ملتقى قبيلة حرب الرسمي

ملتقى قبيلة حرب الرسمي (http://www.m-harb.net/vb/index.php)
-   الـــمـــلـــتـــقـــى الــــــــــعــــــــام (http://www.m-harb.net/vb/forumdisplay.php?f=47)
-   -   تفسير سورة الأنعام (http://www.m-harb.net/vb/showthread.php?t=154533)

طلق المحيا 13-03-17 03:31 AM

.

بيان معنى قوله تعالى (وهو الحكيم الخبير)
قال تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18]، فهو جل وعلا حكيم يضع الأمور في مواضعها الصحيحة، خبير بأحوال عباده مطلع عليها، وهذان اسمان من أسماء الله الحسنى، والله جل وعلا له الأسماء الحسنى والصفات العلى.

طلق المحيا 13-03-17 03:34 AM

تفسير قوله تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة...)
وقد مر معنا أن السورة واردة في إثبات التوحيد والبعث والجزاء ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وقلنا: إنها تضمنت أسلوبين: التقرير، والتلقين، فهنا يقول تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً [الأنعام:19] فالله يأمر نبيه أن يسألهم، ثم قال: قُلِ اللَّهُ [الأنعام:19]، وقد علم الله أنهم سيقولون هذا، فالله جل وعلا أعظم الشهداء، وانظر إلى الانتقال والعرض في الحوار قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام:19] فأنتم تكذبونني وتقولون: إن هذا القرآن أساطير الأولين ومختلق من عندك، وإنك لست برسول، وإن هناك آلهة مع الله، وأنا أقول إنني رسول، وإن الله أمرني بأن أبلغكم بهذا القرآن، وأمرني بأن أقول لكم: إنما الله إله واحد.

طلق المحيا 13-03-17 03:36 AM

طرق شهادة الله تعالى لنبيه بالرسالة
وشهادة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بأنه رسول لها ثلاث طرائق:

الطريقة الأولى: الإخبار في كتابه الكريم بأن محمداً رسول الله، قال الله تعالى في سورة الفتح: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:29] وقال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الأحزاب:45] فهذا كلام الله جل وعلا شهد الله فيه لنبيه بأنه رسول، وقد مر معنا أن النص على أن محمداً رسول الله نزل بعد صلح الحديبية؛ فإن قريشاً لما صالحت النبي صلى الله عليه وسلم على طريقة سهيل بن عمرو قال النبي عليه الصلاة والسلام لـعلي : (اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو) فقال سهيل معترضاً وكان يوم ذاك مشركا وأسلم بعد ذلك: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، اكتب اسمك واسم أبيك، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً بأن يمحوها فأبى علي أن يمحوها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إنك ستدعى لمثلها فتفعل).

فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً بأن يخبره بموضعها، فالأمة كلها تتعلم منه عليه الصلاة والسلام وهو لا يعلم أين موضع كلمة (رسول الله)، فالأمية في حقه رفعه ومنقبة وفي حق غيره مذمة، وصدق القائل:

يا أيها الأمي حسبك رتبة في العلم أن دانت بك العلماء

والقائل:

أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم

فمحاها صلى الله عليه وسلم وكتب اسمه واسم أبيه، وتمت بعد ذلك كتابة شرائط الصلح، وانتهى الصلح، وحل النبي صلى الله عليه وسلم من إحرامه وعاد قافلاً إلى المدينة، فأنزل الله عليه مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:29]، فإن لم يشهد الكفار فالله يقول: أنا أشهد، والله خير الشاهدين مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:29]، فهذا إحدى الطرائق في شهادة الله لنبيه بالرسالة.

الطريقة الثانية: تأييده بالمعجزات الظاهرة، والله جل وعلا أجل وأعلم وأحكم من أن يأتي رجل يكذب على الله ويتقول على الله ويقول أنا رسول وهو ليس برسوله، ويقول أنا نبيه وهو ليس بنبيه، ويقول: هذا كلامه وهو ليس بكلامه، ويدعوهم إلى شيء فيقول: إن الله دعاهم إليه وهو غير صحيح، ثم بعد ذلك يؤيده الله بمعجزات ظاهرة وبراهين قاهرة، وينشأ نشأة حميدة، ويمن عليه بعطايا، فهذا محال يتنافى مع الحكمة، فتأييد الله له بالمعجزات الظاهرة والبراهين وإكرامه من دلائل أنه رسول الله، وهو الطريق الثاني في الشهادة من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله قال: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة:44-46].

الطريقة الثالثة: ما أخبر الله به في كتبه التي سبقت القرآن، وما جاء على ألسنة رسله الذين سبقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ذكر في الكتب، وبذلك تمت طرائق ثلاث في شهادة الله لمحمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام بأنه رسول من عند الله.

فلهذا قال صلى الله عليه وسلم كما قال الله: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ [الأنعام:19]، فذكر القرآن على أنه أعظم معجزاته.

طلق المحيا 13-03-17 03:36 AM

بيان معنى قوله تعالى (لأنذركم به ومن بلغ)
وهذه الأمة منذرة بالقرآن، حيث قال تعالى: لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19]، ولهذا نقل عن بعض السلف أنه قال: كل من بلغه القرآن فكأنما لقي الرسول. ولا يقصد بذلك أنه أصبح صحابياً، ولكن يقصد أن الحجة أقيمت عليه، ولهذا قال الشنقيطي رحمه الله تعالى في أضواء البيان: ومن لم يبلغه القرآن ولا دعوة نبينا صلى الله عليه وسلم، ولو كان من أهل زماننا، فحكمه حكم أهل الفترة؛ لأن الأمر مبني على قضية وصول البلاغ من عدمه، ونحن نعلم أنه في مجاهيل أفريقا وبعض الدول وأمريكا الجنوبية وغيرها قد يوجد أمم لم يصلهم شيء عن الإسلام، فيحكم عليهم بأنهم من أهل الفترة؛ لأن الله قال: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، وهذه مسائل لا ينبغي أن يجادل فيها، ولكن يجب أن تكون على يقين بأن الله لن يظلم أحداً، وأن الله جل وعلا أرحم بخلقه منا، فكل العباد إلى ولا تجعل بمثل هذه المسائل مادة مجلسك تخوض فيها ليل نهار، فيقسو قلبك ويكثر بحثك عن مواضيع لا تقدم ولا تؤخر ولن يسألك الله طرفة عين عنها.

طلق المحيا 13-03-17 03:41 AM

بيان ما شهد به رسول الله وأتباعه وما شهد به المشركون
نعود فنقول: قال الله تبارك وتعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ [الأنعام:19] أي: أيها القرشيون لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى [الأنعام:19] فهؤلاء المشركون يقولون إن مع الله آلهة، ومعلوم أن هذه الآلهة موجودة في الواقع، ولكنها باطلة، قال تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ [النجم:23] .

قال الله جل وعلا: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ [الأنعام:19] فوصل الأمر الآن إلى فصل الخطاب بشهادة رسول الله بأن الله لا إله غيره، وشهادة هؤلاء المشركين أن مع الله آلهة، فأمر الله نبيه أن يقول: قل لا أشهد شهادتكم قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ [الأنعام:19] فشهد النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله لا رب غيره ولا إله سواه، وفي نفس الوقت تبرأ من صنيعهم وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:19] وهذا كله خطاب لي ولك ولو لم نخاطب به لفظاً، وهو أننا رأينا شهادة الله ورأينا شهادة أهل الإشراك، ورأينا ما ارتضاه الله لرسوله، فلم يبق لنا إلا أن نتبع رسولنا ونشهد بشهادة ربنا، فنقول: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، حتى تفقه كيف وصل الدين إليك، وما هو فصل الخطاب بينك وبين أهل الكفر، ولهذا كانت كلمة (لا إله إلا الله) كلمة عظيمة كريمة على الله.

