ملتقى قبيلة حرب الرسمي

ملتقى قبيلة حرب الرسمي (http://www.m-harb.net/vb/index.php)
-   الـــمـــلـــتـــقـــى الــــــــــعــــــــام (http://www.m-harb.net/vb/forumdisplay.php?f=47)
-   -   إهداء لأعضاء وزوار الملتقى الإسلامي بملتقى حرب (http://www.m-harb.net/vb/showthread.php?t=154149)

طلق المحيا 19-12-16 06:12 PM

تفسير قوله تعالى: ( وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه ...)

قال الله جل وعلا: وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى [طه:133] ، (لولا) هنا بمعنى: هلا، وليست امتناع لوجود، وهذا قاله الكفار -عياذاً بالله- وكأنه لم يكفهم القرآن، ولهذا قال الله: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ [العنكبوت:51].

والمقصود: أنهم يقولون: نريد بينة، فالله جل وعلا يقول: وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى [طه:133]، ما هو الذي فيه بينة ما في الصحف الأولى؟ هو القرآن، فالله جل وعلا جعل القرآن مهيمناً على الكتب التي سبقت، فكلها أخبرت بنزوله، والقرآن حوى مجملها وما دلت عليه وما أرشدت إليه، وهو المهيمن عليها، فإذا كان لم يكفيهم القرآن فلن يكفيهم شيء أبداً، وإنما يقولون هذا تعنتاً؛ بل القرآن هو خاتم الكتب السماوية المنزلة، وهو المهيمن عليها، نعته الله جل وعلا بقوله: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى [طه:133]، والصحف الأولى هي ما سبق من التوراة والإنجيل والزبور، وبينتها والحجة المهيمن عليها هو القرآن.

طلق المحيا 19-12-16 06:13 PM

تفسير قوله تعالى: (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله ... ومن اهتدى)

قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى [طه:134]، هذه الآية تبين أن الحجة في بعث الرسل، وأنه لولا أن الله أرسل الرسل وأنزل الكتب لكان للناس حجة على ربهم، ولهذا قطع الله المعاذير، وأقام الله جل وعلا الحجج بإرساله للرسل وإنزاله للكتب.

قال تعالى: لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى [طه:134]، فطالبوا بالرسل قبل أن يقع عليهم الذل والخزي، وقد أرسل الله الرسل فلم يبق لهؤلاء القوم أي حجة.

ثم قال الله على لسان نبيه ليختم هذه السورة المباركة: قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى [طه:135]، هذه الآية من أعظم دلائل التوحيد، وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام جعل نفسه ومن آمن معه مثل هؤلاء في الانتظار: قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ [طه:135]، أنا وأنتم ننتظر، أنا وأنتم متحفز للنهاية، أنا وأنتم مترقب لما سيكون، ولا يترقب لما سيكون ويتحفز لما سيقع إلا من كان لا يملك من الأمر شيئاً، وإلا لو كان يملك من الأمر شيئاً لقضاه وانتهى، فأنت تدخل داراً أنت ورفقتك وليس مع أحدة منكم مفتاح، فكلكم مشتركون تنتظرون صاحب الإذن صاحب المفتاح ليدخلكم، ولو كان مع أحدكم مفتاح لفتح الباب وانتهى الأمر.

فهذا النبي يقول: أنا عبد مثلكم، أنا بشر مثلكم، أنا انتظر كما تنتظرون، وذلك حتى يبقى الكمال المطلق لله جل جلاله.

قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا [طه:135]، فإذا انتظرتم وانتظرنا (فستعلمون) يقيناً مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى [طه:135]، ولا يفهم أن أصحاب الصراط السوي مغاير لمن اهتدى، فإن الله لا يتكلم عن فريقين، إنما يتكلم عن طريق وسالكين لذلك الطريق.

والمعنى: أحياناً يوجد طريق سالك صحيح مستقيم، ولا يوجد سالكون له، فالله جل وعلا يقول لهؤلاء الكفار على لسان نبيه: ستعلمون الطريق السوي الحقيقي الذي هو طريق الإيمان، والسالكين لهذا الطريق الحقيقي الذين هم أهل الإيمان، فـ(من) يعبر بها للعاقل، وإنما كسرت هنا وَمَنِ اهْتَدَى كسرت لالتقاء الساكنين؛ لأن الهمزة التي بعدها همزة وصل، والهاء ساكنة.

نعود فنقول: إن الله جل وعلا لا يتحدث عن فريقين، إنما يتحدث عن طريق ومن سلكه، وقد يأتي في أنفس الذين يقرءون القرآن -وهذا من ربط سور القرآن بعضها ببعض- قد يأتي في أنفسهم: متى ينتهي هذا التربص؟ إلى متى هذا الانتظار؟ متى سيكون؟ أسئلة ترد .. فستعلمون متى سوف نعلم؟ وقد ورد الجواب في أول سورة الأنبياء: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ [الأنبياء:1]، هذا هو الجواب فليس ببعيد هذا التربص وهذا التحفز، ولهذا قال الله بعده في الأنبياء: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1]، وهذا من التناسب ما بين سور القرآن الكريم.

طلق المحيا 19-12-16 06:14 PM

فوائد مستنبطة من سورة طه

هذا جملة ما يمكن أن يقال إجمالاً عن هذه السورة المباركة، وجملة الفوائد فيها: أن يعلم أن القرآن معجز في ذاته، وهذا الإعجاز ذكره الله جل وعلا هنا تشويقاً في ثلاث مراحل، فذكره في أول السورة: طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه:1-2]، وذكره قبل النهايات: وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [طه:113]، وذكره هنا أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى [طه:133] ، ففي هذه الثلاثة المواضع ذكر الله جل وعلا القرآن ليبين رفيع قدره وعظيم شرفه، وقد قال في شرف القرآن: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف:44] أي: وشرف لك ولقومك وسوف تسألون عنه .. هذه واحدة.

الثانية: ذكر الله جل وعلا في هذه السورة المباركة إجمالاً خبر كليمه موسى ونبيه آدم عليهم الصلاة والسلام، ولم يذكر الله في هذه السورة قصة أحد من الأنبياء غير موسى وآدم ، والعجيب أنه ليس في القرآن سورة اسمها سورة موسى، رغم أن موسى عليه السلام ذكر في أكثر من موضع.

وهذا -إن صح التعبير- يدخل فيما قلناه سابقاً: أن الله جل وعلا لا يعطي أحداً كل شيء، إنما ذكر يونس؛ لأنه عاتبه عتاباً شديداً فسميت سورة باسم يونس، وذكر موسى كثيراً في القرآن لكن لم تسم سورة باسمه عليه السلام، ونبينا صلى الله عليه وسلم سميت سورة باسمه: سورة محمد، وتسمى أحياناً: سورة القتال، وتسمية سور القرآن تسمية توقيفية مبنية على فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فهي مبنية على أمر الله من حيث الجملة، لكن عموماً ثمة ملحوظات يقع عليها المرء تبين له كيف أن الله جل وعلا يوازن بين عباده، والله يقول: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ [الشورى:27].

والمقصود: أنه حتى الناس لو تأملتهم فستجد من أعطي عافية ومالاً يحرم من أشياء أخر قد لا تظهر لك، ومن أعطي قلة مال قد يعطى أولاداً، وقد يوجد أحد عنده أموال ويتمنى الولد، وقد يوجد مبتلى لكنه معطى أموراً أخر غير التي فيها بلاؤه، وقل أن ترى عبداً إلا وفيه أثر النعمة وأثر الابتلاء، ولا نقول: نقمة، بل يبتليه الله جل وعلا به، فإن لم يحسن التعامل مع ذلك الابتلاء انقلب إلى نقمة، وإن أحسن التعامل انقلب إلى عافية ورفع درجات.

لكن من العبد الخالص الذي يستحق أن يفوز بجائزة مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه:2] ؟ هو من كان قلبه -بصرف النظر عن ماله وولده ومسكنه وجامعه وعلمه- من كان قلبه معلقاً بالله، لا يوجد أحد حي لا يملك قلباً، يتفاوت الناس في المال وفي الولد وفي العلم وفي الطول والقصر، لكن لا يوجد أحد حي لا يملك قلباً.

إننا نريد منا جميعاً أن نعلم أن الغاية من خلقنا أن تعترف قلوبنا بخالقها وتذعن له وتعبده وحده: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله)، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].

فلا يوجد أحد ساد وعنده ما ليس عندك، فعنده قلب وعندك قلب، وهو مقام التحاكم وموئل العبادة، وهو موضع محبة الله وبغضه عند أهل الكفر، وطاعته ومعصيته عند العصاة، فكل الأمور معلقة بمدى اتصال هذا القلب بالخالق، وما الجوارح إلا شواهد ودلائل وقرائن على مدى اتصال القلب بالخالق سبحانه.

علمنا الله وإياكم ما ينفعنا، ونفعنا الله وإياكم بما علمنا، وصلى الله على محمد وعلى آله، وأرجو أن يكون فيما قلناه في سورة طه نفعاً لمن سمعنا وشاهدنا، نسأل الله لنا ولكم التوفيق.

وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد الله رب العالمين.

طلق المحيا 19-12-16 11:21 PM

تم بفضل الله تعالى
نقل تفسير سورة طه

طلق المحيا 19-12-16 11:23 PM

ونبدأ بإذن وحوله وقوته
بنقل تفسير سورة البقرة

طلق المحيا 19-12-16 11:23 PM

🕋 سورة البقرة هي أعظم سور القرآن بعد الفاتحة، فينبغي الحرص على قراءتها وتدبرها، وقد كان السلف يعظمون من يأخذ سورة البقرة ويعلم بما فيها من الأحكام، وقد بدأت هذه السورة بذكر صفات المتقين، ثم ذكرت صفات الكافرين، ثم ذكرت صفات المنافقين، وفيها ضرب الأمثال لبيان حال المنافقين.

طلق المحيا 19-12-16 11:25 PM

سبب تسمية سورة البقرة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد:

غالباً ما تسمى السورة باللفظ المفرد الذي ورد فيها ولم يتكرر في غيرها، فالبقرة لم يرد ذكرها إلا في سورة البقرة، والأعراف لم يرد ذكرها إلا في سورة الأعراف، والفيل لم يرد ذكره إلا في سورة الفيل، والعنكبوت لم يرد ذكرها إلا في سورة العنكبوت، وهكذا غالب سور القرآن هذا سبب تسميتها إلا بعضها خرج عن هذا مثل سورة هود ويوسف.

سورة البقرة أعظم سور القرآن بعد الفاتحة باتفاق العلماء، وقد ورد فيها أحاديث مشتهرة، والوقت لا يسمح بذكر الأحاديث والإطناب فيها؛ لأن هذا معلوم عند الناس، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران).

طلق المحيا 19-12-16 11:27 PM

تفسير قوله تعالى: (الم. ذلك الكتاب لا ريب فيه ...)
نشرع الآن مستعينين بالعلي الكبير في بيان تفسيرها:

قال ربنا وهو أصدق القائلين: بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2].

الأحرف المتقطعة مرت معنا من قبل، وحررنا القول فيها في دروس سابقة، في تفسير قوله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [القلم:1] .

قال الله تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2] المقصود بالكتاب هنا: القرآن، أي: وهذا القرآن، وإنما جيء بلام البعد: (ذلك) للتفخيم والتعظيم.

(ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) في الوقوف على ريب وما بعدها وجهان:

أن يقال: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ) ثم نقرأ: (فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) أو نقول: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ) ثم نقرأ: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) أو نصل ولا نقف، والوقف على: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ) جائز لكن الأفضل عدم فعله؛ لأنه يحصر ما بعده، وتصبح: (فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) والأصل: أنه جميعه هدى للمتقين، فلو قلنا: (فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) قد يفهم منها أنه هدى في بعضه لا كله، لكن عندما نقول: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ) تصبح (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) شاملة للقرآن كله، وهذا أمر يجب تحريره.

والريب هو: الشك، وهذا خبر أريد به الإنشاء، والمعنى: ذلك الكتاب أيها المؤمنون هو هذا القرآن فلا ترتابوا فيه، فهو خبر أريد به الإنشاء الطلبي.

(هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) من الناحية اللغوية النحوية: هدىً منونة بمعنى أنها منصرفة، وهدى إذا كانت مصدراً أريد بها البيان والإرشاد كما في هذه الآية فتنصرف تنون: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)، وأما إذا أطلقت علماً على أنثى وسميت بها امرأة فلا تنصرف للعلمية والتأنيث.

فلو أن لك أختاً اسمها هدى تقول: قابلت هدى.. رأيت هدى.. جاءت هدى، من غير تنوين، لكنها إذا استعلمت استعمال المصدر تنون، وهذا ينبغي التنبه له من الناحية النحوية.

أما المقصود منها في القرآن: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) فالمتقون: اسم فاعل من اتقى، وقد ذكرت فيها تعريفات عديدة مرت معنا، من أشهرها: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله.

خل الذنوب كبيرها وصغيرها فهو التقى

لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى

القرآن هدىً وإرشاد وبيان، هذا أمر لا نزاع فيه؛ لأنه من عند الله، فمن أنزل القرآن هو الذي خلق العباد وهو أدرى بمصالحهم ومنافعهم جل جلاله.

طلق المحيا 19-12-16 11:33 PM

حال المسلمين عندما نزلت سورة البقرة

جاء القرآن ليبين من هم المتقون، وقبل أن أبين من هم المتقون، أقول مستصحباً السيرة: هذه السورة مدنية، النبي عليه الصلاة والسلام هاجر من مكة إلى المدينة، وكل من هاجر هاجر اختياراً ولم يهاجر اضطراراً، ومعنى: هاجر اختياراً يعني: رغبة في الدين، ولا يتصور مهاجر مكره على الدين.

استوطن النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان فيها الأوس والخزرج العصبة الكبرى وثلاث قبائل من اليهود بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، هذه القبائل أحلاف للأوس والخزرج الذين هم عرب.

والديانات التي كانت موجودة: الأوس والخزرج يعبدون الأصنام على ما جرت عليه عادة مشركي العرب آنذاك، وقبائل اليهود الثلاث على الملة اليهودية المحرفة، على سالف ما عليه أهل الكتاب من قبل، وقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وكان قبله من الصحابة قد وصلوا إليها وآمنوا ونشروا الإسلام، فآمن عدد غير قليل من الأوس والخزرج، وآخى النبي بينهم وأسماهم الأنصار، وإلى الآن لم يكن للنبي شوكة، ومتى يحصل الخوف؟ عندما يكون عند خصمك شوكة، فمن لم يؤمن من الأوس والخزرج لا حاجة أبداً لأن يظهر الإيمان ويبطن الكفر، لا شيء يدعوه إلى هذا؛ لأنه لا يخاف أحداً، واستمر الحال على هذا الأمر حتى كانت وقعة بدر، فلما كانت وقعة بدر وانكسر سيف الشرك، وانتصر المسلمون؛ أضحى للمسلمين شوكة، وللنبي دولة وقوة بالمعنى الحق، وهذه الشوكة هي التي جعلت من كان يظهر الكفر يبطنه ويظهر الإيمان وهؤلاء هم المنافقون.

ومن قبل كانوا قسمين: ملة الشرك وملة اليهود، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أصبحوا ثلاثة أقسام: المسلمون واليهود والمشركون، ولما جاءت موقعة بدر هؤلاء قل المشركون؛ لأن أكثرهم دخل في الإسلام، لكن بعضاً منهم أصبح منافقاً يظهر الإيمان ويبطن الكفر، ما الذي دفعه إلى هذا؟ أنه أضحى للنبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه شوكة، هذا سبب ظهور النفاق؛ لأنه إذا كانت الأمور متساوية فلا داعي للنفاق، كل يظهر ما يشاء، لكن هذه الشوكة جعلت عبد الله بن أبي بن سلول وغيره من أتباعه يفعلون هذا.

أنزل الله جل وعلا فواتح سورة البقرة وذكر فيها الطوائف الثلاث: ذكر فيها أهل الإيمان، وذكر أهل الكفر في آيتين: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:6-7]، أما المنافقون فأطنب في ذكرهم؛ لأن حالهم كان ملتبساً على الناس، فحرر جل وعلا القول فيهم حتى يكشف عوارهم ويهتك أسرارهم ويبين حالهم، وهذا من أوائل ما أنزل في حقهم ثم تتابع الأمر وانتهى بهم المطاف في سورة التوبة، ومعرفة هذا الأمر مهم جداً.

طلق المحيا 19-12-16 11:38 PM

تفسير قوله تعالى: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ...)
نبدأ في ذكر المؤمنين، قال ربنا: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2] جعل أول أوصافهم: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3] حصر بعض المفسرين الغيب بالجنة والنار وهذا خطأ بلا شك، الله جل وعلا أعظم الغيبيات، فإننا نؤمن بالله ولم نره، ونسأل الله بمنه وكرمه أن يمن علينا برؤيته في الجنة.

فأعظم صفات المتقين: الإيمان بالله وبما أخبر الله عنه، فنحن نؤمن بالجنة والنار؛ لأن ربنا العزيز الغفار أخبر عنهما، فالإيمان بالغيب أعظم صفات المتقين.

(وَيُقِيمُونَ الصَّلاة) الصلاة المعروفة.

(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) وهم بعض أهل العلم فحصرها في الزكاة، والآية أشمل من ذلك، (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) الزكاة، والصدقات، وما كلفوا به شرعاً من الإنفاق على من يعولون، كل هذا داخل في قوله تعالى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)، الزكاة -وهي فرض بشروطها- والصدقات، وهؤلاء المتقون مؤمنون بالغيب، ولا يمكن أن يتركوا الإنفاق العام (الصدقات)، كما يدخل فيها حقوق القرابة ممن يعولوهم كإنفاق الرجل على أولاده.. على زوجته.. على والديه إن كانا معسرين، وأمثال ذلك.

طلق المحيا 20-12-16 02:21 AM

🕋 تفسير قوله تعالى: (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ...)
قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:4] .

