ملتقى قبيلة حرب الرسمي

ملتقى قبيلة حرب الرسمي (http://www.m-harb.net/vb/index.php)
-   الـــمـــلـــتـــقـــى الــــــــــعــــــــام (http://www.m-harb.net/vb/forumdisplay.php?f=47)
-   -   إهداء لأعضاء وزوار الملتقى الإسلامي بملتقى حرب (http://www.m-harb.net/vb/showthread.php?t=154149)

طلق المحيا 20-12-16 06:22 PM

🕋 معنى قوله تعالى: (اهبطوا)
ظاهر الأمر بالهبوط أنه تم لأربعة:

لآدم، وحواء، وإبليس، والحية، أما آدم وحواء وإبليس فلا أظن أحداً ينازع فيها، لكن القضية قضية الحية لا بد من قرائن تدل على هذا، والمشهور عند أهل العلم أن إبليس دخل الجنة عندما أراد أن يوسوس لآدم عن طريق الحية، هذا أمر.

الأمر الثاني: النبي صلى الله عليه وسلم قال في حق الحيات: (ما سالمناهن منذ أن حاربناهن) كما في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في منىً في غار، والقرآن منه مدني ومنه مكي، ومنه ليلي ومنه نهاري، ومنه سمائي ومنه أرضي، ومنه ما نزل في الكهوف، والمعنى باعتبار النزول، فكان النبي صلى الله عليه وسلم في غار ومعه أصحابه يتلو عليهم: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا [المرسلات:1] لتوها نزلت، يقول ابن مسعود : (نأخذها رطبة من فيه عليه الصلاة والسلام، فإذا بحية فقال صلى الله عليه وسلم: اقتلوها! قال: فابتدرناها لنقتلها فآوت -يعني: رجعت إلى جحرها- فقال عليه الصلاة والسلام: سلمت من شركم وسلمتم من شرها) شركم يعني: القتل، وشرها: أذاها، فهذه القرائن تدل على أن الحيات عدو، فتؤكد أن الحية هي رابع من نزل من السماء مع آدم وحواء وإبليس.

يتعلق بالحديث هذا نقطة مهمة جداً وهي أن الورع شيء قلبي وليس شيئاً مصطنعاً يصنع ليراه الناس، وإنما الورع ينبثق من ذات الإنسان، فإذا جاء عند المرء ما يغلب على الظن أنه ليس بورع تركه، ولو ظن الناس أن في تركه ترك للورع، فهذا نبي الأمة ورأس الملة يتلو القرآن وحوله أصحابه فتخرج حية فيقطع الوحي ويقول: (اقتلوها)، والصحابة يتركون النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ويذهبون إلى حية ليقتلوها.

لو حدث هذا في زماننا لشنع الناس على فاعليه؛ لأن المدارك تختلف، شتان بين من همه رضوان الناس وكيف يصل إليهم، وبين من همه الحقائق كيف تطبق على الوقائع! يختلف الصنفان اختلافاً جذرياً، العدو عدو لا يمكن أن يتغير ولو لان مرة أو اتفقت مصالحك مع مصالحه مرة، فهو عدو لا يؤمن ولا يوجد عاقل له مسكة من عقل يأمن عدوه قط، فإذا أمن عدوه فقد أسلم نفسه لعدوه يسوقه كيف يشاء، قيل لـمعاوية رضي الله تعالى عنه وأرضاه: ما بلغ من عقلك؟ قال: لم أأمن أحداً قط.

والناس درجات، فإذا كان هذا مع الخلان والأصحاب والخلطاء والقرباء فكيف بالأعداء؟ وإذا كان إبليس قد أقسم لأبوينا أن ينفعهما فأهلكهما بالذنوب فكيف وقد أقسم لله أن يهلكنا؟! ماذا سيفعل بنا؟ فأعظم الأعداء إبليس، قال الله عنه: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6] على هذا سواءً في عداوتنا مع إبليس فراراً منه وطلباً للآخرة أو مع غيره ممن حولنا فالعدو عدو، والإنسان العاقل يكون واضحاً في تعامله، ثمة أمور يمكن إرجاؤها، وثمة أمور لا تقبل الإرجاء ولا التأخير أبداً كقتل الحية هاهنا.

طلق المحيا 20-12-16 06:26 PM

🕋 معنى قوله تعالى: (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم )
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38] الإنسان أعظم ما يعتريه أن يخاف مما هو قادم عليه، أو أن يحزن من شيء قد فات، هذا أعظم ما يعتري العبد، فلما كان كل بلاء ينطوي تحت هذين أمن الله جل وعلا أهل طاعته منه فتكرر في القرآن كثيراً: (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)، ولكن الناس كلما بعد فقههم عن ألفاظ القرآن ومعانيه جعلوها ألفاظاً دارجة على ألسنتهم، فيكثر على ألسنة العامة أنهم يذكرون سياقاً من القول ثم يقولون: (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)، ويرونها كلمة هينة يتمون بها كلامهم لبعد الناس عن المعنى الحقيقي لمراد الله جل وعلا.

والإنسان إذا أتاه الموت يخشى مما بعده: يخشى من القبر.. يخشى من الصراط.. لا يدري أين مآله، ويحزن على ما كان لديه من قرابة وأهل ومنصب وجاه ومال وأولاد وضعفاء وزوجة وغير ذلك، فتأمنه الملائكة مما هو قادم، وتطمئنه ألا يحزن على ما قد فات، ومن وفق لهذين فقد سلم، وهو السلام الذي أراده الله بقوله في حق الحبيبين النبيين يحيى وعيسى: وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم:33].

طلق المحيا 20-12-16 06:28 PM

🕋 تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار)
قال جل وعلا: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:39] قال: (هم فيها خالدون) قدم الجار والمجرور على الخلود فأفاد الحصر أي: أنهم خالدون فيها أبداً، وفي أول الآية قال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)، لماذا قال الله: (وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)؟ معلوم أن الكفار مكذبون بالآيات لكن الله قالها حتى لا ينصرف الكفر الأول إلى كفر النعمة، لو قال: والذين كفروا بآياتنا قد ينصرف إلى كفر النعمة، وكفر النعمة لا يوجب الخلود في النار على إطلاقه، لكن هنا قال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) فقول الله جل وعلا: (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) دلالة على أنه يقصد الكفار الحقيقيين، وقد دل على أنه يقصد الكفار المنكرين ليوم البعث واليوم الآخر طريقان:

الطريق الأول: قوله بعدها: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا).

الطريق الثاني: الحصر في قوله جل وعلا: (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أي: النار.

طلق المحيا 20-12-16 06:29 PM

🕋
تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ..)
الآيات السالفة كانت عن أحوال أهل الكفر وتقريعهم وبيان الحق لهم، ثم انصرفت السورة إلى ذكر اليهود، وناداهم ربهم جل وعلا بقوله: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:40]، واليهود كانوا يسكنون المدينة، وكانوا في الأصل على ملة موسى ثم إنهم بدلوا كما هو معلوم، وكان في هؤلاء اليهود حملة كتاب يقرئون كتابهم، مطلعون على أسراره، والقرآن جاء معجزاً بلفظه للعرب، وجاء معجزاً بعلمه لأهل الكتاب، وتحرير ذلك وبيانه على الوجه التالي:

العرب كانوا أمة بليغة فلما نزل عليهم القرآن على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم أذهلهم ذلك الرقي في البيان، وهم أهل صنعته ولم يقدروا على أن يحاكوه، فلهذا قالوا عنه: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [المدثر:24] .

أما اليهود العبرانيون فلم ينزل القرآن بلغتهم، بل نزل بلغة العرب، لكنهم كانوا أهل علم فكشف الله بالقرآن جماً من العلم الذي كان مكنوناً في صدور علمائهم، فكان الإعجاز بالنسبة للقرآن إليهم أن ما لم يطلعوا عليه أتباعهم أطلع الله هذه الأمة عليه، وأخرج الله جل وعلا ما هو مكنون في صدور أولئك العلماء للناس، فكما كان القرآن معجزاً بلفظه للعرب كان معجزاً بعلمه لأهل الكتاب.

وبعض هذه الأخبار التي ذكرها الله عن بني إسرائيل لا يعرفها إلا قلة من أهل الكتاب، بل إن منها ما لا يعرفه أهل الكتاب أصلاً، وهذا كله يدل على أن هذا النبي هو النبي الموعود الذي بشر الله جل وعلا به، وبشر به الأنبياء من قبل.

قال الله تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:40] مقصود من القرآن كسب الناس ووعظهم، فلاطفهم ربهم حتى تقوم عليهم الحجة وتتضح المحجة، فناداهم الله جل وعلا نداءً كريماً: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ)، وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن خليل الله إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، ومن ذريته نشأ بنو إسرائيل، فناداهم الله تعالى باسم عبد صالح هو إسرائيل، وبعض العلماء كـالجوهري في الصحاح يقول: إن الأنبياء الذين لهم اسمان مثل إسرائيل ويعقوب، ومحمد وأحمد جاءت في القرآن، وذكر أن ذا الكفل وإلياس شخص واحد، لكن الجوهري رحمة الله تعالى عليه صاحب الصحاح وإن كان إماماً في اللغة لكنه ليس معدوداً في علماء التاريخ؛ فقوله هذا لا يقبل، أما يعقوب وإسرائيل فنعم، وأما محمد وأحمد فنعم، أما إن إلياس هو نفسه ذو الكفل فلا، فقد فرق القرآن بينهما، ثم ذكر المسيح، والمسيح اختلف هل هو اسم أو لقب؟ والمقصود أن إطلاقه هذا في كتابه غير ظاهر الدلالة.

نعود إلى الآية، قلنا: إن الله نادى هؤلاء اليهود نداء كرامة فنسبهم إلى عبد صالح استعطافاً لهم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40] ولله جل وعلا على كل خلقه نعم، لكن على بني إسرائيل نعم مخصوصة، وهنا ذكرها الله مجملة، وسيأتي التفصيل بعد ذلك، لكن من أعظم النعم نجاتهم من فرعون، والمن والسلوى في الصحراء، وكلها ستأتي تباعاً.

وقوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) اختلف العلماء في المقصود بالعهد، وضربوا فيه مضارب شتى، وأجمعها عندي أن يقال: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) أي: بامتثال أوامري، وهذه عبارة البغوي رحمه الله في تفسيره.

(أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) أي: بالقبول والثواب، (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) .

طلق المحيا 20-12-16 06:30 PM

تفسير قوله تعالى: (وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم)
قال الله تعالى: وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة:41]. (آمِنُوا) أمر، (بما أنزلت) هو القرآن، (مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ) التوراة.

(وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) من المعلوم أن القرآن أول ما نزل نزل بمكة، فأول من كفر بالقرآن مشركو قريش، فلا يقولن قائل: إن في القرآن تعارض، وفهم السياق يساعد إلى الوصول إلى الحقائق، الحقيقة تقول: إن هذه الآيات المخاطب بها في المقام الأول: علماء اليهود وأحبارهم مثل كعب بن الأشرف وأمثاله، وهؤلاء كانوا يسوسون الناس، وفي كل ملة الناس تبع لعلمائهم ولهذا قيل:

معشر القراء يا ملح البلد من يصلح الناس إذا الملح فسد

بالملح نصلح ما نخشى تغيره فكيف بالملح إن حلت به الغير

فـكعب الأشرف وأمثاله من أحبار يهود آنذاك كانوا رءوساً، ولم يكن هناك يهود في مكة، فلما أنزل الله القرآن على نبيه في المدينة كما أنزله عليه في مكة خاطبهم الله جل وعلا؛ لأن أصل الصدارة لهم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:40]، فيخاطب الله العلماء من أهل الكتاب: (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) أي: فيتبعكم الناس على ذلك الكفر.

(وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) بعض المذاهب المعاصرة تقوم على أن يدفع الأتباع للرؤساء فيجد الرؤساء المتصدرون الآخذون بزمام العلم كسباً من سفلة الناس وعامتهم ودهمائهم، فإذا بينوا للناس الحقائق التي أنزلها الله -لا الحقائق التي أضاعوا الناس بها- يحصل من هذا أن العامة يتركونهم، فإذا تركوهم خسروا ذلك المتاع الذي يجنونه من ورائهم، فالله جل وعلا يقول: لا يمنعنكم -أيها الأحبار- ذلك الكسب الدنيوي الذي تحصلون عليه من الأتباع أن تتقوا الله جل وعلا في هذا النبي فتخبروا أتباعكم بأن هذا النبي حق من عند الله.