ومن جميل المقدمات التي يقولها بعض المؤلفين أو بعض الخطباء: وأشهد أن لا إله إلا الله، كلمة قامت عليها السماوات والأرض، ولأجلها كان الحساب والعرض، هي عماد الإسلام ومفتاح دار السلام، وهي أساس الفرض والسنة، ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة. حتى يعلم كل واحد عظيم هذه الكلمة عند رب العالمين جل جلاله.

طلق المحيا 13-03-17 03:42 AM

تفسير قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه...)
ثم قال الله تبارك وتعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [الأنعام:20] وهم اليهود والنصارى يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [الأنعام:20] التشبيه في قوله تعالى: (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) لبيان أن لديهم علماً جماً عن هذا المضمر، والخلاف عند العلماء كائن في عود الضمير، فقال بعضهم: هو عائد على النبي صلى الله عليه وسلم، أي: أن اليهود والنصارى يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا حق.

وقال بعضهم: إن الضمير عائد على القرآن، فهم يعرفون أن القرآن من عند الله، وقال فريق من العلماء: إنه عائد على الشهادة، أي: على التوحيد.

والآية تحتمل المعاني الثلاثة كلها، والترجيح هنا يصعب، ولكن ينبغي أن يعلم أن إثبات أي واحد منها إثبات إثبات للآخرين، فإذا قلنا: إنه عائد على الرسول فهو إثبات لكون الرسول من عند الله، وأنه جاء بالتوحيد، وإذا قلنا: إنه عائد على التوحيد فالتوحيد هو مفهوم أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإذا قلنا: إنه عائد على ربنا جل وعلا، فالله جل وعلا أخبر بأنه بعث رسوله بالتوحيد.

طلق المحيا 13-03-17 03:43 AM

تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً...)
ثم قال الله جل وعلا: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:21].

(من) هنا للاستفهام، أي: لا أحد أظلم، فهو استفهام إنكاري.

وقد جمع أهل الإشراك خصيصتين ملومتين:

الأولى: تكذيبهم للرسول.

والثانية: كذبهم على الله بزعمهم أن لله ولداً، وأن لله شريكاً، وأن الله جل وعلا ما أنزل القرآن، وما بعث محمداً صلى الله عليه وسلم.

فهذا كذب على الله، وفي نفس الوقت كذبوا من بعثه الله ليبلغ دينه عليه الصلاة والسلام، فقال الله:وَمَنْ أَظْلَمُ [الأنعام:21] أي: لا أحد أشد ظلماً مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:21] وهذا من أعظم الذنب، ولذا ينبغي أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أمته إلى الصدق.

طلق المحيا 13-03-17 03:44 AM

أهمية صدق الإنسان مع نفسه وغيره
وأعظم ما تنال به المراتب العالية: أن يكون الإنسان صادقاً مع نفسه، فإذا وصل الإنسان إلى مرحلة استعجال الثمرة الدنيوية واضطر إلى أن يكذب على نفسه فعما قريب سيقع في وبال عمله، وسينقطع به السبب؛ لأنه سبب لا يمكن أن يوصل، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأن الكذب يهدي إلى الفجور، وأن الصدق يهدي إلى البر، فالصادقون مع أنفسهم -جعلني الله وإياكم منهم- خطاهم في الأرض ثابتة، وأثرهم في الناس واضح، ولا يلتفتون يمنة ولا يسرة.

لقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه دخل الجنة، فقال أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه: وإن زنى وإن سرق؟! قال صلى الله عليه وسلم: وإن زنى وإن سرق، قال: يا رسول الله! وإن زنى وإن سرق؟! قال عليه الصلاة والسلام: وإن زنى وإن سرق، فقال أبو ذر : وإن زنى وإن سرق؟! فقال صلى الله عليه وسلم: وإن زنى وإن سرق رغم أنف أبي ذر).

فـأبو ذر لصدقه وجلالة قدره ورفيع مكانته وثقته بنفسه يحدث بهذا الحديث، فكان إذا أتى إلى الثالثة قال: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق رغم أنف أبي ذر ) رغم أن جملة (أنف أبي ذر ) زائدة في الخطاب ليس لها علاقة بالحكم الشرعي، فهو يقول: (وإن زنى وإن سرق رغم أبي ذر ) لأنه ينقلها بصدق، وينقل للناس شيئاً ينفعهم، وأكثر ما نعانيه اليوم أننا نفتقد الصدق مع أنفسنا، فإذا افتقد الإنسان الصدق مع نفسه ولا يمكن أن يبني أحداً أو يبني أمة أو أن يسهم إسهاماً حقيقياً، فإن أسهم فإن إسهامه سيكون إلى أمد قريب ثم يقع، وقد لا يصل إلى شيء مما يريد، ولو ظهر ذلك شكلياً لنفسه أو لغيره، وليعلم أن ما عند الله لا يوصل إليه إلا بما شرع الله.

هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده وأعاننا الله على قوله.

وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد الله رب العالمين.

طلق المحيا 22-03-17 06:21 AM

يذكر الله تعالى في سورة الأنعام ما يكون من المشركين حال معاينتهم العذاب، حيث يرون عفو الله تعالى عن أهل التوحيد فيبادرون إلى نفي الشرك عن أنفسهم كذباً على أنفسهم، وهم الذين أشركوا بالله في الدنيا وكذبوا رسله، فأعمى الله أعينهم عن إبصار الحق، وأصم أسماعهم عنه مع سماعهم لآيات القرآن، وطبع على قلوبهم، فدفعوا الحق بكل سبيل ونهوا غيرهم عن ابتاع الهدي وابتعدوا عن اتباعه، فضلوا وأضلوا.

طلق المحيا 22-03-17 06:22 AM

بيان عظمة المنة بالقرآن
بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا هو الدرس الثامن في تفسير سورة الأنعام، وقد سبقته -ولله الحمد- سبعة دروس، وآخر الآيات التي تأملنا فيها هي قول الله جل وعلا: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:21]، وقلنا: إن الاستفهام هنا استفهام إنكاري، والمعنى: لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته.

وقبل أن أشرع في الآيات التي بعدها أذكر مقولة تكتب في سويداء القلب قبل أن تكتب في صفحات الواقع، وهي في قول الله جل وعلا: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر:87-88].

حيث يتحرر من الربط والمناسبة بين الآيتين مقولة تقول: من أوتي القرآن ثم ظن أن أحداً أوتي من الدنيا أعظم مما أوتي فقد صغر عظيماً وعظم صغيراً. بمعنى أنه جعل للدنيا أكثر من قدرها، وصغر عظيماً فلم يعرف قدر القرآن؛ لأن الله قال: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87]، ثم نهى نبيه عليه الصلاة والسلام عن أن يمد عينيه إلى متاع الدنيا، وقال له: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ [العنكبوت:51]، فمن حمل القرآن حملاً صحيحاً حفظاً ووعياً وتدبراً فهو سيد العلماء بلا شك، وفي هذا مقولات ذكرها الأئمة كما نص عليها الزركشي رحمه الله تعالى في البرهان.

