهيم في صخرة رطبة، يعني: موضع قدميه.

فلم ينقل أبداً أن قريشاً عظمت الحجر تعظيم عبادة أو عبدت مقام إبراهيم، وهي التي أتت بهبل واللات ومناة وغيرها، حتى إذا جاء الإسلام -والله أعلم ما كان وما سيكون وما هو كائن- وأمر بتعظيمنا لهما تعظيماً شرعياً مقيداً بأن يصلى عند واحد ويقبل الآخر لم يستطع أحداً أن يقول: أن هذا من بقايا الجاهلية.

طلق المحيا 28-12-16 03:12 AM

.

معنى قوله تعالى (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي...)
قال الله تعالى: وَعَهِدْنَا هذا تشريف لهما إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا [البقرة:125] لم يقل: البيت، قال: بَيْتِيَ حتى تزيد الرغبة لدى إبراهيم وإسماعيل في السعي في كمال تطهير البيت؛ لأن الله أضافه لذاته العلية إضافة تشريف.

أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [البقرة:125] بدأ الله بالطائفين؛ لأنهم أولى الناس بالبيت، إذا لا مكان يطاف حوله إلا البيت الحرام، والركع السجود هم المصلون، والاعتكاف يقع في مساجد شتى كما يقع الركوع والسجود في كل مكان.

طلق المحيا 28-12-16 03:13 AM

.

معنى قوله تعالى (رب اجعل هذا بلداً آمناً...)
قال الله: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:126]، استفاد خليل الله من تعقيب الله الأول عليه، لما قال: ( ومن ذريتي) قال له ربه: ( لا ينال عهدي الظالمين)، فلما جاء يدعو بالرزق هو بنفسه قيد فقال: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:126]، أخذها من العتاب الأول، ولا أستطيع أن أجزم بهذا، فهو استنباط ولا يوجد فيه خبر، ولا يوجد فيه حجة، ولا يوجد فيه دليل، فلا نتقول على أنبياء الله ما لم يثبت أنهم قالوه، لكن نقول: ربما استفاد إبراهيم من العتاب الأول.

قال الله: وَمَنْ كَفَرَ [البقرة:126] فمن كان مؤمناً يتمتع ومصيره إلى جنات النعيم، ومن كان كافراً يتمتع إلى حين، قال الله: وَمَنْ كَفَرَ [البقرة:126] أي: سأرزقه! فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [البقرة:126].

فبين الله جل وعلا أن الرزق يدخل فيه المؤمن والكافر والبر والفاجر، من آمن بي ومن لم يؤمن بي، خلاف الأول الذي هو الإمامة والقدوة والاتباع في الدين، فإن العطايا الدينية يعطيها الله جل وعلا لمن يحب فقط، والعطايا الدنيوية يعطيها الله جل وعلا لمن يحب ومن لا يحب.

طلق المحيا 28-12-16 03:14 AM

تفسير قوله تعالى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت...)
قال الله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]، كلف الله الخليل أن يبني لله بيتاً، لكن الخلاف هل بناه أحد قبل إبراهيم أو لم يبن من قبل؟

وأنا أرجح -والعلم عند الله- أن البيت بنته الملائكة قبل نزول آدم تمهيداً لنزوله، ودفعنا إلى هذا أنه لو كان أحد من الخلق بنى البيت قبل إبراهيم من غير الملائكة آدم أو غيره من الأنبياء لأخبر الله جل وعلا به؛ لأن الله لا يظلم الناس مثقال ذرة، وبناء بيت لله تشريف، ويؤيده أن إبراهيم عليه السلام لقيه النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج وقد أسند ظهره إلى البيت المعمور، وهذا فهم منه العلماء أنه مكافئة له على أنه بنى لله الكعبة، فلو كان أحداً من الأنبياء غيره بنى البيت لكوفئ بها قبل إبراهيم؛ لأن الله حكم عدل، لكن لما بنته الملائكة، والملائكة أصلاً طاعتهم جبلة، وذلك لا يتعلق به لهم ثواب أو عقاب، فلم يذكر الله جل وعلا ذلك عنهم.

