ملتقى قبيلة حرب الرسمي

ملتقى قبيلة حرب الرسمي (http://www.m-harb.net/vb/index.php)
-   الـــمـــلـــتـــقـــى الــــــــــعــــــــام (http://www.m-harb.net/vb/forumdisplay.php?f=47)
-   -   تفسير سورة الأنعام (http://www.m-harb.net/vb/showthread.php?t=154533)

طلق المحيا 07-04-17 12:38 AM

تفسير قوله تعالى: (وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو...)

وقد ذكر الله جل وعلا عن أهل الكفر أنهم قالوا لا بعث ولا نشور، وهنا يبين الله جل وعلا لهم المعنى الحقيقي للحياة، فيقول الله جل وعلا: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [الأنعام:32]، واللعب: ما يشتغل به المرء ويعلم أنه لا عاقبة له، كلعب الصبيان، فالصبيان يلعبون وهم يعلمون أنه ليس وراء هذا عاقبة، أما اللهو فهو الاشتغال بما لا ينفع عما ينفع، وهما متقاربان، ولكن اللهو -فيما يبدو- أعم، فبين الله جل وعلا أن الدنيا لعب ولهو، ثم قال سبحانه: وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ [الأنعام:32]، واللام هنا تشعر أن هناك قسماً، أي: وعزتي وجلالي إن الدار الحقيقية هي الدار الآخرة، ولكن الله قيد فقال: خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأنعام:32]؛ لأن الحياة الآخرة وإن كانت في حق الكفار موجودة ليست خيراً لهم، فمقامهم في الدنيا أفضل من مقامهم في الآخرة؛ لأنه ليس لهم في الآخرة إلا النار ولهذا جاء التقييد، وينبغي أن تعلم أن ما أطلقه الله لا يقيد إلا بالسنة، وما قيده الله لا يمكن لأحد أن يطلقه، فهنا قيد الله فقال تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنعام:32] والهمزة في قوله: أفلا تعقلون همزة استفهام، والاستفهام هنا للإنكار.

وقد اختلف العلماء في قوله تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [الأنعام:32]، فهل الآية عامة أو خاصة؟

فللعلماء فيها أقوال، أظهرها أنها للكافر لعب ولهو، ولا توصف حياة المؤمن بأنها لعب ولهو، بل هي مزرعة لآخرته، فيقول العلماء: إن منطوق القرآن في آيات عدة يبين أن المقصود هنا حياة الكفار الذي لم يعرف ربه، أما المؤمن فما حياته الدنيا إلا مزرعة لآخرته وعون له على لقاء الله، فلم تخلق لتعمرها ولكن لتعبرها، فجد لما خلقت وسل من ربك التوفيق فيها:

وأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرتا

هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، وأعان العلي الكبير على قوله.

وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

الكحيلة 07-04-17 08:07 PM

جزاك الله خير الجزاء
وكتب لك الاجر
واصل بارك الله فيك


طلق المحيا 08-04-17 03:17 AM

لقد لقي النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته الأذى الكثير فسلاه الله تعالى بجملة من الأمور التي تخفف وطأة التكذيب، حيث أخبره تعالى بأن تكذيب الكافرين له إنما هو تكذيب لربه جل جلاله، وأن المرسلين قبله قد أوذوا بالتكذيب فصبروا حتى جاء وعد الله. كما ضمن تعالى كتابه في خطاب نبيه بيان كرامته عند ربه ولطف الله به، بياناً لعدم تأثير ذم الذامين وبعض الباغضين له صلوات الله وسلامه عليه.

طلق المحيا 08-04-17 03:18 AM

تفسير قوله تعالى: (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون...)
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول الله جل وعلا وهو أصدق القائلين: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الأنعام:33-34].

طلق المحيا 08-04-17 03:19 AM

بيان معنى قوله تعالى (فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون)

قوله تعالى: وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] الجحود هو نفي ما في القلب إثباته، أو إثبات ما في القلب نفيه.

وأما قوله تعالى: (قد نعلم إنه ليحزنك) فقد سبق أن (قد) للتحقيق مع الماضي باتفاق، ويجب أن تكون للتحقيق في المضارع إذا كان الحديث عن الله فـ(قد) في قوله تعالى: قَدْ نَعْلَمُ للتحقيق إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ، فما الذي كانوا يقولون؟

يقول أهل التفسير: إن أبا جهل على وجه الخصوص كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! لا نكذبك، ولكننا لا نصدق بهذه الآيات التي تأتي بها، ولا نؤمن بهذه المعجزات، ونقول: إنها سحر.

فالإشكال هنا أنه يوجد إثبات ويوجد نفي، فالله يقول: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وهذا نفي، ويقول في نفس السياق: وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ، ولذا حاول العلماء التوفيق بين الأمرين، وينقل أغلبهم -خاصة المتأخرين- عن الفخر الرازي أربعة أوجه في تحرير المسألة، اثنان منها ضعيفان لا يقبلان، والوجهان القويان أحدهما أنهم كانوا يجحدونه في العلانية ويؤمنون به في السر، وجعلوا هذا نظير قول الله جل وعلا: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14]، والحق أن هذا في قصة فرعون مع موسى، ولا يمكن حملها على العموم؛ لأن ذلك يحتاج إلى إثبات، خاصة أن القرشيين لم يكن يعلمون قصة موسى وفرعون لو لم يخبرهم القرآن.

وقال آخرون: إن المقصود أن القرشيين بتكذيبهم لك إنما يردون على الله قوله؛ لأن الله هو الذي أعطاك المعجزات وآتاك هذه الآيات الظاهرات البينات، فتكذيبك ورد هذه المعجزات تكذيب لله.

قلت -والعلم عند الله-: هذا هو الحق، ويجب اطراح أي وجه آخر، فإن القرشيين كانوا يزعمون سراً وعلانية أن الرسول كذاب، فأراد الله أن يقول لنبيه من باب التسلية: إن صنيعهم هذا ليس تكذيباً لشخصك، وإنما هو تكذيب لربك، فإذا تجرءوا على تكذيب ربك فلك أن تصبر على كونهم كذبوك؛ لأنك لست بأعظم من الله، كما يقول السيد لغلامه عندما يهان الغلام في السوق أو في أي محفل: إنهم لم يهينوك، ولكن أهانوني؛ لأنك غلام لي.

وهذا واضح ومطرد في علم الواقع وحياة الناس وفي كلام العرب، وهذا الوجه عندي هو الوجه الذي لا ينبغي أن يعدل المرء إلى غيره.

طلق المحيا 08-04-17 03:23 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الكحيلة (المشاركة 1451213)
جزاك الله خير الجزاء
وكتب لك الاجر
واصل بارك الله فيك


الله يعطيك العافية

ويجزاك خير الجزاء

طلق المحيا 08-04-17 11:33 PM

تفسير قوله تعالى: (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا...)