والذي يعنينا هنا أن استصحاب هذا الأمر يهون على طالب علم التفسير الكثير من الصعاب إذا تفكر في كونه يتدارس كلام الله جل وعلا، ومن عظمة كلام الله أنه يمكن لأي رجل بحسب ما أعطاه الله من علم أن يبحر في شتى الفنون وجميع العلوم من خلال آيات الكتاب؛ لأن القرآن مهيمن، وكذلك علم التفسير مهيمن على سائر العلوم، وقد قال الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى: كل العلوم تفيء إلى القرآن، ثم قال: ما السنة كلها إلا في آية واحدة: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].

طلق المحيا 23-03-17 12:16 AM

تفسير قوله تعالى: (ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم...)
يقول الله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأنعام:22-24].

التكذيب بالبعث والنشور من أعظم ما كان عليه أهل الإشراك، وإذا علمنا أن سورة الأنعام مكية فإنها ستعالج الخلل العقدي في أهل مكة، وأعظمه الشرك بالله وإنكار البعث والنشور، كما قال تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [التغابن:7].

فالله جل وعلا يقول لنبيه في غيب لا يعلمه عليه الصلاة والسلام، أذكر يا محمد، ونبئ هؤلاء القوم بأنه سيأتي يوم نحشرهم فيه جميعاً بلا استثناء، فالخلائق يحشرون جميعاً إنساً وجناً وملائكة ودواباً، ( ثم نقول) أي: في يوم الحشر لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:22]، فهل تحشر أصنامهم معهم ثم يحال بينهم وبينها؟ إن هذا وارد يدل عليه قول الله جل وعلا: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام:94]، فهذا دليل على أنهم كانوا يرونهم، ولكن لا سبيل إلى الوصول إليهم، وقيل: إنهم لا يحشرون، ولكن الذي أراد القرآن أن يثبته هو أن تلك الآلهة والأصنام التي كانوا يتعلقون بها ويعدونها لساعة ما تخذلهم يوم القيامة، ولهذا قال الله: ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:22]، وهذا لا شك في أنه استفهام توبيخي، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كل زعم في القرآن فهو كذب.

طلق المحيا 23-03-17 12:16 AM

تفسير قوله تعالى: (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين)
ثم قال الله: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا [الأنعام:23]، هذا نفي بعده استثناء، وهذا يسمى أسلوب حصر.

واختلف العلماء في معنى (فتنتهم) هنا على أقوال، والقول الذي يغلب على الظن أنه أقرب هو أن الفتنة هنا بمعنى الشرك، ولكن لا بد من تقدير مضاف، فيصبح المعنى: ثم لم تكن عاقبة شركهم إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23]، فالذي يقول: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23] هم أهل الشرك، وهذا منهم كذب؛ لأنهم كانوا مشركين.

وكيف يجمع الإنسان بين هذه الآية وبين قول الله جل وعلا: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:42]؟! فقول الله جل وعلا: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:42] فيه أنهم يخبرون بكل شيء فعلوه على وجه الحقيقة والصدق، والله يخبر هنا أنهم يقولون: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23]، وهذا كذب، لأن الله قال بعده: انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ [الأنعام:24].

لقد طرح هذا السؤال على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقال رضي الله عنه وأرضاه في الجواب عن هذا: إن أهل الإشراك إذا رأوا منة الله بالعفو على أهل التوحيد والإسلام، ورأوا أن الله يعفوا ويخلص أهل التوحيد يقول بعضهم لبعض: لم يبق إلا أن نتبرأ من الشرك، لعله يعفى عنا كما عفي عن غيرنا، فعندها يقولون: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23]، فيختم الله على أفواههم بعدها، فتنطق جوارحهم وتشهد، فهذا معنى قول الله: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:42].

طلق المحيا 24-03-17 06:10 AM

تفسير قوله تعالى: (انظر كيف كذبوا على أنفسهم...)
قال الله: انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأنعام:24]، كلمة (ضل) لها معان في القرآن، وهي هنا بمعنى: غاب واضمحل، أي: لم يكن موجوداً، وقوله تعالى: (مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)، أي: ما كانوا يزعمونه من نفع الآلهة لهم.

طلق المحيا 24-03-17 06:19 AM

تفسير قوله تعالى: (ومنهم من يستمع إليك...)
ثم قال الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [الأنعام:25].

قوله تعالى: (منهم) أي من أهل الإشراك، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يعيش في مكة، وكان الملأ والأشراف كـأبي سفيان وأبي جهل وأمية بن أبي خلف وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث وأمثالهم من صناديد قريش يستمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم سراً حيناً وعلانية حيناً، فالله يقول: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [الأنعام:25]، و(من) بعضية، لكن الله جل وعلا قد علم في الأزل، وقدر وشاء أن لا تتعظ هذه القلوب، وأنه لا يمكن أن يصل إليها سمع التدبر، فقال الله لنبيه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً [الأنعام:25] والأكنة: جمع كنان، كأعنة جمع عنان، وأزمة جمع زمام، وهي في اللغة بمعنى الغطاء والستر، قال تعالى: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الأنعام:25]، أي: حتى لا يفقهوه، وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [الأنعام:25]، والوقر: الثقل والصمم في الأذن.

قال تعالى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا [الأنعام:25]، فمهما أتيت لهم بالآيات، وأظهرت لهم المعجزات، وأخرجت البراهين فإنهم لا يمكن لهم أن يؤمنوا؛ لأن الله قد كتب في قدره وأزله أنهم لن يؤمنوا، ويعلم بهذا كل أحد أن الهداية بيد الله.

قال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [الأنعام:25] فلم يكفهم أن يردوا ولم يقبلوا قولك، بل زعموا أن قولك هذا من أساطير الأولين.

نجم سهيل 24-03-17 04:52 PM

اللهم اني اسألك اللطف فيما قضيت والمعونة على مامضيت

واستغفرك من كل قول يعقبة الندم او فعل تزل به القدم

فأنت الثقة لمن توكل عليك
والعصمة لمن فوض امره إليك

طلق المحيا 25-03-17 02:18 AM

بارك الله فيك

طلق المحيا 25-03-17 02:19 AM

ذكر أوجه تصريف العرب لألفاظ الدلالة على الخروج

وقد كان بعضهم يقول لبعض: ألا تأتون إلى هذا الصابئ؟ يقصدون النبي صلى الله عليه وسلم، وكلمة صابئ فعلها (صبأ)، والعرب في طيات كلامها تفرق الشيء الواحد في إطلاق لفظ العبارة عليه، فمن خرج من دين إلى دين يقال له: صبأ، وقريش كانت تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على دينها، فلما رأوه أتى بدين جديد ظنوا أنه قد خرج عن دينهم، فلهذا قالوا: (صابئ)، وهي اسم فاعل من (صبأ)، والقرآن نزل بلغة العرب، فهم لا يستخدمون هذا اللفظ لكل شيء، فإذا خرج الرجل من داره يقولون: خرج، ولكن إذا خرج من دينه يقولون: صبأ، فإذا كان الرجل بين قوم، ثم خرج لا يقولون عنه: خرج، بل يقولون: انسل، فهنا ثلاثة ألفاظ: فيقال: (خرج) إذا خرج من الدار، و(صبأ) إذا خرج من الدين، و(انسل) إذا خرج من المجلس، فإذا الخارج سهماً خرج من الرمية يقولون: مرق، ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم حين ذكر الخوارج: (يمرق أحدهم من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، فإذا خرج السهم من الرمية لا يقولون: خرج السهم من الرمية، بل يقولون: مرق السهم من الرمية، فإذا صاد صائد سمكة ثم تفلتت من يده لا يقولون: خرجت من يده، بل يقولون: تملصت من يده، وهذا يدل على سعة لغة العرب وبها نزل القرآن.