قد يقول قائل: لماذا لا تقول: إن إبراهيم هو أول من بنى البيت؟ فنقول: هذا يعني أن الناس لم يعرفوا الحج إلا بعد إبراهيم، ومعناه أن إدريس ونوحاً وصالحاً وغيرهم لم يحجوا! وهذا في ظننا بعيد، بل أظن أنه توجد نصوص تدل على حج أولئك الأخيار.

قال الله جل وعلا: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ [البقرة:127] قال العلماء فيما يروونه تاريخياً: جاءت سحابة أظلت مكان البيت فعرف إبراهيم القواعد.

وقال آخرون: جاءت ريح فكنست جزءاً من الأرض، والخبر الصحيح أن إبراهيم أشار إلى إسماعيل إلى ربوة، وقال: إن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً، قال: يا أبت أجب أمر ربك، قال: وتعينني؟ قال: نعم يا أبتاه، فبنيا البيت.

قال الله: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [البقرة:127-128] فحرصا أعظم ما حرصا عليه ألا تلجأ قلوبهما إلى أحد غير الله.

وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا [البقرة:128]، وهذا استجداء للرحمن الرحيم، فالإنسان لا يعلم إلا ما علمه الله.

وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:128]، وهذا اعتراف بالتقصير، فحاجتهما هي التوبة ومحو الذنوب وستر العيوب، فلجئا وتوسلا إلى الرب باسمين من أسمائه: إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:128].

طلق المحيا 28-12-16 03:15 AM

تفسير قوله تعالى: (ربنا وابعث فيهم رسولاً فيهم...)
قال الله تعالى: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ أي: أمة العرب، رَسُولًا مِنْهُمْ وقد وقع يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129]، ما الآيات والكتاب والحكمة؟ القرآن -كلام الله- منزه عن التكرار الذي لا معنى له، فما معنى هذه الآية: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]؟

(يتلو عليهم آياتك) تلاوة وحفظاً، وتشمل القرآن والسنة.

وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129] يعلمهم إياها معنى، فما تلاه عليهم يعلمهم معناه، مثلاً: (وأقيموا الصلاة) علمهم معناها بأن لها أوقات، وتركع هكذا وتسجد هكذا، (وآتوا الزكاة) علمهم معناها بأن ذكر الأنصبة، وهكذا في كل الآيات.

وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129] أي: يربيهم بالأعمال الصالحة، فاجتمعت الثلاث، فإذا وجد عبد منّ الله عليه بتلاوة القرآن وحفظه والتلفظ به، ثم علم معناه، وكذلك صنع بالسنة، ثم زكى نفسه بالأعمال الصالحة؛ فهذا الذي صار على هدي الأنبياء المقربين وسنن المرسلين.

قال الله: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129].

طلق المحيا 28-12-16 03:17 AM

تفسير قوله تعالى: (ربنا وابعث فيهم رسولاً فيهم...)
قال الله تعالى: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ أي: أمة العرب، رَسُولًا مِنْهُمْ وقد وقع يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129]، ما الآيات والكتاب والحكمة؟ القرآن -كلام الله- منزه عن التكرار الذي لا معنى له، فما معنى هذه الآية: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]؟

(يتلو عليهم آياتك) تلاوة وحفظاً، وتشمل القرآن والسنة.

وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129] يعلمهم إياها معنى، فما تلاه عليهم يعلمهم معناه، مثلاً: (وأقيموا الصلاة) علمهم معناها بأن لها أوقات، وتركع هكذا وتسجد هكذا، (وآتوا الزكاة) علمهم معناها بأن ذكر الأنصبة، وهكذا في كل الآيات.

وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129] أي: يربيهم بالأعمال الصالحة، فاجتمعت الثلاث، فإذا وجد عبد منّ الله عليه بتلاوة القرآن وحفظه والتلفظ به، ثم علم معناه، وكذلك صنع بالسنة، ثم زكى نفسه بالأعمال الصالحة؛ فهذا الذي صار على هدي الأنبياء المقربين وسنن المرسلين.