وقول الله جل وعلا: (وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) فكل ثمن مقابل القرآن فهو قليل، ولو أن أحداً أعطي الدنيا على أن يتكسب بالقرآن لأجل مسألة دنيوية محضة فهي تعد قليلاً، بل لا يوجد قياس أبداً بين أي كسب دنيوي بالقرآن وبين القرآن، لكن هذا لا يعني عدم أخذ الأجرة على تعلم القرآن، فهذه مسألة أخرى اختلف العلماء فيها، وأكثر العلماء اليوم على الجواز محتجين بحديث: (إن أعظم ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) .

قال الله جلا وعلا: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة:41] هنا مسألة نحوية تتكرر أحياناً (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) كافر: مجرورة لأنها صفة لموصوف محذوف، والتقدير: ولا تكونوا أول فريق كافر به، وإنما أجبرنا على هذا التقدير أن العرب في اسم التفضيل لا بد أن يوافق ما بعده ما قبله.

(وَلا تَكُونُوا) قبل اسم التفضيل الأول واو جماعة فلا بد أن يكون ما بعدها مجموع، وكلمة كافر مفرد فلا تناسب واو الجماعة في: (وَلا تَكُونُوا) فيصبح التقدير: ولا تكونوا أول فريق.. أول قوم (كَافِرٍ بِهِ).

طلق المحيا 20-12-16 06:32 PM

🕋
تفسير قوله تعالى: (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق...)
قال الله تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42] الحق الذي كتمه أحبار اليهود هو التعريف بالنبي صلى الله عليه وسلم.

ثم دعاهم الله جل وعلا للإيمان والدخول في سلك الرحمن، قال جل وعلا: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43].

طلق المحيا 20-12-16 06:33 PM

🕋

تفسير قوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ...)
قال تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44] يقال في تحقيق هذه الآية والعلم عند الله: إن بعض علماء يهود كان إذا جاءهم عامة اليهود وأخذوا عليهم عهوداً ومواثيق أن يبينوا لهم الحق بينوه لكنهم أي: الأحبار لا يتبعونه فعاتبهم الله جل وعلا بقوله: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) قال العلماء كـابن سعدي وغيره: هذه الآيات وإن جاءت في سياق اليهود وذكر ما يوعظون به ويزجرون إلا أن هذه الأمة مخاطبة بها، فالمؤمن الحق الذي يريد أن يكون رأساً في الدين يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويلتزم جماعة المسلمين، وإذا أمر بشيء بدأ به بنفسه، قال بعضهم:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم

ابدأ بنفسك وانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

والأبيات تنسب لـأبي الأسود الدؤلي رحمه الله تعالى، واسمه: ظالم بن عمرو ، وله من اسمه نصيب، فإنه دخل المدينة في اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما دخلها كان الصحابة لتوهم قد فرغوا من دفنه عليه الصلاة والسلام، فلم ير أبو الأسود رسولنا صلى الله عليه وسلم، فلا يعد صحابياً بل يعد تابعياً؛ لأنه رأى الصحابة، وكان إماماً في النحو.. إماماً في القراءة.. إماماً في العلم.. إماماً في الأخبار في شتى شئون الحياة، لكنه كان مبتلى بالبخل، ويقولون: إنه شذ عن القاعدة، فالعرب تقول: لا يسود بخيل، وإنما ساد من البخلاء اثنان: عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى فقد عنه كان فيه نوع من الشح، وظالم بن عمرو الذي هو أبو الأسود الدؤلي ، فهذان سادا رغم شحهما وبخلهما، والنبي عليه الصلاة والسلام لما قال للأنصار: (من سيدكم؟ قالوا: الجد بن قيس على بخل فيه قال: وأي داء أدوأ من البخل؟! ليس بسيدكم) لأن طالب المال لا يمكن أن يسود، قال بعضهم:

بالعلم والمال يبني الناس ملكهم لم يبن ملك على جهل وإقلال

وقال المتنبي :

الجود يفقر والإقدام قتال.

فالذي منع الناس من الوصول إلى معالي الأمور: الشح إما بالمال أو بالنفس، وطلاب المجد لا يشحون بأنفسهم ولا بأموالهم.

ذكرنا بيت أبي الأسود الدؤلي : لا تنه عن خلق وتأتيَ مثله، وتأتي منصوبة لا تنطقها وتأتي؛ لأن الواو هذه جاءت بعد نهي فتضمر بعدها أن وجوباًً، ويصبح الفعل منصوباً بأن وجوباً دل عليه أن الفعل مسبوق بطلب وهو هنا النهي.

طلق المحيا 20-12-16 06:35 PM

🕋
تفسير قوله تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة ...)
قال الله جل وعلا: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45] .

الصبر في اللغة: الحبس؛ ولذلك يذكر في كتب التاريخ: قتل فلان صبراً، يعني: قتل وهو ينظر إلى الموت، وليس في ساحة المعركة، وإنما حبس حتى ينتظر الموت، هذا معنى قتل فلان صبراً.

بعض العلماء يقول: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ): الصبر المقصود به هنا: الصوم، ويستدلون على ذلك بدليلين: أحدهما من الأثر والآخر من النظر، أما دليلهم من الأثر فيقولون: إن رمضان يسمى شهر الصبر، وأما من النظر فإنهم يقولون: إن الصلاة ترغب في الآخرة، والصوم يزهد في الدنيا، وهذان من أعظم أسباب النجاة، لكن الحق الذي ندين الله به: أن الصبر هنا بمعناه العام، ويبعد تخصيصه بالصوم.

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) الله جل وعلا أمرنا أن نستعين بالصبر والصلاة، لكن على أي شيء نستعين بهما؟ نستعين بهما على أن نذكر الآخرة وندفع بلاء الدنيا، (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ).

ثم قال ربنا: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45] أكثر أهل العلم يرى أن الإفراد هنا ليس مقصوداً، فقوله: (لَكَبِيرَةٌ) عائد على الصبر وعلى الصلاة، ويحتجون بأنه جرت سنن العرب في كلامها أنهم يطلقون المفرد ويريدون به المثنى، أو يثنون ويريدون به المفرد، وقولهم هذا حق، لكني أقول: إن قول الله: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ) المقصود الصلاة فقط.

طلق المحيا 20-12-16 06:37 PM

🕋 تفسير قوله تعالى: (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ...)
قال الله تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:46] مر معنا: أن الإنسان كلما تيقن أنه سيلقى الله كان أعظم باعث في نفسه على الطاعة، وإنما تأتي المعاصي، والإسراف في الذنوب، واقتحام الكبائر والسفر إليها، وعدم المبالاة فيها؛ من قلب رجل ليس متيقناً بملاقاة الله، هؤلاء الذي يأكلون أموال اليتامى ظلماً، أو يأكلون الميراث ويمنعون أصحاب الحقوق؛ غالب الظن أن اليقين في قلوبهم بملاقاة الله بعيد؛ لذلك يتجرءون على المعاصي تجرؤاً غير محمود، لكن الله جل وعلا قال:

وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:45-46]، والسياق القرآني دائماً يتكلم عن هذه القضية: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281] .. يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6] .. إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15] .. وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا [الشورى:18] هذا أسلوب القرآن في تغيير قلوب العباد.

طلق المحيا 20-12-16 06:38 PM

🕋 تفسير قوله تعالى: (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً..)
قال الله جل وعلا: وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:48] من أعظم أخطاء أصحاب الملل أنهم يظنون أن المقاييس الأخروية كالمقاييس الدنيوية، فإن الإنسان قد يقع منه الخطأ والتثريب في أمر الدنيا لكنه قد ينجو بعوامل أخرى تساعده كالشفاعة، أو كالفدية، أو كالنصرة، لكن هذه الثلاث كلهن ممنوعات في الآخرة غير موجودة، قال الله: (وَاتَّقُوا يَوْمًا) هو اليوم الآخر، (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا) لا يستطيع أحد أن يتحمل وزر الآخر، (وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) المقصود الشفاعة المنفية؛ لأن المعتزلة ينفون الشفاعات على إطلاقها، وأهل السنة يبينون أن منها ما هو منفي، ومنها ما هو مثبت وقد حررنا ذلك في موضعه.

(وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) هناك عدل بالفتح، وعدل بالكسر: إذا كان الفداء من جنس المفدي فهو عِدل بالكسر، وإذ كان من غير جنسه فهو عَدل، وقد ذكر الله كفارة الصيد حال الإحرام فقال جل وعلا: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:95] فجاء بها بالفتح؛ لأن الصيام غير الصيد، لكن إذا كان الفداء من الجنس يسمى: عِدلاً كما جاءت في ألفاظ مهلهل ربيعة وهي طويلة: ليس عِدلاً، وهو يتكلم على أنه قتل من بني بكر كثيراً، وقال: مهما قتلت منكم لا يكون مكافئاً ولا فداءً لـكليب أخي؛ لأن مهلهلاً قاتل أبناء عمومته من أجل قتل أخيه كليب ، وكليب قتله جساس ، فأسرف مهلهل في القتل، وأئمة اللغة والمفسرون يستشهدون بهذه الأبيات كثيراً؛ لأنها فصيحة عربية، ويزعمون أن مهلهلاً هذا أول من قال الشعر، ومنها قوله:

لكن ليس عِدلاً من كليب إذا خاف المخوف من الثغورِ

والمقصود منها أنني لو قتلت منكم من قتلت فلا يكون كفؤاً لـكليب أخي، والشاهد: كسر العين؛ لأنهم كلهم من جنس واحد بشر، لكن لما ذكر الله الصيام وهو من غير الصيد قال جل وعلا: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:95].

طلق المحيا 20-12-16 06:39 PM

🕋تفسير قوله تعالى: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم ...)
قال الله تعالى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة:49].

هذه الآيات مر معنا نظائر كثيرة منها في سورة طه، لكن أحب أن أبين أن الله جل وعلا مليك مقتدر، وما كتبه الله جل وعلا في اللوح سيكون، ففرعون رأى في المنام أن ناراً خرجت فأحرقت أهل مصر كلهم ولم تصب بني إسرائيل بشيء، وكان بنو إسرائيل يوم ذاك مستضعفون في أرض مصر بعد أن دخلها يعقوب أيام ولاية ابنه يوسف.

فقرر فرعون أن يقتل كل مولود منهم، وأراد فرعون بذلك أن يمنع وجود موسى، فمن أجل أن يمنع فرعون وجود موسى قتل اثني عشر ألف صبي وكان موسى في قصره يأكل من طعامه ويشرب من شرابه، قال بعض أهل العلم: فشمر فرعون عن ساق الاجتهاد، وحسر عن ذراع العناد، يريد أن يسبق القضاء ظهوره ويأبى الله إلا أن يتم نوره فلا يمكن أن يغلب أحد مراد الله، الله يقول: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ [يوسف:21] وإنما هي سنون تطوى، وأيام تنقضي، ثم ينجلي مراد الله.

فبنو إسرائيل الله جل وعلا يمن عليهم بهذا الأمر: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [البقرة:49] ما هو سوء العذاب؟ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [البقرة:49] يعني: يبقونهن أحياء للخدمة ولأشياء أخر لا تذكر.

وَفِي ذَلِكُمْ [البقرة:49] هذه إشارة بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة:49] عجيب من المفسرين أن يجنحوا إلى أن البلاء هنا بمعنى النعمة، ويقولون: إن المقصود النجاة، فقد امتن الله بها على بني إسرائيل، والحق أنه يجب صرف البلاء هنا على النقمة.

والمقصود: أن الله جل وعلا يبين لبني إسرائيل ما كانوا فيه من بلاء عظيم، والمنة عليكم جاءت بأنكم كنتم في بلاء عظيم فأنجاكم الله منه، كقول الله جل وعلا في حق الخليل إبراهيم: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ [الصافات:106]، فجعل الله جل وعلا ما ابتلي به إبراهيم بلاءً عظيماً حتى يكون الفداء لإسماعيل بالكبش له نوع من القبول والموافقة والسياق والاتزان مع عظيم البلاء، فهذه عندي مثلها، ولا حاجة لأن يقال: إن البلاء يأتي في اللغة بمعنى النعمة، ويستشهدون بقول الله جل وعلا: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35] هذا صحيح لكنه ينبغي أن يعرف القرآن من سياقه الذي أنزل فيه.