طلق المحيا 25-03-17 02:20 AM

تفسير قوله تعالى: (وهم ينهون عنه وينأون عنه...)

ثم قال الله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام:26].

اختار ابن جرير شيخ المفسرين أن الآية تبع لما سبق، فيصبح قوله تعالى: (وهم) عائد على من كان الله جل وعلا يتحدث عنهم، أي أن هؤلاء من أهل الإشراك ينهون الناس عن الدخول في الدين، وفي نفس الوقت يبتعدون هم عن الدين.

والقول الثاني ينسب إلى ابن عباس ، نقله عنه سفيان الثوري بسنده، وحرره ابن كثير في تفسيره، وهو أن المقصود بالآية أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا قلنا: إن أبا طالب هو المقصود بالآية فإن معنى الآية حينئذٍ: ينهون الناس عن أن يؤذوا نبينا صلى الله عليه وسلم وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام:26]، أي: ينأون بأنفسهم عن أن يدخلوا في الدين، فالخطاب -وإن جاء للجمع- يقصد به فرد واحد هو أبو طالب .

وأكثر أهل العلم على أن الضمير عائد على المشركين السابقين، أي: ينهون الناس عن الدخول في الدين، ويبتعدون بأنفسهم، فجمعوا بين الضلال والإضلال.

وقد ذكر ابن أبي حاتم في الآية قولاً، ونقله عنه الحافظ ابن كثير ولم يعقب عليه، وكان الأولى أن يعقب، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أعمام عشرة ينصرونه في العلانية ويعادونه في السر.

وهذا غير صحيح؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم كان له أعمام عشرة، واستصحاب التاريخ مهم، ولكن ستة منهم لم يدركوا بعثته عليه الصلاة والسلام، وإنما أدرك البعثة من أعمامه أربعة: أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب ، آمن اثنان: حمزة والعباس ، وكفر اثنان: أبو لهب وأبو طالب ، فـأبو لهب عاداه، وأبو طالب والاه.

فما ذكره ابن أبي حاتم بسنده من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أعمام عشرة يعادونه في السر وينصرونه في العلانية لا أصل له، ولا يمكن أن يصح متناً؛ لمخالفته الروايات التاريخية المشهورة المحفوظة

طلق المحيا 26-03-17 12:03 AM

ذكر حال أبي طالب

وقد كان أبو طالب بين أمرين، وكان شديد الموالاة لما يعتقد، وقد يضرب به المثل في نصرة الإنسان لما يعتقد، فكان شديد الموالاة لدين قومه، فلذلك لم يؤمن، وكان شديد الموالاة لمبادئ قومه، وهناك فرق بين الدين والمبدأ، فدين قومه كان الإشراك، فلذلك بقي على الشرك، وقال: لا أرغب عن ملة عبد المطلب .

ومبادئ قومه التي كانت شائعة ذائعة هي نصرة القريب بدافع العصبة، وقد كان مخلصاً لهذا المبدأ، فلذلك نصر النبي صلى الله عليه وسلم وحماه ودافع عنه رغم أنه لم يكن مؤمناً؛ ولهذا نشفع النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فهو أهون أهل النار عذاباً.

طلق المحيا 26-03-17 12:04 AM

ذكر شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم
والنبي صلى الله عليه وسلم له ثلاث شفاعات خاصة به، وله شفاعات يشاركه فيها غيره، فله شفاعة في أهل الموقف ليفصل بينهم، وهذه شفاعة في دفع ما يضر، وله شفاعة في دخول أهل الجنة الجنة، وهذه شفاعة في جلب ما يسر، فدخول أهل الجنة الجنة شيء يسرهم بشفاعته صلى الله عليه وسلم، وأهل الموقف في كرب عظيم يريدون أن يدفعوه عن أنفسهم، فشفاعته صلى الله عليه وسلم دفعت عنهم الضر، وهذا من إكرام الله لنبيه، وله شفاعة في عمه أبي طالب خصصت مانعاً قرآنياً، قال الله جل وعلا: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48]، ومع ذلك يشفع صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب .

هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

طلق المحيا 27-03-17 03:53 AM

يصور القرآن الكريم مشهداً من مشاهد يوم القيامة بالنسبة للكافرين، وهو مشهد عرضهم على النار، إذ يتمنون عنده الرجوع إلى الدنيا للتصديق بالآيات وقد شاهدوا ما كفروا به وكذبوا، ويخبر الله تعالى في آياته الكريمات أنه قد علم منهم فساد قلوبهم، حيث لو قدر لهم الرجعة لوقعوا فيما عملوه في الدنيا، ويذكر تعالى مشهداً آخر من أهوال يوم القيامة في بيان أحوال الكافرين وهو عرضهم على الله ربهم وتقريرهم بالحق الذي أنكروه ليردوا بعد ذلك موارد العذاب ولا يهلك على الله إلا هالك.

طلق المحيا 27-03-17 04:04 AM

أهمية نصرة المبادئ والعقائد


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه، وبعد:

فقد انتهينا إلى قول الله جل وعلا: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام:26]، وحررنا أن للعلماء رحمة الله تعالى عليهم قولين في الآية، فاختار جمهور العلماء -ومنهم ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى- أن الآية أشبه بما سبقها، وأن الحديث ما زال موصولاً بالآية التي قبله، وهي قول الله جل وعلا: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [الأنعام:25]، وقلنا: إن سفيان الثوري نقل بسنده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المقصود بهذا الحديث أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وحررنا حينها نصرة أبي طالب للنبي عليه الصلاة والسلام، وانتهينا إلى أن الآية تدل على أن ثمة فريقاً من الناس ينتصرون لمبادئهم وإن كانت غير صحيحة.

يفدون رأيك في الحياة مجاهداً إن الحياة عقيدة وجهاد

فأما نصرة الإنسان لمبادئه فهي حق لا مرية فيه، ويجب على العقلاء والفضلاء أن يتحلوا به، ولكن تبقى القضية في المعتقد الذي يعتقده الإنسان ويستحق أن يدافع عنه، وقد عرف التاريخ على مستوى الأفراد وعلى مستوى الأمم أقواماً ضربوا أمثلة لا تُصدق في نصرتهم لمذاهبهم حتى وإن كانت باطلة، كنصرة الخوارج لمذهبهم وموتهم في سبيل ذلك، حتى إنه كان أحدهم يعقل خيله قبل الحرب ويأتي ويحارب ويقول وهو على غير هدى: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84]، كما أن أبا جهل -وهو عدو الله المعروف- لما صعد عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه على صدره لم يستعطفه ولم يستدر رحمته، وقال قولته الشهيرة: لقد ارتقيت مرتقاً صعباً يا رويعي الغنم. هذا على مستوى الأفراد.