قال الله: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129].

طلق المحيا 28-12-16 03:19 AM

تفسير قوله تعالى: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم...)
قال الله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة:130].

الفعل: يرغب إذا قصد به الطمع في الشيء يتعدى بحرف الجر (في): يرغب في، وإذا قصد به الإعراض وعدم الرغبة في الشيء يتعدى بحرف الجر (عن): يرغب عن، وهنا تعدى بحرف الجر (عن).

قال الله: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة:130] السفه: نوع من السذاجة والتصرف غير المحمود، وينجم عن نقصان العقل، ولهذا سمى الله الصبية سفهاء.

وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة:130] نقول -والعلم عند الله-: إن قول الله: وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة:130] على أن تلك العطايا العظام التي أعطاها الله جل وعلا خليله إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه لم تنقص قدره في الآخرة، فإن العادة أن الإنسان إذا متع كثيراً في الدنيا يكون ذلك على حساب آخرته أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا [الأحقاف:20]، لكن الله أراد أن يبين: أن تلك العطايا العظام التي أعطاها إبراهيم حتى جعله للناس إماماً ليست منقصة له من أجر الآخرة شيئاً، بل إن النصوص أثبتت أنه أول من يكسى يوم القيامة عليه الصلاة والسلام، والله جل وعلا اصطفاه واجتباه على كثير من خلقه، وهو عند كثير من العلماء من أهل السنة أفضل الخلق بعد نبينا صلى الله عليه وسلم.

طلق المحيا 28-12-16 03:20 AM

تفسير قوله تعالى: (إذ قال له ربه أسلم...)
قال الله تعالى: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة:131].

قال كثير من أهل العلم: إن من أعظم خصال إبراهيم المسارعة في الخيرات، وعدم التردد في تنفيذ أمر الله جل وعلا، وهذا معلوم من هديه، قال الله جل وعلا عن كليمه موسى: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84].

نقف عند هذه الآية ونقول إجمالاً: إن الرب تبارك وتعالى ذو فضل واسع ورحمة جليلة يختص بها بعض عباده، وممن نال هذا الفضل الإلهي والعطايا الربانية خليل الله جل وعلا إبراهيم، وذكر القرآن إبراهيم في مواطن مدح كثيرة منها قوله: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود:75]، فجعل القلوب تهفو للتعلق بهذا النبي الكريم بأن تبعه كما قال الله: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [النحل:123] وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجله ويعظمه، ولما تكلم عن الأنبياء قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث يوم الفتح: (قاتلهم الله! مال شيخنا وللأزلام؟!) ولم يسمّ الله جل وعلا أحداً من الأنبياء أنه شيخه إلا إبراهيم.

ولما لقيه في رحلة المعراج قال إبراهيم لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم: (مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح)، ولم يقل له هذه العبارة إلا آدم وإبراهيم، أما غيرهما من الأنبياء والمرسلين فكانوا يقولون: (مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح)، فعلينا أن نفهم أن هذا خليل الله اجتباه الله جل وعلا، فننظر في هديه وفي سمته فيما أخبر الله عنه فنقتفي أثره؛ لأن الله جل وعلا أمرنا بهدي الأنبياء جملة، وبهدي إبراهيم على وجه الخصوص، وهذا الذي سنه نبينا صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم.

هذا ما تحرر وتهيأ إعداده، وأعاننا الله جل وعلا على قوله، والله المستعان، وعليه البلاغ.

وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين.

طلق المحيا 29-12-16 02:38 AM

بين الله تعظيم الكعبة وتعظيم بانيها وهو إبراهيم، وبين ضلال اليهود والنصارى والمشركين، وبين أن دين الأنبياء جميعاً هو الإسلام، وهو صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة؟!