ويمضي السياق في تعزية الله جل وعلا لنبيه، فيقول: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [الأنعام:34]، فكما أنك لست بدعاً من الرسل، فبدهي أن ينالك ما نال الرسل من قبل، وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا أي: أولئك الرسل عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا فنصر الله جل وعلا ثابت في نصرته لرسله.

طلق المحيا 08-04-17 11:34 PM

بيان معنى قوله تعالى (ولا مبدل لكلمات الله)

ثم قال الله: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وتبديل كلمات الله له وجهان:

الأول: تغييرها حرفياً، ومنه قول الله جل وعلا: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ [البقرة:59] يعني: أتوا بأحرف وكلمات غيرها، وهذا النوع ليس هو المقصود في آية الأنعام.

التبديل الثاني: هو ردها؛ بمعنى: الحيلولة بينها وبين أن تقع، وهذا لا يقدر عليه أحد، وهو المقصود بآية الأنعام.

إذاً: المقصود بكلمات الله في آيات الأنعام وعده ووعيده.

فلو جاء إنسان من مجتمع بادية أو مجتمع أمي لا يوجد فيه أحد يحفظ القرآن، ثم قال: أنا أريد أن أثبت لك أنني أستطيع أن أغير كلام الله، فقرأ الآية عمداً خطأ وأدخل آية مكان آية أو أتى بأحرف من عنده، فهذا بدل كلام الله، ولكنه ليس المقصود بقوله تعالى: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ؛ لأن كلمات الله في آية الأنعام المقصود بها وعده ووعيده، بل هذا يندرج في قوله تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ [البقرة:59]، وفي قوله تعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ [المائدة:41] ولكن قوله تعالى: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ، المراد به أن الله وعد أهل الإيمان بالنصر وتوعد أهل الكفر بالاضمحلال والنهاية والانهزام، فهذا الأمر لا يقدر أحد على تبديله.

طلق المحيا 08-04-17 11:34 PM

بيان معنى قوله تعالى (ولقد جاءك من نبأ المرسلين)

ثم قال تعالى زيادة لتطمين نبيه صلى الله عليه وسلم: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الأنعام:34] أي: من أخبار المرسلين ما يثبت لك أن الله نصرهم، فنفذ في أممهم وعيده وأعطى الأنبياء وعده، ولم يقدر أحد على أن يبدل كلمات الله.

طلق المحيا 11-04-17 04:43 AM

تفسير قوله تعالى: (وإن كان كبر عليك إعراضهم...)

ثم قال تعالى: وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ [الأنعام:35] أي: عظم وشق إِعْرَاضُهُمْ [الأنعام:35] أي: إعراض أهل الكفر، حيث كانوا يطالبونه بالآيات، فالله يقول له: ليست القضية قضية آيات، فهؤلاء كتب أزلاً أنهم لن يؤمنوا، فقال الله لنبيه: وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ [الأنعام:35].

والنفق: السرب في الأرض، والسلم في اللغة المصعد والمرقاة.

والآية تدلل على عظيم شفقة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته، وحرصه على هداية الناس، فالله جل وعلا يقول له: إن استطعت ذلك فافعل، ولو فعلت فلن يجدي ذلك شيئاً؛ لأن الله قد كتب عليهم الكفر، وهذه الآية مر معنا نظيرها، وهو قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا [الأنعام:25]، ولكنها تبين حرصه صلى الله عليه وسلم وشفقته بأمته.

طلق المحيا 11-04-17 04:45 AM

بيان معنى قوله تعالى (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى)

وقوله تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى [الأنعام:35] هذا كله من تأديب الله لنبيه، فالله اقتضت حكمته ومشيئته أنه لا يمكن أن يؤمن الناس جميعاً، ولو أراد الله أن يؤمن الناس جميعاً لجمعهم على الهدى.

إذاً: أنخ مطاياك، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، وكن على بينة من أنه لابد من أن يكون في الناس مؤمن وكافر وعاص وطائع، وبر وفاجر، والإنسان العاقل ينظر إلى ما حوله بعين القدر وبعين الشرع، فبعين الشرع يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وبعين القدر يعلم أن الله جل وعلا قد كتب أنه لابد من أن يكون في النار كافر ومؤمن، وقد أمر عمر بن عبد العزيز بتنقيص الجباية عن أهل الذمة، فكتب له الوالي: إن هذا يضر ببيت مال المسلمين، فقال: إن الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً. فكتب إليه مرة أخرى فكتب عمر : إن عمر ليعلم أنه أحقر عند الله من أن يهدي الخلق كلهم على يديه. وهذا يمنح الإنسان سكينة وعدم انفعال وهو يدعو إلى الله جل وعلا.

طلق المحيا 11-04-17 04:46 AM

بيان معنى قوله تعالى (فلا تكونن من الجاهلين)

ثم قال الله: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ [الأنعام:35]، ولم يقل: فلا تكن جاهلاً، والمعنى: إظهار كرامة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه، ولطف مخاطبة الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم، فإذا جمعت هذا مع ما سلف من حرصه صلى الله عليه وسلم وشفقته بأمته تبين لك أنه عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يضره بعد مدح الله وملاطفته له ما يقوله أهل الكفر فيه، سواء ممن سبق وأدرك حياته صلى الله عليه وسلم ككفار قريش، أو من تراه في عصرنا هذا، فكل يوم ينعق في إحدى الدول ناعق.

والله لن يصلوا إليك ولا إلى ذرات رمل من تراب خطاكا

كنت الخشاش على الثرى ومقامكم مثل السماء فمن يطول سماكا

وإذا كان مدح الناس له صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إليه لأن الله مدحه، فكيف يضره ذم الناس؟! والله جل وعلا قد عصمه.

وهنا مسألة عقدية، وهي أن الله جل وعلا لا يضره ذم أحد ولا ينفعه مدح أحد ولا طاعته؛ لأن الله استغنى بذاته وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]، والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينفعه مدح أحد ولا يضره ذم أحد، وليس ذلك لذاته، بل لأن الله جل وعلا مدحه، ولأن الله جل وعلا حماه، فماذا سيقول المادحون فيه وقد مدحه الله؟! وماذا سيذمه الناس وقد عصمه الله، وقال له: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95]؟! فالله جل وعلا لا يبلغ مدحه قول قائل، ولا يجزي بآلائه أحد؛ لأن الله هو الغني الحميد.

طلق المحيا 11-04-17 04:47 AM

ضرورة الأدب في مخاطبة الآخرين

يقول تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ [الأنعام:35]، ولم يقل تعالى: ولا تكونن جاهلاً.

وعلى هذا ينبغي على الإنسان أنه إذا خاطب غيره، خاصة من يحب عليه أن يتأدب في الخطاب معه، والمعلومة قد تكون واحدة، لكن سياقها للناس قد يكون مختلفاً.

