![]() |
الملوك من الأنبياء
وممن ذكر الله جل وعلا هنا: داود وسليمان، وهذان نبيان صالحان من أنبياء بني إسرائيل، وسليمان ورث عن أبيه الملك والنبوة كما هو ظاهر. وذكر تعالى أيوب ويوسف وموسى وهارون، ويوسف عليه الصلاة والسلام وصل إلى مرتبة الوزارة، ولكنه وصل بخلاف وصول داود وسليمان، فقد وصل إليها بعد ابتلاء، وحلقات دامية من العناء، حتى أجلسه الله جل وعلا على الكرسي فاشتاق إلى ربه فقال: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ [يوسف:101]. وبقي أن نختم بفائدة، وهي أن إخوة يوسف صنعوا بيوسف ما صنعوا ثم استعطفوه فقالوا: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ [يوسف:91]، ومع ما صنعوه معه عفا عنهم، فإذا كانت هذه رحمة يوسف بمن صنع معه ذلك، فكيف برحمة من خلق يوسف؟! فالذل والانكسار والاعتراف لله بالتوحيد والإذعان لله جل وعلا مع الاستغفار باب عظيم لنيل رحمته تبارك وتعالى، قال الله جل وعلا عن نبيه الصالح: لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46]، فنستغفر الله ونتوب إليه. هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده وأعاننا الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين. |
من الأحكام التشريعية التي تضمنتها سورة الأنعام نهي الله تعالى عن الأكل مما لم يذكر اسم الله تعالى عليه، وللفقهاء مذاهب في اشتراط التسمية حال التذكية، كما تضمنت السورة بيان ما ألقاه كفرة الفرس على كفرة مكة حول تحريم أكل الميتة، وإذ إن ذلك إنما هو من صنيع الشياطين الذي توحي به إلى أوليائها.
|
تفسير قوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه...)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فما زلنا نتفيأ ظلال سورة الأنعام، وكنا قد بينا أن لنا سنناً جديداً في التأمل فيها، فسنتعرض للآيات فرادى أو مثنى، وندع التوخي الفردي للآيات المتتابعة محاولة للوصول إلى أكثر معاني هذه السورة المباركة. والآية التي نحن بصدد التأمل فيها في هذا الدرس المبارك هي قول الله تبارك وتعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121]، فنعوذ بالله من الشرك. ومن الآية يظهر أن هناك إطلالتين تفرضان نفسيهما علينا ونحن نتأمل: الإطلالة الفقهية والإطلالة التاريخية، أما الإطلالة الفقهية فهي ضرب لازم؛ لأننا نتحدث عن حلال وحرام؛ لأن الله قال: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام:121] و(لا) هنا ناهية بالاتفاق، و(تأكلوا) فعل مضارع مجزوم بحذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والأفعال الخمسة سميت بذلك؛ لأنها تأتي على خمس صيغ: ( تفعلان، ويفعلان، وتفعلون ويفعلون، وتفعلين)، وهذا كله استطراد. والآية صريحة في النهي عن أكل ما لم يسم الله جل وعلا عليه عند ذبحه وتذكيته، حيث يقول تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام:121]، وذيلت تذييلاً مبدئياً بقول الله جل وعلا: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام:121]. ذكر خلاف العلماء في حكم التسمية عند التذكية واختلف العلماء رحمة الله تعالى عليهم في اشتراط التسمية عند التذكية على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن التسمية شرط في التذكية؛ لأن الله جل وعلا قال: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام:118]، وقال هنا: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام:121]، وهذا القول ينسب إلى الجمهور، وهم يقولون: إن تارك التسمية -أي: الذابح التارك للتسمية- لا يجوز أكل ذبيحته، سواء أترك التسمية عمداً أم نسياناً، فالإنسان إذا لم يذكر اسم الله -سواء كان عامداً أم ناسياً- تدخل ذبيحته في قول الله جل وعلا: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام:121]، وهذا مروي عن أكابر السلف وكثير من الصحابة. والقول الثاني هو قول الشافعي رحمه الله، والشافعي أحد الأئمة الأربعة، وكان موصوفاً بالذكاء، وإليه ينسب تأسيس علم أصول الفقه، فـالشافعي رحمه الله تعالى حمل هذه الآية على ما ذبح وأهل به لغير الله، ورأى أن التسمية عند التذكية مستحبة وليست شرطاً، وما دام قد جعلها مستحبة فالتارك لها عمداً أو سهواً يجوز أكل ذبيحته، فمن تركها عند الشافعي عمداً أو سهواً جاز أكل ذبيحته؛ لأنه يرى -رحمه الله- ومن وافقه من أصحابه أن التسمية مستحبة وليست شرطاً كما فهمها الأولون. والأولون لهم أدلة، منها حديث عدي بن حاتم وغيره، وإذا كان القرآن قد نص على المسألة فلا حاجة إلى ذكر كثير من الأحاديث، ولكن الأحاديث الواردة تعضد القول الأول. وقول الإمام الشافعي هو بعده عن أحمد رحمه الله تعالى ذكرها عنه حنبل ، وأنت تعلم أن الإمام أحمد متأخر زمناً قليلاً عن الشافعي ، ولكن أحمد رحمه الله أدرك الشافعي ، كما أنه رواية عن مالك ، نص عليها أشهب بن عبد العزيز أحد أئمة المذهب المالكي. القول الثالث: هو قول أبي حنيفة رحمة الله تعالى عليه وأصحابه، وهذا القول كذلك مروي عن أكابر الصحابة، وهو أنه إن تركها عمداً فذبيحته لا تحل، وإن تركها نسياناً فنسيانه لا يضر. وقول أبي حنيفة هذا يميل إليه أكثر المتأخرين؛ لأنه يجمع بين الآيات وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، وعموم قوله تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، فيمكن الاستشهاد بالآية والحديث لقول أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وبعض الفقهاء له تفريق جيد، فيقول: ننظر في الذبيحة، فإن كانت الذبيحة ذبيحة صيد، فنسي أن يسمي، فإنه لا يؤكل منها، وإن نسي وهي ذبيحة غير صيد، فذكاها تذكية شرعية؛ فإنه يؤكل منها. ووجه التفريق عنده: أن الذبيحة من غير الصيد حصلت فيها الذكاة الشرعية من أولها. أما الصيد فلم يذك في أول الأمر ذكاة شرعية، فقد يكون صيد عن طريق جارحة، وقد يكون عن طريق رصاص كما في عصرنا الحاضر. والمقصود أنه يقول: إذا لم يسمّ اجتمع فيها أنه لم يكن أصلها ذكاة شرعية، وفي نفس الوقت تركت التسمية، فمن باب أولى أن يترك، وللنص الوارد في حديث عدي بن حاتم : (إذا أطلقت كلبك فصد وسم الله وكل)، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عدي وغيره التسمية. والذي ينبغي على طالب العلم أن يفهم أن النصوص في الغالب واحدة، ولكن طرائق فهمها والاستنباط منها تختلف، والله جل وعلا ما جعل العقول على سنن واحد، وما جمع الناس في عقولهم على شيء واحد، وهناك مثل عند العامة، حيث يقولون: (إن الناس في رزقهم كلهم معترضون)، فكل واحد يرى أنه فقير، فيريد زيادة، (وفي العقول أغلبهم راضون بعقولهم) والذي يعنينا هنا: أن العلماء رحمة الله تعالى عليهم أرادوا خيراً، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم في جملتها أمة خير، فكيف بعلمائها، ولكن لهم طرائق في الاستنباط، وقد يعطى إنسان حظاً من فهم في مسألة لا يعطاه آخرون، وقد قال الله جل وعلا في نبيين كريمين: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79]. فمثل هذه المسائل لا إنكار فيها باختلاف الأكابر من صالح الأسلاف فيها، فلا ينكر أحد على أحد، لكن الإنسان يحاول أن يستبصر أدلة كل فريق ويحاول أن يفقه النظرة التي يعتمدها الإمام زيد دون الإمام عمرو في الوصول إلى المسائل، وكيف يجمع بين هذا وهذا. قال الله جل وعلا: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام:121]، وبعض الفقهاء أراد أن يقول بصحة مذهب الشافعي ، فجعل الواو هنا واو حال، وقال: إنه لا يصح مطلقاً أن تكون الواو واو عطف، فقال هذا لأننا لو قلنا: إن الواو هنا حالية لأصبح المعنى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام:121] حال كونه فسقاً أهل لغير الله به، فيكون المقصود ما يذبح للأوثان، وما يذبح لغير الله، فهذا المحتج قال في قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام:121]: لا يصلح أن تكون الواو عاطفة قولاً واحداً، واحتج بأن الآية طلبية؛ لأن قول الله جل وعلا: وَلا تَأْكُلُوا [الأنعام:121] طلب، وقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام:121] ليس بطلب، بل هذه جملة خبرية، فقال: إن الجملة الخبرية لا تعطف أبداً على الجملة الطلبية. ويحتج عليه بالآية التي بعدها، فإن الله جل وعلا قال: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ [الأنعام:121]، وهو يقول عن هذه الجملة: إنها معطوفة، فوقع في نقيض قوله؛ لأنا متفقون على أن جملة: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ [الأنعام:121] خبرية، ومتفقون على أنها لا يمكن أن تكون حالاً، فالاستدلال هنا بالطريقة النحوية طريقة غير صحيحة. |