وأما على مستوى الأمم فإن أبناء الأمة اليابانية في العصر الحديث عُرفوا بانتصارهم لمذهبهم لما وقعت الحرب بين روسيا واليابان قديماً قبل أن تُضرب اليابان بالقنابل، أي: قبل ضرب ناجازاكي وقبل هيروشيما حيث أظهر اليابانيون إخلاصاً شديداً لمبدئهم والتفافاً حول ملكهم الذي كان يسمى الميكاد ، وكانوا يعظمون الوطن، وكان حافظ الشاعر المصري رحمه الله تعالى يشكوا من أن العرب لم يكن فيهم ألفة ولا اجتماع ولا نصرة لقضاياهم، حيث يقول:

لا تلم كفي إذا السيف نبا صح مني العزم والدهر أبى

أمة قد فت في ساعدها بغضها الأهل وحب الغرباء

والشعراء يحكون أشياء لها واقع فعلي في الجملة، ولكن ليس لها واقع تفصيلي.

فالمقصود أن حافظاً أراد أن يبلغ الرسالة للعرب أن اليابانيين ينتصرون لمذاهبهم، فَتَوَّهم أن هناك فتاة يابانية تعيش في مصر، وأنه تعلق بها، وأنه فتن بها، وفجأة يقول:

حملت لي ذات يوم نبأ لا رعاك الله يا ذاك النبا

يعني: جاءته فزعة تريد أن تترك أرض مصر فسألها، فأخبرته بأن الروس يريدون أن يحاربوا اليابان، وأنه يستحيل أن تبقى في مصر والروس يحاربون اليابان، فهي تقول:

نذبح الدب ونفري جلده أيظن الدب أن لا يُغلبا

والدب رمز للأمة الروسية كما أن التنين رمز لليابان، والنسر رمز لألمانيا، والأسد رمز لإنجلترا، والذي يعنينا هو قضية ولاء هذه المرأة لوطنها، تقول:

هكذا الميكاد قد علمنا أن نرى الأوطان أماً وأباً

ونخلص من هذا كله أن قول الله جل وعلا: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام:26] إن كان المقصود به أبو طالب يصبح دالاً على أن أبا طالب كان يحمي مذاهبه واعتقاداته، ولهذا كان يحمل وصية عبد المطلب في أن يحفظ هذا اليتيم، والحق أن أبا طالب حفظ النبي صلى الله عليه وسلم حفظاً شديداً مبالغاً فيه، فنصر النبي صلى الله عليه وسلم نصرة عظيمة رغم أنه كافر، حيث جلس ثلاث سنين في شعب بني هاشم يذوق الجوع هو وأبناؤه وهو على كفر لا يرجو بهذا جنة، ولكنه ينتصر لمبدأ، وهو نصرة ابن عمه اليتيم، والعاقل يستفيد من مثل هذه التقاليد الاجتماعية كما استفاد النبي صلى الله عليه وسلم من نصرة عمه أبي طالب له، فيستفيد من كل الأعراف والتقاليد والموروثات الموجودة في حياته، وكذلك التقاليد العالمية أو الأعراف السياسية، فيستطيع أن يوظفها لمصلحة إذا كان يملك مسكة من عقل، أما من غلب عليه حماسه وجهله فلم ينظر إلى الأمور إلا بنظرة ضيقة، أو كان يقرأ عبارة أو متناً في ورقة تقويم أو في كتاب ثم بعد ذلك أراد أن يطبقها من غير أن يستصحب ما حولها فإنه سيقع في حرج عظيم، وسيأتي إن شاء الله في قوله الله جل وعلا: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ [الأنعام:35] قضية أهمية معرفة سنن الله الكونية.

نجم سهيل 27-03-17 11:53 PM

جزاك الله خير

طلق المحيا 28-03-17 01:59 AM

بارك الله فيك

طلق المحيا 28-03-17 02:02 AM

تفسير قوله تعالى: (ولو ترى إذ وقفوا على النار...)
نعود فنقول: قال الله: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام:26] ثم قال الله: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27].

(لو) تحتاج إلى فعل وإلى جواب شرط، ولكن الله جل وعلا هنا لم يذكر الجواب، حيث قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27]، فحذف الله تعالى الجواب مبالغة في تعظيمه، يعني ولو ترى لرأيت أمراً عظيماً شنيعاً يحل بهم.

فقوله تعالى: وَلَوْ تَرَى [الأنعام:27] أي: بعين البصر إِذْ وُقِفُوا [الأنعام:27] أي: حبسوا عَلَى النَّارِ [الأنعام:27] أي أهل الإشراك فَقَالُوا [الأنعام:27] حينما يرون النار يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27] والسؤال هنا: هل قالوا ذلك عن اعتقاد وتوبة وخلوص نية أم لا؟

لقد اتفق العلماء على أنهم لم يقولوه عن توبة وخلوص نية واعتقاد، بدليل أن الله جاء بـ(بل) بعدها، و(بل) للإضراب، والإضراب هو الانتقال، فقال الله بعدها: بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ [الأنعام:28] أي الشيء الذي أنكروه وكفروا به -وهو النار- ظهر لهم عياناً.

طلق المحيا 28-03-17 02:05 AM

بيان معنى قوله تعالى (ولو ردوا لعادوا لما نهو عنه)

ثم قال الله بعد ذلك: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28] أي: كاذبون في دعواهم أنهم لو ردوا فلن يشركوا، حيث قالوا: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27] والله يقول: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ [الأنعام:28]، ومن هنا تعلم أنه لا يهلك على الله إلا هالك، ومعنى ذلك أن الله لا يعذب إلا من كان راضياً بكفره معانداً لربه فرحاً بما هو عليه، قال الله: وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [النحل:106] وهذا يجعلك لا تحمل في قلبك كثيراً من اللوم والعتب على من أخطأ من علماء المسلمين؛ لأن هذا العالم عندما أخطأ كان يعتقد ويظن أنه على صواب، قال الشاطبي رحمه الله في الموافقات:

وواجب عند اختلاف الفهم إحساننا الظن بأهل العلم

قال الله جل وعلا: بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ [الأنعام:28] فانقطعت (قبل) عن الإضافة، ولذلك بنيت على الضم، وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28] أي: في دعواهم أنهم لو ردوا لما أشركوا.

وقد جرت عادة العلماء ببيان أمر متعلق بهذه الآية، وهو أن الله جل وعلا يعلم ما قد كان، وما هو كائن، وما سيكون، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، ومن الآيات التي استدل بها العلماء على صحة هذا القول هذه الآية؛ لأن الله قال: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28] وقد علمنا كما أعلمنا الله أنهم لن يردوا ولن يعودوا إلى الدنيا مرة أخرى، ولكن الله يقول لو ردوا سيحصل كذا وكذا وسيحدث كذا وكذا، وهذا لا يقدر على القول به إلا الله؛ لأنه لا يعلم الغيب إلا هو جل ذكره.

الحب الباقي 28-03-17 07:17 AM


جزاك الله خير الجزاء
الله يـعـطـيـك الـعـافيـــــــــــة
بيض الله وجهك

طلق المحيا 29-03-17 02:08 AM

بارك الله فيك

طلق المحيا 29-03-17 02:11 AM

تفسير قوله تعالى: (وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا...)

ثم قال تعالى: وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا [الأنعام:29] وهذا تأكيد منهم على النظرة التي ينظرون بها إلى الدنيا، أي أنه لا بعث ولا نشور بعدها، فلما غلب على ظنهم أنه لا بعث ولا نشور بعدها لم يرقبوا بعد ذلك أن يُظهروا ويجهروا بعداوتهم لنبينا صلى الله عليه وسلم، ثم قالوا: وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام:29]، والله جل وعلا قد ساق الأدلة على أنه جل وعلا قادر على أن يحيي الموتى في مواطن كثيرة من كتابه.