طلق المحيا 20-12-16 06:40 PM

🕋 تفسير قوله تعالى: (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون ...)
قال الله تعالى: وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة:50] مر هذا معنا مفصلاً في سورة طه، فهنا يمتن الله جل وعلا على بني إسرائيل بما كان من إنجائه إياهم وهلاك عدوهم، ولا ريب أن السلامة من العدو والنجاة منه من أعظم المنن التي امتن الله بها على بعض خلقه لكن الله قال: (وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ) فهذه نعمة مشهودة للآباء وليست للأبناء، والمخاطب في الآية الأبناء بدليل قول الله تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:40]، والقرآن لا يخاطب أقواماً قد ماتوا لا تقوم عليهم حجة، والأصل أن الإنسان تبع لمن قبله إن لم يعلن تبرأه منه.فهؤلاء بنو إسرائيل أمة واحدة في تسلسل النسب، والله جل وعلا هنا يخاطب الأبناء ممتناً عليهم بنعمه على الآباء حتى يقيم الحجة عليهم، ويبين لهم أن الرب الذي امتن على آبائكم يطالبكم أن تتبعوا هذا النبي الأمي الذي ظهر بين أظهركم، وقد مر معنا أن حسان لما قال مفتخراً بمن ولد لامتُهُ العرب وقالت له: افتخر بمن ولدك، هو قال رضي الله عنه:ولدنا بني العنقاء وابني محرقفأكرم بنا خالاً وأكرم بذا ابنمافقال له النابغة الذيباني :يا ابن أخي افتخرت بمن ولدت ولم تفتخر بمن ولدكوالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أنت ومالك لأبيك)، فنسبها إلى الأعلى، ولم يقل للأب: أنت ومالك لابنك هذا محال! فالمقصود: أن الله جل وعلا يمتن على الأبناء بما أنعم به على الآباء حتى تقوم الحجة وتتضح المحجة على أولئك الأبناء.ومن أعظم ما من الله به على بني إسرائيل في الزمن السابق والدهر الفائت أنه منّ عليهم بالنجاة من كيد فرعون، وقد كان فرعون يسومهم سوء العذاب، يذبح الأبناء، ويستحيي النساء، فأغرقه الله جل وعلا وهم ينظرون إليه، ولم يعمل بنو إسرائيل لهذا ولا رمحاً واحداً، وإنما أغرقه الله جل وعلا بقدرته، وأنجاهم بفضله ورحمته حتى تقوم الحجة عليهم وقد أقيمت. وبعض هذا العلم كما سيأتي لم يكن يعرفه حتى الأحبار فذكره الله جل وعلا على لسان الرسول المختار حتى تقوم الحجة، والقرآن حجة علمية على بني إسرائيل كما هو حجة لفظية على العرب، فهو حجة في كل شيء على كل أحد.هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصل اللهم على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

طلق المحيا 20-12-16 06:41 PM

فضائح اليهود كثيرة، وقبائح أفعالهم مشهورة، وأخبارهم مع أنبيائهم شنيعة، وقد ذكر الله طرفاً من فضائحهم وقبائحهم وأخبارهم في سورة البقرة، وفي ذلك فوائد كثيرة، ودروس عظيمة.

طلق المحيا 20-12-16 06:42 PM

🕋

تفسير قوله تعالى: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده ...)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

فقد انتهينا إلى قول الله جل وعلا في الآية الخمسين من سورة البقرة: وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة:50]، وذكرنا أن هذه الآيات جاءت تبعاً لنداء الله جل وعلا لبني إسرائيل في قوله سبحانه: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:40]، كما ذكر الله جل وعلا بعضاً من أخبار بني إسرائيل ممتناً على الأبناء بما فضل الله جل وعلا به الآباء، فأقام الحجة عليهم وأظهر لهم المحجة.

ثم قال الله جل وعلا: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [البقرة:51] قد مر معنا ذكر الكثير من هذه الأخبار في شرحنا لسورة طه فلا معنى للتكرار، لكننا سنعلق قدر الإمكان مما يستوجبه المقام فنقول: (وَإِذْ وَاعَدْنَا) هذه فيها مفاعلة فكان الأمر من الله والقبول من موسى؛ ولهذا قال الله: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى)، فإن كلمة (واعد) تتطلب اثنان؛ فلهذا قال الله: (وَإِذْ وَاعَدْنَا) فكان الأمر من الله والقبول من موسى.

وبعض العلماء يقول: كان الوعد من الله والوفاء من موسى، واعد الله جل وعلا موسى عند جبل الطور في المدة التي كان فيها موسى يخاطبه ربه عند الميقات الزماني والمكاني، فاتخذ بنو إسرائيل العجل.

واتخذ: فعل يتعدى إلى مفعولين، واللغة مفتاح لفهم القرآن، فأحياناً تجد أمراً تستشكله لغوياً، ووجود الإشكال هو أول طرائق العلم، لأن العلم هو حل الإشكالات الموجودة، فلو قلت مثلاً: اتخذ يزيد التدريس مهنةً، فلو قلت: اتخذ يزيد التدريس، احتاجت الجملة إلى اكتمال إما أن يفهم من السياق، أو أن تقوله لفظاً.

والعجل هو صغار البقر، لو جاء إنسان واتخذ العجل طعاماً لضيفه فلا يمكن أن يحرج عليه فيه بل هذا هدي الأنبياء، فإن إبراهيم ذبح العجل إكراماً لضيفه، والله جل وعلا هنا يقول: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [البقرة:51] اتخذتم: فعل وفاعل، والعجل: مفعول به أول، لكن أين المفعول به الثاني؟ لم يذكره الله، لكن معلوم لكل أحد من سياق الآيات في سورة البقرة وطه وغيرهما أنهم اتخذوا العجل إلهاً يعبد من دون الله.

ومن طرائق القرآن في التشنيع عدم ذكر الشيء لشناعته، إذ لا يتصور عقلاً حتى يقع لفظاً، فالله لم يقل في القرآن: واتخذتم العجل إلهاً، إذ لا يتصور أن أحداً يعبد العجل بعد أن عرف الله؛ ولهذا لم يأت المفعول الثاني لاتخذ هنا ظاهراً، وإنما أضمر لبيان الشناعة في اتخاذه.

قال الله جل وعلا: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [البقرة:51] في فترة الغياب اتخذ بنو إسرائيل العجل إلهاً.

طلق المحيا 20-12-16 06:44 PM

🕋 .

تفسير قوله تعالى: (وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون)
قال الله تعالى: وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة:53] كل ما مضى من الآيات المبدوءة: وإذ مبدوءة بإذ الشرطية تتعلق بالزمان ومعناها: واذكروا إذ، واذكروا إذ آتينا موسى.. واذكروا إذ جعلتم.. واذكروا إذ فرقنا.

قال الله تعالى: (وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) من المعلوم أن الواو التي بين الكتاب والفرقان هي واو عطف، والأصل في العطف أنه يقتضي المغايرة، فهل الفرقان هنا غير الكتاب؟

الكتاب الذي أنزل على موسى هو التوراة، وبعض المفسرين يقولون: إن التوراة هي الفرقان، ويحتجون بآية سورة المؤمنون، ويقولون في العطف هنا: هذا عطف في الصفات لا في الذوات، وينزل التغاير في الصفات منزلة التغاير في الذوات، وهذا مر معنا تحريره فيما سبق، والمعنى: أن التوراة التي أنزلها الله على موسى وصفت بأنها كتاب، ووصفت بأنها فرقان، وممن رجح هذا العلامة الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه في أضواء البيان، واحتج بقول الله جل وعلا: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:1-3] فجاء بالعطف، والكلام كله عن إله واحد هو الله جل جلاله، لكن هذا تغاير في الصفات وليس تغايراً في الذات.

هذا ما اختاروه، والحق أنه يصعب علي قبول هذا هنا، فأرى أن الفرقان غير الكتاب؛ لأن الكتاب ليس صفة وإنما هو الاسم الأول الجامع للتوراة، والفرقان أو كونه ضياء صفات، فلو قال: وإذ آتينا موسى الفرقان والضياء لقلنا: إنها صفات لكن هذه تنزل عندي على قول الله جل وعلا: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب:34] فآيات الله: القرآن، والحكمة: ما أعطاه الله نبيه من غير القرآن، وقطعاً مثل ما أوتي نبينا صلى الله عليه وسلم نوراً وفرقاناً غير القرآن يحكم به ويهتدي به فقد أعطي أنبياء الله من قبل كموسى وهارون مع التوراة شيئاً خاصاً بهم غير الكتاب الذي يتلى على قومهم، هذا الذي يترجح والعلم عند الله.

طلق المحيا 20-12-16 06:45 PM

🕋 تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم ...)
قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ [البقرة:54] أي: واذكروا إذ قال موسى لقومه: يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ [البقرة:54] لم يأت معنا كلمة إله، لكن وضحت هذه الآية معنى (بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ) أي إلهاً.

فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ [البقرة:54] هنا أمرهم الله جل وعلا بقتل أنفسهم، والعلماء يقولون: أمر أن يقتل كل منهم أخاه، ويحتجون بآية: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا [النور:12] وتعبير النفس هنا: على الشخص الآخر، والذي يبدو لي أن المعنى أن كل إنسان أمر بقتل نفسه، فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة:54-55] وكل هذه الأحداث التي ذكرها الله في كتابه كانت وبنو إسرائيل في أرض التيه بعد نجاتهم من فرعون، فمتى طلبوا أن يروا الله جهراً؟

لما عبدوا العجل وذهب سبعون منهم مع موسى وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا [الأعراف:155]، هؤلاء الذين ذهبوا مع موسى طلبوا من موسى أن يرو الله جهرة، وقال موسى كما في آية الأعراف: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ [الأعراف:155] والمقصود: على تجرئهم على المعاصي، والله قال لنبيه: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء:153]، والتعداد هنا لما حصل منهم، ولنعم الله جل وعلا عليهم.

ثم قال الله جل وعلا: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:56] وهذا بعث حقيقي بعد موت حقيقي، قال الشنقيطي : ولا يجوز صرف القرآن عن ظاهره إلا بدليل.

ثم قال جل وعلا: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [البقرة:57] هذا كله مر معنا في سورة طه.

طلق المحيا 20-12-16 06:46 PM

🕋 تفسير قوله تعالى: (وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر ...)
قال الله جل وعلا: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا [البقرة:60] كانوا بصحراء التيه فبدهي أن يعطشوا، والدنيا تتقلب بأهلها ما بين جدب وما بين إمطار، ففي لحظات جدب طلبوا من الله عن طريق موسى الغوث؛ فاستسقى موسى لقومه، فأمره الله أن يضرب بعصاه الحجر، قال الله: (فَانفَجَرَتْ مِنْهُ) تقدير الآية: فضرب فانفجرت؛ لأن الانفجار ما كان بالأمر، الأمر كان لموسى، فنفذ موسى أمر الله فانفجر.

ويذكر المفسرون هنا أي حجر هذا؟ لأن الألف واللام إما أن تكون للجنس فتشمل أي حجر، أو للعهد، والعهد ينقسم إلى قسمين: عهد لفظي وعهد ذهني، وقطعاً لا يوجد عهد لفظي؛ لأنه لم يذكر الحجر من قبل، فما بقي حمله -إذا قلنا بالعهد- إلا على العهد الذهني، فقال بعض العلماء: إنه حجر كان الله جل وعلا قد آتاه موسى، ونقل عن سعيد بن جبير : أنه الحجر الذي هرب بلباس موسى عندما كان موسى يغتسل، لكن الذي يبدو لي -والله أعلم- أنه حجر غير معين؛ لأنه لم يرد لفظياً؛ ولا يوجد من الحجارة ما يمكن حمل الأمر الذهني عليه، فلم يرد في القرآن أن هناك حجراً اختص به موسى، والمرجع في كلام الله إلى كلامه.

فقوله تعالى: فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ [البقرة:60] أي: ذلك الحجر، اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا [البقرة:60] وكانت أسباط بني إسرائيل اثني عشر سبطاً، قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ [البقرة:60] فلا يختلطون، كل قبيلة، كل شعب يشرب من تلك العين، كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ [البقرة:60] كلوا من المن والسلوى واشربوا من الماء، وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة:60] العثاء في الأرض أشد أنواع الإفساد.

طلق المحيا 20-12-16 06:48 PM

🕋 تفسير قوله تعالى: (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد ...)
قال الله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ [البقرة:61] هنا ذكر المفرد والمراد به المثنى، ما الطعام الواحد؟ المن والسلوى، فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ [البقرة:61] مصراً جاءت منونة والمقصود بها أي مصر، وليس مصر المعروفة، وقد ذكر في القرآن مصر المعروفة، لكنها ليست المقصودة هنا.

وهذا الجواب غير متوقع: (فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ) والمقصود منه: إثارة الحياة في الناس ورفع الذل عنهم، فهم تاهوا في الأرض بسبب معصيتهم، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا [المائدة:22]، فتقاعسوا عن الجهاد: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، فهم لا يريدون أن يعملوا، ويريدون رزقاً فكان الجواب: (اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ) أي: إن كنتم تريدون البقاء والحياة فلا بد بالأخذ بأسبابها والسعي، ولا تنتظروا أن ينزل الأمر عليكم والرزق لديكم، فأمرهم الله جل وعلا بالسعي، فلأمر ما منع الله منهم تلك المطعومات حتى يحيي في قلوبهم ما يرفعون به الذلة عن أنفسهم (اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ).