تفسير قوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه...)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فما زلنا نتفيأ ظلال سورة الأنعام، وكنا قد بينا أن لنا سنناً جديداً في التأمل فيها، فسنتعرض للآيات فرادى أو مثنى، وندع التوخي الفردي للآيات المتتابعة محاولة للوصول إلى أكثر معاني هذه السورة المباركة. والآية التي نحن بصدد التأمل فيها في هذا الدرس المبارك هي قول الله تبارك وتعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121]، فنعوذ بالله من الشرك. ومن الآية يظهر أن هناك إطلالتين تفرضان نفسيهما علينا ونحن نتأمل: الإطلالة الفقهية والإطلالة التاريخية، أما الإطلالة الفقهية فهي ضرب لازم؛ لأننا نتحدث عن حلال وحرام؛ لأن الله قال: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام:121] و(لا) هنا ناهية بالاتفاق، و(تأكلوا) فعل مضارع مجزوم بحذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والأفعال الخمسة سميت بذلك؛ لأنها تأتي على خمس صيغ: ( تفعلان، ويفعلان، وتفعلون ويفعلون، وتفعلين)، وهذا كله استطراد. والآية صريحة في النهي عن أكل ما لم يسم الله جل وعلا عليه عند ذبحه وتذكيته، حيث يقول تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام:121]، وذيلت تذييلاً مبدئياً بقول الله جل وعلا: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام:121]. |
ذكر خلاف العلماء في حكم التسمية عند التذكية
واختلف العلماء رحمة الله تعالى عليهم في اشتراط التسمية عند التذكية على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن التسمية شرط في التذكية؛ لأن الله جل وعلا قال: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام:118]، وقال هنا: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام:121]، وهذا القول ينسب إلى الجمهور، وهم يقولون: إن تارك التسمية -أي: الذابح التارك للتسمية- لا يجوز أكل ذبيحته، سواء أترك التسمية عمداً أم نسياناً، فالإنسان إذا لم يذكر اسم الله -سواء كان عامداً أم ناسياً- تدخل ذبيحته في قول الله جل وعلا: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام:121]، وهذا مروي عن أكابر السلف وكثير من الصحابة. والقول الثاني هو قول الشافعي رحمه الله، والشافعي أحد الأئمة الأربعة، وكان موصوفاً بالذكاء، وإليه ينسب تأسيس علم أصول الفقه، فـالشافعي رحمه الله تعالى حمل هذه الآية على ما ذبح وأهل به لغير الله، ورأى أن التسمية عند التذكية مستحبة وليست شرطاً، وما دام قد جعلها مستحبة فالتارك لها عمداً أو سهواً يجوز أكل ذبيحته، فمن تركها عند الشافعي عمداً أو سهواً جاز أكل ذبيحته؛ لأنه يرى -رحمه الله- ومن وافقه من أصحابه أن التسمية مستحبة وليست شرطاً كما فهمها الأولون. والأولون لهم أدلة، منها حديث عدي بن حاتم وغيره، وإذا كان القرآن قد نص على المسألة فلا حاجة إلى ذكر كثير من الأحاديث، ولكن الأحاديث الواردة تعضد القول الأول. وقول الإمام الشافعي هو بعده عن أحمد رحمه الله تعالى ذكرها عنه حنبل ، وأنت تعلم أن الإمام أحمد متأخر زمناً قليلاً عن الشافعي ، ولكن أحمد رحمه الله أدرك الشافعي ، كما أنه رواية عن مالك ، نص عليها أشهب بن عبد العزيز أحد أئمة المذهب المالكي. القول الثالث: هو قول أبي حنيفة رحمة الله تعالى عليه وأصحابه، وهذا القول كذلك مروي عن أكابر الصحابة، وهو أنه إن تركها عمداً فذبيحته لا تحل، وإن تركها نسياناً فنسيانه لا يضر. وقول أبي حنيفة هذا يميل إليه أكثر المتأخرين؛ لأنه يجمع بين الآيات وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، وعموم قوله تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، فيمكن الاستشهاد بالآية والحديث لقول أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وبعض الفقهاء له تفريق جيد، فيقول: ننظر في الذبيحة، فإن كانت الذبيحة ذبيحة صيد، فنسي أن يسمي، فإنه لا يؤكل منها، وإن نسي وهي ذبيحة غير صيد، فذكاها تذكية شرعية؛ فإنه يؤكل منها. ووجه التفريق عنده: أن الذبيحة من غير الصيد حصلت فيها الذكاة الشرعية من أولها. أما الصيد فلم يذك في أول الأمر ذكاة شرعية، فقد يكون صيد عن طريق جارحة، وقد يكون عن طريق رصاص كما في عصرنا الحاضر. والمقصود أنه يقول: إذا لم يسمّ اجتمع فيها أنه لم يكن أصلها ذكاة شرعية، وفي نفس الوقت تركت التسمية، فمن باب أولى أن يترك، وللنص الوارد في حديث عدي بن حاتم : (إذا أطلقت كلبك فصد وسم الله وكل)، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عدي وغيره التسمية. والذي ينبغي على طالب العلم أن يفهم أن النصوص في الغالب واحدة، ولكن طرائق فهمها والاستنباط منها تختلف، والله جل وعلا ما جعل العقول على سنن واحد، وما جمع الناس في عقولهم على شيء واحد، وهناك مثل عند العامة، حيث يقولون: (إن الناس في رزقهم كلهم معترضون)، فكل واحد يرى أنه فقير، فيريد زيادة، (وفي العقول أغلبهم راضون بعقولهم) والذي يعنينا هنا: أن العلماء رحمة الله تعالى عليهم أرادوا خيراً، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم في جملتها أمة خير، فكيف بعلمائها، ولكن لهم طرائق في الاستنباط، وقد يعطى إنسان حظاً من فهم في مسألة لا يعطاه آخرون، وقد قال الله جل وعلا في نبيين كريمين: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79]. فمثل هذه المسائل لا إنكار فيها باختلاف الأكابر من صالح الأسلاف فيها، فلا ينكر أحد على أحد، لكن الإنسان يحاول أن يستبصر أدلة كل فريق ويحاول أن يفقه النظرة التي يعتمدها الإمام زيد دون الإمام عمرو في الوصول إلى المسائل، وكيف يجمع بين هذا وهذا. قال الله جل وعلا: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام:121]، وبعض الفقهاء أراد أن يقول بصحة مذهب الشافعي ، فجعل الواو هنا واو حال، وقال: إنه لا يصح مطلقاً أن تكون الواو واو عطف، فقال هذا لأننا لو قلنا: إن الواو هنا حالية لأصبح المعنى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام:121] حال كونه فسقاً أهل لغير الله به، فيكون المقصود ما يذبح للأوثان، وما يذبح لغير الله، فهذا المحتج قال في قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام:121]: لا يصلح أن تكون الواو عاطفة قولاً واحداً، واحتج بأن الآية طلبية؛ لأن قول الله جل وعلا: وَلا تَأْكُلُوا [الأنعام:121] طلب، وقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام:121] ليس بطلب، بل هذه جملة خبرية، فقال: إن الجملة الخبرية لا تعطف أبداً على الجملة الطلبية. ويحتج عليه بالآية التي بعدها، فإن الله جل وعلا قال: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ [الأنعام:121]، وهو يقول عن هذه الجملة: إنها معطوفة، فوقع في نقيض قوله؛ لأنا متفقون على أن جملة: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ [الأنعام:121] خبرية، ومتفقون على أنها لا يمكن أن تكون حالاً، فالاستدلال هنا بالطريقة النحوية طريقة غير صحيحة. |
بيان فضل التسمية
والذي يعنينا قول الله جل وعلا: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام:121]، وهذا يبين لك فضيلة وبركة ذكر اسم الله على الأشياء، بصرف النظر عن وجوب التسمية أو عدم وجوب، وقد قال صلى الله عليه وسلم لما ذكر حديث البطاقة: (ولا يثقل مع اسم الله شيء). وقال عليه الصلاة والسلام لـعمرو بن سلمة : (سمِّ الله وكل بيمينك وكل مما يليك)، وعمرو بن سلمة هو ربيب النبي صلى الله عليه وسلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أمه أم سلمة ، والمقصود أن التسمية بركة وشيء عظيم جليل. |
بيان معنى قوله تعالى: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم...)
ثم قال الله جل وعلا: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121]. الآيات التي سلفت في سورة الأنعام -وهي سورة مكية- حرمت الميتة، وأوجبت التذكية وذكر اسم الله، ولما علم بعض الكفار في فارس -حيث كان العرب يترددون على العراق- قالوا لكفار قريش: جادلوا محمداً وقولوا له: ما ذبحته أنت وأصحابك وقتلتموه حلال، وما قتله الله غير حلال؟! يعنون أن الميتة إذا ماتت فقد قتلها الله، فقالوا: كيف يكون ما قتله الله حراماً، وما قتلته أنت وأصحابك حلالاً؟! فهذا أمر نسبه الله جل وعلا إلى الشياطين، فقد يكون المراد شياطين الإنس وقد يكون المراد شياطين الجن، ولكنه أُلقِمَه القرشيون ليحاجوا به النبي صلى الله عليه وسلم. والجواب عنه ظاهر، وهو أن ما قتلناه بأيدينا ذكرنا اسم الله عليه، وما قتل رغم أنفه ومات رغم أنفه لم يذكر اسم الله عليه، فالذي سوغ الأكل ليست قضية الموت وكيفيته، وإنما سوغ الأكل أن ذلك ذبح وذكر عليه اسم الله، وذلك لم يذكر عليه اسم الله، فالفاصل والفارق هو ذكر اسم الله. ذكر استدلال ابن عباس بالآية رداً على كذب المختار بن أبي عبيد ويروى أن ابن عباس حبر الأمة رضي الله تعالى عنهما جاءه رجل بعد مقتل الحسين ، وبعد مقتل الحسين حدث في الأمة فتن، لأن قتل الحسين ليس بالشيء اليسير، بل هو أمر جلل وخطب عظيم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجل الحسين إجلالاً عظيماً، وقطع خطبته من أجل الحسن والحسين ، ومع ذلك قتل الحسين ظلماً وعدواناً بلا شك. جاءوا برأسك يا ابن بنت محمد متزملاً في دمائه تزميلا فكأنما بك يا ابن بنت محمد قتلوا جهاراً عامدين رسولاً قتلوك عطشاناً ولم يترقبوا في قتلك التنزيل والتأويلا ويكبرون بأن قتلت وإنما قتلوا بك التكبير والتهليلا وعندما تأتي مظلمة يتسلق في الحدث عشرات الناس، هذا يريد الحق، وهذا يريد الباطل. فجاء رجل اسمه المختار بن أبي عبيد الثقفي ، وأوهم الناس بأنه يدافع عن آل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه ينتقم لقتلة الحسين ، وما زال يشيع ذلك في الناس حتى زعم أنه يوحى إليه، حتى زاره بعض الناس وكان عنده وسادة، فكان ينظر إليه يريد أن يرمي له بالوسادة، فقال: والله لولا أن جبريل قام من عليها لأعطيتك إياها! يعني: أنها طاهرة مقدسة لا تصلح إلا للأنبياء. فجاء رجل إلى ابن عباس وقال له: إن المختار بن أبي عبيد يزعم أنه يوحى إليه! فقال: صدق، فانتفض الرجل، فقال: أقول لك: إن المختار بن أبي عبيد يزعم أنه يأتيه الوحي؟! قال: صدق! الوحي -يا بني- وحيان: وحي رحمن ووحي شيطان، فوحي الرحمن على محمد صلى الله عليه وسلم وإخوانه من النبيين، ووحي الشيطان على المختار بن أبي عبيد وأمثاله، ثم تلا ما نحن فيه: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121]. فهذه الآية: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ [الأنعام:121]، يحفظها كل من يحفظ سورة الأنعام، فـابن عباس حين قال له الرجل: إن المختار بن أبي عبيد الثقفي يزعم أنه يوحى إليه استحضر الآية مباشرة، وأجاب، فلما نفر الرجل وتعجب هدأ ابن عباس من روعه بالقرآن؛ لأن ابن عباس حبر الأمة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد دعا له، فتلا الآية ليسكن الرجل ويقتنع بكلامه. فالله تعالى يقول: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121]، وذلك لأنهم ذكروا قضية تحليل وتحريم سيأتي بيانها إن شاء الله في درس آخر. وطاعة الناس في قضايا تحليل وتحريم إشراك بالله جل وعلا، فالتحليل والتحريم ليس لأحد غير الله. فالمقصود أن المختار بن أبي عبيد فتن الناس في زمنه، وكان متزوجاً بنت النعمان بن بشير الأنصاري رضي الله تعالى عنه، ثم إن مصعب بن الزبير لما هزم المختار بن أبي عبيد جاء إلى بيته فأمّن أهله ثم قتله، وكان ممن قُتل بنت النعمان بن بشير زوجة المختار بن أبي عبيد ، ثم قُدر أن رجلاً يأتي فيقتل مصعب بن الزبير ويحمل رأسه إلى عبد الملك بن مروان ، وعبد الملك بن مروان كان خليفة، وهناك أناس يتاجرون في الأحداث. فعندما قتل مصعب بن الزبير جاء رجل وحمل رأس مصعب بن الزبير وقدمه هدية لـعبد الملك بن مروان ، وكان مصعب بن الزبير بالنسبة له خصماً ينافسه في الملك، فلما رأى رأس مصعب خر ساجداً، لأنه يبحث عن ملك. وهذا الذي قتل مصعباً ما قتله حباً في عبد الملك بن مروان ، فلما سجد عبد الملك بن مروان جاء في باله أن يقتل عبد الملك بن مروان ، ليقول الناس: إنه قتل ملكي العرب في يوم واحد. أفألقيتها في النار بكر بن وائل وألحقت من قد خر شكراً بصاحبه يعني: ألحقت هذا الذي يسجد بصاحبه الأول، فقام عبد الملك بن مروان من سجوده قبل أن يعزم هذا على ما خطر بباله. والمقصود أن الفتنة إذا جاءت يأتي معها أناس كثيرون، فهذا يريد الإصلاح، وهذا يريد أن يتكسب، وهذا يريد أن ينتفع، وهذا لا يدري أين يرمي الله به. فالعاقل لا يقبل أن يكون كلما ارتفعت راية متحمساً لها جارياً وراءها. ولست مقاتلاً رجلاً يصلي على سلطان آخر من قريش له سلطانه وعليّ إثمي معاذ الله من جهل وطيش وإذا أراد الله بعبد خيراً علمه السكينة والروية وتدبر القرآن، جعلني والله وإياكم من أهل ذلك. هذا ما تهيأ إيراده، وأعاننا الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين. |
يرد الله تعالى في كتابه الكريم على المشركين في تشريعهم ما لم يأذن به الله في شأن بهيمة الأنعام ببيانه تعالى تفرده بخلق الأشجار المختلفة المتنوعة، وإذا كان كذلك فإنه لا يحق لغيره أن يشرع، وفي معرض بيان ذلك يمتن الله تعالى على عباده بخلق تلك الأشجار وإيجادها لهم ليأكلوا منها، ثم يشكروا نعمة الله عليهم بأداء ما أوجب الله في ثمارها عند الحصاد. كما امتن تعالى على عباده تسخيره الأنعام للركوب والأكل والاحتلاب، ناهياً لهم عن اتباع خطوات الشيطان، ومنها سلوك مسلك التشريع والقول على الله بغير علم.
|
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات...)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعار ودثار أهل التقوى، وصلى الله على محمد وعلى آله. أما بعد: فما زلنا نتفيأ ظلال سورة الأنعام، والآية التي نحن بصدد الحديث عنها في هذا الدرس المبارك هي قول الله جل وعلا: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأنعام:141-142]. فنقول والله المستعان: إن القرشيين قالوا فيما سلف كما حكى الله عنهم: هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ [الأنعام:138] أي: زرع حِجْرٌ [الأنعام:138] أي: ممنوعة، لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ [الأنعام:138]، وحكى الله عنهم أنهم قالوا: مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا [الأنعام:139]، وهذا فيه منازعة لله جل وعلا في ربوبيته، والسورة تتكلم عن التوحيد، فهم أشركوا مع الله جل وعلا غيره بأن شرعوا حتى أقحموا أنفسهم في الأمر، فأراد الله جل وعلا أن يقيم عليهم الحجة ويثبت أنه وحده هو الخالق، وإذا كان هو وحده الخالق فهو وحده المشرع، فقال جل وعلا رداً عليهم: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ [الأنعام:141] من غير اقتداء ولا احتذاء جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ [الأنعام:141]، والمعروشات: ما لا يقوم على سوقه، أي: ما يحتاج إلى عيدان يلتف عليها، كالعنب، وغير المعروشات ما يستغني بنفسه، كالنخل، فقال الله جل وعلا: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ [الأنعام:141] والنخل يدخل في غير المعروشات، ولكن هذا من باب ذكر الخاص بعد العام، ولأن النخل كان أكثر زرع عند العرب، قال تعالى: وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ [الأنعام:141]، متشابهاً في منظره وغير متشابه في طعمه، وهذه كلها ظاهرة لا تحتاج إلى تعليق. |
بيان دلالة قوله تعالى (كلو من ثمره إذا أثمر)
وقوله تعالى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ [الأنعام:141] دلالة على أن الإذن بالأكل يبدأ من أول النضوج فلهذا يؤكل التمر بسراً ويؤكل رطباً ويؤكل تمراً، وليس الأكل مقصوراً على واحدة من هذه الثلاث؛ لأن الله قال: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ [الأنعام:141]، فإذا أثمر كان لكم الحق في أن تأكلوا منه. |
بيان معنى قوله تعالى (وآتوا حقه يوم حصاده)
قال تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، والسورة مكية، والفقهاء يقولون: إن الزكاة لم تشرع إلا في المدينة، وعلى هذا اختلفوا في قول الله جل وعلا: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، فمن قائل: إنها الزكاة، وهذا مروي عن أكابر السلف، كـسعيد بن المسيب ، ومن قائل إنها الصدقة، والحق أن يقال -والعلم عند الله- إن هذه الآية مكية، وإنها أصلت للزكاة تعليماً، وجاء التفصيل في المدينة. |
ذكر ما يجب في بعض أموال الزكاة
ومن أموال الزكاة ما يجب فيه ربع العشر، ما يجب فيه وهذا في زكاة النقدين وعروض التجارة. وفي الثمار المدخرة العشر إن كانت تسقى بلا مئونة، وأما الثمار والمدخرات مثل الحبوب التي تسقى بمئونة ففيها نصف العشر. وفي الركاز الخمس؛ لأنه ألحق بالزكاة إلحاقاً. وأما المواشي فالزكاة فيها ليست مشاعة، وإنما هي مقدرة شرعاً. كلمة وتنقسم المواشي إلى ثلاثة أقسام: قسم فيه زكاة، وهو ما اتخذ للدر والنسل والتسمين، فهذا فيه الزكاة بنصابه. وقسم اتخذ لعروض التجارة فهذا نقدر فيه الزكاة، بمعنى أنه تعرف قيمته ثم نستخرج ربع العشر. وقسم لا زكاة فيه، وهو ما اتخذ للعمل والاستعمال، كرجل عنده بقرات يحرث عليها، فهذه ليست للدر والنسل والتسمين، وليست عروض تجارة، فلا زكاة فيها. يقول الله جل وعلا: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141]، فنهى الله جل وعلا عن الإسراف. |
تفسير قوله تعالى: (ومن الأنعام حمولة وفرشا...)
ثم قال الله جل وعلا: وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا [الأنعام:142]، الحمولة من الأنعام هي ما يركب عليه كالخيل والبغال والإبل، وأما الفرش فقال ابن جرير رحمه الله: إنه الغنم، ووجه تسميتها فرشاً عند ابن جرير هو دنوها من الأرض. ونقل عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أحد المفسرين من السلف أن الحمولة ما اتخذ للركوب، والفرش من بهيمة الأنعام ما اتخذ للأكل والحلب. قال ابن كثير رحمه الله تعالى معقباً على قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : وهذا القول يشهد له ظاهر القرآن . وذلك في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [يس:71-72]، فالآيتين من سورة (يس) تشهدان بقوة لما ذهب إليه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من أن الحمولة ما اتخذ للكوب أياً كان، والفرش ما اتخذ للأكل والحلب. يقول الله تعالى: وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا [الأنعام:142]، أي: كما أنه جل وعلا أنشأ الجنات، فليس لكم حق في حجرها على أحد؛ كذلك أنشأ الأنعام وخلقها، فليس لكم حق في حجرها على أحد. قال تعالى: وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الأنعام:142]، فلا يُجهَل تحريم ما أباحه الله جل وعلا من الطيبات لعباده. |
بيان معنى قوله تعالى (ولا تتبعوا خطوات الشيطان...)