هل هذا ذكر لقوم آخرين أو وصف آخر لقوم أولين؟

إذا قلنا: وصف آخر يصبح هؤلاء المتقون: (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ).. (يُقِيمُونَ الصَّلاة).. (مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ).. (يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ).. (وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) (وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) هذه صفات لموصوف واحد.

الحالة الثانية: وهو اختيار ابن جرير : أن يكون هؤلاء قوم آخرون، والمعنى عند من قال بهذا الرأي: إن المؤمنين قسمان: مؤمنو العرب وهم من ذكر في الأول، ومؤمنو أهل الكتاب وهم من ذكر في الثاني، ودل عليه: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة:4]، وممكن أن يجاب عنه بأن المؤمنين الآن يؤمنون بما أنزل من قبل، لكن قصد أنهم آمنوا بما أنزل من قبل أن ينزل عليك الإيمان به، هذا تحرير المسألة.

فاختيار ابن جرير أنها ليست أوصاف لموصوف واحد، وإنما هم قومان، واستدل عقلياً منطقياً على صحة قوله فقال: ما بعدها يدل عليها، فقد ذكر الله بعدها أهل الكفر وقسمهم فريقين:

كافر أصلي ومنافق فقال: كما قسم الله أهل الكفر إلى قسمين: كافر أصلي: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:6]، ومنافق: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] كذلك هنا قسم المؤمنين إلى قسمين: مؤمن من العرب، ومؤمن من أهل الكتاب من قبل.

والحق أن هذا الرأي له وجه كبير من الصحة، وهو قوي من جهة الاستدلال النقلي والعقلي، ولا تعارض معه مع الأول، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ [البقرة:4] وهو القرآن، وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة:4] أي: الكتب، ولو قلنا: إن المقصود به أهل الكتاب لا يعفينا هذا من أن نؤمن نحن بما أنزل من قبل، وهذه مسألة مهمة جداً، والله جل وعلا قال: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285] فنحن نؤمن بالكتب كلها التي أنزلها الله ما سمى منها وما لم يسم، ونؤمن بالرسل كلهم ما أخبر الله عنهم ومن لم يخبر.

طلق المحيا 20-12-16 02:22 AM

🕋تفسير قوله تعالى: (أولئك على هدى من ربهم ...)
قال الله تعالى: أُوْلَئِكَ [البقرة:5] سواء الموصوفان أو الموصوف الواحد: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5]، وكيف لا يكونون مفلحين وهم على هدى من الله؟ وكيف لا يكونون على هدى من الله وقد آمنوا بما أنزل من كتاب؟ فهي أمور يستلزم بعضها بعضاً، وطرائق يسوق بعضها بعضاً إلى الخير.

إذاً: أعظم صفات المتقين مذكورة في الخمس الآيات الأول من سورة البقرة.

طلق المحيا 20-12-16 02:23 AM

🕋 تفسير قوله تعالى إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون
قال ربنا جل شأنه وهو أصدق القائلين: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:6-7] .

المعنى ظاهر هنا لا يحتاج إلى مزيد بيان، وقد قلنا: تكلم عن المؤمنين، وهنا يتكلم عن الكفار.

ومعنى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) هنا: أي: من كتب الله عليهم الكفر من قبل.

(سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) لماذا لا يؤمنون؟ لأن الله جل وعلا كتب عليهم الكفر من قبل، ومن كتب الله عليه الشقاوة أزلاً لا يمكن له أن يسعد.

ثم قال: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ) الختم: الكتم.. الغطاء.. الطبع.. كلها بمعنىً واحد، ويكون على القلب والسمع، أما الغطاء الذي على البصر فيسمى: غشاوة؛ ولهذا قال الله بعدها: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:7]، وقد ذهب الزمخشري في كشافه، يعني: في تفسير الكشاف، وهو جار الله الزمخشري أحد أئمة المعتزلة، ذهب إلى أن نسبة الختم إلى الله هنا إنما هي لأغراض بلاغية؛ لأن عندهم أن هذا من فعل القبيح والله منزه عن القبيح، وأهل السنة -سلك الله بنا وبكم سبيلهم- يقولون: إن الله وحده هو خالق الخير وخالق الشر لكنه لا يأمر إلا بالخير، فحكم عقله مقابل النقل، ولوى النصوص مقابل ما استقر في عقله!

وهنا مكمن الخطأ من الناحية العلمية، أنه استقر في عقله شيء توصل إليه عقلاً ثم جعل هذا المستقر في الذهن حاكماً على النص، والصواب أن تستقر أولاً النصوص في الذهن، ثم هذه النصوص على هدى من الله تحكم سواها وليس العكس، وغاب عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا مقلب القلوب)، وقوله تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5] إلى غير ذلك من الآيات البينة الظاهرة الواضحة في هذا الشأن التي لا يمكن ردها بحال.

ولأن أهل الكفر كفرهم واضح فقد ذكرهم الله جل وعلا في آيتين كما حررنا.

طلق المحيا 20-12-16 02:24 AM

انتقل ربنا جل شأنه للحديث عن أهل النفاق فقال وهو أصدق القائلين: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:8-10] .

(من) بيانية أو بعضية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ) يعني: بلسانه، والنفاق قسمان:

نفاق اعتقادي: ومن مات عليه فهو خالد في النار.

ونفاق عملي: وهو من أكبر الكبائر، مثل ما ذكر في حديث: (إذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا خاصم فجر) وهذه من أكبر الكبائر.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ) وقلنا: هذا كله كان بعد بدر، (وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ) معنى: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا): أنهم يتصورون أن هذا النفاق الذي يظنون أنه راج على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعصمت به دماؤهم وتم لهم التناكح والتوارث أنه يوم القيامة يروج على الله، وهذا نبه الله جل وعلا عليه في آية أخرى، قال الله وعلا: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ [المجادلة:18] يعني: يعتقدون أن هذه الأيمان التي أعطوكم إياها في الدنيا فنالوا بها العصمة في الدماء وصدقتموهم وأوكلتموهم إلى ظاهرهم أنهم سيعيدونها يوم القيامة، فيظنون في قرارة أنفسهم أنهم خدعوا أهل الأرض وسيخدعون ربهم يوم القيامة!

قال الله جل وعلا: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:9] بصنيعهم هذا في اعتقادهم وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ [البقرة:9] لأنه لن يتحقق شيء من مطلوبهم هذا أبداً وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9] لماذا لا يشعرون؟ لأن الشعور يكون بالحواس، وهؤلاء حواسهم معطلة؛ لأن الله جل وعلا لم يجعلهم ينتفعوا لا بسمع، ولا ببصر، ولا بقلب؛ ولهذا قال الله عن الكافرين: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ [البقرة:7]، قال بعض أهل العلم: طرق العلم ثلاثة: القلب والسمع والبصر، فالقلب محل العلم، يستقر فيه العلم، والرؤية والسمع وسيلتان للحصول على العلم، فإذا كان القلب مختوماً عليه وكذلك السمع والبصر عليه غشاوة فلا سبيل إلى العلم والهدى أبداً؛ ولهذا قال الله جل وعلا عن هؤلاء كذلك: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:9-10].

طلق المحيا 20-12-16 02:25 AM

🕋 تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون)
ثم قال جل شأنه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] كأنهم حصروا الإصلاح في أنفسهم في جوابهم، وهم أصلاً لا يصنعون إلا الفساد.

وهذا قد مر معنا من قبل ومن أعظم الأدلة: أنه لا عبرة بالقول إذا كان يخالف العمل، فقوله: (إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ليس بشفيع لهم؛ لأن أفعالهم تخالف ما زعموه، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) فحكم الله عليهم بالفساد رغم دعواهم.

قال جل شأنه: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:12]

طلق المحيا 20-12-16 02:26 AM

🕋 تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس)
قال الله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ [البقرة:13] الناس هنا: عام أريد به الخاص، فكلمة الناس عامة لكن أريد بها الخاص يعني: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] السفهاء: جمع سفيه، والسفه: سذاجة في الرأي وخفة في العقل.

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] هذا حكم الله وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13] .

وهنا تتحرر المسألة: نحن أسميناهم منافقين، وقلنا: إنهم يظهرون خلاف الذي يعتقدون، فكيف يجاب عن قولهم صراحةً: (أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ)، فهم صرحوا هنا بالكفر، ورفضوا الإيمان، فكيف يسمون منافقين وقد صرحوا بالكفر، والمنافق لا يصرح بالكفر، فهم يقولون بنص القرآن: كيف نؤمن كما آمن هؤلاء السفهاء؟ وأنت تقول أيها المفسر: إن هؤلاء منافقون، فكيف تجيب عن هذا؟

الجواب عن هذا له عدة طرائق، ودائماً إذا أردت أن تقنع غيرك بشيء اخرج به عن زحمة ما أنت فيه، وأظهر له الصورة بجلاء بمكان آخر، قال ربنا عن أهل الطاعات: إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [الإنسان:5-9]، هل وجدت مؤمناً يطعم سائلاً أو ينفق مالاً ويقول للناس: خذها إنما أطعمك لوجه الله، ما أريد منك جزاء ولا شكوراً؟! هل كان الصحابة يفعلون هذا؟ ما كانوا يفعلون هذا، إنما شيء أخفوه فأظهر الله سرائرهم وحالهم إكراماً لهم، والمنافقون لا يقولون هذا الكلام بألسنتهم، يقولونه في قلوبهم فأظهره الله ذلاً لهم، وهتكاً لأسرارهم، فالله عامل أهل القلوب الصالحة بأن أظهر ما انطوت عليه قلوبهم من صلاح، وعامل أهل القلوب المنافقة الفاسدة البغيضة بما انطوت عليه قلوبهم من بغض ونفاق وفساد، هذا الذي أدين الله به جواباً عن هذه المسألة، وقال البغوي في معالم التنزيل في تحرير هذه الإشكال: إنهم يقولون هذا مع بعضهم البعض، لكن ظاهر القرآن لا يدل عليه، وقال بعض العلماء: إنهم كانوا يقولونه للمؤمنين بطرائق ملتوية لا تثبت عليهم النفاق، والأول إن شاء الله أرجح.