نعود إلى قوله جل وعلا: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة:61] الباء هنا لحقت بالمبدل منه لا بالبدل، وقد شاع في أقوال الناس حتى عند بعض أرباب الفصاحة إلحاقها بالبدل، قال شوقي رحمه الله:

أنا من بدل بالكتب الصحابا لم أجد لي وافياً إلا الكتاب

هو أراد أن يقول: أنني تركت الأصحاب وأقبلت على الكتاب، لكنه جعل الباء في البدل، والصواب أن تكون في المبدل منه، قال الله: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) فالمبدل منه الذي هو خير، والبدل الذي هو أدنى.

والدليل على ما ذكرنا قبل أن الله أراد أن يحيي بهذا الجواب قلوبهم ليرفعوا الذل عن أنفسهم أنه قال بعدها: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ [البقرة:61]، والضرب في القرآن وفي اللغة يأتي في قضايا الإلصاق واللزوم: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا [الكهف:11]، يقول الفرزدق :

ضربت عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المنزل

الضرب في اللغة: يراد به الإلصاق واللزوم، والله يقول هنا: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [البقرة:61]، وكلمة (بَاءُوا) لا تأتي إلا في الغضب، لا تأتي في الأمر الحميد، وهذا أمر باق في بني إسرائيل إلى اليوم، فبرغم ما أعطاهم الله وأورثهم من أموال وسلطان ظاهر وقاهر على اقتصاد العالم وإعلامه إلا أنهم أخفياء، لا تكاد تعرف منهم أحداً، فهم غير مشاهير، أذلة في كل مكان، رغم أي سلطان يؤتونه عليهم التعب ولغيرهم أن يجني، وهم الآن متسلطون جداً على قرار اختيار الرئيس الأمريكي، لكن لا يوجد رئيس أمريكي يهودي، فهم يسعون وغيرهم يجني، فهم حتى في تسلطهم قل أن يحصدوا الثمرة العليا، يحصدون ما دونها، وهذا معنى قول الله: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ).

قال الله: ذَلِكَ [البقرة:61] أي: بسبب، بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة:61] ومن أشهر من قتلوه زكريا عليه السلام ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [البقرة:61].

طلق المحيا 20-12-16 06:49 PM

🕋 فسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا ...)
قال الله جل وعلا بعد أن ذكر نتفاً من أخبار بني إسرائيل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:62] .

هذه الآية مشكلة، فكثيراً ما يحصل السؤال عنها، حتى قال بعض المعاصرين: الله أساغ الأديان كلها ولم يحصرها في الإسلام، الله يقول: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:62]، من أين أتيتم بأن الله لا يقبل إلا ديناً واحداً؟! ويردون آية آل عمران!

ونحن قلنا دائماً: نقض الشيء لا بد أن يكون بإقامة الحق مكانه، فنقول: هناك فِرَق وقت تنزل القرآن، ووقت نزول سورة البقرة، ونزول هذه الآية، وهم: المؤمنون: محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واليهود، والنصارى، وعبدة النار الذين هم الصابئة، والمجوس عبدة النار، وقيل: إن الصابئة عبدة الكواكب، واختلف في تحديدهم، أياً كان الأمر فكان هناك ملل ونحل، والعبرة عند الله بالموافاة أي: بماذا تلقى الله، فلو فرضنا أن إنساناً دخل في الدين الإسلامي ومكث إلى قبل خاتمته ثم أعلن براءته من الإسلام فمات على غير الإسلام فهذا لا ينطبق عليه الوعد الرباني: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:62]، ولو أن رجلاً يهودياً قبل أن يوافي الله تاب وتنصل من يهوديته وآمن بالله واليوم الآخر فينطبق عليه قول الله جل وعلا: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:62]، فالله جل وعلا ذكر أهل الإيمان هنا مرتين متغايرين: الأول باعتبار دعواهم، والثاني: باعتبار موافاتهم بالإيمان والبقاء والثبات عليه، فالله يقول: إن الأمر والشأن بيني وبينكم أن تلقوني وأنتم مؤمنون بالله واليوم الآخر، سواء قلتم أنكم مؤمنون أو نصارى أو يهود أو صابئة، فإذا تنصلتم مما أنتم فيه وبقيتم على الإيمان بالله واليوم الآخر انطبق عليكم وعدنا: لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون، وعبر الله هنا بضمير الغائب.

طلق المحيا 20-12-16 06:50 PM

🕋 تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور ...)
ثم عاد القرآن ليذكر أخبار بني إسرائيل: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:63] رفع الطور كان وعيد حصل لموسى مع السبعين من قومه، رفع فوقهم حتى ظللهم كأنه يراد أن يلقى عليهم فتابوا لما رأوه، قال الله جل وعلا: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [البقرة:64] وهذه ظاهرة.

طلق المحيا 21-12-16 12:56 AM

🕋
تفسير قوله تعالى: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت ...)
ثم خاطب الله علماء بني إسرائيل المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:65-66].

أهل السبت أخبر الله عنهم في سورة المائدة، وعبر عن تلك القرية بأنها حاضرة البحر، وهي مفردة جميلة جداً يحسن بطالب العلم أن يستخدمها، بدل أن يقول: مدينة ساحلية يقول: مدينة حاضرة البحر.

المحرم أحياناً يكون تحريم طريقة، وأحياناً يكون تحريم عين، فلا بد أن ينتبه الإنسان إلى ما هو المحرم حتى يجتنبه، فلا يكون في خلط كما هو حاصل الآن، فمثلاً: بيع التورق المعاصر، يرى بعض أهل الفضل أنه نوع من الربا، ويقولون: لم يتغير في الأمر شيء، أنت وصلت إلى مقصودك لكنك غيرت الطريقة، فإذا ناقشته استدل بآية المائدة: تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:163] إلى آخر الآيات، ووضع الأمر في نصابه مهم جداً، فالمحرم في التورق: الطريقة قبل وقوعه، أما التورق فلا حرج فيه، فكون الإنسان يريد أن يحصل على مال هذا ليس بمحرم، لكن إن حصل عليه عن طريق الربا فهو محرم، وإن حاد عن الربا ولجأ إلى طريق غير ربوية فلا حرج فيه، فلا تنطبق عليه الآية، وأولئك القوم لم يحرم عليهم الحوت، وإنما حرم عليهم الصيد يوم السبت، فهم احتالوا على أن يصيدوا يوم السبت، فلأنهم صادوا يوم السبت باحتيال جعلهم الله جل وعلا قردة خاسئين، وهذا مهم جداً في تلقي العلم وفهمه، وعدم العجلة في الحكم على الأشياء، وإن كان قد قال بحرمة التورق علماء أجلاء.

قال الله جل وعلا: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا [البقرة:65-66] أي: هذا العذاب والنكال، نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا [البقرة:66] أي: للذنوب الحاضرة، وَمَا خَلْفَهَا [البقرة:66] أي: من ذنوب سلفت، وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:66] أي: ليتعظ بهم غيرهم.

طلق المحيا 21-12-16 12:57 AM

🕋
تفسير قوله تعالى: (وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها)
بعد أن تم الأمر قال الله جل وعلا: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [البقرة:72] وهذا أصل القصة فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [البقرة:73] أي: بعض البقرة كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:73] أراد الله من هذا الأمر بيان قدرته جل وعلا على إحياء الموتى، وهذا في زمن بني إسرائيل، لكن لو حصل هذا في زماننا يلجأ للقسامة، وهي باب معروف في الفقه.

طلق المحيا 21-12-16 12:58 AM

🕋
تفسير قوله تعالى: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ...)
قال الله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74] بعد أن بين الله لهم هذه الآيات الدالة على وحدانيته وعلى قدرته، وعلى أنه يجب أن يعبد دون سواه، وأن يخضع له بالقول والفعل: أخبر الله جل وعلا أن طول الأمد كان سبباً في قسوة قلوبهم، فعبر الله عن قسوة القلوب بالحجارة ولم يعبر عن قسوة القلوب بالحديد مع أنه قال سبحانه: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [الحديد:25]، لكنك تلاحظ أن الله ألان الحديث لداود، ولم يلن الحجارة لأحد إلا لخشيته، فالنار أعاذنا الله وإياكم منها قادرة على الحديد لكنها غير قادرة على الحجر، فالحجر لا يذيبه الحديد فلما أراد الله أن يشبه قسوة قلوب بني إسرائيل جعل مثلاً لها الحجارة، قال: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74] .

ثم قال: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ [البقرة:74] وهذه منافع دنيوية، ثم ذكر مرتبة أعلى: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة:74]، وهذا نعي على أصحاب القلوب القاسية، فإذا كانت الحجارة التي هي المثل الأعلى في القساوة يحصل منها أن تهبط من خشية الله فأي نعي لقلب من قلوب بني آدم الذي لا يلين من أجل ذكر الله! والله يقول: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] والقلوب الحقة التي على الفطرة لا تلين بشيء كما تلين بذكر الله جل وعلا تبارك وتعالى.

قال الله: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:74] .

نعود إلى الحجارة: الحجارة ذكرت في مسودة التاريخ الإسلامي بطرائق شتى، من أشهرها: الحجر الأسود، قد جاء في الأثر أنه نزل أشد بياضاً من اللبن وسودته خطايا بني آدم، هو حجر أعطاه الله لإبراهيم حتى يجعله في ركن البيت، ومنه يبدأ الطواف.

وجعل حجراً من حجار مكة يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم كما قال في الحديث: (إني لأعلم حجراً بمكة كان يسلم علي بالنبوة) .

وجعل النبي صلى الله عليه وسلم في سننه في حجة الوداع أن الحجر يرمى به، وهي الجمار، وهذا يقودك لشيء عظيم نبه عليه بعض الفضلاء: وأظنه الشعرواي رحمه الله قال: هناك حجر يرمى بأمر من الله ويرمى بحجر مثله بحصاة، وهناك حجر يقبل ويستلم ويبدأ منه الطواف وهو الحجر الأسود، فالعبرة في الأحوال الثلاث ليست ذات الحجر، وإنما العبرة أن نعبد ربنا جل وعلا كما شرع، فنحن نشخص بوجوهنا إلى القبلة في أي مكان نصلي فيه، ونحن لا نعبد الكعبة لكننا نعبد رب الكعبة، وهذه الحقائق التنبيه عليها جلي.

وفي بعض الدول يعلمون أبناءهم أن من عجائب الدنيا: الكعبة، ويريدون بذلك أمراً خفياً، فهم يقولون: إن هذه الكعبة من عجائب الدنيا السبع مثل حدائق بابل المعلقة، وأهرامات مصر، ومنارة الإسكندرية، وبرج بيزا المائل وأمثالها، ويقولون: إن الكعبة لأنها من عجائب الدنيا السبع فالعرب تعظمها، فأرادوا أن يلحقوا ما يحصل من الطواف بتعظيم وثني ناجم عن افتتان العرب بهذا البناء الذي لم يتغير على مر الدهور! لكن المسلمين إنما يعبدون رب الكعبة بطوافهم حول الكعبة، فهم يعظمون شعائر الله، وهذا يقودك إلى قول الله تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ [الحج:32].

وبعض الناس -هدانا الله وإياهم- يقول: كيف لا يعظم النبي صلى الله عليه وسلم، والله يقول: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [الحج:36]، فيقول في خطابه: ناقة وهي ناقة أمرنا الله أن نعظمها فكيف لا يعظم النبي صلى الله عليه وسلم؟!

فنقول جواباً: إننا لا نعترض أبداً على تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ينبغي أن يكون هذا التعظيم مصحوباً بالعلم، وشعائر الله كلها تعظم، لكن طرائق تعظيمها تختلف فهي مبنية على الشرع، فمن طرائق تعظيم الهدي نحره، فإراقة دمه وإزهاق روحه هذا نوع من تعظيمه قربة إلى الله، وتعظيم الكعبة بالطواف حولها، وتعظيم الحجر باستلامه وتقبيله، وتعظيم الركن اليماني باستلامه وتقبيله، ويفترق عن الحجر أنه يشار إلى الحجر لكن لا يشار إلى الركن اليماني، وتعظيم القلائد بتقليدها، والهدي أحياناً بإشعاره حتى يظهر فيه علامة تبين أنه هدي.

والمقصود من هذا كله: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ريب أنه من أعظم شعائر الله، لكن يعظم صلى الله عليه وسلم بالطريقة الشرعية التي أمرنا الله بها أن نعظمه، فنحن نحبه ونجله، ولا نرى أن قول أحد من البشر يضاهي قوله، وأنه صلى الله عليه وسلم أحب إلينا بعد الله من كل شيء، أحب إلينا من آبائنا وأمهاتنا، لكننا نعظمه بطرائق شرعية مصطحبة، وهذا معنى قول الله: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19]، والعاقل اللبيب يسير في الأمور دون أن تكون الأمور بين يديه مجتزئة يخلط بعضها ببعض، وهذه هي الفائدة العلمية لقضية جمع الأشياء بعضها إلى بعض، وإلحاق الأشباه بالنظائر حتى يسير الإنسان في طريقه إلى ربه على منهج سليم.