ولذلك يروى أن ملكاً رأى في رؤيا أن أسنانه جميعاً سقطت، فاستدعى معبراً، فجاءه المعبر فقال: ماذا تقول؟ فقال: كل أهلك يموتون. فاشتاط غضباً، ثم قال: هل من معبر آخر، فجيء بمعبر آخر، فقال: هنيئاً لك طول العمر يا أمير المؤمنين، أنت آخر أهلك موتاً، والمعنى واحد، ولكن العبارة اختلفت.

طلق المحيا 13-04-17 03:09 AM

أهمية التأني في الحكم على الخطاب

ويستفاد من الآية أن الإنسان يجب أن يعرف مراد المتكلم قبل أن يتعجل في الحكم؛ لأن الحكم ببادي الرأي لا يصلح، فأحد العرب ضاعت غنمه فقال: (يا رب سلط عليها الذئب والضبع)، فهل دعا لها أم دعا عليها؟

وهنا يقف الإنسان بهدوء، فيقول: إن كان قد قصد أن يسلط عليها الذئب والضبع في وقت واحد فقد دعا لها؛ لأن الذئب والضبع لا يتفقان، فيدفع كل منهما الآخر، فإذا التقيا والغنم حاضرة تدافعا وهلكا ونجت الغنم، وإن قصد أن يسلط عليها الذئب والضبع متفرقين فقد دعا عليها بالهلاك والثبور.

فكل عاقل يلقى عليه خطاب يجب عليه أن يتأتى فيه.

وهنا فائدة لغوية، وهي أن العرب لها نظم لا يختل وسنن لا تتبدل في طريقة تقديمها الذكر على الأنثى، فهم يقولون: القمران، يقصدون الشمس والقمر، وإنما قالوا: القمران؛ لأن القمر مذكر والشمس مؤنث؛ إلا في حالتين قدموا فيهما الأنثى على الذكر، وهذا من نفائس العلم:

الأولى: فإذا ثنوا الضبع، فيقدمون الأنثى على الذكر؛ لأن الضبع اسم للأنثى، والذكر يقال له: ضبعان، فإذا ثنو على اسم الذكر اجتمعت الألف والنون مرتين، فاسمه ضبعان وهو فرد، فكيف إذا ثني؟! فتحرجوا من هذا التكرار، ولجئوا إلى تثنيته على اسم الأنثى، فقالوا: ضبعان ويقصدون الذكر والأنثى، فاختاروا اسم الأنثى، ولم يختاروا اسم الذكر، فاختل هنا نظم كلامهم في أنهم يقدمون الذكر على الأنثى.

الحالة الثانية: في التاريخ، فإنهم يقدمون ويؤرخون بالليلة دون اليوم؛ لأن الليلة تسبق اليوم.

هذا ما تحرر إيراده وتهيأ إعداده وأعان الله على قوله.

وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

طلق المحيا 13-04-17 03:17 AM

لقد بين الله تعالى في كتابه الكريم عظيم قدرته على هلاك الأمم وعذابها، ولذا أشفق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من ذلك، فدعا الله تعالى ألا يصيب أمته بعذاب استئصال فأجابه، ومنع الله تعالى إجابته في دعوته بألا يصيب الله أمته بعذاب إذاقة بعضهم بأس بعض، فوقع في الأمة أحداث قتل عظيمة ولا زالت تقع إلى يومنا هذا. كما بين تعالى في كتابه الكريم موقف كفار قريش مما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم وهو التكذيب، آمراً نبيه بأن يعلن أنه ليس عليه إلا البلاغ، وعلى الله الحساب.

طلق المحيا 13-04-17 03:19 AM

تفسير قوله تعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم...)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا هو الدرس الثاني عشر في تأملات في سورة الأنعام؛ إلا أن الأحد عشر درساً التي مضت كنا نتوخى فيها ترتيب الآيات في السورة، أي: أننا نعرج على جميع الآيات دون استثناء.

أما في هذه المرحلة من التأملات فإنه قد تبين لنا مما سلف أن السورة تعنى بالجانب العقدي، وأن التوحيد أصل عظيم فيها كما هو أصل الدين، وعلى هذا فإننا سنختار بعض الآيات التي سنتأمل فيها ولا نلتزم الترتيب في عرضها، والآيات التي سيكون فيها درسنا -بإذن الله تعالى- هي قول الله جل وعلا: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ [الأنعام:65-66].

وينبغي أن تعلم أن لله جل وعلا قضاء كونياً قدرياً، وقضاء شرعياً، وقد يجتمعان في آن واحد، ولكن لا يلزم اجتماعهما.

طلق المحيا 13-04-17 03:23 AM

ذكر مناسبة الآية لما قبلها

ومناسبة الآية لما قبلها أن الله جل وعلا ذكر في الآيتين السابقتين لطفه وكشفه لكربات من يسأله فقال: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ [الأنعام:64]، فلما ذكر الله لطفه ذكر الله هنا عظيم قدرته.

طلق المحيا 13-04-17 03:24 AM

ذكر صنيع النبي صلى الله عليه وسلم عند تلاوة جبريل الآية عليه

وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ عليه جبريل هذه الآية: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ قال: (أعوذ بوجهه) أي: استعاذ بوجه الله جل وعلا من هذا، ثم تلا جبريل: أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ، فقال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بوجهه) ثم تلا جبريل يكمل الآية: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ، فلم يجر الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ كما استعاذ في الأوليين، وإنما قال: (هاتان أهون وأيسر)، وذلك لأن الأولى كانت تتكلم عن عذاب استئصال بالكلية، أي: لا يبقي على الأمة، وأما الثالثة فليست من عذاب الاستئصال، ثم إن الله جل وعلا كتبها في الأزل، فستجري لأن الله كتبها، فما كان الله ليمنعها لدعوة أحد كائناً من كان، ولو كان الداعي نبينا صلى الله عليه وسلم.

طلق المحيا 13-04-17 03:28 AM

ذكر ما منع النبي صلى الله عليه وسلم إجابته من دعوته لأمته

وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح وغيره- أنه قدم من عالية المدينة حتى أتى مسجد بني معاوية، ومسجد بني معاوية هو المعروف اليوم بمسجد الإجابة في جهة شمال غرب الحرم تقريباً، وهو إلى الشمال أقرب منه إلى الغرب، بجوار مستشفى يسمى مستشفى الأنصار، وهو مبني على طراز حديث، ويعرف عند الناس بمسجد الإجابة.