طلق المحيا 20-12-16 02:27 AM

🕋تفسير قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ...)
قال الله تعالى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا [البقرة:14] هذا القول ظاهره أنه بينهم وبين أصحابهم وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14] مستهزئون بأهل الطاعات، قال الله يرد عليهم: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة:15] أي: يخذلهم ويتركهم على حالهم دون نصير، وهذا قمة الاستهزاء بهم؛ لأنه يجعلهم يتمادون، ومعنى يَعْمَهُونَ [البقرة:15] أي: يترددون ويتمادون في طغيانهم ويمدهم في طغيانهم حتى ينتهي بهم الأمر، قال الله: وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ [القمر:3] متى ينتهي بهم الأمر؟ ينتهي بهم الأمر في جسر جهنم عندما يتساقطون ويقولون للمؤمنين: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13]، حينئذ يكشف الأمر كله، ويرفع الحجاب حقيقةً، ويعلمون من كان مستهزئاً بالآخر

طلق المحيا 20-12-16 02:28 AM

🕋 تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ...)
قال الله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16] (اشتروا الضلالة) أي الكفر والنفاق والطغيان والتردد، (بِالْهُدَى) أي: بدين الله، فأي تجارة رابحة إن كان الإنسان يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟!

طلق المحيا 20-12-16 02:29 AM

🕋 تفسير قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ...)
قال الله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ ... [البقرة:17-19].

هذا مثل مركب تحريره كما يلي: القرآن به حياة الأرواح والمطر به حياة الأجساد، والله يذكر هنا أن هؤلاء المنافقين حالهم كالتالي: ينزل القرآن من السماء فيحيي القلوب لأنه مثل المطر، ينتفع به المؤمنون في الدنيا والآخرة، أما هؤلاء المنافقين فينتفعون ببعضه ولا ينتفعون ببعضه، والمطر فيه برق, وفيه رعد، وفيه ظلمات. ورعد القرآن زواجره، وبرق القرآن نوره، والظلمات التي في المطر الحقيقي هي الشكوك التي تنتابهم من قراءة القرآن؛ لأنهم معرضون غير مؤمنين بالقرآن، فالشك الناجم عنهم مثاله في المطر مثال الظلمات، والزواجر التي في القرآن التي تخوفهم مثاله في المطر الرعد، أما النور الذي في المطر فبالنسبة لهم ما نالهم من عصمة الدماء، وأنهم يناكحون المسلمين، وأنهم يتوارثون معهم، فهذا انتفعوا به ما داموا قد أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، وإن كانوا كافرين، فقد كانت تجري عليهم أحكام أهل الإسلام، فهذا النور هو الذي انتفعوا به.

هذا معنى عام، وللعلماء في ذلك بيانات تفصيلية يطول الحديث فيها، ومنها: أن المنافق مثل شخص أوقد ناراً فكشفت ما حوله فرأى الحيات.. رأى العقارب.. رأى ما قرب منه ودنا .. وتبين له مكانه، فلما شعر بالاطمئنان ذهب ذلك النور، انطفأت تلك النار، وهؤلاء المنافقون انتفعوا بالإسلام ظاهرياً.. عرفوا من حولهم.. استطاعوا أن يعصموا دماءهم.. فإذا جاء يوم القيامة لم ينفعهم ذلك النور على الصراط، بل يسلب منهم، وهذا معنى قول الله جل وعلا: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة:17]، فجعل بعض العلماء هذه الآية على يوم القيامة.

وللعلماء أقوال مشابهة حول هذا، لكن الذي يعنينا جملة أن هذا مثال مركب ذكره الله جل وعلا في أحوال المنافقين.

وبعض العلماء يقول: إن قوله تعالى: كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا [البقرة:20] أنهم إذا انتفعوا من الدين بشيء يقولون: هذا الدين دين خير، وإذا أصابتهم بلايا قالوا: هذا الدين دين شؤم، فهذا معنى قوله: (كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا) وهذا وإن حرره بعض الأكابر لكنه غير صحيح؛ لأن المنافقين أصلاً لم يكونوا على سنن واحد، والآية تتكلم على المنافقين المستوطنين في المدينة، تتكلم عن الأشداء منهم، ولا تتكلم عن الأعراب الذين يأتون من خارج المدينة، فالمنافقون الأعراب الذين يأتون من خارج المدينة تنطبق عليهم آية الحج: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ [الحج:11]، فقد كانوا إذا دخلوا في هذا الدين يقولون عنه أحياناً: أنه شؤم، وأحياناً يقولون: إنه خير، والمنافقون المستوطنون في المدينة الذين كان لهم في الأصل غلبة، وكانت لهم علاقات قوية من رحم وصهر وتحالف مع أقوياء المؤمنين هم المقصودون هنا، وهم لم يكونوا يقولون أحياناً: دين شؤم، وأحياناً: دين خير؛ لأن قولهم: هذا دين خير، فيه بعض إيمان، فهذا ينطبق على منافقي الأعراب المذكورين في آية الحج، أما الآية التي بين أيدينا فتنطبق على المنافقين الأولين، وسورة البقرة من أوائل ما أنزل في المدينة قبل أن يدب النفاق في البوادي والأعراب الذين كانوا يحيطون بالمدينة زمن النبي صلى الله عليه وسلم.

طلق المحيا 20-12-16 02:30 AM

🕋تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ...)
قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21] ذكر الله جل وعلا في هذه الآية المباركة دلائل على البعث والنشور، ذكر ثلاثة أدلة:

الدليل الأول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) الله خلق الناس، ومن قدر على الخلق قادر على الإعادة، قال الله جل وعلا: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الروم:27] .

الدليل الثاني: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [البقرة:22]، وخلق السماء أكبر من خلق الأرض.

الدليل الثالث: وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [البقرة:22] هذا قياس! إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى [فصلت:39] فهذه الثلاث جمعها الله في آيتين، وهي الأدلة الصريحة في القرآن المتفرقة بعد ذلك في إثبات مسألة البعث والنشور.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة:21] فمن بدأ الخلق قادر على الإعادة، كما بدأنا أول خلق نعيده، ثم الإشارة إلى خلق السماء، ومن خلق الأعظم قادر على خلق الأدنى، وإن كان الكل عند الله سواء، والأمر الثالث: وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [البقرة:22] القياس إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى [الروم:50] كما قال الله جل وعلا في أكثر من آية، هذا المعنى إجمال ثم نحرر المعنى عموماً.

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ) هذا نداء عام، اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21] والعبودية تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

عبودية بالشرع: وهي الفرق بين الحر والعبد، وهذه لا علاقة لها بالآية هنا.

وعبودية تذلل وانقياد: وهذه يشترك فيها الخلائق كلهم برهم وفاجرهم، قال الله: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93].

وعبودية طاعة: وهي المقصودة هنا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [البقرة:21-22] والسماء في اللغة: كل ما علا وارتفع، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22] أين مفعول تعلمون؟ محذوف لدلالة المعنى عليه، أي: وأنتم تعلمون أنه ليس له أنداد، وجعل العبد لله نداً هذا من أعظم الشرك، قال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أعظم الذنب: (أن تجعل لله نداً وقد خلقك).

طلق المحيا 20-12-16 02:31 AM

🕋تفسير قوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ...)
ذكر الله جل وعلا آية التحدي المشهورة التي هي واحدة من خمس آيات تحدى الله جل وعلا بها كفار قريش والعرب عموماً: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:23-24] وهذه لا يقدر على قولها إلا الله، وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24] .

هذا ما تيسر إيراده وتهيأ قوله، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا به، والصلاة والسلام على رسول الله، والحمد لله رب العالمين.

طلق المحيا 20-12-16 02:33 AM

🕋 أمر الله جميع عباده بعبادته وحده، وترك الإشراك به، وتحداهم جميعاً أن يأتوا بسورة مثل سور القرآن، وأخبر بعجزهم عن ذلك، وحذرهم من نار جهنم التي أعدت للكافرين به، وبشر المؤمنين بأن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً.
والله يضرب لعباده الأمثال في كتابه، فيهتدي بها أقوام، ويضل بها آخرون، وأخبر الله عباده عن بدء خلق أبيهم آدم وقصة إخراجه من الجنة.