ثم قال سبحانه: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [الأنعام:142]، فبين سبحانه أن القرشيين بتحريمهم اتبعوا طرائق الشيطان؛ لأنهم افتروا على الله الكذب ووضعوا أنفسهم مقام المشرع، فمنعوا أقواماً وأعطوا آخرين، وجعلوا السائبة والوصيلة والحامي، وسموا أشياء ما أنزل الله بها من سلطان، وقالوا: هذه لأزواجنا وهذه لنا، وهذه فيها شركاء وهذه ليس فيها شركاء، وأخذوا يشرعون ويفترون على الله الكذب وهم يعلمون. فلهذا نهى الله المؤمنين عن ذلك فقال: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأنعام:142]. والشيطان يخفي عداوته ويزين، ولا يظهر عداوته، ومع ذلك سماه الله عدواً مبيناً، فالله جل وعلا كشف أمره وفضحه لعباده، وأخبرنا بأن الشيطان عدو مبين حتى نكون على حذر منه، ومع هذا كله يقع الكثير منا -إن لم نكن كلنا- في خطوات الشيطان، وقد نهى الله عن ذلك فقال سبحانه: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأنعام:142]. |
ذكر بعض ما يتعلق بالمركوب من الدواب
ونعود لقول الله جل وعلا: وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا [الأنعام:142]، فما يتخذ للركوب كان في الزمن الماضي يحمل أثقال الناس إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، كما قال الله جل وعلا. وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة تسمى العضباء وتسمى القصواء، وهي التي حج عليها صلى الله عليه وسلم، وكان قد هاجر عليها، وقال يوم الهجرة: (خلوا سبيلها فإنها مأمورة)، وفي يوم الحديبية بركت، فقال الناس: خلأت القصواء، فقال صلى الله عليه وسلم: (والله ما خلأت، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل)، ففهم صلى الله عليه وسلم أن هذه الناقة ما خلأت إلا لأمر عظيم، فقال قبل أن يأتيه وفد قريش: (والله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أجبتهم إليها)، ولهذا قبل صلى الله عليه وسلم الصلح. وكان له صلى الله عليه وسلم فرس اسمه السكب، وكانت له بغلة تسمى دلدل أهداها إليه المقوقس حاكم مصر صلوات الله وسلامه عليه. وما زال الناس في ذلك العصر يركبون الإبل والخيل والبغال حتى ظهرت دولة بني أمية، وصار هناك نوع من التلاقي الحضاري بين الشام وفارس، فعرف الناس البراذين ولم يكونوا يعرفونها والبغال الشهب ولم تكن مشهورة في الحجاز، فلما دخل معاوية رضي الله عنه المدينة على بغلة شهباء افتتن الناس بها، كمن يركب اليوم سيارة غير مألوفة، ولذلك يروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وأرضاه أنه قال: إن ابن الزبير إنما أعجبته الخلافة منذ أن رأى معاوية رضي الله تعالى عنه على بغلته الشهباء. وإن كان في إسناده إلى ابن عباس نظر. والذي يعنينا أن الناس جبلوا على حب المتاع الدنيوي، والإنسان يستطيع أن يستغني عن هذا بأن يربي نفسه على حب القرآن، فإذا تمكن القرآن منه من قلبه فإن أمثاله من المباركين ينفضون أيديهم عما في أيدي الناس، قال الله جل وعلا: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ [الحجر:87-88]، والآيات في هذا المعنى كثيرة. |
بيان معنى قوله تعالى: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين)
قال تعالى: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141]، أوغل بعض العلماء في تفسير هذه الجملة فقالوا: هي في الزكاة، ونسبوا إلى أحد الصحابة من الأنصار أنه كان إذا جاء يوم حصاده تصدق بماله كله وبقي فقيراً، وهذا القول مردود من باب أن هذه الآية مكية ولم تكن وقت إسلام الأنصار في المدينة، فلا يمكن حملها على الأنصار، ثم أنه ليس لها علاقة بما يؤتى الفقراء من الزكاة، فليست متعلقة بقوله جل وعلا: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، وإنما هي متعلقة بقوله جل وعلا: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ [الأنعام:141]. والفرق بين الإسراف والتبذير أن الإسراف: الزيادة في الشيء الذي له أصل، أما التبذير فهو الزيادة في الشيء الذي لا أصل له، فالتبذير أعظم من الإسراف، ولهذا قال الله جل وعلا: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141]، وقال في حق التبذير: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [الإسراء:27]. وإذا أردت دائماً أن تعرف الفرق بين أمرين فانظر في وصف الله جل وعلا لهما ولعاقبتهما، فالزنا ونكاح زوجة الأب كلاهما محرم شنيع، ولكن الزنا أهون من نكاح زوجة الأب، فإن قال قائل أين الدليل؟ قلنا: التفريق القرآني، حيث قال الله جل وعلا: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، ولما ذكر الله نكاح زوجة الأب قال: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا [النساء:22]، فزاد جل وعلا قوله: (مقتاً)، وهذا التدبر في القرآن والنظر في الفوارق بين آياته يضفي على كلامك عندما تنصح أو ترشد علماً جماً، فيورثك ثقة بنفسك، وهذا أمر مهم جداً، أعني أن تنطلق من قناعة عن نفسك؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فإذا كان من يتصدر للبحث العلمي وللكلام مزعزعاً لا يقف على أرضية صلبة فمحال أن يقتنع الناس به، ومحال أن يملك تأثيراً في القلوب، اللهم إلا في الضعفاء، فلتبدأ قوتك من ذاتك، والحصانة العلمية تعطيك القدرة على التصدر ومعرفة الشيء وإدراكه قبل التفوه به للناس. ولا تتعجل في كل شيء تسمعه فتنقله إلى غيرك قبل أن تمحصه؛ لأنك إن لم تمحصه لم تزل في دائرة في التقليد، ولكنك إن محصته وعرضته على عقلك المستند على شرع الله جل وعلا كنت قوياً حين عرضه، حتى لا يرد الناس عليك كلامك، وهذه هي حقيقة العلم. هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى، وألبسني وإياكم لباسي العافية والتقوى. وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين. |
لقد ابتدع أهل الجاهلية بدعاً في الدين لم يكن لهم فيها من الله برهان، ومن جملتها تحريم بعض الأنعام، وهي كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فأبطل الله تعالى ما صنعوه لكونهم لم يأتهم بذلك نبي، ولم يتلقوه عن الله تعالى، وبأنه يلزمهم بتحريم بعض ذكور الأنعام تحريم جميع ذكورها، وبتحريم بعض إناث الأنعام تحريم جميع إناثها، وكل ذلك لبيان منزلة التشريع من العقيدة، وإذ لا يملكه غير الله تعالى، فليس للبشر الدخول في باب التشريع بأهوائهم.
|
تفسير قوله تعالى: (ثمانية أزواج من الضأن اثنين...)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد ولياً مرشداً، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فهذا درس يتبع ما سبق من النظر والتأمل في كلام الله جل وعلا في سورة الأنعام تحديداً، وكنا قد انتهينا إلى قول ربنا تبارك اسمه وجل ثناؤه: وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا [الأنعام:142]. وسنشرع هنا في قول الله جل وعلا: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأنعام:143-144]. هاتان الآيتان على وجه التحديد يلتبس معناهما على الناس كثيراً، خاصة إذا قرئتا في صلاة التراويح؛ لأن فيهما بعض الألفاظ غير الواضحة للعامة، ولكنها -بلا شك- واضحة لطلاب العلم؛ لأن هذا وعد قرآني، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17]. وكلمة (زوج) في اللغة تطلق على الفرد الذي هو متعلق بغيره، ولا يقصد بالزوج التثنية ابتداء، فقول الله جل وعلا: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الأنعام:143] ليس المقصود منه أن العدد ستة عشر، فالإشكال يأتي في فهم هذه الآية إلى الناس عندما يقرءون أو يتلى عليهم قوله تعالى: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍَ [الأنعام:143]، فيظنون أن العدد ستة عشر، وكذلك في قوله تعالى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ [النجم:45]، فيفهم بعض الناس أنها أربعة، وقد قال جل وعلا بعدها: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى [النجم:45]، فالذكر وحده لارتباطه بالأنثى يقال له زوج، والأنثى وحدها لارتباطها بالذكر يقال لها زوج. ففي الإبل يقال للجمل: زوج؛ لأنه لابد له من ناقة، والناقة يقال لها: زوج؛ لأنها لابد لها من جمل، فهذا أمر مهم في العبور إلى فهم الآية. أما الآية من حيث العموم فقد قال الله تعالى قبلها: وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا [الأنعام:142]، فهذا إجمال، ثم فصل بعد ذلك. |
بيان أوجه إبطال ما شرعه أهل الجاهلية في الأنعام
وقد كان في العرب كان رجل يقال له عمرو بن لحي ، قال صلى الله عليه وسلم عنه -كما عند مسلم في الصحيح-: (رأيت عمرو بن لحي أخا بني كعب يجر قصبه في النار)، أي: أمعاءه، فـعمرو بن لحي كان مكياً، وعاش أيام ولاية خزاعة على مكة قبل قريش، وكانت لهم السيادة والإمرة، والعرب تقول: الناس على دين ملوكها، أي: على دين سادتها وعلى دين من لهم الشرف، فخرج عمرو إلى الشام فرآهم يعبدون الأصنام، ورأى عندهم عادات في الأنعام بنيت على ضلال، فنقلها عمرو بن لحي إلى مكة، فلما نقلها إلى مكة جاء إلى الناقة فبحرها، أي: جدع أنفها، فسميت بحيرة، ثم حرم لبنها، ثم جاء إلى الفحل من الإبل، فإذا كان قد طرق الأنثى مراراً وتكراراً حتى توالد منه الكثير حرم أكله وسماه حاميا، ثم جاء إلى بعض بهيمة الأنعام فسيبها وأطلقها ومنع الناس من أن يأكلوا منها، فسيب السوائب، وأتى بشرائع من عنده مزجها بحضارة من لقيهم من أهل الضلالة، ثم قننها وجعلها شرعاً، والتشريع والتحليل والتحريم لا يكون إلا لله، فهذا عين الشرك، قال الله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعدي : (أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحللون ما حرم الله فتحلونه؟! قال: نعم. قال: فتلك عبادتهم). فأقام عمرو حضارة في مكة على هذا المنوال، وتوارثها القرشيون عنه، فكانوا يأتون إلى الذكر من الإبل أحياناً فيحرمونه في مرحلة ويبيحونه في مرحلة، ويأتون إلى الأنثى ويصنعون معها مثل هذا الصنيع، ويقولون: (ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا) فهذه الشرائع التي سنوها جاء الشرع بإبطالها رغم أن سورة الأنعام سورة مكية، ولكن لما كان هذا الخطأ خطأ عقدياً لم يؤجل إلى العهد المدني، وإنما جاء التحريم في العهد المكي؛ لأن هذا داخل في العقائد، والنبي صلى الله عليه وسلم مكث ثلاثة عشر عاماً يبني العقيدة في مكة، وهذا حق، ومن العقيدة أنه لا أحد يملك التحريم والتحليل إلا إلا الله، وإذا فقه المؤمن هذا يفهم علة