وبنو معاوية بطن من الأوس، وكان أكثر البطون من الأوس والخزرج لهم مساجد، فالنبي صلى الله عليه وسلم دخل هذا المسجد ودخل معه أصحابه، فصلى صلاة طويلة، ثم دعا دعاء طويلاً ثم انصرف إلى الناس بوجهه وقال: (إني سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألت الله ألا يهلك أمتي بسنة فأعطانيها، وسألت الله ألا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألت الله ألا يذيق بعضها بأس بعض فمنعنيها)، فانظر كيف أن الله جل وعلا منع نبيه صلى الله عليه وسلم هذه الدعوة ليجري قدره، والنبي صلى الله عليه وسلم أراد الحدب والشفقة على الأمة، والله جل وعلا أجرى هذا الأمر لحكمة، فالله جل وعلا حكيم عليم، وهو أرحم بنا من نبينا صلى الله عليه وسلم، ونبينا رحمته من رحمة الله بنا، ولكن علم الله أعظم وأجل من علم نبيه صلى الله عليه وسلم، بل لا علم له صلى الله عليه وسلم إلا ما علمه الله، والنبي عليه الصلاة والسلام في تربيته لأمته يتوخى أسلوب الوضوح، ولهذا قال: (فمنعنيها)، ولم يدر بخلده عليه الصلاة والسلام أن الناس سيتكلمون في منع الله جل وعلا نبيه دعوةً؛ لأنه عليه الصلاة والسلام عبد لربه جل وعلا، فهو عبد الله ورسوله، يبلغ دعوة ربه كما أتته، قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم مخفياً شيئاً من القرآن لأخفى قول الله جل وعلا: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37]، وهذا عتاب من الله لنبيه لاتباعه خلاف الأولى، ومع ذلك تلاه صلى الله عليه وسلم على الناس، ومكث شهراً لا ينزل عليه الوحي في أمر عائشة ، فلم يستطع أن يدلي بدلوه في إثبات براءتها أو تهمتها حتى نزل الوحي من السماء: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [النور:11]، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أدى الأمانة وبلغ الرسالة على الوجه الأتم والنحو الأكمل.

نجم سهيل 13-04-17 12:14 PM

جزاك الله خير وبارك الله فيك اخي الغالي طلق المحيا ..

وقفت اليوم عند قوله تعالى ..

١٤١﴾ وَمِنَ الأَنعامِ حَمولَةً وَفَرشًا كُلوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللَّـهُ وَلا تَتَّبِعوا خُطُواتِ الشَّيطانِ إِنَّهُ لَكُم عَدُوٌّ مُبينٌ ﴿١٤٢﴾ ثَمانِيَةَ أَزواجٍ مِنَ الضَّأنِ اثنَينِ وَمِنَ المَعزِ اثنَينِ قُل آلذَّكَرَينِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَينِ أَمَّا اشتَمَلَت عَلَيهِ أَرحامُ الأُنثَيَينِ نَبِّئوني بِعِلمٍ إِن كُنتُم صادِقينَ ﴿١٤٣﴾ وَمِنَ الإِبِلِ اثنَينِ وَمِنَ البَقَرِ اثنَينِ قُل آلذَّكَرَينِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَينِ أَمَّا اشتَمَلَت عَلَيهِ أَرحامُ الأُنثَيَينِ أَم كُنتُم شُهَداءَ إِذ وَصّاكُمُ اللَّـهُ بِهـذا فَمَن أَظلَمُ مِمَّنِ افتَرى عَلَى اللَّـهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النّاسَ بِغَيرِ عِلمٍ إِنَّ اللَّـهَ لا يَهدِي القَومَ الظّالِمينَ ﴿١٤٤﴾


لم استطع فهمها ...اتمنى منكم تفسيرها ..

وجزاكم الله الف خير ...

نجم سهيل 13-04-17 01:41 PM

اقتباس:

ومسجد بني معاوية هو المعروف اليوم بمسجد الإجابة في جهة شمال غرب الحرم تقريباً،
اظن والله اعلم انه في الشمال الشرقي ...

طلق المحيا 14-04-17 03:22 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نجم سهيل (المشاركة 1451302)
جزاك الله خير وبارك الله فيك اخي الغالي طلق المحيا ..

وقفت اليوم عند قوله تعالى ..

١٤١﴾ وَمِنَ الأَنعامِ حَمولَةً وَفَرشًا كُلوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللَّـهُ وَلا تَتَّبِعوا خُطُواتِ الشَّيطانِ إِنَّهُ لَكُم عَدُوٌّ مُبينٌ ﴿١٤٢﴾ ثَمانِيَةَ أَزواجٍ مِنَ الضَّأنِ اثنَينِ وَمِنَ المَعزِ اثنَينِ قُل آلذَّكَرَينِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَينِ أَمَّا اشتَمَلَت عَلَيهِ أَرحامُ الأُنثَيَينِ نَبِّئوني بِعِلمٍ إِن كُنتُم صادِقينَ ﴿١٤٣﴾ وَمِنَ الإِبِلِ اثنَينِ وَمِنَ البَقَرِ اثنَينِ قُل آلذَّكَرَينِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَينِ أَمَّا اشتَمَلَت عَلَيهِ أَرحامُ الأُنثَيَينِ أَم كُنتُم شُهَداءَ إِذ وَصّاكُمُ اللَّـهُ بِهـذا فَمَن أَظلَمُ مِمَّنِ افتَرى عَلَى اللَّـهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النّاسَ بِغَيرِ عِلمٍ إِنَّ اللَّـهَ لا يَهدِي القَومَ الظّالِمينَ ﴿١٤٤﴾


لم استطع فهمها ...اتمنى منكم تفسيرها ..

وجزاكم الله الف خير ...

اللهم إجعلنا عند حسن ظن عبادك

يااخي أنا اقل من ذلك ولست مفسر

كل مافي الموضوع أنني أقرأ

وأحببت تشاركوني القراءة والإطلاع

وبارك الله فيك

طلق المحيا 14-04-17 03:27 AM

بيان عظيم قدرة الله تعالى

فالله جل وعلا كما بين لطفه في الآية التي سلفت بين هنا عظيم قدرته فقال: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ [الأنعام:65] كالرجم، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [الأنعام:65]، كالخسف والزلازل، ونحن لا نتكلم عن الخسف والزلازل المحدودة بمكان ما، وإنما نتكلم عن عذاب الاستئصال، كما أن الله تبارك وتعالى أهلك قوم نوح بالطوفان فكان استئصالاً، وأهلك قوم لوط بأن جعل قريتهم عاليها سافلها، فكان استئصالاً لهم.

وهذه الأمة هي آخر الأمم، فكان بدهياً أن الله جل وعلا يبقيها.

طلق المحيا 14-04-17 03:28 AM

بيان صور من إذاقة الله تعالى بعض الأمة بأس بعضها

والمهم من ذلك أنه بقيت الثالثة، وهي قوله تعالى: وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:65] أي: يقع القتل في الأمة، وهذه مسألة منع الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يؤتاها رغم حرصه صلى الله عليه وسلم.