طلق المحيا 20-12-16 02:34 AM

🕋 قال الله:*وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا*[البقرة:23] أي شاكون مرتابون أن هذا القرآن الذي جاء به محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه ليس من عند الله، فإن كان من عند غير الله كما تزعمون فلابد من واحد من أمرين: إما أن يكون النبي هو الذي قاله من عند نفسه، أو أخذه من أحد مثله يعني: بشر آخر غير محمد صلى الله عليه وسلم، فإما ابتدعه هو أو أخذه من أحد غيره على حسب زعمكم، وهذا استدلال بالمنطق يعني: لا يخرج قولكم عن أحد الأمرين، فإن كان هذا القرآن من عند غير الله كما تزعمون فمعنى ذلك: أنكم قادرون على أن تأتوا بمثله؛ لأن الذي أتى به وفق زعمكم مثلكم، فقال ربنا:*وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ*[البقرة:23] آية واحد، وفي آية أخرى: عشر سور، وهذه الآية أول آيات التحدي في ترتيب المصحف.

والذين تحداهم الله ليسوا قوماً عيّين، وإنما هم أرباب فصاحة وأئمة بلاغة عرفوا بذلك، ومع ذلك قال الله:*قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ*[الإسراء:88]، فالعرب كان لا يقوم لهم سوق يفتخرون به كسوق البلاغة والفصاحة ومع ذلك تحداهم الله في الشيء الذي يحسنونه ويتقنونه ويجيدونه، لكن أنى لهم أن يأتوا بمثله، وأنى لمخلوق أن يأتي بكتاب يماثل كتاباً أنزله الخالق؟! محال أن يأتي مخلوق بقول أو كتاب يماثل قول أو كتاب الخالق تبارك وتعالى.

وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا*[البقرة:23] وعبدنا المقصود به النبي صلى الله عليه وسلم*فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ*[البقرة:23].

طلق المحيا 20-12-16 02:35 AM

🕋 تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس أعبدوا ربكم ...)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

سبق أن تكلمنا عن فضل سورة البقرة وعظيم شأنها، وانتهينا إلى ذكر الآيتين الدالتين على البعث والنشور، وهما قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21] الآيتين، وتكلمنا إجمالاً عن آية التحدي، وهي: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23]، وكان الحديث في آخر اللقاء الماضي مجملاً، وفي هذا اللقاء بإذن الله تعالى سنفصل مبتدئين بقول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]: هذا من أعظم المطالب الشرعية في القرآن؛ لأن عبادة الله جل وعلا هي الغاية من خلق الثقلين، والرب جل وعلا ينادي عباده أجمعين هنا بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) ثم استدل بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية، فلما أراد الله أن يثبت أنه وحده المستحق للعبادة ذكر جل وعلا أولاً أنه وحده هو الخالق، فمن أعظم الأدلة على توحيد الألوهية أنه لا خالق غيره.

وقد مر معنا في أمور كثيرة أن الله جل وعلا حكم بين خلقه وقرر بين عباده أن من له الخلق هو الذي يستحق العبادة، وقد استقر عقلاً ونقلاً لكل ذي فطرة أن الله جل وعلا وحده هو الخالق فقال سبحانه: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل:17] ، وقال تبارك وتعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الفرقان:3] ، وقال: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان:11] .

فذكر الله جل وعلا أن إيمانهم بتوحيد الربوبية ينبغي أن يكون طريقاً إلى توحيد الألوهية، وأن الإيمان بتوحيد الربوبية وحده دون أن يستدل به على توحيد الألوهية وتطبيقه وإفراد الله جل وعلا بالعبادة لا يقدم ولا يؤخر شيئاً، ولا ينفع صاحبه البتة.

قال الله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]، ولفظ الألوهية يطلق إذا أريد به الإخبار عن حق الله على عبده، ولفظ الربوبية يطلق إذا أريد به حق العبد على ربه، فالله جل وعلا لما أراد أن يؤوي موسى ويذهب عنه الهم والحزن والخوف قال له: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه:12] فلما أراد أن يكلفه قال له: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14]، فلما أراد الله أن يبين ما أفاءه على خلقه قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة:21]، فذكر جل وعلا هنا فضله ونعمه ومنته على خلقه: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، فذكرهم جل وعلا بأنه وحده هو خالقهم وخالق آبائهم من قبل.

ثم قال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا [البقرة:22] تطئونها وتسيرون فيها، وتغدون وتروحون في فجاجها، وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [البقرة:22] .

ثم قال: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [البقرة:22] والمطر لا ينزل من السماء، وإنما ينزل من السحاب، لكن باعتبار أن السحاب قريب من السماء في العلو -والسماء في اللغة: كل ما علا وارتفع- نسبه إليه.

وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ [البقرة:22] لماذا؟ رِزْقًا لَكُمْ [البقرة:22] وهذا من تعاهد الله جل وعلا لخلقه، فلما أثبت الرب جل وعلا أنه وحده الخالق، وأنه وحده الرازق، كان حرياً بهم أن يفقهوا أنه ينبغي أن يكون وحده هو المعبود.

وقال جل وعلا بعد ذلك ناهياً عباده أن يشركوا به: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]؛ لأن الند لا بد أن يكون فيه وصف للمندود، فبما أنه قد تقرر عقلاً ونقلاً أنه لا خالق إلا هو، ولا رازق إلا هو، ولا محيي ولا مميت إلا هو، فكيف يكون له ند؟! ولهذا قال: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، وقد ذكرنا في اللقاء الماضي أن مفعول تعلمون محذوف لدلالة المعنى عليه، والمعنى: وأنتم تعلمون أنه لا ند له سبحانه وتعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] .

وقلنا: إن هاتين الآيتين تضمنتا أدلة البعث والنشور إجمالاً، ومشركو العرب جملة ما أنكروا شيئاً مثل إنكارهم للبعث والنشور كما قال الله: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [التغابن:7]، وقد قامت الأدلة في القرآن على إثبات البعث والنشور، وهي مجملة في ثلاث:

الأمر الأول: الخلق الأول، وعبر عنه هنا بقوله: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:21] وشرحه وأظهره وفصله في سور أخر: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104] .. أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق:15].

الأمر الثاني: خلق ما هو أكبر منهم، وأشار إليه هنا بالسماء، وفصله في سورة غافر: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57] .

الأمر الثالث: النظر في المتشابهات، قال هنا: فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [البقرة:22]، وهذا إحياء للأرض الميتة، وفصله في سور أخرى: إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى [فصلت:39]، وهذا كله من أجل إقامة الحجة وإظهار المحجة حتى لا يكون للناس عذر، ويكون المهتدي على بينة من أمره.

طلق المحيا 20-12-16 02:39 AM

🕋تفسير قوله تعالى: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ...)
قال ربنا: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا [البقرة:24] ثم جاءت جملة اعتراضية وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، فالأصل: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ)، (وَلَنْ تَفْعَلُوا) يسمى عند البلاغيين إطناباً، وقد مر معنا تحرير المقام البلاغي وأن الكلام فيه إيجاز، وفيه مساواة، وفيه إطناب، والقرآن جاء بالإيجاز والمساواة والإطناب، إذا كانت هناك مصلحة في الإيجاز كان إيجاز، وإن كانت هناك مصلحة في المساواة كانت مساواة، وإن كانت المصلحة في الإطناب كان الإطناب، كقول الله تبارك وتعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [النحل:57] فسبحانه هذه زائدة اعتراضية، لكن جيء بها إطناباً لتنزيه الله جل وعلا عما نسبه إليه الغير.

وهنا جيء بـ: (وَلَنْ تَفْعَلُوا) إطناباً حتى يكون إمعاناً في التحدي وبياناً لعجزهم، وقد قلنا من قبل: إن هذا الأمر أو هذا القول أو هذا الحكم لا يمكن أن يقوله أحد غير الله، ومثله قوله تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] كما حررنا الكلام عنها في موضعه.

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24] فالله جل وعلا خلق ناراً أرادها نكالاً ووبالاً لمن عصاه، وسيأتي الحديث عنها عند ذكر الآيات المختصة بتفصيل النار.

طلق المحيا 20-12-16 02:40 AM

🕋 تفسير قوله تعالى: (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات ...)
لما ذكر الله مآل أهل الكفر ذكر مآل أهل الإيمان، وغالب القرآن أنه يختم بمآل الصالحين، كما في قوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106] ثم ختم الآية بقوله: فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:107] .

وهنا قال: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ [البقرة:25] الآمر بالبشارة هو الله، والمكلف بالتبشير محمد صلى الله عليه وسلم، والمبشَّر المؤمنون، والمبشَّر به: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ [البقرة:25] .

قطاف الجنة دانية، يرون الثمرة ويقطفونها ويأكلونها فتنبت غيرها، فإذا نبت غيرها نظروا إليها، فهذه التي نبتت هي في هيئتها مثل التي قطفت تماماً، لكنها غيرها في الطعم، هذا أصح ما قيل في هذه المسألة.