قال الله جل وعلا: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:74] هذا نوع من التهديد والوعيد لبني إسرائيل ولغيرهم.

وما ذكره الله جل وعلا من أخبار بني إسرائيل وإن كنا يخاطب به أبناؤهم الذين عاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن الخطاب للأمة كلها أن تتقي الله ربها، وأن تعرف ما حل بالأمم السابقة فتجتنبه، وما كان سبباً في رفعتها فتأخذ به؛ ولهذا ضرب الله الأمثال، وأخبر الله جل وعلا عن السابقين وأنباء الغابرين حتى تتضح المحجة لكل أحد في طريق سيره إلى الرب تبارك وتعالى.

هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصل اللهم على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

طلق المحيا 21-12-16 01:01 AM

ذكر الله في سورة البقرة كثيراً من الآيات التي تبين حقيقة اليهود، ومكرهم وخبثهم، وما انطوت عليه قلوبهم من الحسد والكبر والتمرد والطغيان. فعلى المسلمين أن يحذروا منهم، وألا يغتروا بهم أبداً، وعليهم أيضاً أن يحذروا من الاتصاف بصفاتهم، فإنها سبب غضب الله عليهم في الدنيا والآخرة.

طلق المحيا 21-12-16 01:02 AM

🕋

تفسير قوله تعالى: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم..)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه.

وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فما زلنا وإياكم نتفيء ظلال القرآن في سورة البقرة التي هي فسطاط القرآن، وقد انتهينا إلى قول الله تبارك وتعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74]، وذكرنا أن الله جل وعلا شبه القلوب القاسية بالحجارة، بل جعلها أشد قسوة من الحجارة، وبينا أن الله جل وعلا عدل عن تشبيه القلوب القاسية بالحديد؛ لأن الحديد له ما يلينه، قال الله جل وعلا عن نبيه داود : وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سبأ:10]، والحديد يلان بالنار، ولا يعرف أن الحجارة تلان بشيء آخر.

وقد بين الله جل وعلا أن من الحجارة ما يتفجر منه الأنهار، وأن منها -وهو الأعظم- ما يهبط من خشية الله.

ثم ما زال السياق في الحديث عن بني إسرائيل، وسورة البقرة تحدثت كثيراً -خاصة في أولها- عن بني إسرائيل، وناداهم الله جل وعلا منتسبين إلى نبي الله يعقوب بن إسحاق بن خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قال الله جل وعلا يخاطب المؤمنين: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:75] ، مما استقر عقلاً وطبعاً وشرعاً أن الطباع تتوارث، والله جل وعلا يخاطب المؤمنين الذين لديهم طمع في إيمان اليهود المعاصرين لهم القاطنين في المدينة آنذاك، وهم ثلاث قبائل: بنو قينقاع وبنوالنضير وبنو قريظة.

وهؤلاء القبائل الثلاث لابد لطالب العلم من إدراكهم؛ لأن كثيراً من القضايا في القرآن والسنة والسيرة على وجه الخصوص لا يحل إشكالها إلا بالاطلاع في التاريخ كما سيأتي في تفسير الآيات القادمة.

لاحظ أن الله جل وعلا قال: ( أفتطمعون ) ولم ينه عباده عن الدعوة، وفرق بين الأمرين كبير، والمعنى أن هؤلاء اليهود المعاصرين هم على سنن آبائهم الذين كانوا مع موسى عليه السلام، وموسى عليه السلام هو من أنبياء بني إسرائيل العظام وليس أول نبي لهم؛ لأن يوسف كان نبياً لبني إسرائيل، فإن مؤمن آل فرعون قال: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا [غافر:34]

واستطراداً اسم موسى مكون من كلمتين: مو بمعنى ماء في العبرانية، وشي بالشاء معناها الشجر؛ لأنه وجد بين ماء وشجر في نهر النيل سمي بهذا الاسم، وفي العربية قلبت الشين سيناً، وأصبحت موسى، وبالعبرانية ينطقونها بالإمالة قليلاً، وهو اسم شائع عندهم إلى اليوم، فـموشي ديان كان وزير الحرب الإسرائيلي في حرب 1976م، والآن موشى كاستاف الذي هو رئيس دولة إسرائيل، ليس رئيس الوزراء، رئيس الدولة اسمه موشي كاستاف، هذا كله تسمي بنبيهم السابق عليه الصلاة والسلام، فانظر حال القدوة وحال الأتباع، ولهذا نقم الله عليهم بسبب تغير حالهم.

أعود فأقول: الله جل وعلا لم ينكر، وليس في الآيات إنكار أصلاً، لكن هذا -إن صح التعبير- وعتاب رقيق للمؤمنين.

والمعنى أنت مكلف بأن تدعو كل أحد، ولا تحتج بأنه لن يؤمن، لكن لست مطالباً بأن تطمع في إيمان كل أحد، أنت مكلف بأن تدعو كل أحد، ولهذا موسى وهارون عليهما السلام دعوا فرعون مع علم الله جل وعلا الأزلي أن فرعون لن يؤمن، والنبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا جهل بتكليف من الله مع علم الله الأزلي أن أبا جهل لن يؤمن، فالدعوة شيء، والطمع في الإجابة شيء آخر، فما كان في بعض نفوس المؤمنين من طمع دخول اليهود جملة في الدين هذا أبعده الله جل وعلا، وهذا على وجه مخاطبة الأمم على وجه الإجمال لا على وجه الإفراد، وهذا قيد مهم.

وقد ذكر الله علتين في سبب عدم وجود ذلك الطمع، علة أظهرها وعلة أخفاها، فالعلة التي أظهرها قوله جل وعلا: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:75] هذه كلها علة واحدة.

والمعنى أنهم سمعوا كلام الله وعقلوه ثم حرفوه وهم يعلمون أنهم محرفون له، أي هم مصرون على التحريف، فإذا اجتمعت هذه الأربعة انتفى الطمع في إيمانهم، والخطاب هنا عن علماء اليهود وأحبارهم، هذه العلة التي أظهرها الله وهي علة مشاهدة للمؤمنين، ويجب أن يستصحبوها حتى لا يقع في قلوبهم طمع في إجابة أولئك القوم.

أما العلة التي أخفاها الله فهي علمه الأزلي أن هؤلاء لن يؤمنوا إذ لو كان في علم الله أنهم سيؤمنون لم يخاطب المؤمنين بألا يطمعوا بإيمانهم، فلو كان في علم الله الأزلي أنهم سيؤمنون لما عاتب الله المؤمنين في الطمع لأنه سيتحقق مراد الله القدري، لكن الله جل وعلا علم قدراً أنه لن يقع منهم إيمان، فكانت هذه العلة الثانية في نفي الطمع عن قلوب المؤمنين، لكنه تعبدهم بالثانية فأظهرها ولم يتعبدهم بالأولى فأخفاها.

طلق المحيا 21-12-16 01:04 AM

🕋 تفسير قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم..)
قال الله عنهم: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:76] .

اختلف الناس في معنى الآية، فذهب فريق من العلماء ومنهم الحسن البصري وبعض السلف إلى أن المقصود منافقو اليهود.

وقال آخرون: إن هذه الآيات تنضم إلى ضميمتها في آل عمران: آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72].

والذي نختاره أن هذا القول من أحبار يهود لمن لهم به علاقة من الصحابة، يقولون لهم: آمنا بهذا النبي كما في كتبنا لكنهم يستدركون قائلين: إنه نبي للعرب خاصة، ولسنا مكلفين بأن نؤمن به، فإذا عاد أولئك الذين قالوا هذا القول للصحابة يعاتبهم غيرهم ويقولون لهم: كيف تقرون لهم بأنه موجود في كتبكم: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [البقرة:76].

( فتح الله عليكم ) يعني أخبركم في التوراة عن وصف النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أخبرتموهم -أي العرب- المؤمنين بالنبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار والمهاجرين، والأنصار على وجه الخصوص؛ لأنهم أكثر صلة وعلاقة باليهود كان ذلك إقامة للحجة عليكم.

ثم قال ربنا: أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:76]،

اختلف العلماء في قول الله تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:76] هل هو خطاب من الرب للمؤمنين فيكون أشبه بالعتاب أو هو خطاب من الأحبار بعضهم لبعض؟ أنا أميل إلى الثاني أن اليهود يلوم بعضهم بعضاً على ما وقع منهم.

طلق المحيا 21-12-16 07:21 PM

🕋
تفسير قوله تعالى: (أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون)
قال الله جل وعلا معنفاً إياهم ومخبراً بأنه يعلم السر والنجوى: أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [البقرة:77] أي لا يفزع إلى هذا الطريق، ولا يميل إلى هذه الجادة، ولا يقول بهذا القول من يعلم أن الله جل وعلا مطلع عليه يعلم سره وعلانيته.

وهذا أمر يجب أن يستصحبه المسلم، فالله جل وعلا أجل من أن يخادع: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] ، يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان:16] فالله يعلم سرهم ونجواهم أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6] إلى غيرها من الآيات الدالة على عظيم علمه جل وعلا، وأنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة، فاستصحاب هذا الشأن العظيم من صفات الرب تبارك وتعالى يعين العبد على أن يصل بنفسه إلى طريق النجاة.

طلق المحيا 21-12-16 07:22 PM

🕋
تفسير قوله تعالى:(ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني)
كان الكلام فيما سلف عن الأحبار والعلماء، فانتقل الحديث إلى الدهماء والعامة، ومجمل ما أراد الله أن يقوله للمؤمنين: أمة هذا حال أحبارهم وعلمائهم فكيف يكون حال عامتهم ودهمائهم؟!

قال الله: وَمِنْهُمْ [البقرة:78] أي غير العلماء. وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [البقرة:78] أميون لا يجيدون القراءة ولا الكتابة عامة، ولهذا قال الله: ( ومنهم ) ليسوا كلهم؛ لأن اليهود يقرءون ويكتبون، لكن من يقرأ ويكتب منهم معدود في العلماء والأحبار، والحديث هنا عن العامة والدهماء.

وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78] أماني تحتمل معنيين: إما أنها مأخوذة من الأكاذيب والأغاليط والأحاديث، وهذا وارد في كلام العرب، قال كعب بن زهير :

فلا يغرنك ما منت وما وعدت إن الأماني والأحلام تضليل

فالعرب تجعل الأماني مرادفة للكذب والأشياء المتوهمة التي ليست لها حقائق ولا تثبت على حال.

فلا يغرنك ما منت وما وعدت إن الأماني والأحلام تضليل

والبيت من قصيدة لـكعب بن زهير مطلعها:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول.

وكلمة بانت بمعنى بعدت، وليس بمعنى ظهرت، ومن يردد البيت ربما يغلب على ظنه أن المقصود ببانت ظهرت، ولو ظهرت لما قال ما قال في وصف قلبه، ولما ذكر نأي الديار وبعدها عن نظره، وأنه الذي أورثه قلباً مكلولاً وهماً وحزناً.

إذاً: أماني تأتي بمعنى الكذب والأحاديث، وتأتي بمعنى التلاوة، تأتي معنى التلاوة، قال الله تعالى: أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52] أي في تلاوته، قال حسان :

تمنى كتاب الله أول ليله وآخره لاقى حمام المقادر

ومعلوم أن عثمان رضي الله عنه قتل والمصحف بين يديه، وقد اشتهر عن عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه أنه كان كثير قيام الليل كما قيل عنه:

يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً.

فكان يقرأ في الليل، وحسان أراد أن يقول: إن عثمان استفتح ليله بقراءة القرآن، فقوله: تمنى كتاب الله ليس معناه أنه كان بعيداً عنه وطلبه وإنما كان يتلوه، لكنه آخر الليل لاقى حمام المقادر يعني الموت.