وعلى هذا جرى ما جرى في التاريخ الإسلامي منذ أن قتل عمر رضي الله تعالى عنه، فبدأت الأمة يذيق بعضها بأس بعضاً بدءاً من يوم الدار، فالذين تسوروا الدار مسلمون يدعون الإسلام، ولا يستطيع أحد أن يقول: إنهم كفار، رغم أنهم قتلوا عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وأصوب القول أن يقال: إن عثمان مات وهو أمير البررة، أي: المؤمنين، والذين قتلوه يصعب أن نقول: إنهم كفار، ولكن نقول: إنهم قتلة فجرة، فالذين قتلوه قتلة فجرة، فمن الصعب أن يقال: إنهم كفار، بل قيل: إن بعضهم كانت له صحبة، كـعمرو بن الحمق .

ثم كان بعد قتل عثمان موقعة الجمل، لما اجتهدت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وخرجت من المدينة ومعها ركب من مكة حتى أتت العراق، فكانت المقتلة بين فريقين كلاهما مسلم.

ثم كانت موقعة صفين بين علي في أهل العراق ومعاوية في أهل الشام، وقتل فيها خلق كثير على رأسهم عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اهتدوا بهدي عمار)، ومع ذلك قتل رضي الله عنه وأرضاه، فليس قتله على يد فارس ولا الروم، ولا على يد اليهود والنصارى، وإنما على يد مسلمين؛ لأن الله قال: وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:65].

ثم جرت أحداث وأحداث، منها موقعة الحرة، سلط فيها يزيد بن معاوية على المدينة رجلاً يقال له: مسلم المري ، وأهل المدينة آنذاك كان يسمونه مسرفاً، فتسور مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ودخلها من ناحية الشرق، وفعل الأفاعيل في أهلها، وقتل خلقاً كثيراً، ومنهم كثير من الصحابة، حتى إنهم دخلوا على أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وأبو سعيد صحابي جليل معروف القدر، ومع ذلك أمسك ذلك الرجل بلحيته حتى كاد أن ينزعها كلها لا يعرف لـأبي سعيد قدراً للجهل الذي فيه.

واستطراد تاريخ أهل الشام خارج عن الشأن، ويقال: إن فيهم ثلاثة أمور: شدة الطعن، وشدة الطاعة لمن يتولاهم، وفي بلدهم أمراض الطاعون، فأهل الشام في الغالب أكثر الناس طاعة للأمراء، ويقال: إنهم أشد الناس معصية للخالق، وهذه لا أتحملها، وإنما يقولها المؤرخون، ولكن فيهم سمع وطاعة عجيبة لمن يتولى أمرهم، ولذلك رضخوا لـمعاوية عشرين عاماً، في حين كان العراقيون يخالفون علياً بين الحين والآخر، رغم أن علياً أفضل من معاوية ، وفي كل خير رضي الله عنهم أجمعين.

كما أن فيهم شدة الطعن، أي: في الحرب والقتال، وفي بلادهم تكثر الطواعين، كطاعون عمواس الذي مات فيه كثير من الصحابة، ومنهم أبو عبيدة ومعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنهما.

والذي يعنينا هنا أن أهل الشام لما دخلوا المدينة كانوا أشد الناس سمعاً لأمرائهم، فكانوا يفعلون ما يقول لهم الأمراء، ولم يرفع الأذان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، فهذا كله لقول الله جل وعلا: وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ .

ثم كانت دولة بني العباس، وفي أولها دخل عبد الله بن علي عم أبي جعفر المنصور على دمشق حاضرة بني أمية، فقتل في ضحى ذلك اليوم أكثر من أربعين ألفاً كلهم مسلمون، والقاتل مسلم، وأسس دولة للإسلام، وهذا كله تحقيق للأمر القدري الذي منع الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يؤتيه إياه.

وعلى هذا لو قرأت تاريخنا المعاصر ستجد في آخره ما وقع بين فتح وحماس، وكلهم مسلمون، وقبل ذلك ما سمي بأحداث أيلول الأسود التي وقعت في الأردن بين الفلسطينيين والأردنيين، وقبله ما حصل بين العراق والكويت، وهم في الجملة مسلمون، فهذه كلها أحداث تبين لك أن الله جل وعلا قضى قضاء، وقد قال لنبيه: (إنني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد)، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم عاقبة هذا، فسأل ربه، ولكن الله جل وعلا منعه لحكمة أرادها جل وعلا، وهو العليم الخبير والعزيز الحكيم جل جلاله.

والمقصود: أن هذه الإطلالة التاريخية تعين طالب العلم على فهم هذه الآيات، وعلى فهم أن لله جل وعلا سنناً لا تتبدل، وصبغة لا تتغير، والناظر في التاريخ والمتأمل فيه يكون أقدر من غيره على نفع الناس وعلى قيادتهم وعلى توجيههم؛ لأنه من تلك الأحداث والأيام والليالي والصروف يستلهم الإنسان العظات والعبر، فيكون ما يوجه به أو يقرره أو يرشد به أو ينصح به متوافقاً في الغالب مع الوجهة الحقيقة؛ لأن هذه ثروات يجب اكتنازها، وموروثات يجب الاطلاع عليها، وهذا أمر مستفيض يطول ذكله، ولكنني اقتبست منه بعضاً، وأنا أتكلم عن قول الله جل وعلا: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:65].

طلق المحيا 14-04-17 03:44 AM

بيان معنى قوله تعالى (أو يلبسكم شيعاً)

وقوله تعالى: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا [الأنعام:65] الشيعة في الأصل: كل قوم اجتمعوا على أمر، ولكنها في المصطلح العام أصبحت تطلق على كل من يوالي علياً رضي الله تعالى عنه وأرضاه وآل بيته موالاة غير شرعية، فالذين والوا علياً وآل بيته موالاة غير شرعية يطلق عليهم الشيعة من باب الاصطلاح.

ولكن الشيعة في اللغة: كل قوم اجتمعوا على أمر ما، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام:159] في آخر سورة الأنعام كما سيأتي.

والذي يعنينا هنا أن قول الله جل وعلا: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا أي: يخلط بعضكم ببعض خلط اختلاف وافتراق واضطراب لا خلط اتفاق، فينجم عن ذلك أن تكونوا شيعاً، كما قال الله تعالى: كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:32].

طلق المحيا 14-04-17 03:45 AM

موقف العاقل من سفك الدماء

فالعاقل هنا إذا استذكر هذا كله يعرف أن رفع السيف على أهل الإسلام من أعظم كبائر الذنوب، ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم منه، ومن كمال نصح المسلم لدين الله ولرسوله ولكتابه وللأئمة المسلمين وعامتهم ألا يرفع سيفاً على الأمة، ولا يتجرأ على أن يتسبب في سفك دمائها، ولهذا كان عثمان رضي الله تعالى عنه مظلوماً، واجتمع الخوارج على داره، وهب كثير من الصحابة وأبناء الصحابة للدفاع عنه، ومع ذلك أمرهم بأن يتركوا الدار ويخلوا بينه وبين أعدائه خوفاً من أن يسفك دم بسببه رضي الله تعالى عنه وأرضاه؛ لعلمه أن سفك الدماء شيء شديد غلَّط الشرع فيه، فالعاقل يسمع ويطيع ولا يرغب عن جماعة المسلمين، ويكون فرداً منهم له ما لهم وعليه ما عليهم.