وقيل: إنها مقارنة بين ثمار الدنيا وثمار الآخرة، وقيل غير ذلك، لكن أظهر ما قيل هو ما حررناه: أنهم يرون الثمرة ويقطفونها ويأكلونها وتنبت غيرها، فإذا نبت مكانها غيرها تكون شبيهة بالأول، فإذا استطعموها مرةً أخرى وجدوها مخالفة للأولى، وهذا معنى قول الله: (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا)، ولم يقل: متماثلاً، والفرق أن خيار الدنيا حسن وأحسن، أما خيار الجنة لا رذل فيه، وعبارة: خيار الجنة لا رذل فيه منسوبة لـقتادة بن دعامة السدوسي أحد المفسرين المشاهير، وقد كان أكمه -أعمى- رحمه الله رحمة واسعة.

وقوله: (كُلَّمَا) لغوياً تفيد الاستمرار، ومن الأخطاء الشائعة في الاستعمال أن الناس يكررونها يقولون: كلما ذهبت إلى زيد كلما وجدت عمراً عنده، هذا خطأ، إنما تذكر كلما في الأول فقط ولا تكررها كما قال ربنا: (كُلَّمَا رُزِقُوا) أي: المؤمنون مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة:25]، وضمت اللام في (قبل) لأنها مبنية على الضم لانقطاعها عن الإضافة، فإذا أضيفت أصبحت اسماً معرباً تجري عليه الأحكام، كقوله تعالى: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ [النور:58] ووَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ [النور:58]، فقبل وبعد هنا جرت وعوملت معاملة الاسم المعرب لأنها أضيفت، فإذا انقطعت عن الإضافة انتقلت من كونها اسماً معرباً تجري عليه الحركات إلى كونها اسماً مبنياً.

قال الله تعالى: قَالُوا [البقرة:25] أي: المؤمنون هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ [البقرة:25] أي: المؤمنون فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ [البقرة:25] مطهرة من كل سوء، خذها بعمومها أفضل، وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25] لأنه لا ينغص في الدنيا إلا الموت؛ ولهذا ينادى أهل الجنة: (أن حياة بلا موت) .

طلق المحيا 20-12-16 02:41 AM

🕋تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها ...)
قال ربنا وهو أصدق القائلين: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا [البقرة:26] مر معنا: أن ضرب الأمثال تريد به العرب ثلاثة أمور:

إيجاز اللفظ، ودقة التشبيه، وإصابة المعنى، وهذا مر معنا في شرحنا لقول الله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ [النور:35] .

هنا الله جل وعلا يخبر أن الغاية من ضرب الأمثال: إظهار الحق وإقامة الحجج، والأمثال لا بد أن تكون قريبة من الناس واضحة، فلا يستنكر أن الله قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا [الحج:73] فعبر بالذباب؛ لأن الذباب أمر معروف لا يختلف الناس فيه، وكذلك البعوض، والمقصود إقامة الحجة وإيضاح المحجة، وهذا لا يكون إلا بالشيء المتعارف عليه.

والناس في تلقيهم لخطاب القرآن فريقان:

فريق يؤمنون كما قال الله في العظماء من أهل الإيمان: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7] وأما غيرهم فيصيبهم الشك: فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا [البقرة:26] فيأتي الجواب، قال الله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [البقرة:26] إذا نزلت الأمثال القرآنية والحجج الإلهية اختلف الناس فيها، وأهل الفسق يضلون عنها.

ثم ذكر الله جل وعلا جملة من صفاتهم: الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [البقرة:27] وأعظم ما أمر الله به أن يوصل الرحم وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة:27].

طلق المحيا 20-12-16 02:48 AM

🕋 تفسير قوله تعالى: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ...)
ذكر الله استفهاماً استنكارياً توبيخياً فقال: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:28] كيف استفهامية اتفاقاً، والاستفهام هنا يراد به: الاستنكار والتوبيخ.

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا) أي: في العدم، (فَأَحْيَاكُمْ) الحياة التي تعيشونها، (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) بانفصال الروح عن الجسد (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) أي: بالبعث والنشور (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، وهذا أصوب ما قيل فيها.

طلق المحيا 20-12-16 02:49 AM

🕋 تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ...)
قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29] يؤخذ من هذه الآية قاعدة أصولية وهي: أن الأصل في الأشياء الإباحة، هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [البقرة:29] خلق الله الأرض قبل السماء، و(اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) يعني: انصرف إلى خلقها، والفعل استوى يأتي متعدياً بحرف الجر إلى، ويأتي من غير تعد بحرف جر، فإذا جاء من غير تعد بحرف الجر فيعني: الكمال والتمام كقوله: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى [القصص:14] كمل ونضج، وإذا تعدى بحرف الجر إلى فيعني: القصد من شيء إلى آخر كقوله: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [البقرة:29] وإذا تعدى بحرف الجر على فيعني: العلو والارتفاع كقوله: تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ [الزخرف:13]، وعلى هذا ظاهر قول الله جل وعلا: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] .

ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [البقرة:29] أقرب السماء إلينا تسمى السماء الدنيا؛ لأنها دانية إلينا، وأعلاها السماء السابعة، وهي معمورة بالملائكة.

وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:29] .

طلق المحيا 20-12-16 05:38 PM

🕋 تفسير قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ...)
ثم قال جل وعلا: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30] .

هذه الآية يمكن تناولها من عدة وجوه:

هذا الأمر كان قبل أن يخلق الله جل وعلا آدم، أخبر الملائكة أنه سيجعل في الأرض خليفة، قال بعض العلماء: إن آدم خليفة بمعنى: خليفة الله في الأرض في إعمارها، وهذا لا يستقيم شرعاً، ولا أرى أنه ينبغي أن يقال به؛ لأن الخليفة عن الشيء يكون من جنسه، وآدم مخلوق والله خالق، فنستبعد أن يكون المقصود بخليفة أي: خليفة عن الله.

ننتقل إلى مسألة أخرى: هل خليفة هنا بمعنى خليفة عمن سبق فيكون المعنى آدم خليفة عن غيره، أو خليفة اسم جنس أفرد أريد به الجمع، فيصبح الكلام ليس عن آدم بل عن ذريته التي من بعده.

على القول بأنه خليفة عمن كان يعمر الأرض، فقد ذكر المؤرخون أن الجن كانت تعمر الأرض، وهذا يستقيم نوعاً ما باعتبار أن الجن وآدم كلاهما مخلوق، وهذا القول عندي بعيد وإن كان قال به كثير من العلماء.

والظاهر أن خليفة هنا اسم جنس مفرد يراد به الجمع كقوله تعالى: خَلائِفَ فِي الأَرْضِ [يونس:14] ويقال: خلفاء الأرض، يعني: سأجعل من آدم ذرية يخلف بعضهم بعضاً، هذا معنى كلام الله لملائكته، فأين الدليل على أن اسم الجنس المفرد في اللغة أو في القرآن من باب أولى يأتي والمقصود به الجمع؟

قال الله في خاتمة سورة القمر: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ [القمر:54] فأفرد نهر وقصد أنهاراً؛ لأن جنات جمع وأنهار جمع لكنه أفردها؛ لأنها اسم جنس، والدليل على أنه أراد أنهاراً أنه قال في آيات أخر: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ [الأعراف:43]، وهذا القول اختاره ابن كثير رحمه الله تعالى، وهو أن خليفة هنا: اسم جنس أريد به الجمع، والمقصود به ذرية آدم، هذا تفصيل معنى خليفة.

قال القرطبي رحمه الله وغيره من العلماء: إن هذه الآية أصل في أن يتخذ الناس إماماً وخليفة.

ويتفرع عن هذا مسألة: هل اتخاذ الخليفة واجب بالشرع، أو واجب بالشرع والعقل، أو واجب بالعقل؟

قالت الشيعة الإمامية الإثنا عشرية: إنها واجبة بالعقل، وقال بعض العلماء: إنها واجبة بالشرع، والصواب: أنها واجبة بالشرع والعقل، هذه المسألة الأولى.

المسألة الثانية: ما هي طرائق أو صور تنصيب الإمام والخليفة شرعاً؟

لها عدة صور:

الصورة الأولى: إجماع أهل الحل والعقد، أو اتفاق أكثرهم عليه، مثاله: خلافة الصديق ، فإن الصحابة رضي الله عنهم من المهاجرين والأنصار أجمعوا على خلافة أبي بكر ، هذا على القول بأن أبا بكر لم ينصبه النبي صلى الله عليه وسلم.

الصورة الثانية في تنصيب الخليفة المسلم: أن يوصي له من قبله، مثاله: خلافة عمر ، فقد أوصى له أبو بكر بأن يكون خليفةً من بعده، كما وصى عمر للستة من بعده.

فإذا اتفقنا على إمام له بيعة شرعية وأوصى لواحد من بعده فأنت مطالب بما قاله الإمام الأول؛ لأن الأمام الأول له بيعة، فقوله نافذ، فإذا وصى لمن بعده فلا حاجة لأن تأتي بأهل الحل والعقد على الثاني، واضح؟ فلما وصى أبو بكر لـعمر لم يجتمع الناس ليقرروا هل يوافقون على عمر أو لا يوافقون؛ لأن الأول كان له بيعة شرعية، وبدهي جداً أن يكون مما أمرنا بطاعته فيه اختياره لمن بعده.