وحسان كان من أكبر المناصرين لـعثمان ، قال في نونيته بعد مقتل عثمان :

لتسمعن وشيكاً في دياركم الله أكبر يا ثارات عثمانا

إني لمنهم وإن غابوا وإن شهدوا ما دمت حياً وما سميت حسانا

وينسبون إليه وفي نفسي شيء من هذا البيت وهو قوله:

يا ليت شعري وليت الطير تخبرني ما كان بين علي وابن عفاناً

لكني أظن أن هذا البيت قد زيد في مرحلة تاريخية ما، والتاريخ الإسلامي لا ريب أنه زيد فيه زيادات في كل مرحلة، وسلبت منه حقائق في كل مرحلة، بحسب مصالح أصحاب تلك المرحلة وأهل النفوذ فيها السياسية أو الدينية، ولهذا أحياناً يكتم العالم بعض علمه؛ لأنه لو أظهره لأبطل سلطان أقوام، وإبطال سلطان أقوام يجعلهم يتسلطون عليه، ولهذا ذكر أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أن بعض علمه لو أظهره لقتل، أي لقتله بعض ولاة ذلك العصر، فيخسر الناس علمه بالجملة، وهذا من فقه أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، لا كما فهمه المشغبون على أهل الحديث فجعلوا هذه الكلمة مثلبة في حق أبي هريرة ، لكن الإنسان إذا نظر إلى الأشياء نظرة باحث عن الحقيقة يوفق، وإن كان أراد أن يبحث ليوافق ما يريد أن يطلبه لن يجد شيئاً فيضطر إلى لي النصوص وإلى إعمال أشياء كثيرة فيها حتى تتفق مع مراده.

لا أريد أن أستطرد كثيراً فنعود للآية فنقول: هذا الاختلاف اللفظي في معنى أماني جعل العلماء يختلفون في معنى الآية.

قال الله تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [البقرة:78] ، والمعنى أن من هؤلاء اليهود طائفة لا تفقه شيئاً، فهي إذا تلت التوراة أو قرئ عليها الكتاب لا تفهمه إلا كما تفهم الأقاصيص والأحاديث والأغاليط، ولا تقوم منها على بينة، وهذا هو حال الدهماء، وقد مر معنا حال العلماء.

طلق المحيا 21-12-16 07:24 PM

🕋تفسير قوله تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم..)
قال الله جل وعلا: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة:79]

كلمة ويل يراد بها إيقاع الشر والهلاك، ولم يسمع من العرب فعل لها من لفظها، والأصل في اللغة السماع لا القياس، فمن جاء بشيء سمع عن العرب فقد أثبت الحجة.

الله جل وعلا يتوعد هنا قوماً من اليهود كانوا يكتبون الكتاب، وقبل قليل ذكرت أن التاريخ الإسلامي زيد ونقص منه، كذلك حال اليهود، في كل مرحلة زمنية الأحبار الذين كلفوا بحفظ التوراة يزيدون فيها ويضيفون وينقصون بحسب الحال التي هم فيها.

فمثلاً عندما لم يزعم العرب أن نبياً سيبعث منهم لم يلجأ اليهود إلى محو صفات النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا حاجة تقتضي لمحوه، فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم في العرب ولم يظهر فيهم اضطروا إلى أن يغيروا ويكتبوا شيئاً آخر يضيفوه في التوراة ليبدلوا به الوصف الإلهي لنبينا صلى الله عليه وسلم حتى لا يغتر الأتباع به، فيقحمون أنفسهم في التوراة حتى يبقوا على سلطتهم الدينية والتشريعية والتنفيذية، فيتحكموا في أموال الناس، وهذا هو معنى الثمن القليل الذي قاله الله جل وعلا عنهم: لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [البقرة:79]، وقد حررنا ذلك الأمر في لقاء سابق.

فالله جل وعلا هنا يقول: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة:79] فارتكبوا ثلاثة أمور: حرفوا ما سبق، وأضافوا من عندهم، واشتروا بما أضافوه ثمناً قليلاً بعد أن زعموا أنه من عند الله جل وعلا، وهذا من أعظم الفرية على الله تبارك وتعالى.

ومن تأمل هذا لا يتعجب من صنيع اليهود؛ لأنه إذا كان هذا حال آبائهم فحري بهم أن يكون هذا حال أبنائهم وأتباعهم وذراريهم.

طلق المحيا 21-12-16 07:25 PM

🕋
تفسير قوله تعالى: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة)
قال الله جل وعلا بعد ذلك عنهم: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة:80] اختلف في الأيام المعدودة وماذا أراد اليهود بها؟ مع أن الآية واضحة في أن اليهود يعترفون بوجود الجنة والنار وكذلك النصارى، قال الله جل وعلا عنهما: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ [البقرة:111] ، وقال الله جل وعلا عنهم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ [البقرة:113]، والذي يعنينا أن الله جل وعلا ذكر عنهم أنهم قالوا أن النار لن تمسنا إلا أياماً معدودة، وأشهر أقوال أهل العلم أنهم قصدوا بها الأيام الأربعين التي عبدوا فيها العجل، قصدوا أنهم يعذبون في النار أياماً معدودة وهن أربعون لعبادتهم العجل، وقال بعض العلماء أقوالاً أخر لكني لا أعلم مستنداً لها لا من النظر ولا من الأثر؛ فضربنا الذكر عنها صفحاً.

نعود فنقول: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:80]

هذا ترتيب منطقي، يعني زعمكم هذا مبني على أحد أمرين: إما أن يكون لديكم عهد من الله، وإما أن يكون قول افتريتموه على الله، فإذا ثبت أنه ليس لكم عند الله عهد فلم يبق إلا أن يكون قولكم فرية، قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا [البقرة:80] وليس لهم عند الله عهد. فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ [البقرة:80] كما تزعمون.

أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:80] يقول بعض العلماء: أم هنا للإضراب الانتقالي يعني بل تقولون على الله ما لا تعلمون، لكن الأفضل جعلها على الترتيب المنطقي الذي بيناه آنفاً.

طلق المحيا 21-12-16 07:26 PM

🕋
تفسير قوله تعالى: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته..)
قال الله جل وعلا مجيباً لهم: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81] (من) من ألفاظ العموم، فالقرآن أعظم من أن ينزل لقضية واحدة، والله جل وعلا ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب، وهاتان الآيتان فاصلتان، قال الله: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً [البقرة:81] ، وقال بعدها: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:82]، والمعنى ليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب، كل أحد في كل مصر أو في كل عصر إذا اكتسب سيئة وأحاطت به خطيئته أي مات على الكفر فهذا مخلد في النار كائناً من كان، ولو كان والد نبي كأبي إبراهيم ، أو ابن نبي كـكنعان بن نوح ، أو عم نبي كـأبي لهب وأبي طالب ، ومن آمن وعمل صالحاً ومات على الإيمان ووافى الله بالإيمان فهذا كتب الله جل وعلا له الجنة؛ لأن الله اشترط فقال: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة:40] (أوفوا بعهدي) أي: امتثلوا أوامري. (أوف بعهدكم) أي بالقبول والثواب، فهذا مآله الجنة أياً كان والده وأياً كانت أمه.

مثلاً العاص بن وائل السهمي كان من صناديد الكفار وابنه عمرو صحابي، وخالد سيف الله وأبوه الوليد بن المغيرة نزل فيه ما نزل من القرآن، فلا يوجد بين الله وبين خلقه تلك المعايير الموجودة في الدنيا، ليس بين الله وبين أحد من خلقه إلا الإيمان والعمل الصالح، وهذا ينبغي أن يستحضره المؤمن في كل آية يتلوها في كتاب الله.

طلق المحيا 23-12-16 02:35 AM

تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله..)
عاد الحديث الآن إلى الكلام عن بني إسرائيل الحاليين والسابقين، قال الله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [البقرة:83] وهذا مر معنا كثيراً أن الدعوة إلى عبادة الله وحده هي أس دعوة الرسل، وكل الرسل جميعاً دعوا إليها.

وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [البقرة:83] وهذه أول آية في القرآن ذكر الله جل وعلا فيها -حسب ترتيب المصحف- بر الوالدين.

وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83] القرآن يربي في الناس فقه الأولويات، فمن لم يعط حق الله لن يعطي حق الخلق، ومن منع الوالدين لن يعطي القريب، ومن منع القريب لن يعطي اليتيم، ولذلك من الفقه الخاطئ أن يوجد في الرجل صفة تدل على كذب الأول؛ لأن من ضيع حق الله وحق والديه والله لن يؤدي حق الناس، فإن صنع ذلك ورأيته بعينك بحيث لا يمكن لك أن تنكره فاعلم أن ما فعله لغرض دنيوي محض لا لهدي هو يقوم عليه، فرتب ربنا حقه ثم حق الوالدين ثم حق ذوي القربى، والعرب كانت تأنف من الرجل الذي يكون شره على قرابته، قال طرفة :

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند

والله قال لنبيه:وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] ، ونوح عليه الصلاة والسلام لما دعا قال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح:28]

ثم قال الله تعالى: وَالْيَتَامَى [البقرة:83] هذا جمع يتيم وقد مر معنا الحديث عنه، والمساكين جمع مسكين، وهو من أذله الفقر وأعجزه فأصبح ساكناً.

وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83] الناس عامة المؤمنين والكفار، وهذا من تأديب الله للأمم السابقة واللاحقة أن الإنسان يكون قوله هيناً ليناً حتى يقبل منه، وقد قالت العرب:

أبني إن البر شيء هين وجه طليق ولسان لين

وأعجز الناس من عجز أن يحوي الناس بلسانه، قال المتنبي :

لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم تسعد الحال

فالإنسان العاقل يحتوي الناس بكلامه حتى عندما يقول: لا، فيقولها بأسلوب مقبول تبين أنه لا يجد شيئاً، النبي صلى الله عليه وسلم عندما أتاه ضعفاء المهاجرين والأنصار في غزوة العسرة قال الله عنه: قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ [التوبة:92]، فالتعبير النبوي في الرد تعبير لطيف، وهذا مندرج تحت قول الله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83] وقد كانت العرب تضرب الأمثال برجال معدودين يحسنون الخطاب، وبعضهم كان إذا أتاه سائل يقول له: الآن لا أجد، لكن أعطيك ورقة أن لك علي كذا، فإذا أصابتني حالة يسر عدت فأخذتها بمقتضى هذه الورقة!

خالد بن سعيد بن العاص كان من أكرم العرب، أصابته فاقة وعزل من منصبه من المدينة، فذهب إلى قصره في وادي العقيق في عروة من بعض أودية المدينة جهة الغرب، وكان هذا الوادي يسيل وعليه قصور أكثر الناس من أهل الثراء كقصر سعد بن أبي وقاص ، وهو راوي حديث: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي) كان يقصد نفسه لما جاءه ابنه وأخبره أن الناس يقتلون على الخلافة وهو في قصره، وعندما مات سعد بن أبي وقاص حمل من قصره في غرب المدينة إلى الحرم على أعناق الرجال.

الذي يعنينا أن خالداً هذا لما عزل وكانت دار الإمارة بجوار المسجد النبوي رجع، فلك أن تتصور أميراً يعزل، لن يرجع معه أحد، الناس كانوا يلتفون حوله لإمرته، والآن لا مال ولا إمرة، لكن بعض الناس لا يقدر السلاطين على مناكفتهم بالكلية، فعندما رجع سار معه شاب فطن حتى وصل معه إلى باب القصر، فلما وصل معه إلى باب القصر قال: يا أخي! سم حاجتك، فإنك منذ اليوم ترافقني. قال: والله! لا أريد شيئاً، قال: ولماذا سرت معي؟ قال: رأيت مقصوص الجناح فأحببت أن أعضدك. فوقعت هذه الكلمة في قلب خالد موقعاً عظيماً، فقال له: أخرج ورقة، فأخرج ورقة فكتب له أن له عليه عشرين ألف دينار ديناً، ونادى غلاماً له ليشهد، ثم ختمها وأعطاها الغلام، فذهب الغلام، فمات خالد بعدها بقليل، وكان رجلاً من وجهاء بني أمية في عهد معاوية ، وقد قال لابنه قبل أن يموت: اذهب إلى معاوية فإنه سيتكفل بديني، وأخبره أنت بنبأي، فلما مات خالد ذهب ابنه إلى الشام وأخبره بموت أبيه، ومعاوية وخالد كلاهما من بني أمية، فلما أخبره قال له: ما أوصاك؟ قال: أوصاني أن آتيك وأخبرك. فقال: خيراً فعل أو حسناً دلك عليه، فأعطاه آلاف الدنانير ليقضي بها دين أبيه خالد.

فعاد ابن خالد إلى المدينة وأعلن في الناس بطريقة الإعلان آنذاك، حيث ينادي مناد أن يأتي الدائنون ليأخذوا ديونهم، فجاء التجار الذين كان بينهم وبينه معاملات، ثم جاء هذا الشاب ومعه هذه الورقة وفيها عشرون ألف دينار، وهو مبلغ كبير جداً، فلما أخذه الابن قال: ما أظن أبي يكتب هذا، أنت لست بتاجر، وإنما أنت صعلوك من صعاليك المدينة، كيف استحققت أن تأخذ على أبي هذا المبلغ؟ فجاء الشاهد وقال: أنا أشهد أنه صحب خالداً إلى قصره فسأله خالد: لم صحبتني؟ قال: رأيتك مقصوص الجناح فأحببت أن أعضدك فكتب له هذه الورقة، فأعطاه العشرين ألف دينار.