بيان معنى قوله تعالى (انظر كيف نصرف الآيات)
قال الله جل وعلا: وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ [الأنعام:65].

قوله تعالى: نُصَرِّفُ الآيَاتِ أي: في القرآن، فيكون هناك تنويع في ذكرها بالانتقال بين الوعد والوعيد والأمر والنهي والترغيب والترهيب، كل ذلك لعله يكون سبباً في أن يفقهوا عن الله كلامه جل وعلا.

نجم سهيل 14-04-17 04:07 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة طلق المحيا (المشاركة 1451311)
اللهم إجعلنا عند حسن ظن عبادك

يااخي أنا اقل من ذلك ولست مفسر

كل مافي الموضوع أنني أقرأ

وأحببت تشاركوني القراءة والإطلاع

وبارك الله فيك

حياك الله

انا اقرا لحالي ماشارك احد

طلق المحيا 14-04-17 05:46 AM

بيان معنى قوله تعالى (انظر كيف نصرف الآيات)

قال الله جل وعلا: وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ [الأنعام:65].

قوله تعالى: نُصَرِّفُ الآيَاتِ أي: في القرآن، فيكون هناك تنويع في ذكرها بالانتقال بين الوعد والوعيد والأمر والنهي والترغيب والترهيب، كل ذلك لعله يكون سبباً في أن يفقهوا عن الله كلامه جل وعلا.

طلق المحيا 14-04-17 05:47 AM

تفسير قوله تعالى: (وكذب به قومك وهو الحق...)

ثم قال الله تبارك وتعالى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ [الأنعام:66].

قوله تعالى: قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أي: لا أملك جبركم على اعتقاد أن القرآن حق، فالنبي صلى الله عليه وسلم ليس عليه إلا البلاغ، قال تعالى: إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [الرعد:7]، وقال تعالى: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ [النحل:35].

وأما قوله تعالى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ فالأصل أنه ينصرف إلى القرشيين؛ لأن الآية المخاطب بها في المقام الأول كفار مكة، وإن كان كل من كذب النبي صلى الله عليه وسلم ورد على الله قوله يدخل في قوله تعالى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ .

طلق المحيا 14-04-17 05:49 AM

ذكر بعض ما ترشد إليه الآية الكريمة

فالآية ترشدنا من حيث الإجمال إلى أن الإنسان عليه أن يعلم أن هذا الكتاب المبين نور جعله الله جل وعلا في الأرض، وأن الإنسان حظه من العلم والفهم والإدراك والفوز بقدر حظه من القرآن، وينبغي أن يعلم أن إجلال القرآن ليس وقفاً على أهل القرآن وليس وقفاً على العلماء، بل على كل مسلم أن يجله.

فقد ذكروا أن أبا عثمان المازني كان نحوياً شهيراً في البصرة، فجاءه رجل عربي من أهل الذمة، أي: ليس بمسلم، بل نصراني، فأراد أن يتعلم كتاب سيبويه ، وكان أبو عثمان ممن يحسن شرح كتاب سيبويه ، وكان ذا فاقة وضيق وقلة ذات يد، فجاءه الذمي وكان موسراً، فقال: اشرح لي كتاب سيبويه ، فرفض، فقال: أعطيك مائة دينار، وهو مبلغ عظيم آنذاك مع حاجة الرجل، فسأله أبو العباس المبرد أديب زمانه عن عدم قبوله ذلك، فقال: إن في كتاب سيبويه أكثر من ثلاثمائة آية، وإنني -والله- لم أُرِد أن أمكن ذمياً منها غيرة على كتاب الله وحمية له.

ثم إنه قدر أن الواثق الخليفة العباسي كان في مجلسه، فأنشدته إحدى جواريه بيتاً للعرجي وأوله:

يا ظلوم إن مصابكم رجلاً

فاختلف النحاة الموجودون عند الواثق في نصب كلمة رجل، وأصرت الجارية على إنشادها بالنصب، فلما سئلت قالت: إن أبا عثمان المازني أنشدني إياها هكذا.

فأمر الواثق بإشخاصه إليه، فأتي به من البصرة إلى بغداد، فلما وقف بين يدي الواثق أخذ الواثق يسأله، والقصة طويلة، وفيها عرف الواثق حذاقته، وأنه متمكن في اللغة فأعجب به، فقال له: عندما خرجت من البصرة هل تركت أولاداً؟ قال: نعم، بنية، فقال: ماذا قالت عندما خرجت، فأخبره بأنها تمثلت ببيت للأعشى يذكر فيه الوداع، فقال له الواثق : بماذا أجبتها؟ فقال: أجبتها ببيت جرير :

ثقي بالله ليس له شريك ومن عند الخليفة بالنجاح

فقال له الواثق : لقد وفقت، وأعطاه ألف دينار، فلما عاد إلى البصرة نادى أبا العباس المبرد الذي نصحه بأن يقبل المائة، فقال: انظر يا أبا العباس : رددنا لله مائة -أي: من أجل الله- فعوضنا الله ألف دينار. أي: عوضه الله عشرة أضعافها.

ومن هذا تفقه أن المؤمن ينبغي عليه أن يعظم كلام ربه جل وعلا ويجله، ولا ينتظر شيئاً من الناس، فإنك إن أخلصت النية وأحسنت السريرة فإن الله جل وعلا أعلم بك، وربك يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [التوبة:120].

هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده وأعان الله على قوله حول هاتين الآيتين المباركتين من سورة الأنعام.

وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

طلق المحيا 16-04-17 03:35 AM

يذكر الله تعالى في سورة الأنعام ما أفاء الله تعالى به من الفضل على إبراهيم عليه السلام، حيث وهبه الحجة في مقارعة قومه، ورفعه درجات، وجعل النبوة في ذريته، وذكر بعض أبنائه من الأنبياء، جامعاً لكل عدد منهم اختصه بمزية في آية، وخاتمهم هو ابنه نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، وكفى به رفعة وشرفاً.

طلق المحيا 16-04-17 03:35 AM

علة إيراد قصة إبراهيم عليه السلام في سورة الأنعام
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فما زلنا نتفيأ ظلال سورة الأنعام، والآيات التي سنتحدث عنها في هذا الدرس هي قول الله جل وعلا: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ [الأنعام:83-86].

هذه الآيات من سورة الأنعام جاءت بعد قول الله جل وعلا: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام:74].