قول الله هذه الآيات، وبعض الناس يقول: أتعجب من إيرادها في سورة مكية لولا أنها قرآن، والعلماء يقولون لنا: إن السورة المكية تعنى بالعقائد. والحق أن هذا من أعظم ما يتعلق بالعقائد؛ لأنهم شرعوا وحللوا وحرموا، وليس لهم ذلك. فأراد الله بهذه الآية أن يبطل ما ذهبوا إليه، فجاءهم بما يسمى بالسبر ثم التقسيم، بمعنى أنه يُستقصى الموضوع ثم يبين بطلان كل شيء، فقال الله لهم جملة: إنه لا سبيل إلى صحة قولكم عقلاً ولا نقلاً. أما النقل فأن يكون نبي من أنبيائي أخبركم بهذا التحريم، وهذا ما ذكره الله في قوله: نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأنعام:143]، وأنتم لا تؤمنون بخير الأنبياء، فكيف تؤمنون بأنبياء قبله؟! ولم يأتكم نبي يخبركم بهذا التشريع الذي اتبعتموه، فهذه واحدة. والثانية أن تكونوا قد أخذتم هذا عن الله مشافهة، وهذا ذكره الله في قوله جل وعلا: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا [الأنعام:144]، فإذا انتفت مسألة كون النبي واسطة بينكم وبين الله لم يبق إلا أنكم أخذتموه عن الله مشافهة، وهذا لم يقع، فانتفى بهذين الدليلين النقليين ما فعلتموه. وبقي الدليل العقلي، وهو أن الله جل وعلا قال: إن الأنعام ثمانية أزواج، ثم فصلها فقال: من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، ومن البقر اثنين، ومن الإبل اثنين، فهذه الثمانية لم يحرم الله جل وعلا شيئاً منها. ثم إن ما في البطون لا يخلو من أن يكون ذكراً وأنثى، ولم يحرم الله جل وعلا شيئاً منها، فإن حرمتم ذكراً وجب أن تحرموا جميع الذكران، وأنتم لا تحرمون جميع الذكران، فالذكر تارة تبيحونه وتارة تحرمونه، وإن حرمتم الأنثى -سواء أكانت في البطن أم خارج البطن- وجب أن تحرموا جميع الإناث؛ لأن الزوج لا يخلو من أن يكون ذكراً أو أنثى، وأنتم تحرمون نوعاً من الإناث وتدعون غيره، فانتفى بذلك كل دليل لهم على صحة ما ذهبوا إليه، فلم يبق إلا شيء واحد، وهو أنهم كذبوا على ربهم، وإذا كذبوا على ربهم أصبحوا ظلمة، والظلمة لا يفلحون، ولهذا ختم الله الآيتين بقوله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأنعام:144]. |
ذكر بعض ما ورد في الضأن والمعز
قال الله جل وعلا: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الأنعام:143] وقد بينا مسألة الزوج مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ [الأنعام:143] الضأن الذكر منه يسمى كبشاً، والأنثى منه تسمى نعجة؛ فالنعجة يقول عنها بعض من له علاقة بمثل هذه العلوم: إنها من أكرم الحيوانات على الله؛ لدليل عقلي، وهو أن الله ستر عورتها، وقد ورد في شعر العرب إطلاق النعجة على المرأة، وهذا لم يرد إلا في بيت أو بيتين، ولم يكن شائعاً على الصحيح، وهذا ما تمسك به من يقول: إن آية ص: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ [ص:23]، المراد بالنعجة فيها المرأة، وهذا عندي بعيد، والأصل إجراء القرآن على ظاهره، لا أن يحمل على بيت قيل في الجاهلية، فهذا لا يتفق مع سنن فهم القرآن. وأما الكبش فيطلق أحياناً على السيد والرئيس، يقول عمرو بن معدي كرب : نازلت كبشهم ولم أر من نزال الكبش بدا هم ينذرون دمي وأنذر إن لقيت بأن أشدا كم من أخ لي صالح بوأته بيدي لحدا ما إن جزعت ولا هلعت ولا يرد بكاي زندا وموضوع الشاهد قوله: (نازلت كبشهم) أي: سيدهم وفارسهم والقائم على أمرهم، فيطلق على السيد والرئيس. والكبش هو ما فدى الله به؟ إسماعيل على القول الشائع بأن إسماعيل هو الذبيح، والله جل وعلا يقول: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107]، وهنا جاء خلاف بين العلماء في قضية أي الأضاحي أفضل، هل الكبش أم الإبل أم البقر؟ فمذهب مالك أنه الكبش؛ لأن الله اختار أن يفدي به إسماعيل، وهذا قول قوي، ويدل عليه من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث في المدينة يضحي عشر سنين فلم يضح إلا بالكبش من الضأن. فهذا الكلام كله عن الضأن ذكر وأنثى. ومن المعز التيس، وهو الذكر، والعنز هي الأنثى منه، وقد جاء ذكر العنز في حديث، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على أعرابي فأكرمه، أي أن الأعرابي أكرم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في سفر، فقال عليه الصلاة والسلام للأعرابي وهو يعلم الأمة كيفية رد صنع المعروف: (ائتنا)، يعني: إن جاءتك فرصة لأن تأتي المدينة فتعال حتى نكرمك، فقدر للأعرابي أن يدخل المدينة، فاحتفى به صلى الله عليه وسلم وقال: (سلني حاجتك؟)، وثقافة الأعرابي محدودة، والعلم والإيمان عنده لم يكن بذاك؛ لبعده عن موطن العلم، فقال: أسألك أعنزاً يحلبها أهلي. فقال صلى الله عليه وسلم: (عجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل؟! فقالوا: يا رسول الله! وما عجوز بني إسرائيل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إن موسى لما أراد أن يخرج ببني إسرائيل من أرض مصر قال له علماؤها: إن يوسف أخذ علينا العهد والميثاق أن إذا خرجنا أن نخرجه معنا، فقال: ومن يدلني على قبر يوسف؟ قالوا: لا يعرفه إلا عجوز في بني إسرائيل. فأتى موسى عليه السلام إلى تلك العجوز فقالت: لا أدلك حتى تؤتيني سؤلي؟ فقال: وما سؤالك؟ قالت: أن أكون مرافقتك في الجنة). فضرب النبي عليه الصلاة والسلام هذه القصة لبيان أن الإنسان يجب عليه أن ترتفع همته كما ارتفعت همة عجوز بني إسرائيل، وهذا الأعرابي لقلة علمه لم يكن يطلب إلا أعنزاً يحلبها أهله. قال الله تعالى: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ [الأنعام:143]، والله لم يحرم الذكر من الضأن ولا الذكر من المعز، ولا الأنثى من الضأن ولا الأنثى من المعز، أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ [الأنعام:143]، وليس في الرحم إلا ذكر أو أنثى نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأنعام:143] هذا بينا أن هذا دليل نقلي ممتنع عندهم، وهو أنه لم يكن لديهم نبي يأخذون عنه علماً. |
بيان معنى قوله تعالى (ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين...)
ثم قال الله جل وعلا: وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ [الأنعام:144]، والإبل جمع لا مفرد له من جنسه، والذكر منها يسمى جملاً والأنثى منها تسمى ناقة. قال الله جل وعلا: وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ [الأنعام:144]، والبقر ذكره الثور وأنثاه البقرة، وهناك سورة في القرآن عظيمة جليلة تسمى سورة البقرة، وغالب الظن أن الحيوان إذا ذكر في سورة فإن السورة تسمى به في غالب الأمر، كالبقرة، مع أن البقرة لم ترد إلا في آيات معدودات في سورة البقرة على طول السورة، والعنكبوت، فلم ترد ذكره إلا في آية مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41]، والفيل سميت به سورة، والنحل لم يرد ذكره إلا في وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا [النحل:68]. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الثور في أشراط الساعة، حيث يرتفع ثمنه ويقل ثمن الخيل؛ لأن الأرض يعمها الإيمان، فلا حاجة إلى الجهاد، وإذا كان الأمر كذلك كان الناس في نعيم، فيأكلون ويطعمون أكثر مما يركبون، فلا حاجة إلى شراء الخيل، فيقل تهافت الناس عليها، ويقل ثمنها، ويتسابق الناس على شراء ما يطعمون، فيرتفع ثمن الثور. |
ذكر بعض ما يتصل بالثمانية من العدد
قال الله تعالى: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الأنعام:143]، كلمة (ثمانية) غالباً ما تقال في الأشياء المحمودة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن أبواب الجنة ثمانية، في حين أن أبواب النار سبعة كما هو معلوم. وقد ارتبط هذا الرقم بالخليفة العباسي المعتصم كثيراً، فأي صاحب صنعة تاريخية إذا ذكر له رقم (ثمانية) يتذكر الخليفة العباسي المعتصم . فـالمعتصم ثامن أولاد الرشيد ، وثامن خلفاء بني العباس، وحكم ثمان سنين وثمانية أيام وثمانية أشهر، وولد في برج العقرب، والعقرب ثامن البروج، وخلف ثمانية ذكور وثمان إناث، وكان عمره عندما مات ثمانية وأربعين عاماً، فرقم (ثمانية) تعلق بحياته تعلقاً غريباً بقدر الله، وفي اليوم الذي مات فيه كان قد بقي من نهاية شهر ربيع ثمانية أيام، أي: مات لثمانية أيام بقين من شهر ربيع الأول، وهذا كله يدل على أن هذا الرجل سمي بالمثمن لارتباطه برقم (ثمانية) وقد كان دعبل الخزاعي على خلاف طويل مع المعتصم ، فقال يهجو المعتصم : ملوك بني العباس في الكتب سبعة ولم تأتنا عن ثامن لهم كتب كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة خيار إذا عدو وثامنهم كلب وإني لأعلي كلبهم عنك رتبة لأنك ذو ذنب وليس له ذنب هذا ما قاله دعبل الخزاعي في هجاء المعتصم ، وهذا يدخل على قضية الشعر السياسي. والمهم أن دعبلاً هذا كان خزاعياً، فأصابه الغبن؛ لأن بني العباس وهم يريدون أن ينزعوا الخلافة من الأمويين كانوا يدعون إلى الرضا من آل البيت دون تحديد، فلما آلت الخلافة إليهم نحوا أبناء علي وجعلوها في أبناء العباس ، بحجة أن أبناء عمومة النبي صلى الله عليه وسلم أولى من أبناء البنت؛ لأن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، فأصاب ذلك العلويين عموماً بالحنق، ومن أشهر من والاهم دعبل هذا الذي هجا المعتصم ، فأهدر دمه، وأخذ يدور في الفيافي. ومتأخروا الشيعة الذين عاشوا في عصر بني العباس يعظمون دعبلاً تعظيماً شديداً لما قاله من أبيات في مدح أهل البيت، وهو القائل: ديار علي والحسين وجعفر وحمزة والسجاد ذي الثفنات أرى فيئهم في غيرهم متقسماً وأيديهم من فيئهم صفرات بنات زياد في القصور مصونة وآل رسول الله في الفلوات ألم تر أني مذ ثلاثين حجة أروح وأغدو دائم الحسرات وقد كوفئ على هذه القصيدة، وهذا الشعر يفتح باب الشعر السياسي، وأول من فتحه قبله الكميت الأسدي في مدحه لآل البيت واحتجاجه على بني أميه بأن الحكم يمكن أن يورث. هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله. وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين. |
لقد وسع الله تعالى على عباده في المآكل فأباح لهم أكثر مما حرم عليهم، ومن جملة ما حرم عليهم أكله الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير، كما أن منه أيضاً كل ذي مخلب من الطير وناب من السباع، وأحل لهم في حال الاختيار أكل بعض الحيوانات بغير ذكاة وأكل بعضها بذكاة، ورخص لهم في الأكل من المحرم حال الاضطرار إليه رحمة بعباده ورفعاً للحرج عنهم.