طلق المحيا 29-12-16 02:40 AM

تفسير قوله تعالى: (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني..)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فما زلنا نتفيأ معكم ضلال كتاب ربنا جل وعلا، وقد انتهينا في اللقاء الذي سبق إلى قول الله جل وعلا عن خليله وصفيه وحبيبه إبراهيم عليه الصلاة والسلام: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة:130-131]، وبينا المقام العظيم الذي من الله به على هذا الخليل المبارك صلوات الله وسلامه عليه.

اليوم نفتتح اللقاء بقول الله جل وعلا: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] .

حصر الله النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام -كما يقول المؤرخون-: لم يرزق إناثاً وإنما رزق ذكراناً.

ومن أولاده الذكور الذين نص الله عليهم في كتابه إسماعيل وهو الأكبر، وإسحاق، ومن إسحاق جاء يعقوب عليه الصلاة والسلام، وله أبناء آخرون غير هذين، لكن هذين اللذين نبئا بنص القرآن، قال الله عن إسماعيل: إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:54]، وقال الله جل وعلا عن إسحاق: وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ [الصافات:113]، وقال: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا [الصافات:112]، فهذا دلالة قرآنية على أنهما كانا نبيين صلوات الله وسلامه عليهم.

والإنسان إذا حضرته الوفاة تحضر مقدماتها، أسبابها، دواعيها، أما الموت ذاته إذا حل لا يمكن لأحد أن يتكلم، فإذا ظهرت دلائل الموت وأسبابه ومقدماته، وشعر المرء أنه مفارق الحياة لا محالة يكون هناك فقه الأولويات في أوجه؛ لأن الإنسان في تلك اللحظات يصعب عليه أن يخادع نفسه، فيخرج ما في قلبه أكثر مما يخرج ما كان يردده بلسانه.

والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما حملوا طيلة أيام حياتهم شيئاً أعظم من الدعوة إلى توحيد الله جل وعلا، فلما كانت الدعوة إلى توحيد الله جل وعلا أعظم ما حملوه وهم أحياء كانت أعظم ما تركوه عند موتهم، قال الله عن خليله: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ [الزخرف:28] في عقبه أي: في ذريته.

فعندما حضرته الوفاة وصى إبراهيم عليه الصلاة والسلام بنيه إسماعيل وإسحاق وغيرهما كما دل عليه الجمع في قوله تبارك وتعالى: يَا بَنِيَّ [البقرة:132].

وهؤلاء الأخيار أولاد هذا النبي المبارك لما التفوا حوله وصاهم، قال الله: وَوَصَّى بِهَا [البقرة:132] والهاء إما أن تعود على الملة عموماً وهو الأظهر، أو تعود على الكلمة المسبوق الحديث عنها وهي قول الله جل وعلا عنه: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة:131] .

ولا ريب أن الإنسان يظهر كمال عقله عند موته، ويظهر ذلك الشيء الذي كان يحمله في سرائره على لسانه عندما يقرب من الآخرة.

أبو بكر رضي الله عنه لما وصى بالخلافة لـعمر قال: في ساعة يؤمن فيها الكافر ويتقي فيها الفاجر؛ لأن الإنسان لا يبلغ به الحال أن يخدع نفسه في تلك المرحلة وإنما يخرج معتقده.

وهناك وصية مالية ليس هذا الحديث عنها، وسيأتي الكلام عنها في آية الدين، لكن الوصية هنا قضية الثبات على المبدأ وعلى العقيدة، ولا عقيدة أعظم من توحيد الرب تعالى، ولعظم شأنها نص الله عليها: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [البقرة:132] والواو عاطفة، ويعقوب معطوف على بنيه أو على إبراهيم، وبكل قرئ، وفي المصحف الذي بين أيديكم أنها معطوفة على إبراهيم؛ لأنها جاءت مرفوعة، فيصبح المعنى: ووصى بها إبراهيم بنيه كما وصى بها يعقوب بنيه.