والسورة تتحدث عن التوحيد، وإبراهيم هو أعظم الموحدين، فالله تعالى نسب الملة إليه فقال: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج:78]، فكان بدهياً أن تتحدث السورة كثيراً عن إبراهيم.

وقد ذكرت الآيات قضية محاجة إبراهيم لأبيه آزر، ثم محاجته لقومه، وقوله: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا [الأنعام:81]، إلى أن قال إبراهيم عليه السلام وهو يحاج قومه ويثبت لهم التوحيد: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81].

وهنا نأتي إلى قضية أساسية، وهي أن إبراهيم لم يقل: فأينا أحق بالأمن بل قال: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ [الأنعام:81]، قال العلماء في بيان هذا: أراد إبراهيم أن يبين أن المقابلة مقابلة عامة تشمل كل موحد ومشرك، وليست محصورة في والذي فصل وحكم في أحق الفريقين بالأمن هو الله تعالى، حيث أنزل قوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أي: بشرك أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].

وهذا ما دفع القرطبي رحمه الله إلى أن يقول: إن هذه الآية أرجى آية في كلام الله؛ لأن الله أثبت فيها أن من مات على التوحيد ولم يشرك بالله شيئاً تكفل الله له بالأمن يوم القيامة، وبالهداية في الدنيا فقال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].

طلق المحيا 17-04-17 05:43 AM

تفسير قوله تعالى: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه...)

ثم قال الله جل وعلا: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [الأنعام:83].

معنى: (وتلك حجتنا) أي: هذه الحجة الدامغة المظهرة للحق المضيعة للباطل إنما آتاها الله جل وعلا إبراهيم.

ثم ذكر تعالى ما وهبه لإبراهيم من الأنبياء من ذريته، والمذكورون هنا ثمانية عشر نبياً، وفي القرآن خمسة وعشرون نبياً، منهم سبعة في غير هذه الآية نظمهم الشاعر فقال:

في تلك حجتنا منهم ثمانية من بعد عشر ويبقى سبعة وهم

إدريس هود شعيب صالح وكذا ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا

صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

ففي القرآن خمسة وعشرون نبياً ورسولاً، منهم ثمانية عشر مذكورون في سورة الأنعام في آية: (تلك حجتنا)، وسبعة في مواطن متفرقة، كما أن هؤلاء الثمانية عشر ذكروا كذلك في آيات أخر.

طلق المحيا 17-04-17 05:44 AM

تفسير قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب)

قال الله جل وعلا: وَوَهَبْنَا لَهُ [الأنعام:84] أي: لإبراهيم إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ولم يذكر الله هنا إسماعيل كُلًّا هَدَيْنَا أي: إسحاق ويعقوب وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ [الأنعام:84] ونوح ليس من ذرية إبراهيم، وإنما هو جد لهم، فأراد الله أن يبين أنه أعطى إبراهيم شرف الأجداد وكرم الأبناء، وأكرم أبنائه نبينا صلى الله عليه وسلم، ونبينا صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم مع أنه منه عليه الصلاة والسلام.

وأحياناً تفتخر القبيلة كلها بواحد، يقول ابن الرومي -وهو شاعر عاش في عصر بني العباس- وكان رجلاً يتقلد الشؤم ويتطير-:

كما علت برسول الله عدنان

فعدنان عزها هو كون النبي صلى الله عليه وسلم منها، ولذلك يقال: النبي الهاشمي العدناني.

طلق المحيا 17-04-17 05:45 AM

بيان مرجع الضمير في قوله تعالى (ومن ذريته)

قال تعالى: كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ يحتمل أن يعود الضمير إلى إبراهيم ويحتمل أن يعود إلى نوح، فالذين قالوا: هو عائد على إبراهيم قالوا: إن الكلام عن إبراهيم، وما قول الله جل وعلا: وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ [الأنعام:84] إلا جملة اعتراضية.

والذين قالوا: إن الضمير يعود على نوح قالوا: دليل ذلك الصناعة النحوية، وذلك أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هو نوح، واحتجوا كذلك بأن الله جل وعلا ذكر لوطاً، ولوط ليس من ذرية إبراهيم؛ لأنه ابن أخيه.

فأجاب الأولون فقالوا: إن كون لوط ابن أخ له لا يمنع أنه ابن له، فإن الله سمى في كتابه العم أباً، قال الله جل وعلا: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة:133]، ومعلوم أن القائلين هنا هم أبناء يعقوب، وإسماعيل عم ليعقوب؛ لأن أباه إسحاق، فسمى الله العم أبا في كتابه العظيم، وهذه حجة من قال: إن الضمير يعود على إبراهيم.

ولا يوجد مرجح نجزم به في الآية، فالآية تحتمل هذا وتحتمل هذا، وإن كان أكثر العلماء على أنها عائدة على إبراهيم باعتبار أن السياق يتحدث عن إبراهيم.

طلق المحيا 17-04-17 05:50 AM

ذكر أوجه تصنيف الأنبياء في الآيات

ونلحظ في الآيات أن الله ذكرهم على ثلاث مراتب، والآيات لم تقصد الترتيب الزمني قطعاً، فقد قال الله: وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا [الأنعام:86]، وقبله قال: وَعِيسَى [الأنعام:85]، ومعلوم أن عيسى بعد لوط.

إذاً: لم تعن الآيات بالترتيب التاريخي، ولم تعن الآيات بترتيب الفضل ومنازلهم؛ لأن الله جل وعلا ذكر داود وسليمان ثم ذكر عيسى، وعيسى أفضل من داود وسليمان؛ لأنه من أولي العزم من الرسل، فإما أن يقال: إن الآية لم يكن يقصد منها التصنيف، وإما أن يقال: يقصد منها تصنيف تاريخي، وقد نفيناه، أو تصنيف حسب الفضل، وقد نفيناه.

فإن قال قائل: يقصد منها التصنيف فلابد من أن يقول لنا: على أي شيء صنفت.

والأظهر -والعلم عند الله- أنها صنفت على القياس التالي:

فالله يقول عن المجموعة الأولى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ [الأنعام:84]، فهؤلاء الخمسة يجمعهم شيء واحد، وهو أن الله أعطاهم سيادة في الدنيا، فداود وسليمان كانا حاكمين، وموسى وهارون كانا حاكمين لبني إسرائيل، وأيوب كان مريضاً مبتلى ثم أصبح غنياً مطاعاً، قال الله: وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا [الأنبياء:84]، انتهى به الأمر إلى الثراء، وجاء في الحديث: أن الله أنزل عليه رجل جراد من ذهب، فهؤلاء أعطوا حظاً كبيراً من الدنيا.