الصورة الثالثة: أن يتغلب على الناس بسيفه وقوته، يأتي إنسان ويمكن له في الأرض بسيفه وقوته، ومثلوا بخلافة عبد الملك بن مروان ، فإن عبد الملك بن مروان لم يوصي له من قبله، ولم يجتمع عليه أهل الحل والعقد، وإنما غلب الناس بيد الحجاج ، فلما قتل الحجاج عبد الله بن الزبير دانت الأرض الإسلامية لـعبد الملك بن مروان .

هذه الحالات الثلاث التي يكون بها تنصيب الإمام المسلم، وقلنا: إن هذه الآية أصل في قضية الخلافة.

طلق المحيا 20-12-16 05:40 PM

🕋تفسير قوله تعالى ( وعلم آدم الأسماء كلها )
قال الله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة:31] هذه واحدة من أربع خصال شرف الله بها آدم، فقد علمه أسماء كل شيء، وخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة بالسجود له، وهذه لم تجتمع لأحد.

وآدم هو أبو البشر عليه السلام، وهو نبي مكلم كما صح بذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ [البقرة:31] أي: الأسماء عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ [البقرة:31] قال الشنقيطي رحمه الله في التفسير: المقصود: المسميات.

إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ [البقرة:31-32] وهذا من أدب الملائكة عند ربها قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة:32] فالإنسان إذا سئل عما لا يعلم لا يضره أن يقول: لا أعلم، فقد قالت الملائكة بين يدي ربها: (سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).

قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:33] هذا حوار كان في الملأ الأعلى بين الرب جل جلاله وبين ملائكته، ويظهر فيه علم الله جل وعلا الذي يحيط بكل شيء، وعجز علم المخلوقين ولو كانوا ملائكة مقربين، وهذه أشياء ظاهرة لا تحتاج إلى تعليق أكثر من هذا.

طلق المحيا 20-12-16 05:41 PM

🕋 تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ...)
قال الله جل وعلا: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:34].

الله جل وعلا يمن على من يشاء بفضله، أمر ملكاً من الملائكة أن يقبض قبضة من الأرض، وهذه القبضة مزجت بطين، ثم خلق منها آدم، ثم نفخ الله جل وعلا في آدم فدبت فيه الروح، ثم أمر الله جل وعلا الملائكة بالسجود له.

والأمر بالسجود له أمر رباني، والملائكة كلهم سجدوا طاعة لله وتحية لآدم، وليس السجود لآدم عبادة له، فنحن مثلاً في الصلاة نسجد تجاه القبلة فنحن لا نعبد الكعبة وإنما نتعبد الله بالسجود إلى جهة الكعبة، ونرفع أيدينا إلى السماء ونحن لا نعبد السماء لكن نتعبد الله برفع أيدينا إلى السماء؛ لأن ربنا في السماء، فسجدت الملائكة إجلالاً لله وإكراماً لآدم.

وكان إبليس وقتها يغدو ويروح مع الملائكة، هذا الذي يدل عليه ظاهر القرآن ولم يكن من الملائكة، يعني: لم يكن إبليس من الملائكة طرفة عين، وقد بينا في سورة الكهف القرائن والأدلة على أنه ليس من الملائكة، فقد عصى والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، وهو مخلوق من نار، والله جل وعلا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مخلوقون من نور، وقد قال الله في القرآن: إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ [الكهف:50].

ولما أمر الله الملائكة بالسجود امتنع إبليس، والسبب في المنع القياس: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، فجعل إبليس المخلوق من عنصر النار أفضل من المخلوق من عنصر الطين، فأدخل القياس مقابل النص، ومن هنا أخذ الأصوليون: أن القياس إذا عارض النص يسمى قياساً فاسد الاعتبار، فلو سلمنا جدلياً أن عنصر النار أفضل من عنصر الطين فلا سبيل إلى أن نرد نصاً وهو قوله: (اسْجُدُوا) بهذا القياس.

والخلف في النص والإجماع دعا فاسد الاعتبار كل من وعى

يعني: كل من وعى من العلماء، دعا يعني: سمى مخالفة النص والإجماع قياساً فاسد الاعتبار، وأول من اتخذه طريقاً إبليس.

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:34] أبى: امتنع، واستكبر: دخله الكبر، والكبر أول ذنب عصي الله جل وعلا به، تلبس به إبليس فاستكبر، كما تلبس آدم بالحرص فأكل من الشجرة، وكما تلبس قابيل بالحسد فقتل أخاه، مع الفوارق في الذنوب، فكل ذنب عصي الله به مرده إلى أحد هذه الثلاث: إما الكبر، وإما الحرص، وإما الحسد، قال ابن القيم رحمه الله: أصول الخطايا ثلاثة: الكبر والحرص والحسد.

طلق المحيا 20-12-16 05:42 PM

🕋 تفسير قوله تعالى: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ...)
قال الله تعالى: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة:35].

بعد أن خلق الله جل وعلا آدم خلق منه زوجه حواء، واختلف العلماء: هل كان خلق حواء بعد دخول آدم الجنة أو قبل دخولها وهذا حررناه في سورة طه.

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا [البقرة:35] بألف التثنية الخطاب للاثنين.

مِنْهَا [البقرة:35] أي: من الجنة.

رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا [البقرة:35] ثم جاء الابتلاء القرآني: وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ [البقرة:35] والله لم يذكر ما هي الشجرة.

فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة:35] لأنفسكما بأكلكما لها.

طلق المحيا 20-12-16 05:45 PM

🕋تفسير قوله تعالى: (فأزلهما الشيطان عنها ...)
قال الله تعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ [البقرة:36] وهذا عام، وبين الله أنه وسوس لهما، وأنه قاسمهما: إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21] وهذه كلها مرت معنا.

فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ [البقرة:36] أي: من نعيم الجنة.

وَقُلْنَا اهْبِطُوا [البقرة:36] بواو الجمع، وحررنا مسألة هل الجنة التي كان فيها آدم هي الجنة التي في السماء السابعة أو جنة في السماء الدنيا أو جنة في الأرض؟ هذا كله مر معنا.

وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [البقرة:36] قال بعض العلماء: إن مما أهبط الحية، واحتجوا بأن الله قال: (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) بقرينة أن النبي عليه الصلاة والسلام لما ذكر الحيات قال: (ما سالمناهن منذ حاربناهن) فإبليس عدو بالاتفاق، والحيات دلت السنة على عداوتها، فلا يستبعد أن تكون الحية أهبطت معهم؛ لأن المشهور عند المؤرخين أن إبليس عندما وسوس لآدم دخل الجنة في خياشيم الحية، وهذا من مليح القول لا من متين العلم، ولا يتعلق به أمر ولا نهي ولا ثواب ولا عقاب، فلا تعنف إذ لم تقبله ولا حرج عليك إن قبلته.

وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [البقرة:36] أي: ما كتبه الله جل وعلا للناس أن يبقوا.

طلق المحيا 20-12-16 05:48 PM

🕋 تفسير قوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات ...)
وهذا من أعظم الأدلة على رحمة الله بعباده أن فتح لهم باب التوبة فقال: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ [البقرة:37] فآدم عليه السلام لما فاء إلى ربه وندم على ما كان منه، فالذي علمه كيف يعود هو الرب المعبود جل جلاله، وهذه الكلمات لم تتضح في سورة البقرة لكنها ظهرت في سورة الأعراف: قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23]، قال بعض العلماء: إن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض فمن حيائه من ربه لم يرفع بصره إلى السماء.

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة:37] أي: ربه، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:37] وقد جعل الله جل وعلا باب التوبة مفتوحاً حتى لا يأخذ أحد صورة كاملة عن نفسه قبل أن يموت، يعني: لا توجد نهاية لك تصل إليها، فالإنسان معرض للطاعة، ومعرض للمعصية (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

طلق المحيا 20-12-16 06:16 PM

🕋 تفسير قوله تعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعاً ...)
ثم كرر الله الأمر فقال: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:38-39].

وهذه لها نظائر كثيرة في القرآن، مجملها يدل على أن الله جل وعلا أنزل آدم، فلما اجتالت الناس الشياطين بعد عشرة قرون من نزوله أرسل الله الرسل بدءً بنوح وختاماً بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنزل مع هؤلاء الرسل الهدى والنور والبيان، ثم أخبر عباده من قبل ولاحقاً أنه من آمن منهم واتبع ذلك الهدى الذي أنزله فلا خوف يعتريه عند الموت، ولا حزن ينتابه بعده، وأما من غلبت عليه شقوته وكذب ما أنزله الله واتبع هواه وأفرط على نفسه فأولئك أصحاب النار، هي مستقرهم وهم فيها خالدون، أما أهل الجنة فلهم فيها: أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25] والله جل وعلا حكم عدل، ورب ذو فضل، وهذه أمور أخبر الله جل وعلا بها لتقوم بها الحجة على عباده.