طلق المحيا 29-03-17 02:12 AM

قطوف لغوية

يقول تعالى: بَلْ بَدَا لَهُمْ [الأنعام:28] (بدا) هنا بمعنى: (ظهر) مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ [الأنعام:28] قلنا: إن (قبل) بنيت على الضم لانقطاعها عن الإضافة، فالظروف مثل (قبل) و(بعد) إذا أُضيفت تظهر عليها الحركة، كقوله تعالى: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ [النور:58]، فإن لم تضف بنيت على الضم.

وقوله تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا [الأنعام:28] اللام في (لعادوا) واقعة في جواب لو، وهنا أظهر جواب (لو)، بخلاف الآية التي سبقت وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [الأنعام:27] فلم يأت بالجواب، فهنا أظهره تأكيداً، وهناك حذفه للمبالغة في الأمر الشنيع والعظيم الذي وقعوا فيه.

وقوله تعالى: وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا [الأنعام:29] (إن) هنا نافية بمعنى (ما) يعني: ما هي إلا حياتنا الدنيا، وتأتي مثلها في الرسم الإملائي (إن) الشرطية، ويظهر الفرق بينهما من سياق الكلام، مثل قول الله جل وعلا: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ [المائدة:118] فهذه شرطية، أما (إن) هنا فواضح من سياق الكلام أنها نافية.

وقوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا [الأنعام:27] (ليت) للتمني، وتقابلها لعل، ولكن لعل تستخدمها العرب في الذي يغلب على الظن أنه يقع، أما ليت ففي الذي يغلب على الظن أنه لا يقع، قال قائلهم:

ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب

وقد تقرر عقلاً ونقلاً وشرعاً أن الشباب لا يعود.

و(لعل) للترجي، و(لعل) على كثرة ذكرها في القرآن وردت في موضع واحد في القرآن بمعنى (كأن)، قال الله جل وعلا: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [الشعراء:129] أي: كأنكم تخلدون، إذ لم يقل أحد من الأمم الذين كانوا يتخذون البنيان الفاره: إن هذا من أسباب بقائهم، فلم يقل بهذا أحد، ولكن المعنى أنه كلما أفرط الإنسان في المسكن وبالغ فيه فكأنه يبني بنيان من يظن أنه يخلد، فـ(لعل) في القرآن على بابها في الترجي إلا في موضع واحد، وهو قول الله جل وعلا: لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [الشعراء:129]، فإنها بمعنى (كأن).

طلق المحيا 29-03-17 02:14 AM

يان المراد بـ(الآية)

قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27] والآيات تُطلق على القرآن، وتطلق على المعجزات، والله جل وعلا سمى في كتابه ما أفاءه على الرسل من معجزات آيات، كقوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً، والآية تأتي بمعنى العبرة، كقوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى [النازعات:26]، وفي آية أخرى أخبر بأنها آية، أي: عبرة للناس، وتأتي بمعنى المعجزة، فقول: (معجزات الرسل) اصطلاح ذكره أهل التاريخ والسير والمحدثين بعد عصر النبوة، أما في القرآن فلا يطلق على الآية لفظ المعجزة، بل تسمى آية، قال الله تعالى: فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ [النمل:12] أي في تسع معجزات إلى فرعون وقومه، وقال تعالى: فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى [النازعات:20] أي المعجزة الكبرى، فلغة القرآن لا تستخدم كلمة (معجزة)، بل تستخدم كلمة (آية).

طلق المحيا 30-03-17 04:09 AM

تفسير قوله تعالى: (ولو ترى إذ وقفوا على ربهم...)

قال تعالى: بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنعام:28-30]، فوصلوا إلى مرحلة الصدق، فلما تبين لهم أن الكذب لا يُجدي لجئوا إلى الصدق، حيث يقول تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ [الأنعام:30] أي: الله جل وعلا أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنعام:30].

وهنا نحرر أن لقاء الله جل وعلا حق لا مرية فيه، والله سائل كل نفس عما صنعت، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع) وذكرها، وأهل الإشراك يقفون بين يدي ربهم، فيقرر الله جل وعلا ما كانوا يصنعونه في الدنيا، كما جاء في الآية أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا [الأنعام:30] ولا يكون الجواب لهم رحمة، بل يقول الله تعالى: فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنعام:30]، فيحرر من هذا معنى عظيم، وهو أن التوحيد أعظم المنجيات، وأن من مات على التوحيد محال خلوده في النار، ومن مات على الشرك حال دخوله الجنة، فلا ينبغي للمؤمن أن يُقدم على توحيد الله شيئاً كائناً ما كان؛ لأن أي عمل سيُحبط إن لم يكن مصحوباً بتوحيد الله جل وعلا، كما أن كل عمل لا ينفع إذا كان مقروناً بالشرك بالله، قال الله في حق أوليائه الصالحين من عباده المتقين ورسله: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88] لكن كلمة التوحيد ليست متناً يُحفظ فقط، ولا شيئاً تتطاول به على الناس وترقى منبراً فتقوله، بل يجب أن يقر في قلبك أن الله جل وعلا عظيم لا رب غيره ولا إله سواه، وأنك لا يجوز لك أن تضع جبهتك لأحد غيره جل وعلا، وحين تضع جبهتك له تذكر أنك تضعها بفضل منه ورحمة، وأن الذي هداك لأن تسجد له هو الذي ترجوه أن يقبل منك هذا السجود، وكلما رأيت شيئاً في الدنيا عظيماً فتذكر أن عظمة الله أعظم، وكلما رأيت في الكون شيئاً ناقصاً دلك ذلك على كمال ربك تبارك وتعالى، واستصحاب هذا الأمر في حياة الإنسان غدواً ورواحاً، ذهاباً ومجيئاً يزيد من رقة قلبه، ويزيده علماً بربه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (أحق الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه) والإنسان لا يدري أي ساعة يكون فيها مقبولاً عند الله، فكلما انقلب على جنبه أو ركب دابته، أو مكث منفرداً بنفسه يُردد هذه الكلمة، ويحاول أن تكون ممزوجة بالإخلاص يواطئ فيها قلبه لسانه، حتى يكون ذلك مقبولاً عند الله، قال صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه دخل الجنة) قال أبو ذر : وإن زنا وإن سرق؟! فقال: (وإن زنا وإن سرق)؛ لأن (لا إله إلا الله) كلمة جليلة عظيمة كريمة على الله، وكل الذي ذكره الله جل وعلا من آيات سلفت، وما سيأتي من آيات في هذا المقام في سورة الأنعام خاصة، كل ذلك ورد في قضية أن هؤلاء القوم ضُربت عليهم الذلة، وسينالون ما سينالون في الآخرة بسبب أنهم أشركوا مع الله آلهة أخرى، وقد قال تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى [الأنعام:19] فأمر الله نبيه أن يقول: قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:19]، فيجب استصحاب الكفر بالطاغوت، وألا يقع في القلب -ولو مثقال ذرة- أن الله جل وعلا معه شريك أو له ند، وينجم عن هذا ويلزم منه استصحاب أن الله جل وعلا لا رب غيره ولا إله سواه، وهذه نفحات إيمانية يضعها الله جل وعلا في قلب من يشاء من عباده، ثم إن مضى إنسان في مسيره وفي حياته وفي مقابلته للناس غدواً ورواحاً فسيأتيه من الأحداث والوقائع والصنائع ما يُختبر فيه توحيده لربه تبارك وتعالى، فسيشفى من مرض، فهل سيشكر الله أم يظن أن هذا عائد لنجابة الطبيب؟ وسيُحرم من خير، فهل سيلجأ إلى ربه لعلمه أنه لا يقدر على إعطائه إلا الله؟ وسيرى نعمة من الله على غيره، فهل سيحسدهم ظناً أن هؤلاء الناس نالوها بقوتهم فينازعهم فيها، أم يعلم أن هناك رباً لا رب غيره ولا إله سواه يُعطي ويمنع فيغبط الناس ويلجأ إلى ربه يسأله من خيري الدنيا والآخرة؟ وسيرى ملوكاً يتوفون، ويرى دولاً تتهدم، ويرى قبور في أسفاره فيتدبر، ويعلم أن هناك رباً عظيماً جليلاً لا يحول ولا يزول، وفي ذات الوقت أنعام سيقع بعين بصيرته على أقوام أوتوا حظاً كبيراً من متاع الدنيا، فيقر في قلبه أن الله جل وعلا أخبر أن ذلك إلى فناء، وأن منتهاه إلى زوال، وأنه مهما عظم وجل في العينين فإن ما عند الله جل وعلا خير وأعظم، قال تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [الكهف:45] فالله جل وعلا يخاطب الناس في واقعهم، ثم يقول: الْمَالُ وَالْبَنُونَ [الكهف:46] ولم يقل الله: ذلك كذب وافتراء، بل قال: زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:46]، وهذا حق لا يماري فيه أحد، ولكن الله لما أوجد عباده لعبادته قال: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف:46] .

هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، وأعان العلي الكبير على قوله، وصلى الله على محمد، وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

طلق المحيا 01-04-17 01:12 PM

يبين الله تعالى في كتابه الكريم عظيم خسارة المكذبين بلقاء الله حين تقوم الساعة، وشدة ندامتهم على تفريطهم وما كسبوا من الذنوب وما حملوا من الأوزار على ظهورهم، وانشغالهم بلهو الدنيا ولعبهم عن خير الآخرة الذي أعده الله تعالى لعباده المتقين.

طلق المحيا 01-04-17 01:12 PM

تفسير قوله تعالى: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله...)
بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد كنا قد انتهينا في تفسير سورة الأنعام إلى قول الله جل وعلا: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنعام:30].

ثم قال الله بعدها: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [الأنعام:31].

إن التكذيب بلقاء الله ينجم عنه عدم استعداد للقائه، فيصاب الإنسان الكافر بالخسران؛ لأنه جاء له يوم لم يرقبه ولم يقدم له، قال الله: يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:24].

والآية زاخرة بالكثير من المعاني التي يمكن الإبحار فيها، ولكنها في الجملة تبين ندامة أهل الشرك يوم القيامة، وهذا ظاهر في هذه الآية وفي الآيات التي قبلها، وهو ظاهر في الآيات التي بعدها، ولهذا قد لا تحتاج إلى مزيد بيان لمعناها الإجمالي.

و(قد) حرف تحقيق إذا جاء بعده الماضي اتفاقاً، ولكن الاختلاف فيما إذا جاء بعده المضارع، والصواب أن يقال: إذا كان الكلام عن الله فهي حرف تحقيق لا محالة في الماضي والمضارع، أما إذا كان عن غير الله فهي في الماضي للتحقيق وفي المضارع للظن.

طلق المحيا 04-04-17 06:34 AM

بيان المراد بالساعة

يقول تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَة [الأنعام:31]، والساعة في اللغة: الوقت القصير المعين، وتطلق على موت الإنسان نفسه، وتسمى قيامة صغرى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات فقد قامت قيامته) ، وتطلق على اليوم الذي قدر الله فيه فناء الخلق، وتطلق كذلك على البعث والنشور، وهذه الأحوال الثلاثة -موت الإنسان، وفناء الناس، وبعثهم- من الغيبيات التي استأثر الله جل وعلا بها.

والساعة لا تأتي إلا بغتة، قال تعالى: ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:187].

يقول تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا [الأنعام:31]، أي: أهل الكفر يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [الأنعام:31]، والحسرة: أشد الندامة.

طلق المحيا 05-04-17 12:53 PM

ذكر ما في الآية من حيث الصناعة النحوية


وسنبحر هنا إيجازاً نحوياً وبلاغياً ولغوياً بقدر الإمكان.

أما من حيث الصناعة النحوية فالياء: حرف نداء، والمنادى هو الحسرة، والتقدير: يا حسرة أحضري، أو يا حسرة هذا أوانك. وهذا قول سيبويه ، وتبعه أكثر الناس عليه.

والعرب في النداء يأتون بحرف نداء، وقد يحذفونه ويقدرونه، ومن أحرفهم الشهيرة: الياء و(هيا) و(أي) و(الهمزة)، ثم إن المنادى يقسمونه في إعرابه وبنائه، فيجعلون منه المفرد، ويقصدون به ما ليس مضافاً ولا شبيهاً بالمضاف، مثل قول الله جل وعلا: يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا [هود:48]، وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة:35]، فهذا يسمونه منادى مفرداً، ولا يقصدون بالمفرد أنه لا ثاني له ولا جمع.

ويجعلون منه المضاف، كما في الآية التي بين أيدينا: يَا حَسْرَتَنَا [الأنعام:31]، فكلمة (حسرة) مضافة إلى (نا) الدالة على الفاعلين.

ويجعلون منه الشبيه بالمضاف، كقول الشاعر:

أيا راكباً إما أعرضت فبلغن نداماي من نجران أن لا تلاقيا

فقوله: (راكباً) نكرة غير مقصودة، ومنه قولك: يا راكباً إبلاً، أو يا طالعاً جبلاً، فهذا يسمونه شبيها بالمضاف.

وإذا كانت النكرة محددة فإن النحاة يسمونها نكرة مقصودة، فيبنونها على الضم تشبيهاً لها بالمنادى المفرد، ومنه قول الله تعالى: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فبنيت على الضم؛ لأن النكرة هنا نكرة مقصودة، وهي النار التي كانت قد أعدت لإحراق إبراهيم، ولو قال الله: (يا نارً) على العموم لأطفئت حينها كل نار، ولم تنفع.

فهذا بيان في علم النحو، وينبغي لطالب العلم الناظر في القرآن السائر في ركب الفقهاء أن يكون على دراية بهذه الأمور.

طلق المحيا 05-04-17 11:38 PM

.

ذكر ما في الآية من حيث الصناعة البلاغية

وهنا إشكال يجيب عنه البلاغيون، وهو أنه جرى في العادة أن الذي ينادى هو الذي يعقل، ليجيبك، والحسرة لا تعقل، ومع ذلك نوديت، فلا يقبل البلاغيون أن يقولوا: إن هذا على الحقيقة، بل يقولون: نوديت على المجاز، ويسمون ذلك مجازاً مرسلاً؛ لأن الحقيقة تدل على أن غير العاقل لا ينادى، فإذا نوديت مع الاتفاق على أنها غير عاقل كان ذلك من المجاز، وقد تقتنع بأن في القرآن مجازاً، وقد لا تقتنع بأن في القرآن مجازاً، ولكن الذي يعنيني هنا أن أبين لك الرأي وأنسبه إلى قائله، أما قناعتك بهذه الآراء فهذه مسألة أخرى.

فهذا من حيث الصناعة البلاغية، وقد تكلمنا على الصناعة النحوية.