وإن قلنا: وصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب ونصبناها يصبح المعنى: وصى بها إبراهيم بنيه وحفيده الذي هو يعقوب.

وهذا ينجم عنه سؤال آخر: هل يعقوب أدرك إبراهيم أو لا؟ ظاهر القرآن أنه أدركه، لأن الإنسان لا يخلو من أحفاده، وقد قال الله جل وعلا: وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71]، فهذه دلالة على أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام سيدرك يعقوب وسيراه.

وعلى القراءة الأولى بالرفع يصبح ما صنعه إبراهيم مع بينه انتفع به يعقوب فصنعه مع بنيه.

وعلى قراءة النصب يصبح أن إبراهيم أوصى بنيه عليه الصلاة والسلام، ومن جملة من حضر حفيده يعقوب.

قال الله تعالى: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ [البقرة:132] اجتباكم واختاركم، ونعمة عظيمة أن يختاركم الله لهذا الدين.

ثم قال في كلمة ذات إيجاز: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] كل يدرك أنه لا يعلم متى تأتي ساعة موته، فحتى يتمسك بشيء وهو يجهل متى يموت عليه أن يلزم من الثبات والدوام على الدين.

نحرر المعنى: أراد خليل الله إبراهيم من قوله: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] الثبات والدوام والبقاء على الدين.

طلق المحيا 29-12-16 02:42 AM

تفسير قوله تعالى: (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت..)
قال الله جل وعلا يخاطب أهل الكتاب الذين زعموا أن أولئك الأخيار كانوا هوداً أو نصارى: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ [البقرة:133] أي: حضرت مقدماته وأسبابه.

إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ [البقرة:133] وهذا نص صريح على أن المتكلم يعقوب والمستمع أبناؤه.

مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133]، وهنا يوجد إشكال، وقلنا: أول خطوات العلم إيجاد إشكال، ثم حل ذلك الإشكال، قال الله جل وعلا: إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ [البقرة:133] من القائل؟ يعقوب، ويعقوب نبي مرسل معظم لله، وهذا أمر لا بد أن تستصحبه وأنت تقرأ سؤاله، فهو قال: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي [البقرة:133]، وما بالاتفاق لغير العاقل، فكيف يظن أن نبياً يسأل عن الله بأداة لغير العاقل؟!

أجاب العلماء عن هذا: بأن مصر عندما دخلها يعقوب كان يكثر فيها عبادة الأوثان، فذكر هذا السؤال من باب الاختبار لأبنائه: هل أنتم متعلقون بما ترونه من الأوثان والأصنام والأحجار وما يعبد من دون الله أم لا؟

وعندي أن هذا بعيد، وإنما السؤال ليس عن من تعبدون حتى يكون الجواب: نعبد الله، إنما السؤال: ما الطريقة؟ ما العبادة؟ ما المسلك؟ ما الملة التي ستختطونها وتسيرون عليها بعد موتي؟ فسأل عنها بأداة لغير العاقل.

مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي [البقرة:133] لكن أولئك الأبناء لعظيم صلاحهم أجابوا إجابة تطمئن والدهم أكثر مما يريده هو من الإجابة، فقالوا: نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133] .

هذه الآية فهم منها العلماء: أن الجد بمنزلة الأب؛ لأن الله قال: وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة:133]، وفيها دلالة على أن العم بمنزلة الأب، وبهذه الآية أخذ الصديق رضي الله عنه في المسألة الفرضية المشهورة وهي: هل يحجب الإخوة بالجد أو لا يحجبون؟ وليس هذا مقام تحرير النزاع، وستأتي آيات المواريث في سورة النساء، لكن هذه من أدلة الصديق رضي الله عنه، فهو كان يرى أن الإخوة يحجبون بالجد، فجعل الجد بمنزلة الأب، والآية صريحة: وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة:133] بدأ الله بإسماعيل لأنه أكبر وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133].



الساعة الآن 10:40 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. Designed & TranZ By Almuhajir

Ads Management Version 3.0.1 by Saeed Al-Atwi