|
تفسير قوله تعالى: (ثمانية أزواج من الضأن اثنين... إن الله لا يهدي القوم الظالمين)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك جامع الناس ليوم لا ريب فيه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى من اتبع منهجه واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فمازلنا في سورة الأنعام، وكنا قد تحدثنا في الدرس الذي سبق عن قول الله جل وعلا: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأنعام:143]، وقد بينا حينها أن من المهم أن تفهم أن الزوج هنا بمعنى الفرد الذي لا انفكاك له عن غيره، وأنه لا يتحصل من هذا ستة عشر فرداً. ثم انتقلنا إلى قضية الضأن والمعز وقضية الإبل والبقر، وحررنا مسألة الذكر والأنثى فيها، وعلقنا على فوائد لغوية، وذكرنا إحداث عمرو بن لحي ، وقلنا: إن الثمانية عدد يتفاءل به، والدليل على ذلك أن أبواب الجنة ثمانية، ثم تطرقنا إلى قضية المعتصم الخليفة العباسي المعروف أنه ثامن خلفاء بني العباس، وأنه كان على نزاع مع شيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وأن دعبلاً الخزاعي قال فيه: ملوك بني العباس في الكتب سبعة ولم تأتنا عن ثامن لهم الكتب فذلك أهل الكهف في الكهف سبعة خيار إذا عدوا وثامنهم كلب |
الشعر السياسي وأثره في الواقع
انتهينا بذلك إلى قضية الشعر السياسي، وقبل أن أدخل في قول الله جل وعلا: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ [الأنعام:145] أقول والله المعين: للكميت الأسدي شعر يسمى بالهاشميات، وهي قصائد قالها في بني هاشم جملة قبل أن ينقسم الناس إلى آل علي وآل العباس؛ لأنه متقدم، حيث عاش في دولة بني أمية، يقول الجاحظ الأديب المعروف، يقول: إن الكميت فتح للشيعة باب الاحتجاج بالشعر، يقول: طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب ولكن إلى أهل الفضائل والتقى وخير بني حواء والخير يطلب بني هاشم رهط النبي فإنهم بهم ولهم أرضى مراراً وأغضب ثم أتى إلى قضايا الجدل فقال: يقولون لم يورث ولولا تراثه لقد طمعت فيه بكيل وأرحب إلى أن قال في عجز بيت: فإن ذوي القربى أحق وأقرب وهذا هو شطر البيت الذي تمسك به الشيعة في أحقية علي رضي الله تعالى عنه بالخلافة، وصدره: فإن هي لم تصلح لحي سواهم فإن ذوي القربى أحق وأقرب يقول لبني أمية: أنتم تقولون: إن الإمامة في قريش، وأخذتم الحكم من هذا الباب، فإن كانت الإمامة في قريش لأن النبي صلى الله عليه وسلم من قريش، فيجب أن يكون الحكم والإمامة في بني هاشم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم من قريش عامة ومن بني هاشم خاصة. فسميت هذه القصائد بالهاشميات، وهذه الثغرة فتحها الكميت على مصراعيها شعراً للشيعة ليحتجوا على غيرهم بأحقية بني هاشم بالخلافة. ومن احتج عليك بدليل عقلي فرده أولاً إلى النقل؛ لأنه لا مقام للعقل مع النقل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأئمة من قريش)، وقد استدل الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم بالقرآن والسنة من حيث الإجمال لا من حيث النص على أحقية الصديق رضي الله تعالى عنه بالخلافة، فهذا أشبه بالنقل؛ لأن الله قال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] والذين أنعم الله عليهم هم المذكورون في قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [النساء:69] والنبوة انتهت بموت النبي صلى الله عليه وسلم، فنعدل في الإمامة إلى الصديقين، وقد اتفقت الأمة على أن صديقها الأكبر أبو بكر ، فتقديم أبو بكر هنا بموجب القرآن، ونحن نقرأ الفاتحة ونطلب من الله أن يدخلنا في صراط الذين أنعم عليهم، والله يقول: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، ونحن لا ندري من هم الذين أنعم عليهم، ولكن ربنا قال: مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]، فجعل الصديقين بعد الأنبياء، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه سماه النبي صلى الله عليه وسلم صديقاً، وولاه الصلاة أيام حياته، فصلى أبو بكر بالناس والنبي صلى الله عليه وسلم حي، فلم ينكر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم ينزل من القرآن شيء ينكر، فما أقره الله أقره رسوله، ولما أقره الرسول أقره الصحابة وقبلوا، فكان بدهياً بعد ذلك أن يسند الأمر إليه رضي الله عنه وأرضاه، فبطلت حجة الكميت هنا على الناس، ولكن حجته على بني أمية صحيحة، وهذا من باب الإنصاف. فـالكميت جمع هذه القصائد التي تسمى بالهاشميات، وعلى منوالها في عهد بني العباس ظهرت الكافوريات، وهي قصائد قالها المتنبي في مدح كافور الأخشيدي . والمتنبي ظهر شأوه وعلا كعبه في بلاط سيف الدولة ، ولكن كثرة الحساد أخرجته من ذلك المكان، وهذه سنة الله في خلقه، فلا يظهر أحد إلا ويكثر حساده، فيلزمه الخروج، كما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، فخرج المتنبي من بلاط سيف الدولة بعد أن قال: وا حر قلباه ممن قلبه شبم ومن بجسمي وحالي عنده سقم ما لي أكتم حباً قد برى جسدي وتدعي حب سيف الدولة الأمم إن كان يجمعنا حب لغرته فليت أنا بقدر الحب نقتسم ما أبعد العيب والنقصان من شرفي أنا الثريا وذان الشيب والهرم الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم يقولون: إن المتنبي حكيم، وأنا أقول: والله ما عنده من الحكمة مثقال ذرة، فهو حكيم في أقواله وليس حكيماً في أفعاله، وهو حيكم في نفعه للناس، ولكن لم ينفع نفسه، فأي ملك وأي والي وأي أمير يقبل أن يأتي شاعر فيجلس على الكرسي ويقول أمامه: الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم ما أبعد العيب والنقصان من شرفي أنا الثريا وذان الشيب والهرم صحبت في الفلوات الوحش منفرداً حتى تعجب مني القور والأكم ثم يريد منه أن يبقيه ويعطيه ولاية؟! لقد قال هذا جالساً واستكبر أن يقف وهو شاعر، فكيف لو أصبح أميراً؟! فلا يعقل أن ذا سلطان يقبل أن ينازعه أحد، فلم يكن سيف الدولة يتحسر على فراق المتنبي له؛ لأن المتنبي أضر بنفسه عندما أعلى نفسه أمام سيف الدولة ، فوجد الحساد مدخلاً على شخصيته. فخرج إلى مصر فمدح كافور الأخشيدي ، ولم يكن كافور إلا مثل سيف الدولة في الذكاء، فمدحه ينتظر منه ولاية فقال: أبا المسك وهذه كنية كافور ، يقول: أبا المسك هل في الكأس فضل أناله فإني أغني منذ حين وتشرب يعني: ما استفدت شيئاً، فأنا أمدحك ولم تعطني ولاية، فبقي على هذا حتى ترك كافوراً . والذي يعنينا هنا تشبيه الكافوريات بالهاشميات، وهنالك الروميات لـأبي فراس الحمداني ، قالها حين أسرته الروم، ومنها قوله: أراك عصي الدمع شيمتك الصبر أما للهوى نهي عليك ولا أمر وقال أصيحاب الفرار أو الردى فقلت هما أمران أحلاهما مر إلى أن قال: سيذكرني قومي إذا جد جدهم وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر |
تفسير قوله تعالى: (قل لا أ جد فيما أوحي إلي محرما...)