ثم قال الله بعدها: وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ [الأنعام:85]، وهؤلاء يجمعهم الزهد وترك الدنيا، والانقطاع التام إلى الله، والانقطاع التام إلى الله حاصل في كل الأنبياء، ولكن هؤلاء لا يعرف عنهم ثراء، ولا يعرف عنهم جاه باعتبار الأمر والنهي والقضاء بين الناس.

ثم قال الله: وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ [الأنعام:86]، فهؤلاء ليسو معدودين فيمن أوتي حكماً وسلطاناً وليسو معدودين في الزهاد من الأنبياء الذين انقطعوا، فجاءوا في المرحلة الوسطى، ولهذا أفرد الله ذكرهم فقال: وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ [الأنعام:86].

إذاً: أصبح التقسيم بحسب ما أفاء الله جل وعلا به عليهم وما خصهم به، وليس بقضية الفضل ولا بقضية التأريخ، وهذا التقسيم ارتضاه المراغي في تفسيره، وهو تقسيم جيد، والعلم عند الله.

طلق المحيا 17-04-17 05:51 AM

حكم عد ابن البنت ابناً

وهنا مسألة، وهي أن الله جل وعلا قال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ [الأنعام:84] أي: إبراهيم، وذكر منهم عيسى ابن مريم، ومعلوم أن عيسى ابن مريم ابن بنت وليسب ابن ابن.

وعلى هذا تتحرر مسألة، وهي هل ابن البنت يعد ابناً أو لا يعد ابنا؟

أما كونه يعد ابناً من حيث العموم فهذا ظاهر دلت عليه الآية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن بن علي : (إن ابني هذا سيد).

وتظهر فائدة الخلاف في مسائل الوقف، فلو أوقف موص مالاً على أبنائه، فهل يدخل ابن البنت أو لا؟ والفصل هنا عند القضاء، فطائفة من العلماء قالت بدخوله، وطائفة من العلماء لم تقل بدخوله، وقد قيل:

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد

هذا كلام العرب، يقول أحدهم: الابن الحقيقي هو ابن ابني، أما ابن بنتي فليس ابناً لي، بل هو ابن رجل بعيد، فأبناؤنا الحقيقيون هم بنو أبنائنا، وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد.

ليسوا أبنائي واضح؟ مع أن المرأة تقرب -كما هو معلوم- لكن من حيث العموم هؤلاء قوم يقولون: إن ابن البنت لا يسمى ابناً، وفصل الخطاب في هذه القضايا في المحاكم الشرعية بحسب ما تختار من فتوى، ولكننا نحرر هنا أن الآية لما ذكر فيها ابن مريم عليه السلام ذكر فيها قول الله جل وعلا: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ [الأنعام:84]، فهو من ذرية إبراهيم رغم أنه ابن بنت.

طلق المحيا 17-04-17 05:54 AM

أقسام المخلوقين من الآدميين

فالله جل وعلا خلق آدم من غير أب ولا أم، وخلق حواء من آدم، وخلقنا من أب وأم، وخلق عيسى من أم من غير أب.

ويروى أن عمر رضي الله تعالى عنه كان له ابن اسمه عبيد الله بن عمر ، فجاءته ذات يوم امرأة تقول له: إن زوجي لا يطعمني ولا يكسوني، فقال: ومن زوجك؟ قالت: أبو عيسى ، فقال مازحاً: سبحان اللهَ! وهل لعيسى أب؟! ثم قال لها: من زوجك؟ قالت: ابنك عبيد الله . فغضب، وأرسل أسلم غلامه، وقال: اذهب إليه وقل له: إن أباك يريدك، فذهب أسلم إلى عبيد الله بن عمر فوجده يتغدى على دجاجة وديك هندي، فقال له: إن أباك يريدك، وكان عمر إذا بعث أحداً إلى أحد أبنائه يقول له: لا تقل له ما يريدك له أبوك حتى لا يلقنه الشيطان كذبه، فإذا عرف ما يريد منه أبوه بيت ما يجيب، ولكنه إذا قدم بين يدي أبيه وسأله أبوه فجأة لا يستطيع أن يحتال لنفسه، ولكن عبيد الله فطن لها، فقال لـأسلم أخبرني، فقال: إن أمير المؤمنين منعني. فقال: أعطيك الدجاجة والديك. فطمع أسلم وهو يومئذٍ غلام فيهم، فقال: على ألا تخبر أمير المؤمنين. فقال: على ألا أخبر أمير المؤمنين. فأخبره بالقصة، وهي أن زوجته جاءت تشتكي إلى عمر ، فعاد أسلم إلى عمر ، فسأله عمر : أوجدته؟ قال: نعم، ففطن عمر لكون أسلم أخبر عبيد الله ، فقال: أخبرته؟ فمن هيبة عمر لم يستطع أسلم أن ينفي، فقال: نعم يا أمير المؤمنين. فقال: أرشاك؟! قال: نعم يا أمير المؤمنين، فضربه بالدرة، ثم لما قدم إليه ابنه عبيد الله عاتبه عمر وقال له: تتكنى بـأبي عيسى ، وهل لعيسى أب؟! وذلك لأن الله سماه عيسى ابن مريم، فالكنية هنا غير ملائمة.

طلق المحيا 17-04-17 05:56 AM

فضل الأنبياء على سائر المخلوقات

وأنبياء الله جل وعلا هم سادة الخلق، والذروة في الناس، وهم أفضل الخلق أجمعين، والدليل على ذلك أن الله جل وعلا قال: وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا يعني: ممن تلي ذكرهم فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ [الأنعام:86]، وكلمة (العالمين) تطلق على كل أحد سوى الله جل جلاله.

فأنبياء الله جل وعلا هم في الذروة من الخلق، وأفضل من الملائكة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

طلق المحيا 17-04-17 05:57 AM

الصلة بين اليهود والعرب

وقد ذكر الله جل وعلا إسحاق، وذكر إسماعيل، وإسحاق عليه الصلاة والسلام أخ لإسماعيل، وبين إسماعيل وإسحاق يدور الخلاف حول الذبيح؛ والاتفاق قائم على أن الذبيح ابن لإبراهيم، ولكن هل هو إسماعيل أو إسحاق؟ وفي المسألة خلاف مشهور، ولا نريد أن نرجح.

ومن ذرية إسحاق جاء يعقوب عليه الصلاة والسلام، ويعقوب هو المسمى في القرآن إسرائيل، وبنو إسرائيل أبناء ليعقوب، وهم أبناء لإسحاق، وإسحاق أخ لإسماعيل، والعرب من ذرية إسماعيل، وفي الحديث: (ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً).

وبذا أصبح اليهود والعرب أبناء عمومة؛ لأن إسحاق عليه السلام كان أخاً لإسماعيل على الخلاف في أيهما الذبيح، وهذا لا يعنينا هنا.



الساعة الآن 02:20 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. Designed & TranZ By Almuhajir

Ads Management Version 3.0.1 by Saeed Al-Atwi