موضع الشاهد: من هذه القصة نص الله عليه في آية مكية؛ لأن البقرة مدنية، والقصة متأخرة في عهد بني أمية، قال الله جل وعلا: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ أي: المساكين قَوْلًا مَيْسُورًا [الإسراء:28]، ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا [الإسراء:28] أي: شيء تؤمله من الله، ولا يوجد مؤمن عاقل يعرف الله إلا وهو يؤمل شيئاً من الله، فمقطوع الأمل من الله لا يعرف الله، الذي يعرف الله على حال استعداد أن تأتيه نعمة الله.

وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ [الإسراء:28] أي المساكين. ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا [الإسراء:28] أي أجلهم إلى حين، قل لهم: ائتوني بعد غد.. ائتوني آخر الشهر.. لعلك تأتيني آخر السنة.. لعلك تأتيني في رمضان، وما أشبه هذه الكلمات التي تندرج في قول الله: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83] .

قال الله جل وعلا: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [البقرة:83] وهذه ظاهرة مر معنا كثيراً مثلها.

طلق المحيا 23-12-16 02:39 AM

تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم..)
قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:84-85] .

الخطاب لليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم، وهم ثلاث طوائف، وكانت الحرب قبل الإسلام مشتعلة بين الأوس والخزرج، وتنبه جيداً لما سيأتي فلن تفسر الآية إلا إذا عرفت التاريخ، فقد كانت قبائل اليهود تلتزم الحياد، والحرب كانت بين الأوس والخزرج، وكانت الغلبة للخزرج كثيراً، والآن ضع نفسك مغلوباً مكان الأوس، تضطر أن تشرك الذين في الحياد وتجرهم إلى المعركة جراً، فذهبت الأوس تستنصر باليهود فرفضت اليهود وذكروا حيادهم، ولما علم الخزرج أن الأوس تستنصر باليهود ذهبوا إلى يهود قريظة والنضير وقالوا: نخشى أن تكونوا مع أبناء عمتنا، فأعطوهم المواثيق أنهم سيبقون على الحياد، فما اطمأنت الخزرج فطلبوا رهائن، فأعطت اليهود للخزرج أربعين غلاماً منهم حتى يضمنوا أنهم لن يشتركوا في الحرب، وفعلاً لم تشترك اليهود في الحرب، وبقي الأربعون غلاماً مع الخزرج.

والله يقول: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7] فلما شعر الخزرج أن أربعين من اليهود تحت أيديهم، وقد غلبوا إخوانهم من الأوس أرادوا أن يتحولوا إلى مواطن سكن بني قريظة وبني النضير، فقد كانت أخصب أرضاً وأكثر نخلاً، فجاءوا لليهود وقالوا: زيحوا عنا قليلاً، نريد أن نسكن دياركم، فغم ذلك على اليهود، وقد هددهم الخزرج فقالوا: إن لم تقبلوا قتلنا الأربعين، فرجع اليهود إلى رجل عاقل فقال هذا الرجل واسمه كعب : يا قومي ابقوا على دياركم ونخلكم وأموالكم ولا تبرحوا منها، أما الغلمان فلا يلبث الرجل منكم أن يأتي أهله فيولد له غلام مثله.

أحد العرب كان مسافراً وترك وراءه زوجه وولدة وأباه وأخاه وجيرانه، فلما جاء قال: كيف حال الأب؟ قالوا: مات، قال: ملكت أمري، قال: أين الزوجة؟ قالوا: ماتت. قال: تجدد فراشي. قالت: أين ابني؟ قالوا: مات. قال: آتي أهلي الجدد ويأتيني الله بغيره. قال: أين أخي؟ قالوا: مات. قال: قصم ظهري. من أين يأتيه أخ؟

الذي يعنينا الآن أنه قال هذا العاقل: الغلمان تلد الأزواج غيرهم، لكن الأرض والديار والنخل ما الذي يعوضها؟ فقتلت الخزرج الأربعين، ودخلوا في حلف بني قينقاع، فاضطر بنو النضير وقريظة أن يدخلوا مع الأوس، وبمقتضى هذين الحلفين أصبح اليهود يقاتل بعضهم بعضاً؛ لأن بني النضير وبني قريظة في كفة، وبنو قينقاع في كفة أخرى.

والحرب لابد أن تنتهي وترتفع، قال الله عن هذا بقوله: تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [محمد:4] ، ولا يعرف هذا التعبير قبل القرآن، فلما وضعت الحرب أوزارها لجأ اليهود إلى أن يفدوا أسراهم، ففدوا أسراهم، ما علاقة هذا بالآيات؟ أوجب الله عليهم في التوراة فداء الأسرى، وحرم عليهم أن يقتل بعضهم بعضاً، فمحرم أن يهودياً يقاتل يهودياً، فهم بصنيعهم هذا قاتلوا بعضهم، ففعلوا ما نهوا عنه، وقاموا بما وجب عليهم من فداء الأسرى، فعاتبهم الله تبارك وتعالى فقال: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85]، فأصبحوا فعلوا شيئاً وتركوا شيئاً، وما كان ينبغي عليهم أن يقاتلوا بمقتضى التوراة التي بين أيديهم.

فذكر الله تبارك وتعالى أنه حرم عليهم أن يخرجوا أنفسهم، والمعنى الملة الواحدة، والله جل وعلا جعل كل ملة كالنفس الواحدة، قال عليه الصلاة والسلام: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو...) إلى آخر الحديث.

قال الله جل وعلا: ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [البقرة:85]

من ناحية الصناعة النحوية (تظاهرون) أصلها تتظاهرون بتائبين فحذفت إحداهما، ولا ريب أن هناك تاء زائدة وتاء أصلية، لكن اختلف النحاة البصريون والكوفيون في أيهما التي حذفت هل هي الأصلية أو الزائدة؟ فقال البصريون وإليهم نميل في الغالب: إن المحذوف الأصلية؛ لأن التاء الزائدة دخلت لمعنى، فلا معنى لحذفها، كيف أدخلها لسبب ثم أخرجها؟! وأما الأصلية فلا معنى لها لأنها من الأصل باقية. وقال الكوفيون: إن المحذوف هو التاء الزائدة؛ لأنها أضعف، والأصلية هي الأقوى، فلا معنى لحذف الأقوى وبقاء الأضعف، واضح؟ وهذا كثير في القرآن، قال تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا [القدر:4] ، والأصل تتنزل، وهذا تعريج نحوي على قول الله تعالى: تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85]

ثم قال جل وعلا: فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85] .

( فما جزاء من يفعل ذلك منكم ) اختلف في (ما) هذه هل هي استفهامية أو نافية؟ والحق أنها تحتمل الاثنين، ولا أستطيع أن أجزم بإحداهما، تحتمل أن تكون نافية، وتحتمل أن تكون استفهامية.

فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [البقرة:85] هذه فيها قرينة ودلالة وشاهد على أن من الذنوب ما يعجل الله جل وعلا عليه العقوبة في الدنيا، وما كان سبباً في الذنب لا يمكن أن يكون سبباً في الرفع، فالذنب الذي هو أحد أسباب الابتلاء لا يمكن أن يكون هو نفسه سبب الرفع، مثلاً عندما يحصل الآن حرب أو يحصل أذى للمسلمين في أي قطر في أي مكان، وفي أي زمان، يأتي مجموعة من أهل الفن ومن دعاة الفجور العلني فيقيمون المظاهرات أو يقولون: سنفعل ونفعل، هذا بشرع الله لا يستقيم؛ لأن وجود هذه الأعمال التي يتبناها أولئك الأقوام هي من أسباب تسلط العدو، فلا يمكن أن يرفع البلاء بسببهم هم، إنما الذي يمكن أن يقدموه التوبة، عليكم أنتم أن تتخلصوا من ذنوبكم فيرفع الله عنا البلاء، ولا يعقل أن تكونوا أنتم مقدمين في قضية رفع البلاء عن الأمة! هذا محال؛ لأن أي عذاب وأي ابتلاء وتسلط عدو أو جدب ديار أو غيره هو بسبب الذنوب، ولا يلزم أن تكون محصورة في ذنب واحد، لكن ليس من المعقول أن يكونوا هم السبب في نزول البلاء ويكونوا هم أنفسهم سبباً في رفعه إلا أن يتوبوا، وهذه نقطة يجب أن يتنبه لها الإنسان، ولا يغتر بكثرة النفير الظاهر في الفضائيات والقنوات، علمنا الله وإياكم ما ينفعنا ونفعنا وإياكم بما علمنا.

وقوله تعالى: فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ [البقرة:86] الأفضل حملها على عذاب الدنيا لأن عذاب الآخرة مستقر.

وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:86] هذه يجب حملها على عذاب الآخرة؛ لأن النصرة قد تقع في الدنياـ فقد يسلط أهل الكفر حيناً على أهل الإيمان.

هذا ما تيسر إيراده، وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

طلق المحيا 23-12-16 02:43 AM

موسى وعيسى عليهما السلام من أعظم الرسل، وقد آذى اليهود موسى وكفروا بعيسى، مع أن الله آتى موسى التوراة وقفى من بعده بالرسل لبني إسرائيل، وآتى عيسى البينات وأيده بروح القدس، ولما جاءهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي يعرفونه كفروا به فلعنة الله عليهم، ما أشد كفرهم! وما أقسى قلوبهم! وما ألأم طباعهم!

طلق المحيا 23-12-16 02:45 AM

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل ..)
الحمد لله رب العالمين، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

ففي هذا اللقاء المبارك نتبع ما كنا قد تكلمنا عنه من تفسيرنا لسورة البقرة، وقد انتهينا في اللقاء الماضي إلى قول الله جل وعلا: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ [البقرة:84] والآيتين اللتين بعدهما وهما في الحديث عن بني إسرائيل.

وقد مر معنا أن الله جل وعلا ذكر بعضاً من شنائع اليهود ثم أردفها ببعض أخبار اليهود المعاصرين لنبينا صلى الله عليه وسلم.

ومنها أن اليهود انقسموا إلى طائفتين في حرب بعاث بين الأوس والخزرج، فكل طائفة منهم مالأت إما الأوس وإما الخزرج، فنشأ عن هذا ضرورة اقتتال طائفتي اليهود؛ لأن كل فرقة منهم تبعت طائفة، ثم إن اليهود بعد أن وضعت الحرب أوزارها فدت أسراها، واليهود محرم عليهم أن يقاتل بعضهم بعضاً كما أنهم مأمورون بشريعتهم أن يفدوا أسراهم، فاليهود بصنيعهم هذا خالفوا تعاليمهم؛ لأنهم قتلوا بعضهم واتبعوا شرعهم بفداء أسراهم، وهذا هو الذي نقمه الله جل وعلا عليهم بقوله تبارك وتعالى: أََفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85]، هذا هو معنى الآية، وقلنا: إن استصحاب التاريخ والأحداث معين لفهم القرآن، بل إن بعض آيات القرآن محال فهمها إلا بمعرفة سبب النزول وذكر الخبر وإلا لا سبيل إلى فهمها؛ لأن فهمها لا يتوقف على حل المفردات اللغوية، لكن لابد من خبر يوضح سبب النزول، وسيأتي لهذا أمثلة.

ثم قال الله جل وعلا بعد هذه الآيات: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ [البقرة:87] قد مضى الحديث عن موسى، لكن جاء ذكر موسى هنا تمهيداً لا تأكيداً، فقال الله جل وعلا: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ [البقرة:87] المراد بالكتاب هنا التوراة.

ثم قال جل وعلا: وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ [البقرة:87] أي من بعد موسى بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ [البقرة:87] هذه الآية تحدث عند طالب العلم نوع إشكال؛ لأنه معلوم أن أكثر أهل العلم على أن الرسول من أوتي بشرع جديد بخلاف النبي الذي يسوس أمته على شرع غيره، أين الإشكال؟ الإشكال أن الله قال: وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ [البقرة:87] أي من بعد موسى بِالرُّسُلِ [البقرة:87]، فأطلق على أنبياء بني إسرائيل أنهم رسل ولم يأتوا بشرع جديد؛ لأنه لا كتاب مشهور لدينا بعد التوراة إلا الإنجيل، والإنجيل أفرده الله جل وعلا بقوله: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ [البقرة:87]، وفي آيات أخر أن الله آتاه الإنجيل، هذا هو الإشكال! بعض العلماء يقول: يرفع مقامات بني إسرائيل؛ لأنها تفريع عن التوراة إلى مقام الرسل، وهذا جواب غير علمي، وأرى أن الجواب العلمي أن يقال: ليس الأمر حصر الرسل في بني إسرائيل، وإنما المقصود الحقبة الزمنية التي ما بين موسى وعيسى عليهما السلام، فقد بعث الله فيها رسلاً ليس إلى بني إسرائيل ولكن إلى من جاورهم من أهل بلدان أخرى كإلياس وذي الكفل، فالمعنى: وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ [البقرة:87] زمناً لا أمة، أي جاءت رسل ما بين موسى وعيسى لكنهم ليسوا مبعوثين إلى بني إسرائيل، ولو كانوا مبعوثين إلى بني إسرائيل ويسوسون بني إسرائيل بالتوراة لا يطلق عليهم أنهم رسل.