يقول الله جل وعلا: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:145]. من هذه الآية يمكن تقسيم الحيوانات من حيث أكلها حلاً وحرمة إلى ثلاثة أقسام: الأول: قسم حلال طيب حياً وميتاً، وهو طعام البحر والجراد. والثاني: قسم حرام، سواء ذكي أو لم يذك، وهو كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير على قول الأكثرين من أهل العلم احتياطاً؛ لأنه ليس على ذلك إجماع. الثالث: قسم حلال إذا ذكي تذكية شرعية، وهو بهيمة الأنعام وما سواها من الحيوانات من غير الخبائث والمتفق على فسقها وتحريمها. يقول تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [الأنعام:145]. ذكر الله جل وعلا هنا الدم وقيده بأنه مسفوح، أي: دم مهراق، ونقول: وردت كلمة الدم في اصطلاح الفقهاء، ويعبرون بها عن الذبح، فيقولون فيمن ترك واجباً في الحج: عليه دم. ويمكن تقسيم ما يؤكل من الدماء في الحج وما لا يؤكل منها إلى قسمين: أولاً: دماء يجوز -بل يستحب- الأكل منها، ومثال ذلك هدي القرآن وهدي التمتع. وإذا كان ما أوجبه الله من هدي كالقران والتمتع يجوز الأكل منه، فمن باب أولى أن يجوز الأكل من هدي التطوع. ثانياً: الدماء التي لا يجوز الأكل منها، وهي دم ترك الواجب، ودم فعل المحظور، والعلة في ذلك أنها تجري مجرى الكفارات. والفرق بين دم ترك الواجب ودم فعل المحظور: أن دم ترك الواجب لا يجوز الانتقال منه إلى غيره إلا إذا لم تجد، أما دم فعل المحظور فأنت مكلف به على التخيير لا على الوجوب. ومثال ذلك: أن أحرم من غير ذي الحليفة وأنا مدني، فتجاوزت الميقات عمداً أو نسياناً ولم أستطع أن أعود إليه، فأنا تركت واجباً، أي: أنني لم أحرم من ميقاتي، فترك الواجب هنا يترتب عليه دم، وهذا الدم لا خيار لي عنه، فإن عجزت لقلة مال انتقلت إلى صيام عشرة أيام. ومثال فعل المحظور أن أحرم من ذي الحليفة، فأنا لم أترك واجباً، ولكنني في الطريق اشتكيت من صداع في رأسي، فوضعت على رأسي الغطاء، فغطاء الرأس محظور من محظورات الإحرام، فهنا لا يقال: إنه يجب عليك لزاماً دم، وإنما يقال: إن الدم واحد من خيارات ثلاثة: الخيار الأول: الدم. والخيار الثاني: صيام ثلاثة أيام. والخيار الثالث: إطعام ستة مساكين. فهناك فرق جلي بين الدم الذي ينجم عن ترك واجب والدم الذي ينجم عن فعل محظور. يقول تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ [الأنعام:145] أي: آكل يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [الأنعام:145]. والميتة ما مات حتف أنفه، ويدخل فيها: المنخنقة والموقوذة والنطيحة، وقد حرمها الله تعالى. قال الله: أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [الأنعام:145] وهذه تسمية للخنزير ببعض أجزائه، والمقصود الخنزير كله لحماً وشحماً وعظماً وغير ذلك، والخنزير حيوان معروف حرمه الله جل وعلا، وإن كان شائعاً أكله في بعض البلدان عياذاً بالله. والخنزير الصغير يسمى خِنَّوصاً، وقد كان بين جرير والأخطل ما يسمى بشعر النقائض، فـالأخطل كان شاعراً نصرانياً تغلبي القبيلة، وكانت بينه وبين جرير نقائض، أي: شعر يهدم كل منهما به ما قاله الآخر، فكانت الثغرة في شخصية الأخطل هي أنه نصراني، فكان جرير يتعمد قدحه بدينه، أي: بالنصرانية، وله عجز بيت يقول: لحم الخنانيص يغلي فوقه السُكَرُ يعني: أنتم تعيشون على لحم صغار الخنازير، وهذا تعيير يقول: ما كان يرضى رسول الله فعلهم والطيبان أبو بكر ولا عمر يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرضيه هو وأبو بكر وعمر صنيع تغلب، وإقحام أبي بكر وعمر من أجل القافية، فمن يعرف الصناعة الشعرية يجد أن جريراً دفعه إلى ذكرهما القافية. والذي يعنينا أن الخِنَّوص ولد الخنزير، وكان النصارى يعيرون به، وقد جاء في الحديث أن عيسى ابن مريم عندما ينزل يكسر الصليب ويقتل الخنزير. قال الله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام:145] أي: أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي: لم يذبح لله، أو لم يذكر عليه اسم الله. ثم قال ربنا: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:145]. هذا من رحمة الله بعباده، حيث إن مواقف الاضطرار لا تجري عليها أحكام مواقف الاختيار، فحالات الضرورة لها أحكامها، والضرورات تبيح المحظورات، كما أن الواجب يسقط مع العجز، وهذا كله من رحمة الله جل وعلا بعباده. جعلنا الله وإياكم من أوليائه. هذا ما تحرر إيراده وتهيأ إعداده حول قول الله تعالى في سورة الأنعام: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [الأنعام:145]. وصلى الله على محمد، وعلى آله، والحمد لله رب العالمين. |
لقد ذكر الله تعالى في آيات ثلاث من سورة الأنعام أمهات الفضائل وأصول الرذائل، فمن أمهات الفضائل بر الوالدين، وتوفية الكيل والميزان، والعدل والإنصاف، والوفاء بعهد الله، واتباع صراطه المستقيم، ومن أصول الرذائل الشرك بالله، وقتل الأولاد مخافة الفقر، وقتل النفس التي حرم الله قتلها، ومقاربة الفواحش، والمراد من ذكر الله لهذا كله هو إتيان الفضائل واجتناب الرذائل.
|
تفسير قوله تعالى: (قل تعلوا أتل ما حرم ربكم عليكم...)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب السماوات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإنه إن كانت الصناعة النحوية والتاريخية والفقهية قد ألقت بظلالها فيما سلف من دروس؛ فإن الصناعة الإيمانية -إن صح التعبير- تلقي بظلالها على ما نحن بين يديه في هذا الدرس من آيات. قال ربنا وهو أصدق القائلين: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:151-153]. هذه الآيات الثلاث ذكر الله جل وعلا فيهن أمهات الفضائل وأصول الرذائل، فأصول الرذائل ذكرت لنجتنبها، وأمهات الفضائل ذكرت لنعمل بها. وختمت هذه الآيات بذكر أنها وصايا من رب العالمين جل جلاله لعباده، وتضمنت كل ما فيه تهذيب النفوس وتزكيتها، ولإن كانت سورة الأنعام سورة مكية، فذلك لا يعني أبداً أن القرآن أغفل تزكية النفس وتهذيبها في أيام المجتمع المكي، خاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بين قوم كانت الضلالة قد ضربت بأطنابها في حياتهم، وعلى مسيرة حياتهم الاجتماعية خاصة، فجاء القرآن يأتي بأمهات الفضائل ليتبعها الناس، وأصول وجوامع الرذائل ليتركها الناس ويحذروها. وهنا سنتكلم بإطلالة عامة، ولن نأخذ الآيات آية آية، أو لفظة لفظة، أو حرفاً حرفاً؛ لأن الوصايا هنا ظاهرة بينة، وليست مسائل فقهية استغلق فهمها تحتاج إلى تحرير أقوال لعلماء وأئمة، وإنما هي وصايا ظاهرة بينة من رب العالمين جل جلاله. |
عظيم جرم الشرك بالله تعالى وعظيم حق الوالدين
والشرك بالله أعظم الذنوب وأجلها وأكبرها، ففي الحديث: (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وقد خلقك)، وهو من أعظم سوء الأدب مع رب العالمين جل جلاله، ومن عرف الله حق المعرفة لم يشرك به مثقال ذرة، إذ به يحبط العمل، وينفى العبد، ويحرم دخول الجنة أبد الآبدين، ولذلك صدره الله جل وعلا. والوالدان جعلهما الله جل وعلا سبباً في وجودك، فعظم الله جل وعلا حقهما، ومن تعظيم الله تعظيم من عظمه الله جل وعلا. كما أن سوء الظن بالله والخوف من الفقر لا ينبغي للمرء أن يتحلى به، ولهذا قال الله: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ [الأنعام:151]. |
عموم تحريم ظاهر الفواحش وباطنها
وحرم ربنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والناس في زماننا استغلوا التقنية الحديثة في الفواحش، فساعدتهم في توثيق ما يصنعون، فيلجئون إلى حدث من الفتيان أو إلى فتاة من الفتيات، فينتهزون من الغر أو من مؤمنة خطأً وقعت فيه فيوثقونه، ثم يجعلون من ذاك التوثيق -سواء أكان تسجيلاً صوتياً أم تصويراً يعرض- سبيلاً إلى تكرار تلك الفاحشة يهددون به من وقع في زلل أو خلل من المؤمنين، وهؤلاء الذين يجنحون إلى هذا إيمانهم ضعيف مع شبه انتفاء الإيمان منهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، فهؤلاء صنيعهم يدل على ضعف إيمانهم ويقينهم، ويظنون أنهم أحكموا الصنعة، وتناسوا أن هناك رباً قريباً لا يخفى عليه شيء. |
بيان عظيم قدرة الله على عباده ورقابته عليهم