طلق المحيا 20-12-16 06:17 PM

🕋 تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ...)
قال الله جل وعلا: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:40] الحديث عن بني إسرائيل سيأتي إن شاء الله مستفيضاً في اللقاءات القادمة، لكن أبين هنا أن الله جل وعلا في سورة البقرة لما ذكر الطوائف الثلاث التي حررناها: وهم المؤمنون الخلص، والمنافقون، والكافرون، كان يبين أحوال معاصرة يعيشها المجتمع المدني، وحتى يهتدي الناس كان لا بد أن يتعظوا بمن سبق، فبعد أن بين الله جل وعلا حال المخاطبين ذكر لهم حال السابقين حتى يتعظوا بهم، فما أفلحوا به ونجوا بسببه أخذوا به، وما كان سبباً في هلاكهم وبعدهم عن الله تركوه.

والله جل وعلا جعل الراية في قيادة البشرية راية روحية، فكل أمة حملت الدين صدرها الله جل وعلا، فصدر الله بني إسرائيل في حقبة من الدهر: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [الدخان:32] فلما زاغوا، وقتلوا الأنبياء، وانحرفوا عن طريق الله جل وعلا؛ سلب الله منهم هذه الراية وقيادة الناس وزمام البشرية وأعطاه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فحتى تكون هذه الأمة على بينة من أمرها وفي سيرها على طريق الله أكثر الله جل وعلا في القرآن من خبر بني إسرائيل.

وقول الله جل وعلا هنا: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:40] هي أول آية وفق ترتيب المصحف الذي بين أيدينا تتحدث عن بني إسرائيل، وستأتي بعد ذلك آيات كثيرة في أحوالهم وأخبارهم مع أنبيائهم على وجه الخصوص حتى تعرف أمة محمد التي أعطاها الله قيادة البشر ما أخطأ فيه السابقون فيجتنبوه، وما ساد به السابقون فيأخذوا بزمامه، وهذا كله من دلائل قول الله في أول السورة ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2]، فمن هداه ما ضرب الله فيه من أمثال، وما أخبر الله فيه من أخبار، وما قص الله فيه من قصص، وما بين الله فيه من شرائع، حتى يتعظ به الحاضر والباد إلى يوم يقوم فيه الأشهاد ويحشر فيه العباد.

جعلنا لله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وجعلنا الله وإياكم ممن ينتفع بهذا القرآن ويعمل به، وأسأل الله لي ولكم التوفيق.

هذا ما تهيأ إيراده، وأعان الله على قوله، وهو وحده الموفق والمسدد، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

طلق المحيا 20-12-16 06:19 PM

كثر الله في سورة البقرة من ذكر بني إسرائيل، وتذكيرهم بنعم ربهم عليهم، وتذكيرهم بما أخذ عليهم من عهود ومواثيق، وإخبار المسلمين بأحوال بني إسرائيل وأخبارهم، تحذيراً للمسلمين من أن يتشبهوا بهم، وقطعاً لطمع المسلمين في إيمانهم.

طلق المحيا 20-12-16 06:20 PM

🕋 تفسير قوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ...)
الحمد لله رب العالمين، أحمده سبحانه وتعالى على آلائه ونعمه، وأسأله جل وعلا المزيد من فضله وكرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رب غيره ولا إله سواه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيتجدد في هذا اللقاء التعليق والتأويل لسورة البقرة فسطاط القرآن، وقد ذكرنا: أن هذه السورة المباركة سورة شملت الكثير من الأحكام والمعارف، وشتى ما يمكن أن يتعلق بحياة المسلمين في مجتمعهم المدني؛ ذلك أنها من أوائل السور التي أنزلت في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد مر معنا أن النبي عليه الصلاة والسلام لما خاطب الأنصار يوم حنين أمر منادياً أن ينادي: يا أهل سورة البقرة؛ لأن الأنصار أهل المدينة الأولين كانوا لا يفخرون بشيء بعد إيمانهم أكثر من فخرهم بنزول هذه السورة بين ظهرانيهم في مدينتهم؛ فنسبت إليهم.

وانتهينا في اللقاءات الماضية إلى قوله جل وعلا: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:37] وفتح باب التوبة من أعظم الدلائل وأجل القرائن على إرادة الله بعباده الرحمة؛ لأن الله لو لم يرد بعباده الرحمة لأقفل عليهم باب التوبة، لكن وقعت المعصية من آدم عندما استزله الشيطان فكان سماع آدم للشيطان وخضوعه لقوله في جزئية الأكل من الشجرة سبباً في خروجه منها، لكن الرحمن الرحيم تداركه برحمته، قال الله جل وعلا: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ [البقرة:37]، وفي هذا إشعار أن الله أراد أن يرحم هذا العبد الصالح، وقد ذكر الله جل وعلا في سورة طه أنه اجتباه وهداه وغفر له؛ ولذلك لا يقال في حق آدم: عاص على إطلاق، وإنما إذا أريد أن يتحدث أحد عن آدم عليه السلام يتحدث عنه باللفظ والمقدار الذي ذكره القرآن، الأدب معه من جهتين:

من جهة أنه أب لنا، فقد نسبنا الله إليه: يَا بَنِي آدَمَ [الأعراف:26] .

والأعظم من ذلك أنه نبي، بل ونبي مكلم كما صح عن ذلك الخبر عن رسولنا صلى الله عليه وسلم.

والله هنا لم يذكر ما هي الكلمات لكن العلماء قالوا: إن الكلمات هن اللواتي ذكرهن الله جل وعلا في سورة الأعراف: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا [الأعراف:23] وقول الله جل وعلا هنا: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ [البقرة:37] ليس فيه ذكر لحواء، لكن هي مندرجة معه، قال أهل العلم ونعم ما قالوا: إن المرأة مستورة لا تذكر إلا لحاجة، وهنا لم يذكر الله جل وعلا توبة حواء؛ لأنها تبع لآدم كما ذكره الله وحده في المعصية، فقال: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه:121] ولم يذكر معصية حواء، وإن كانت القرائن تدل على أن آدم إنما أكل من الشجرة بمشورة من حواء، لكن المقصود أن المرأة حرمة مستورة كما قال القرطبي رحمه الله، فعلى هذا لم يذكرها الله لكن كون عدم ذكرها لفظاً لا يعني أبداً أن الله لم يقبل منها شيء، وهذا ما يدل عليه آية الأعراف: قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23].

طلق المحيا 20-12-16 06:21 PM

🕋
تفسير قوله تعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعاً ..)
قال الله تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38] أول ما يشكل على طالب العلم هنا عندما يريد أن يتأمل هذه الآية هو أن الهبوط تكرر مرتين: تكرر قبل قليل: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [البقرة:36]، وتكرر بعد آية: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ [البقرة:37] أي: أن آية: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ جاءت فاصلاً بين ذكر الهبوط الأول والهبوط الثاني، وقد اختلف العلماء: هل الهبوط الأول هو عين الهبوط الثاني، وإنما اللفظ تكرر، أو أن الهبوط الأول غير الهبوط الثاني؟

من العلماء من يقول: إن الهبوط الأول هو هبوط من الجنة إلى السماء الدنيا، ثم جاءت آية: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ) ثم جاء قول الله جل وعلا: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا [البقرة:38] فقالوا: هذا الهبوط غير الهبوط الأول، فهو هبوط من السماء الدنيا إلى الأرض.

لكنني أقول: إن هذا بعيد؛ لأن اللفظ جاء على هيئة جمع (اهْبِطُوا) أمر واحد، والأمر الثاني: ذكرت الأرض في الأول ولم تذكر في الثاني، ولو ذكرت في الثاني لكان هذا مسوغاً لقولهم، لكن القول الأول بعيد؛ لأن الأرض ذكرت في الهبوط الأول ولم تذكر في الهبوط الثاني، فحسن حمل الثاني على الأول، وصعب حمل الأول على الثاني.

فنقول: الذي يظهر -والعلم عند الله- أن المسألة بيان لفظي وبلاغي، والمعنى: لما ذكر الله الهبوط فصل عن ذكر ما حصل لآدم بعد ذلك وكلف الله جل وعلا به نبيه بذكر التوبة على آدم؛ فلما ذكر ربنا التوبة على آدم عاد وكرر الهبوط حتى يبدأ السياق من جديد، ويؤخذ بخطام اللفظ بعد أن ترك، قال الله تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى [البقرة:38] فهنا لم يذكر العداوة وذكرها في الأول اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [البقرة:36].

وقد قلت فيما سلف: إننا نذكر أحياناً شيئاً من متين العلم يتعلق به جنة ونار، ويتعلق به حكم شرعي، ونذكر أحياناً نتفاً من مليح القول يغلب على الظن أنها مقبولة لكن لا يبنى عليها أمر عملي، لكنها تفتق الذهن وتوسع المدارك وتجعل مجالات المعرفة واسعة بين يديك، فتقيس أنت بعد ذلك الأشباه والنظائر، وسيتكرر هذا كثيراً.



الساعة الآن 09:56 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. Designed & TranZ By Almuhajir

Ads Management Version 3.0.1 by Saeed Al-Atwi