طلق المحيا 05-04-17 11:42 PM

ذكر ما في الآية من حيث الصناعة اللغوية

وبقي هنا ذكر الصناعة اللغوية، فقد قلنا: إن الحسرة أشد الندامة، والندامة منها ندامة يوم، كمن خرج والنداء في بيته غداء فقال: سأمر في الطريق على زيد أو عمرو وسأتغدى عنده، فلم يجد زيداً ولا عمراًن فهذا يندم يوماً كاملاً؛ لأنه لن يتغدى إلا في اليوم التالي، فهذه ندامة يوم.

وهناك ندامة عام، ويضربون لها مثلاً فيقولون: غالب الزروع لها مواسم فيها تزرع ومواسم فيها تحصد، فيزرعون في وقت معين ويحصدون في وقت معين، ولذلك تجد المزارعين يطرأ عليهم الكدح والتعب والنصب وهم يزرعون، فتكون أيام الحصاد بالنسبة لهم أيام عيد؛ لأنهم يجنون فيها ثمرة جهدهم، وهي صورة للحياة الدنيا والآخرة تماماً:

أنا لست أنسى قرية السمراء في عيد الحصاد

والسنبل المتجمد الشرقي يحلم بالرقاد

وخطى الكماة الكادحين تروح تضرب في ...

هي ذكريات لم تزل محفورة في خاطري

هي ذكريات لم تزل تسقي خريف الشاعر

يا واحة العمر الجديد على الطريق الساحلي

أنا عائد يوماً إليك مع الربيع الزاخر

في نسمة الشمس الوضيئة في النسيم العابر

في لهفة خفقت بها روح المحب الذاكر

فالذي لم يقدر له أن يزرع إذا جاء الناس يحصدون سيشعر بالندامة، فعليه أن ينتظر عاماً كاملاً حتى يلحق بركب الحاصدين.

وهناك ندامة عمر، وهي في حق من تزوج امرأة لا تلائمه، فما يزال يشتكي منها ولا يجرؤ على طلاقها والفكاك منها، فيبقى نادماً، فهذه ثلاث ندامات وكلها هينة لينة؛ لأنها تدور في فلك التعويض، والندامة الحقيقية هي ندامة الكافر والفاسق، وإذا لقيا الله جل وعلا، وهي المقصودة بالآية: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا [الأنعام:31]، أي: يا أشد ندامتنا.

والعرب قد تسمي الشيء بأشده، فأشد الجزع يسمونه هلعاً، قال الله: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [المعارج:19]، فالهلع اشد الجزع، كما أن الحسرة أشد الندامة، والحس: أشد القتل، قال الله: إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمران:152]، يعني: تقتلونهم قتلاً شديداً بإذنه، والنصب: أشد التعب، قال تعالى عن موسى عليه السلام: لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف:62].

طلق المحيا 05-04-17 11:44 PM

بيان معنى قوله تعالى (وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم)

قال تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا [الأنعام:31] أي: قصرنا فيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ [الأنعام:31]، والمقصود بالأوزار الذنوب اتفاقاً، وعبر الله عنها بأنها تحمل على الظهر لأن العرب تسند كل شيء من الأفعال إلى بعض الجوارح، فالكسب يسندونه إلى اليد، كما قال تعالى: فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30]، والحمل يسندونه إلى الظهر، ولهذا قال الله: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ [الأنعام:31]، فإذا كان مكشوفاً قيل له: حمل بكسر الحاء، وإذا كان مخفياً قيل له: حَمل بفتح الحاء، فالجنين في بطن أمه لا يرى، فيقال له: حمل؛ لأنه شيء مخفي، والرطب إذا كان في أكمامه يقال له: حمل؛ لأنه لا يرى، فإذا كان الحمل ظاهراً يقال له: (حِمل)، ومنه قوله تعالى: وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ [يوسف:72]؛ لأنه شيء ظاهر على متن الدابة.

طلق المحيا 05-04-17 11:47 PM

بيان معنى قوله تعالى (ألا ساء ما يزرون)

نعود فنقول: قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [الأنعام:31]، ويقال للوزير: (وزير)؛ لأنه يتحمل أعباء عن كاهل الملك؛ إذ لم يكن للملوك قديماً إلا وزير واحد، والله جل وعلا يقول عن موسى: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي [طه:29]، وفي الحضارة المعاصرة الوزراء، ولكن في عهد بني العباس وفي عهد العثمانيين وما قبلهم من الدول ما كان للملك إلا وزير واحد، وكما كان هارون وزيراً لموسى كان هامان وزيراً لفرعون.

وهؤلاء الوزراء على النمط القديم كانوا مطلعين اطلاعاً كثيراً على شخصية الملك، وهم أعرف الناس بالملك، ولهذا جاء في المثل الدارج: (على هامان يا فرعون) يقولون: أصله أن فرعون كان يكذب على الناس فيزعم أنه إله، فكلما طلب منه أحد طلباً قال: دعني حتى أخلقه لك، دعني حتى أصنعه لك، فذات طلب هامان وزيره منه طلباً، فنسي فرعون فقال له كما يقول للعامة: انتظر حتى أخلقه لك، فقال له هامان : على هامان يا فرعون؟! يعني: هذا المنوال في الحديث لا ينفع معي؛ لأنك بالنسبة لي شخص مكشوف.

وهذا يقودنا إلى قضية، وهي أن خديجة رضي الله تعالى عنها كان سبب إيمانها أنها من أعلم الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام كان الله قد اصطنعه لنفسه قبل أن يبعثه، ففي الحديث: (إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمجندل في طينته)، فكان عليه الصلاة والسلام عظيم الخلق قبل أن يبعث، وخديجة رضي الله تعالى عنها وأرضاها كانت ترى هذه العظمة قبل النبوة، فلما جاءها وقال: إنني رأيت ملكاً فقال لي: إنني نبي، وحدثها بالقرآن الذي أنزل عليه لم تتعجب ولم تستغرب، بل قالت: والله لن يخزيك الله أبداً. ولكن الإنسان إذا كان -والعياذ بالله- بين خاصته وأهله وذويه له شأن، وله مع العامة شأن آخر فلا يمكن أن يكون يوماً من الأيام شخصاً مرضياً عند الله، فقد يغلب الناس بطريقة، ولكنه لا يستطيع أن يغلب ربه؛ لأن الله غالب وليس بمغلوب.

وكون الإنسان لا يتحرج أمام خاصته في بعض ألفاظه أو عباراته أو حديثه وينزع الكلفة هو مما لا حرج فيه، ولا علاقة له بالعامة والخاصة، ولكن العبرة بالمبادئ والقيم التي يحملها المرء في نفسه، فمن كان يحمل مبادئاً وقيماً يصنعها في السراء كما يصنعها في الضراء، ويؤمن بها في السر كما يؤمن بها في العلانية كان من الذين يستحقون أن يقودوا الركب ويحتلوا المناصب العليا في الأمة، وقد تلقى النبي صلى الله عليه وسلم مبادئه وقيمه التي يحملها عليه من ربه، وهي دين قبل أن تسمى مبادئاً وقيماً، وكان عليه الصلاة والسلام يصنعها في الملأ كما يصنعها في الخلاء، وقد قال: (وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (فاطمة بنت محمد) يقطع الطريق على كل أحد يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بدين يطبق على قوم ولا يطبق على آخرين.

قال الله تعالى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [الأنعام:31]، هذا تبيين لعظمة وشناعة الأمر الذي تقلدوه.



الساعة الآن 11:19 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. Designed & TranZ By Almuhajir

Ads Management Version 3.0.1 by Saeed Al-Atwi