وقد قدم الله النهي عن الشرك لأن التوحيد من أعظم ما يغرس في القلوب تعظيم الله، ومن تعظيم الله أن تتذكر أن الله رقيب عليك، فأصحاب هذا المنحى عياذاً بالله يتناسون قدرة الله ويتناسون بطشه وجبروته وعظيم انتقامه. ودليل ذلك قصة وقعت ذكرها الشيخ صالح الخضيري في كتابه (العبر في حوادث الدهر). وهو أنه قبل اثنين وخمسين عاماً تقريباً، -أي: عام ستة وسبعين للهجرة بعد الثلاثمائة تقريباً- في أحد أقاليم بلادنا المباركة كان هناك مطر غزير استمر أياماً حتى تعطلت مصالح الناس، وقصروا عن الذهاب والإياب، والبيوت يوم ذاك في ذلك الإقليم كان أكثرها من طين، فخاف أهلها من أن تسقط عليهم، ففروا إلا قليلاً، وخرجوا من بيوتهم، فاحتاج أحدهم إلى مال، فذهب إلى جاره يستقرضه، فلما دخل على جاره كان الجار طيب النفس سليم السريرة، وكان مريضاً، فرفع الوسادة، وأخرج صرة فيها جنيهات، وأعطاه ما احتاجه وطلبه، ثم رد الوسادة على الصرة. فهذا الطالب المقترض كان خبيث الطوية، فطمع في المال، فلما جاء الليل وحل الظلام وأمسى الناس تسور البيت، ولا حاجة به إلى أن يتكلف تسوره؛ إذ المطر ينزل والبيوت من طين، ثم جاء فوجد صاحبه نائماً وزوجته معه وطفلة رضيعة لهما على الفراش، فأحكم الصنعة، فحمل الطفلة بلحافها وغطائها ووطائها، ووضعها في فناء الدار والمطر ينزل، وتنحى قليلاً واختفى، وكان يؤمل أن يزداد تساقط المطر فتستيقظ الطفلة فتبكي فتسمعها الأم فتأتي إليها فيخلو الوضع، فيأتي هو إلى الوسادة والرجل مريض نائم فيأخذ المال، فوقع الأمر كما رسم، فاستيقظت الطفلة وأخذت تبكي، وتوالى بكاؤها، فاستيقظت الأم، ولكن الأم تعجبت لكون الطفلة ليست قادرة على المشي، وكيف انتقلت إلى فناء الدار، وزادها خوفاً أنها لم تجد وطاء ولا لحاف ولا فراش ابنتها، فقالت في نفسها: لو قدرنا أن الطفلة تقلبت فهذا قد يعقل أن يحدث، ولكن ما الذي ذهب بالفراش والوطاء إلى هناك؟! فازداد خوفها وأيقظت زوجها، فلما أيقظته قال لها: اذهبي الآن إلى الطفلة، فعبرت له عن خوفها، وأصرت على أن يذهب معها، فقام لا يتمالك نفسه ولم يكن به كسر، وإنما مرض وحمى، فخرج مع زوجته يبحثان عن الطفلة، فلما كانا في فناء الدار جاء هذا الذي خبثت نيته وقد خلا له الأمر، فرفع الوسادة وأخذ الصرة، وقبل أن يخرج سقط البيت كله عليه، فنجا الثلاثة بقدر الله، وانتقم الله منه. فتأمل -أيها المبارك- عظيم القدرة وعظيم اللطف في آن واحد، نجا الله بعض أوليائه بلطفه، وبنفس القضاء -والله عزيز ذو انتقام- انتقم الله جل وعلا من شخص آخر، ونحن لا نقول: إن هذا الرجل كافر أو غير كافر، فالأصل أنه مسلم، ونعلم أن هذا الذنب لا يخرج من الملة، ولن نكلف أنفسنا ما لا تطيق، ولكن نقول: إن هذا عبرة لمن يعتبر ولمن يتعرض لحياة الناس، ولمن يتعرض لمظالم العباد، ولمن يظن أنه لو ملك صوت فتاة أو صورتها أو صورة حدث أو صورة عورة مكشوفة فإنه يستطيع أن يساوم بها جنسياً أو مالياً وقد تسلط، فقد يكون خصمك ضعيفاً جداً، ولكن هناك قوي عزيز جليل عظيم لا تخفى عليه من عبادة خافية. فتأمل في الخبر الذي سقناه. وأما كيف عرف الناس هذا الأمر؛ فإنه لما سقط البيت فزع الجيران، وهم لا يشكون لحظة في أن صاحبهم وجارهم قد هلك، ولكنهم وجدوا الثلاثة مجتمعين خارج الدار، حتى قال الشيخ صالح الخضيري في كتابه: إن بعض الجيران قالوا: إن الملائكة أنجتكم، وهم لا يدرون بحال الأول، فهنئوهم بالسلامة، وقالوا: إذا أصبحنا وطلع النهار فنحمل الأنقاض التي سقطت لنخرج المتاع والأثاث، فلما استيقظوا صباحاً وطلع النهار كان هناك شيء من الضوء، وكانت الشمس محجوبة بالغيوم، فلما حملوا الأنقاض إذا بذلك الرجل الجار الذي يعرفونه ميتاً وفي يده الصرة، فهو أحكم الصنعة، ولكنه نسي قدرة الجبار جل جلاله. |
أهمية تدبر آيات الوصايا الإلهية والتوجيهات الربانية
فمثل هذه الآيات التي تحمل وصايا إلهية وتحمل توجيهات ربانية، ويقول الله في خاتمتها: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ [الأنعام:151] يجب أن يصغي الإنسان إليها بقلبه قبل أذنه، ولا بأس بأن نعرج في بعض تفسيرنا على قضايا فقهية وعلى قضايا تاريخية وعلى قضايا أدبية؛ لندلل على أن القرآن عظيم؛ لأن كل العلوم تفيء إلى القرآن، وتبقى آيات لا يحل لمؤمن أن يقرأها أو يسمعها أو تتلى عليه في صلاة أو غير صلاة ثم يمر كأنه لم يسمعها، بل ينبغي أن تؤثر فيه. فإذا أخبرت بخبر كالقصة التي سردناها نقلاً فتذكر ما ذكره الله جل وعلا في كلامه في كتابه العظيم من إهلاك لأمم قد خلت وقرون قد سبقت نازعوا ربهم فأوردهم الله جل وعلا طريق الثبور والوبال والهلاك، قال الله جل وعلا: مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ [هود:100]، فما كان حصيداً دل على قوته، وما جعله الله جل وعلا قائماً يتعظ به غيرهم، وقال ربنا: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [الحجر:76] أي: في طريق قائم يراه من ينظر بعين بصيرته قبل أن ينظر بعيني بصره، والمقصود الاتعاظ بكلام الله جل وعلا والخوف منه، وأن الإنسان لا يجعل حياته معلقة بالخلائق، وإنما يجعلها معلقة بربه تبارك وتعالى، فانظر إلى لطف الله بذلك الرجل وزوجته وابنته، كيف أن الله جل وعلا جعل من أراد بهم مكراً سبيلاً إلى نجاتهم، ومن أراد ما حرم الله بطريقة حرمها الله أورده الله طريق المهالك. وقد يغتر بعض الناس؛ لأنه قد يصنع الأمر تلو الأمر ولا يقع، ولكن الله جل وعلا يقول: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ [إبراهيم:42]، فربنا تبارك وتعالى عظيم جليل ذو قدرة. |
أهمية تعليق الآمال بالله تعالى
وقد لا تكون متلبساً بالفواحش، ولكن قد تبتلى بنوع من الابتلاءات في جسدك أو في مالك، فتيقن أن الله لطيف وأن الله تبارك وتعالى لا ينفك قدره من لطفه، قال الله عن نبيه يوسف: إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ [يوسف:100]، فالله تبارك وتعالى يجتمع لطفه وقدره في آن واحد. فليعلق الإنسان قلبه بالله، وليبن على تعلقه بربه آمالاً عظيمة، وحق له؛ لأن من فتح الله عليه وتولاه لا يمكن أن يخسر أو يحبط شأنه، ولهذا إذا سمع الإنسان وهو في صلاة الليل في رمضان أو في غيره الإمام يدعو، أو صلى لوحده ودعا فقال: (اللهم تولني فيمن توليت) فليستشعر معنى: (تولني فيمن توليت)، فيعلم أن الله جل وعلا إذا تولاك لا يمكن أن تخذل أبداً؛ لأنه ليس بعد ولاية الله ولاية، والعاقل يستصحب في دعائه أن يقول: اللهم إني أسألك رضاك؛ فإنه لا يضر مع رضاك سخط أحد، وأسألك ولايتك؛ فإنه لا يذل من واليت، وأسلك خيرتك؛ فإنه لا يعلم الغيب والشهادة إلا أنت. فإذا كان الله جل وعلا قد منحك رضاه وأعطاك ولايته واختار لك، فحق لك بعد ذلك أن تسير غير مبال بما يكون وراءك أو حولك أو أمامك، فمن أين تؤتى وقد تولاك الله؟! ومن أين تهلك وقد اختار الله لك؟! وأي شيء تخاف وقد رضي الله عنك؟! فهذه أمور يحسن بالمؤمن التقي النقي الذي يريد ما عند الله أن يستصحبها ليل نهاراً غدواً ورواحاً سفراً وإقامة. |
تفسير قوله تعالى: (وأوفوا الكيل والميزان بالقسط...)
أهمية العدل والإنصاف ثم قال الله جل وعلا فيما ذكره في هذه الآيات: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا [الأنعام:152] والعدل وإنصاف الناس مما أمرنا الله جل وعلا به. وقد ذكروا أن علياً رضي الله تعالى عنه وأرضاه فقد درعاً حطمية له يوم صفين، فلقيها يهودي، فلما رآها علي بعد المعركة مع اليهودي طلبها منه، فأنكر اليهودي، فاحتكما إلى شريح القاضي ، فقال شريح لـعلي : هل معك من شهود، فقال: نعم، ابني الحسن وغلامي قنبر ، فقبل شريح شهادة الفتى الغلام، ولم يقبل شهادة الحسن ، فأنكر عليه علي قائلاً: ألم تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) أترد شهادة رجل من أهل الجنة؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، هو من أهل الجنة بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكني لا أقبل شهادة ولد لوالد، فقال: ما عندي غيرهما، فأبقى القاضي الدرع مع اليهودي، فنطق اليهودي بعد أن تبين له الأمر واستبصر الوضع بالشهادتين وأسلم، بعد أن قال: أمير المؤمنين يقاضيني إلى قاضيه ويحكم لي عليه؟! إن هذا لدين حق، وهو دين حق فهمه اليهودي أو لم يفهمه، لكن لما وجد جيل يحمل الدين الحق على الوجه الأكمل زاد إيمان الناس، فكان سبباً في دخول الناس في دين الله أفواجاً، وإذا وجد جيل لا يحمل دين الله على الوجه الأكمل فلا ريب في أن ذلك من أسباب نفور غير المسلمين عن الدين، ولكن ذلك لا ينفي إقامة الحجة عليهم: أبَيْتَ اللعنَ ما أدركت ديني ولو أدركته لرأيت ديناً فكم يعزى إلى الإسلام ذنب وكل الذنب ذنب المسلمين والمقصود أن الإنسان يعدل في قوله وفي شهاداته، ويراقب الله. |
ذكر خبر ابن مسكويه مع الخليفة
وأما وقد جاء ذكر قنبر فإن قنبراً -كما قلنا- كان غلاماً لـعلي ، وقد ذكروا أن ابن مسكويه كان يؤدب ابني أحد الخلفاء، وفي ذات يوم كان جالساً عند الخليفة، فدخل ابنا الخليفة فأعجبا أباهما، فقال الخليفة لـابن مسكويه وكان عن يمينه ذا حظوة عنده: أيهما أفضل: ابناي أم الحسن والحسين ؟! فلم يملك ابن مسكويه نفسه، وغاب عنه رشده، فقال: والله لنعلي قنبر أفضل من ابنيك، ليس الحسن والحسين ، فأصاب الخليفة الحنق، فقتله بأن أمر الحرس بأن ينزعوا لسانه من قفاه، انتقاماً منه. والإنسان أحياناً قد يبتلى بسؤال في موطن لا يملك فيه الإجابة، فيواري أو يجيب إجابة -كما يقول العامة اليوم- دبلماسية يخلص بها من بطش الجبارين، وليس له سبيل إلى أن يهلك نفسه، ولكن أحياناً يغيب الوعي ويغيب الرشد إذا أراد الله جل وعلا أن يتم أمره، كما قال تعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11]. قال ابن عباس : إذا جاء أمر الله تخلت عنه الملائكة. لأن قدر الله ماض لا محالة. فهذه الوصايا -كما قلت-: يجعلها المؤمن نبراساً، فيتوخى أمهات الفضائل ويسير عليها، وينظر في أمهات الرذائل وجوامعها -عياذاً بالله- فيجتنبها، والموفق من وفقه الله، والإلحاح على الله في الدعاء وإخلاص النية مما ينال به المرء مطلوبه ويحقق المؤمن به غايته. جعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه. هذا ما تحرر إيراده وتهيأ إعداده حول هذه الثلاث الآيات المباركات من سورة الأنعام، والله تعالى أعز وأعلى وأعلم. وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين. |
جزاك الله خير على مجهودك الرائع والمميز وجعلك من أهل جناته وبارك الله في جهودك تحـــــــــــياتي وتقديري |
بارك الله فيك
|
اشكرك اخي الكريم على مرورك الغالي
فجزاك الله خير الجزاء ورحم الله والدينا ووالديك ولكم أجمل تحياتي وتقديري |
يادي النور يادي الهنه
يمرحب يمرحب يابوفهد بارك الله فيك على جهودك الملموسه يالغالي |
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() الساعة الآن 02:24 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. Designed & TranZ By Almuhajir