طلق المحيا 23-12-16 02:46 AM

معنى قوله تعالى (وآتينا عيسى بن مريم البينات)
قال الله تعالى: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة:87] عيسى بن مريم نبي من أنبياء بني إسرائيل، وهو آخر الأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، وسينزل في آخر الزمان كما حررنا ذلك في مواضع كثيرة، واسمه بالعبرانية يشوع أو يسوع، حرف العين في الأخير وهو حرف حلقي، ثم نقل إلى العربية عيسى، وصار حرف العين في الأول، وهذا يسمى قلباً مكانياً، والمعنى أن العرب لما نقلت اسمه إلى العربية أجرت عليه قلباً مكانياً، وسبب ذلك أن يشوع عند العرب كلفظة مفردة -لا كنبي؛ لأن العرب لم يكونوا مؤمنين- وجدوها ثقيلة من بابين: ثقل العجمة؛ لأنه ليس له معنى عندهم، وثقل التركيب، ثقل العجمة لأن عيسى اسم أعجمي غير عربي، وثقل التركيب، فأرادوا التخفيف فأجروا قلباً مكانياً، إذ لا سبيل لهم إلى العجمة، فالسبيل في التركيب الحرفي، فبدلوا بالتقديم والتأخير حتى يصبح مساغاً في نطقهم، فجعلوا الحرف الأخير في الأول فقالوا: عيسى، واجتمع عندهم حرفا علة الياء والواو فتخلصوا من أحدهما بالقلب فقلبوا الواو ألفاً وأبقوا الثاني كما هو فقالوا: عيسى.

هذه بعض الإجراءات التي أجراها العرب على الاسم، أما معناه عند العبرانيين فهو السيد المبارك، وهذا النبي اختصه الله بخصيصة لم تعط لغيره، وهو أنه لم ينتقل في أصلاب الرجال، بل كان محفوظاً في مقام لدني عند الله حتى بعث الله روحه مع جبريل لينفخ به في جيب مريم ابنة عمران أمه عليهما الصلاة والسلام.

عيسى بن مريم لم ينسب لأبيه؛ لأنه ليس له أب، ولم يتقلب في أصلاب الرجال، وهي خصيصة له دون من سواه، إذا استثنينا من ذلك آدم وحواء.

ومريم اسم أعجمي، وهو في العبرانية بهذا اللفظ مريم ، ولم يجري عليه العرب عند نقله إلى العربية تغييراً مثل عيسى؛ لأنهم لم يروا في اسم مريم ثقلاً؛ فأبقوه على ما هو عليه، هذا من باب الصناعة اللغوية.

ومريم معناها المرأة المتباعدة عن الرجال، والعاكفة على خدمة الرب، وهي أول امرأة خدمت بيت المقدس، ومشهور أن أمها لما حملت بها كانت ترغب أن يكون حملها ذكراً حتى يخدم في بيت المقدس، ولهذا قالت معتذرة إلى ربها كما سيأتي تحريره في سورة آل عمران: قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ [آل عمران:36]، فمن حرصها على الخير لما فاتها الشيء الذي لا تقدر عليه وهي أن يكون حملها ذكراً، فهذا لا سبيل لأم مريم عليه، فلما فاتها الذي لا تقدر عليه تمسكت بما تقدر عليه، فتقربت إلى الله أقل شيء بالاسم، فسمتها باسم من معانيه أنها تخدم الرب.

المرأة المتباعدة عن الرجال تسمى مريم ، وضده من الرجال في العربية الرجل المتقارب من النساء، فالرجل إذا كان يقرب من مجامع النساء يسمى في العربية الزير، ومهلهل بن ربيعة يسمى الزير سالم ، يقول رؤبة بن العجاج أشهر العرب في باب الرجز، والرجز أحد بحور الشعر يغلب عليه التخفيف، ويقوله كثير من الشعراء، يقول رؤبة لـأبي جعفر المنصور في قصيدة رجز طويلة:

فقلت لـزير لم تزره مريم

أي قلت لرجل له رغبة في محادثة النساء والعكوف لديهن لكن زوجته على النقيض منه، ولهذا سماها مريم؛ لأنها متباعدة عن الرجال.

ومن يبني المجد لنفسه إن كان رجلاً لابد أن يأنف من الرغبة أو المحبة لمحادثة النساء والقرب من مجامعهن، فمن ألف من الرجال مجامع النساء في الغالب يكون أبعد عن ذرى المجد، فمن ألفها بعد، فـجميل بثينة كان يحب مجامع النساء؛ ولذلك الناس لا ينسبونه إلى مجد أكثر مما ينسبونه إلى امرأة!

يقول في داليته المشهورة:

يقولون جاهد يا جميل بغزوة وأي جهاد غيرهن أريد

لكل حديث بينهن بشاشة وكل قتيل عندهن شهيد

قال الله جل وعلا: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ [البقرة:87] هذا صفة لموصوف محذوف أي الآيات والمعجزات البينات، ومن أشهرها إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص.

طلق المحيا 23-12-16 02:47 AM

معنى قوله تعالى (وأيدناه بروح القدس)
قوله تعالى: وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة:87] اختلف العلماء في المقصود بروح القدس على أقوال:

منهم من قال: روح القدس هو جبريل، وهذا هو قول الجمهور وكثير من الآثار تشهد له، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـحسان : (اهجهم وروح القدس معك) كما في الصحيح عندما رد على عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وقول حسان نفسه:

وجبريل أمين الله فينا وروح القدس ليس له كفاء

هذا القول عليه الجمهور واختاره ابن كثير .

وبعض العلماء قال: إن روح القدس هو الاسم الأعظم الذي كان ينادي به عيسى عند إحياء الموتى، وهذا منقول عن ابن عباس ، لكني لا أعلم سنداً صحيحاً به إلى ابن عباس ، وهذا القول بعيد.

ويوجد قول يشهد له القرآن، وهو أن المقصود به الإنجيل، كيف يشهد له القرآن؟ قالوا: إن الله سمى القرآن روحاً وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52] فقالوا: كما سمى الله القرآن روحاً فإن الإنجيل يسمى روحاً باعتبار الجمع بين القرآن والإنجيل بأن كليهما كتابان سماويان أنزلهما الله جل وعلا على نبيين رسولين من أنبيائه ورسله.

ومعنى القدس المطهر المنزه.

ثم قال الله بعد هذا التمهيد مخاطباً اليهود: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87].

هوى بمعنى رغب وأحب ومال، ويستخدم في الشر أكثر مما يستخدم في الخير إلا أنه لا يعني ذلك أنه لا يستخدم في الخير، ومما يدل على أنه يستخدم في الخير قول عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما أرى ربك إلا يسارع في هواك) أي فيما ترغب من الخير.

هنا عنف الله جل وعلا على اليهود زعمهم أنهم متمسكون بأصل الإيمان، مع أنهم كانوا فيما مضى يقتلون أنبياء الله كزكريا، ويستكبرون على كثير من الأنبياء كموسى.

طلق المحيا 23-12-16 02:49 AM

تفسير قوله تعالى: (وقالوا قلوبنا غلف ...)
قال الله تعالى: وَقَالُوا [البقرة:88] أي اليهود قُلُوبُنَا غُلْفٌ [البقرة:88] جمع أغلف، وهو من على قلبه غطاء وغشاوة، أي زعموا أن الذي يمنعنا من اتباعك ما على قلوبنا من الغطاء والغشاوة.

قال الله: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ [البقرة:88] أعظم ما تدل عليه هذه الآية أن تعلم أن من الجزاء ما يكون أعظم من الذنب، فهؤلاء اليهود اجترءوا على الله وعلى رسله؛ فعاقبهم الله على هذا الاجتراء بأن جعل قلوبهم لا تقبل الإيمان، ولا ريب أن الله جل وعلا إذا طبع على قلب أحد ولم يجعله يقبل الإيمان فهذه عقوبة وجزاء ظاهر القسوة، وقد صرف اليهود عن اتباع الحق لما اجترءوا على المعاصي، وعاقبهم الله جل وعلا بقوله: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ [البقرة:88] أي الذي جعلهم حقيقة لا يقبلون الحق ما أقامه الله جل وعلا عليهم من اللعنة حتى أصبحوا مطرودين من رحمة الله.

ونقرأ في كتب التعريفات أن اللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله، والحق أن هذا التعبير على إطلاقه في النفس منه شيء، ولا يستقيم شرعاً وإن قال به أكثر أهل العلم؛ لأنه ينبغي تقييده بأن ينظر من الملعون، ثم المسألة مسألة نسبية، فقد يكون الطرد طرداً بالكلية، وقد يكون اللعن منعاً من دخول الجنة، وقد يكون اللعن حكماً على أحد بالنار، وقد يكون اللعن تخفيض منزلة وإنزال من درجة، وهذا أكثره يرد في حق أهل الإيمان، وعليه تحمل الأحاديث التي جاءت في عصاة المؤمنين، خاصة بعض الأعمال التي ليست في ظاهرها من الكبائر، وإن كان بعضهم يقولون: إن ذكر اللعن دليل على الكبيرة، لكن بعض الأحاديث فيها النهي عن شيء من غير الكبائر ومع ذلك ذكر فيه اللعن، فيكون اللعن هنا محمولاً على إنزال من درجة معينة، من درجة المقربين الأبرار أو من درجة أهل الفضائل أو ما أشبه ذلك إلى درجة أصحاب اليمين، لكن لا يكون طرداً كلياً كما هو معنى لعنة الله على الكافرين.

طلق المحيا 23-12-16 02:50 AM

تفسير قوله تعالى: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم ...)
قال الله جل وعلا: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89].

وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [البقرة:89] المقصود بالكتاب هنا القرآن.

مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ [البقرة:89] أي التوراة.

وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:89] الاستفتاح في اللغة يطلق على معنيين:

الأول: طلب النصرة، والثاني الاستدراك على القارئ، فلما يقرأ الإمام في الصلاة ويقع منه سهو في آية تفتح عليه، أي تذكره بما نسي، فتعيد الآية حتى ينتبه من سهوه، هذا المعنى الثاني، والمعنى الأصلي لها والأول هو طلب النصرة، ويصبح معنى الآية على الأول أن بعض العرب كالغطفانيين لما كانوا يحاربون اليهود كان اليهود يستنصرون الله عليهم، فمن جملة ما يستنصر به اليهود ربهم أنهم يتوسلون إليه بأنهم هاجروا من أجل النبي الذي سيخرج في آخر الزمان، هذا معنى قول الله جل وعلا: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:89] أي يتوسلون إلى الله بأنهم خرجوا من أجل ذلك النبي الذي سيظهر في آخر الزمان.

أما على المعنى الثاني أي أن هؤلاء اليهود كانوا يقرءون في كتبهم على غيرهم أن نبياً سيكون في آخر الزمان دون طلب نصرة في الحرب، فالله عز وجل يقول: ذلك النبي والكتاب الذي كنتم تقرءون على الناس خبره جاءكم.

ثم قال: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا [البقرة:89] بدليل أنهم كانوا يقرءون ذلك على الناس. كَفَرُوا بِهِ [البقرة:89] ولم يبين الله إلى الآن سبب الكفر لكن سيأتي بيانه، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89].

طلق المحيا 23-12-16 02:51 AM

تفسير قوله تعالى: (بئسما اشتروا به أنفسهم ...)
ثم قال ربنا: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [البقرة:90] البغي: تجاوز الحد، ويكون بسبب الظلم، والظلم من أعظم أسبابه الحسد، وإلى الآن لم يصرح الله بالحسد، وإنما ذكر لازمه وهو البغي.

بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ [البقرة:90] بئس فعل يفيد الذم.

وقوله: فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ [البقرة:90] أصابهم غضب على غضب، ولابد أن تكون هناك معصيتان: المعصية الأولى: عدم التزامهم بالتوراة، والمعصية الثانية: ردهم للقرآن، ثم قال الله: وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ [البقرة:90].



الساعة الآن 05:48 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. Designed & TranZ By Almuhajir

Ads Management Version 3.0.1 by Saeed Al-Atwi